[ تفسير سورة النور]
من الآية (41) إلى آخر السورة
الدرس (187)
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد.
قال تعالى :
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} لما ذكر عز وجل ما يتعلق بأولئك الصنفين اللذين ذكر الله عز وجل أنه لم يجعل لهم نورًا وذكر قبل ذلك ما يتعلق بأهل الإيمان وما لهم من نور، بين هنا:
أن من ضل فإن الله عز وجل قد سخر السماوات وسخر جمادات وطيورًا تسبح له عز وجل
{ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} يعني الطير تسبح حالة كونها صافاتٍ بمعنى أنها قد بسطت أجنحتها في الهواء مما يدل على عظيم صنع الله عز وجل عز وجل ، وهذه الطيور وما في السماوات وما في الأرض مر معنا أن الله عز وجل جعل لها إدراكًا قال تعالى:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء:44]،
{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} الضمير إما أن يعود إلى الله يعني أن الله قد علم صلاة وتسبيح هؤلاء، وإما أن يكون -وهذا هو الأقرب- من أن هؤلاء ممن يسبح في السماوات والأرض وكذلك الطيور قد علم أولئك تسبيحهم وصلاتهم، ولذلك قال بعدها: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} دل هذا على أن الأظهر من أن الضمير في قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} حتى لا يكون هناك تكرار من أن هذه الطيور ومن في السماوات والأرض يعلم هذا المخلوق صلاة نفسه وتسبيح نفسه، وهذا يدل على أن هذه الأشياء تسبح الله عز وجل عز وجل وتصلي لله.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)﴾
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو عز وجل له ملك السماوات والأرض، ولذا فإنه سيحاسب كلَّ إنسان على ما عمل ولذلك قال بعدها: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فالمرجع والمصير إلى الله عز وجل فمن أعرض عن طاعة الله عز وجل فإن مصيره إلى الله وسيحاسبه الله.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{أَلَمْ تَرَ} وهذا الاستفهام أيضًا كالاستفهام السابق من باب أن يتعجب الإنسان إلى عظيم خلق الله وصنع الله، { يُزْجِي} يعني يسوق {سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} بمعنى أنه كان قِطعًا فيؤلف بينه بمعنى أنه يجمع بينه { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} يعني يكون بعضُه على بعض { فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} يعني: من جوانبه وهذا يدل على عظيم قدرة الله عز وجل فقال هنا:
{ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} فقد قال بعض المفسرين:
كما أن في الأرض جبالًا كذلك في السماء فيها جبال، والمقصود من السماء، السماء التي هي السماء الدنيا قال: هناك جبال في السماء، من ماذا؟ {مِنْ بَرَدٍ} والبرد: القطع الصغيرة المجمدة التي تنزل أحيانًا مع المطر وأحيانًا بدون المطر.
وقد قال بعض العلماء: المقصود من الجبال أن السحاب لعظمه فهيأته كهيئة الجبال فمن أنواع السحاب جبال هي سحاب لكنها في صفتها ولعظمها كالجبال هي جبال من برد
{فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} الذي هو البرد {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} يصرف الله عز وجل من يشاء من هذا البرد من باب الانتفاع به {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} من باب أنهم حُرِموا منه وقد قال بعض المفسرين يحتمل {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} بمعنى أنه يهلكهم بهذا البرد {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} رحمةً بهم ولا تعارض بين القولين، فإن البرد يأتي أحيانًا للرحمة وأحيانًا يأتي للعذاب
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يعني لمعان برقه {يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} يعني: يذهب ببصر الإنسان وذلك لقوته
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (44)
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أيضًا هذه عبرة أخرى وهي تدل على عظم الله عز وجل فيقلب الليل والنهار، بمعنى أنه يدخل هذا في هذا فيقصر هذا ويطول هذا والعكس
فقال هنا: { إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي ما مضى {لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} فيعتبر أولو الأبصار حتى يستفيدوا من ذلك، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190]، ما صفاتهم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191]، وكما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[الفرقان:62].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} كل ما يدب على الأرض خُلِق من ماء، ولذلك مر معنا في قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[الأنبياء:30]، لكن أتى في هذه الآية بكلمة {من ماء} مُنَكَّرَة وفي الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[الأنبياء:30]، بمعنى أنها مُعَرَّفَة فما وجه الجمع بينهما؟ فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]
يعني: أن أصل المخلوقات من الماء، لكن هنا نَكَّرَها {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} أي نوع من أنواع المياه، فالمياهُ مختلفة ولذلك نحن البشر وكذلك الوحوش والبهائم وما يدب على الأرض، من ماذا؟
مِن نطفة {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يعني: من نطفة، وهناك بعض الحشرات تخلق من الرطوبات الموجودة تحت الأرض
فقال عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالزواحف مثل: الحية {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كبني آدم {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كحال بهيمة الأنعام وبعض الحشرات ولم يقل زيادةً على ذلك، وذلك لأنه يعني هناك من يمشي على أكثر من أربع ولم يذكر ذلك باعتبار أنها في صورتها كصورة من يمشي على أربع، مع العلم أنه عز وجل ما خلق تلك الزيادة في الأرجل لتلك الدواب إلا لحكمة وتلك الدابة تنتفع به
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ولذلك قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[النحل:8]،
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فنحن نجهل أشياءَ كثيرة {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ولذلك قال بعدها:
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليس على هذا الأمر وحده، بل على كل شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)﴾
{لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ} وهي الآيات الشرعية {مُبَيِّنَاتٍ} أنها توضح الحق، دل على أنها توضح الحق لكن لمن وفق ولذلك لما قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} ما الذي بعدها؟ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ودل هذا على أن الهداية بيد الله وفيه رد على القدرية الذين يقولون إن العبد يخلق فِعلَ نفسه إن الله على كل شيء قدير.
﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(50)﴾
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} صنف المنافقين فإنه لما ذكر صنفين من أصناف الكفار كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}[النور:39] و كما قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}[النور:40] ذكر هنا حال المنافقين:
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد بيان الأدلة ووضوحها ومن بعد قولهم آمنا وأطعنا
{ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان ما وقر في قلوبهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ – يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}[البقرة:8-9].
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} دل هذا على أنهم إذا دعوا إلى أن يُحَكِّموا شرعَ الله، فإنهم لا يقبلون إذا كان الحق عليهم، وأما إذا كان الحق لهم فكما قال بعدها في الآية الأخرى فإنهم يأتون مذعنين وكما قال عز وجل كما مر معنا:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} يعني إذا عرفوا أن الحق لهم يعرفون أن النبي ﷺ سيحكم بالحق فقال عز وجل: {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} يعني منقادين لا يتأخرون بل يسارعون في ذلك {مُذْعِنِينَ} منقادين!
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} يعني أم شكوا؟!
{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} هل يخشون أن يظلمهم الله ورسوله؟ هذه الصفات فيهم ولذلك قال عز وجل {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يعني فيهم تلك الصفات السابقة في قلوبهم مرض،
وعندهم شك، وأيضًا هم عندهم اعتقاد فاسد من أن الله ورسوله سيظلمهم ثم حكم عليهم بحكمٍ أعظم: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
لما ذكر صنف هؤلاء ذكر حال هذا الإيمان إذا دعوا إلى التحاكم إلى شرع الله:
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(52)﴾
{إِنَّمَا كَانَ} وهنا حصر يدل على فضيلة أهل الإيمان
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ} قولَ: منصوب على أنه خبر كان مقدم {أَنْ يَقُولُوا} هو اسم كان مؤخر
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
سمعنا ما قلته من خبر، وأطعنا، يعني نحن سنتقيد ونفعل ما تأمرنا به سمعنا قولك وأطعنا فعلك وحكمك {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ما النتيجة؟
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين فازوا بالمطلوب ونجوا من المكروب
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هنا عمم للجميع، أي إنسان يطيع الله ورسوله فيما يتعلق بالحكم وفي غيره { وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} مع ذلك كله مع الطاعة لله وللرسول يخشى الله ودل هذا على أنهم أصحاب علم
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويكون مع ذلك تقوى الله عز وجل:
{وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الذين فازوا بخير الدنيا والآخرة.
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (53)
يعني مع ذلك كله يحلفون كذبًا ويغلظون في الأيمان
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} يعني يا محمد لئن أمرتهم لأمرٍ ما، ليخرجن معك لجهاد أو غيره {قُلْ لا تُقْسِمُوا} قل لهؤلاء المنافقين، لا تقسموا: أي لا تحلفوا
{طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} يعني هذا هو حالكم طاعة معروفة بمعنى أنكم تقولون هذا القول نحن نطيعك لكن عند التنفيذ لا تنفذون، ثم إن الأجدر بكم -ويحتمل هذا في الآية أيضًا-
{طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} يعني الأجدر بكم بدل هذا الروغان وبدل هذا الحلف الكاذب أن تطيعوا الطاعة المعروفة التي ترضي الله وترضي رسول الله ﷺ ولذلك قال تعالى:
{فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 20-21]
{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وخبير مطلع على دقائق الأمور ومن ذلك ما تعملونه.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(54)﴾
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} قل لهؤلاء يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كحال أهل الإيمان {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يعني إذا أردتم تأكيد ما ذكرتم من الحلف عليكم أن تطيعوا الله ورسوله { فَإِنْ تَوَلَّوا} يعني أعرضوا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} فإن على الرسول ما حمل من التبليغ
{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} والذي حُمِّلوه الطاعة وتنفيذ الأمر أن يقولوا سمعنا وأطعنا {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} سبحان الله لما أمرهم بالطاعة بين لهم أن الطاعة سبيل الهداية
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وأكد من أن النبي ﷺ {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} قال:
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} التبليغ البلاغ المبين الواضح الظاهر وقد قام به ﷺ.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55)
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} سبحان الله! هذه ثمرات الطاعة وثمرات الإيمان ومن يعمل الصالحات
{مِنْكُمْ}، منكم ليست للتبعيض، وإنما هي للجنس فكل جنس ولو طال الزمن إلى قيام الساعة إذا آمن وأتى بالعمل الصالح فله ما ذكر في هذه الآية من الوعد ووعد الله لا يخلفه، ليس مخصوص فقط للصحابة رضي الله عنهم بل كل من أتى بهذه الصفات
{ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}؛ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء:105]، { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإنه لما هلكت الأمم السابقة أتت بعدها أقوام خلفوهم في ديارهم.
{ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} سبحان الله فإنه مع التمكين في الأرض هذا حصول المنفعة الدنيوية، أيضًا أعظم المنافع منفعة الدين فيتمكن لهم الدين، ويُمَكِّن الله لهم هذا الدين في الأرض فقال عز وجل: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ولذلك قال عز وجل:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} سبحان الله يعني بعدما يتمكنون في الأرض ويكون الدين قد تمكن لهم في أرضهم ومُكِّنَ لدينهم في الأرض هنا تكتمل النعمة بالأمن، ولذلك قال إبراهيم:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]
لابد من الأمن وقال هنا: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} يعني يحل الأمن محل الخوف لكن متى هذا؟ {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} دل هذا على عظم التوحيد من أن الأعمال الصالحة لابد من التوحيد ومن العبادة، ولذلك قال {يَعْبُدُونَنِي} كأنها جملة استئنافية، كأنها لسائل يسأل متى؟
{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} أو هي جملة حالية يعني أُمَكِّن لهم ذلك حالةَ كونهم:
{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}
{ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} بعد ما مَكَّنَ الله عز وجل له هذا الأمر
{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الجزاء من جنس العمل
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (56)
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} سبحان الله، أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} تأمل! تلك العبادة مِن أَجَلِّها الصلاة والزكاة، ذلكم العمل الصالح المذكور فيما مضى وتلك العبادة لا يمكن تتم إلا بطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يقع الإنسان في البدع وفي الخرافات ولذلك قال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} النتيجة؟
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تلك وسائل وأسباب للحصول على رحمة الله؛
ولذلك ما ترى إنسانًا ولا ترى بلدًا يحل به التوحيد وتقام فيه الصلاة وتؤدى فيه الزكاة ويخلو من البدع إلا وتجد أن رحمة الله عز وجل قد حلت بهم.
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)﴾
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} يعني هؤلاء الكفار الذين يعارضون أهل الإيمان ويحاربون أهل الإيمان فهم في قبضة الله عز وجل وليسوا بفائتين من عذاب الله فقال عز وجل:
{لا تَحْسَبَنَّ} يعني يا محمد وكذلك خطاب لكل مؤمن { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} من أنهم يعجزون الله وأنهم يفلُتون من عذابه { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} يوم القيامة مثواهم النار
{وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قال هنا: باللام ولبئس ولم يقل: وبئس {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} لأن اللام لام قَسَم،
أي: والله لبئس المصير والمقر والمأوى هو جهنم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (58)
لما ذكر ما يتعلق بالتمكين في الأرض وما يتعلق ببعض الأمور هذه فاصل بين تلك الآداب في أول السورة آداب الاستئذان وآداب النظر، هنا رجع السياق مرة أخرى إلى ما يتعلق بحال الإنسان في بيته:
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} أمر {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والأرقاء
{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يعني الأطفال الذين لم يبلغوا سن البلوغ
{ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} لأن وجود الأطفال ودخول هؤلاء دخول العبيد والأرقاء على صاحب المنزل هو مما جرت العادةُ به، فلا إشكال في ذلك من غير استئذان إلا في ثلاث أوقات:
{ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} لأنه قبل صلاة الفجر يكون الإنسان قد خلع ثيابَه فلو دخل عليه من غير استئذان كأن يدخل عليه ولده الصغير أو يدخل عليه عبده أو أمته فقد يُرى على حالة ليست بحالة يرضاها ؛ { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} يعني وقت القيلولة ولذلك قال: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ} صرح بالثياب هنا لأن وقت القيلولة وقت قصير، فالإنسان لا يخلع جميع ثيابه فقد يخلع بعضها
{ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} بعد صلاة العشاء وقت طويل يخلع الإنسان فيها ملابسه
{ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} في هذه الأوقات هي ثلاث عورات، لأن الإنسان يكون قد خلع ثيابه ولا يريد من أحد أن يطلع عليه
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} يعني إثم بعدهم يعني بعد الثلاث فلا إشكال أن يدخل من غير استئذان، وهذا يدل على أن الكبير لا يُمَكِّن حتى الصغير من رؤية عورته، فلا يُمَكِّن المسلم أحد الأطفال ولو كان طفلًا له من أن يرى عورته، ودل هذا على أن هؤلاء الصغار مأمورون أيضًا بهذا الأمر.
فقال عز وجل: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} العلة؟
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بمعنى أن كلًّا منكم يطوف على الآخَر ولذلك النبي ﷺ لما سئل عن الهرة هل هي نجسة إذا شربت من ماء أو كذا؟
قال ﷺ: «إنها من الطوافين عليكم» فدل هنا على أنه لو استأذن هؤلاء في كل وقت لحصل العنت وحصلت المشقة فخفف عنهم
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} كل منكم يطوف على الآخر ويدخل على الآخر ولذلك قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يدل على أن الطفل أن ريقه طاهر ولو كان هذا الريقُ أتى بعد قيء، القيء نجس، لو أتى بعد استفراغ فإن هذا يدل على طهارته
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} يعني كذلك مثل ما بين لكم هذه الآيات يبين لكم الآيات كلَّها
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهو عليم بما يصلحكم، وحكيم شرع لكم هذه الشرائع وهذه الآداب.
{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59)﴾
{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} يعني بلغوا {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بمعنى:
أن حالهم كحال من كَبُرَ فيما مضى كان يستأذن، فكبر فعليه أن يستأذن في جميع الأوقات فكذلك هؤلاء الأطفال.
دل هذا على أنه بعد البلوغ يستأذنون في جميع الأوقات فيخرجون من الحكم السابق،
والبلوغ يحصل: إما بإنزال المني أو بنبات الشعر الخشن حول القُبُل أو الذكر، وأيضًا يكون ببلوغ خمس عشرة سنة، والأنثى كالذكر لكنها تزيد بالحيض.
فقال هنا: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} يعني كذلك مثل ما بين الآيات السابقات يبين آياته وتأمل هنا {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أضافها الله إليه عز وجل في الآية السابقة:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} فأضيفت هنا من باب تعظيم هذه الآيات ومن باب تغير الأسلوب وإلا فقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} آيات الله عز وجل
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بكل شيء وحكيم يضع الأمور في مواضعها المناسبة، ومن ذلك عَلِمَ حاجتكم إلى هذه الأحكام فمن حكمته شرع لكم هذه الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(60)
لما تحدث عما يتعلق بالشباب والشابات وما شابه هؤلاء ذكر المرأة الطاعنة في السن
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} جمع قاعد وليس جمع قاعدة، سميت المرأة الكبيرة بالقواعد:
لأنها كثيرًا ما تكثر من القعود ما تتحرك كثيرًا، وهي من القواعد لأنها قَعَدت عن النكاح ولم يأتِها حيض فليس أحدٌ يرغبُ فيها
{ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاح} يعني ما أحد يرغب فيهن
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} ليس عليها إثم، يعني المرأة الكبيرة في السن التي لا مطمع لأحد فيها لو كشفت عن وجهها فلا إشكال في ذلك خلافًا لغيرها،
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] كما في نفس السورة:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} فقال هنا: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} لكن بشرط:
{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يعني لو أنها أظهرت زينتها من ذهب أو حناء أو ما شابه ذلك فيكون الإثم.
تنبيه/ بعض الناس ربما يصور مثلا العجوز يصور يدها وبها حناء أو بها ذهب ويضعها مثل ما يوضع في وسائل التواصل هذا أيضًا من المحرم لأنه إبداء زينة.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}
ومع ذلك: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} بمعنى أنها لا تظهر شيئًا أبدًا {خيرٌ لهن}
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لكل قول عليم بكل حال
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو عز وجل سميع لتلك القواعد فيما لو أنهن مثلا خضعن بالقول
وعليم عز وجل بحالهن فيما لو كشفن ما لم يُجِزْهُ الشرع لهن.
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(61)
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}
نفي الإثم عن هؤلاء الثلاثة، وقد قال المفسرون فيها أقوالًا وكلها داخلة
يعني من أن الجهاد رُفِعَ وجوبه عن هؤلاء للعذر ولذلك قال عز وجل في سورة الفتح:
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[الفتح:17].
ويدخل في ذلك: أن هؤلاء يأتون إلى الإنسان في بيته فلا يجد طعاما، فيذهب بهم إلى بيت غيره ممن أذِنَ له فكان هؤلاء الثلاثة يتحرجون من هذا الأمر.
ويدخل فيه أيضًا: من أن الناس كانوا يتحرجون من أن يأكلوا مع هؤلاء الثلاثة، لمَ؟
يقولون نحن نأكل أكثر من هؤلاء، فالأعرج لا يتمكن من الجلوس للطعام، المريض لا يأخذ كفايته من الطعام، الأعمى أيضًا لا يأخذ كفايته من الطعام فكانوا يتحرجون في الأكل مع هؤلاء، فيخشون أنهم يأخذون حقهم من الطعام والشراب فقال عز وجل:
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ}
وتأمل كرر كلمة حرج من باب التأكيد على نفي الإثم.
{وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} يعني ليس على أنفسكم حرج وإثم {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الإنسان يأكل من بيته من حيث الأصل، لكن لماذا ذكر البيت؟
قال بعض المفسرين: ذكر البيت هنا من باب أن يبين أن الأكل من بيت الأخوال والأعمام وممن ذكر في هذه الآية هو هوَ كحال من يأكل في بيته.
وقد قال بعض المفسرين: -وهذا داخل أيضًا- {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} يعني: بيوت أولادكم لأن النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: «أنت ومالك لأبيك» وقال ﷺ: «إن أفضل ما أكلتم كسبكم وإن أولادكم من كسبكم»
{أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} لأن الأم قد تكون تحت زوج آخر
{أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ}
جمع خال {أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} وانظر كيف تكررت كلمة البيوت من باب التأكيد على أن هؤلاء يملكون البيت، فالأكل من بيوت هؤلاء لا حرج في ذلك
{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يعني من هو متولي على خزائن إنسان فلا بأس أن يأكل وذلك مثل الوكيل الذي هو وكيل على طعام موكله.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} يعني أو بيوت أصدقائكم، فلا جناح لكن بشرط:
أن يكون الأكل بالمعروف، وأيضًا أن تكون العادة قد جرت بذلك أو اطردت،
لكن لو أن الإنسان من هؤلاء قال: لا أحد يأكل من بيتي، فلا يجوز لقول النبي ﷺ كما ثبت عنه: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
أو أن هذا الذي سيؤكل من بيته علم بأنه بخيل، فأيضًا لا، لأن الأصل عدم الأكل من بيوت هؤلاء، لكن الكلام هنا على النفوس الطيبة وعلى عدم وجود أمارة وعلامة على بخله أو على منعه.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} جميعًا يعني تجتمعون على طعامكم، أو أشتاتًا يعني متفرقين، والأفضل أن يجتمع ولذلك قال ﷺ كما ثبت عنه قال: «خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي»
وتأمل هنا لما ذكر الأماكن التي يجوز فيها الأكل ذكر هنا الحالة التي يجوز فيها الأكل {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا} بيوتًا لكم أو لغيركم {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه لشواهده: “إذا دخلت بيتَك فسلم على أهلك تكن بركةً عليك وعلى أهل بيتك» فإذا لم يجد أحدًا؟
كأن يدخل بيتًا ليس فيه أحد؟ فقد قال المفسرون وورد بعض الآثار عن بعض الصحابة وبعض المفسرين من التابعين أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
{ تَحِيَّةً} حيوا تحية {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} شرعها الله لكم { مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} بها البركة لأن السلام طلبُ السلامة من الله للمُسَلّم عليه
{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} تطيب بها النفوس ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال:
«ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» وأيضًا هي طيبة من حيث إن الإنسان يكون طيبًا مع إخوانه ويكون ذا خلق ويرفع الكُلفة والمؤونة وأيضًا الطيب من حيث الثواب في الآخرة {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} مثل ما بين الآيات السابقات يبين لكم آياته عز وجل من أجل أن تعقلوا، دل هذا على أن تَعَلُّمَ آيات الله والعمل بها سبيلٌ إلى أن يكون الإنسان ذا عقل وأن يكون ذا فهم.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (62)
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هنا حصر لأهل الإيمان ليس كأولئك المنافقين:
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[النور:47]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} في جهاد أو في صلاة جمعة أو أمر جامع يهم المسلمين اجتمعوا من أجله:
{ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} مع أن الأفضل عدم الذهاب حتى ينتهي الأمر، لكن من كانت له حاجة ملحة، فلا يذهب حتى يستأذن النبي ﷺ
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} وليس هذا الأمر محتمًا عليك، وإنما على حسب اختيارك تأذن لمن تشاء وتمنع من تشاء
{ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} لأنه من الأفضل كما سلف أنهم يمكثون معه حتى ينتهي هذا الأمر، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا فيه التبكيت لأولئك المنافقين الذين يستترون في مثل هذه الأمور حتى يخرجوا من غير استئذان، فقال عز وجل بعدَها:
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (63)
هنا يتعلق بهذه الآية أمران ذكرهما المفسرون وكلاهما داخل:
{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} بمعنى أن أحدَكم إذا دعا النبي ﷺ فلا يقل يا محمد وإنما يقول: “يا رسول الله”، ليس كحالكم تقول لصاحبك يا عبد الله يا خالد يا فهد، لا! بل الرسول ﷺ له مكانتُه حال المناداة، لكن في حال الخبر: لا إشكال، الصحابة يقولون: قال محمد ﷺ، هذا على سبيل الخبر، لكن عند المناداة له لا يقال: يا محمد وإنما يا رسول الله، يا نبي الله، هكذا أُمِرَ الصحابة رضي الله عنهم في عصره
والأمر الثاني الذي يدخل وهو: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} يعني لا تجعلوا دعاء الرسول كدعوة بعضكم لبعض إذا شاء أن يُنفذ وإن شاء ألا ينفذ! لا، بل من حيث ما يدعوكم النبي ﷺ إلى أمر فلتستجيبوا ولذلك قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} قد للتحقيق هنا، فالله عز وجل عالم
{ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} من تسلل يعني التخفي {لِوَاذًا} يعني ليستر بعضُهم بعضًا وليستتروا بشيء آخر من أجل ألَّا يراهم النبي ﷺ ولذلك قال عز وجل:
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[التوبة:127].
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} دل هذا على انه لما ذكر علم الله عز وجل دل هذا على أنه سيعاقبهم، ولذلك قال بعدها: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} بعض العلماء قال: {عن} “صلة” أي: زائدة، أي: فليحذر الذين يخالفون أمرَه، والصواب: أنها ليست زائدة لأن الأصل عدم الزيادة، وإنما تُضَمَّن هذه فعلا {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يضمن ماذا؟ يُعرِضون عن أمره، والضمير على الأرجح من حيثُ السياق يعود إلى النبي ﷺ وإن كانت المخالفة لأمره ﷺ مخالفةً لأمر الله عز وجل:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي ابتلاء وزَيغ لهم، ولذلك الإمام أحمد قال: أتدري ما الفتنة؟ لعله أن يرد بعض حديث النبي ﷺ فيقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
{ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عذاب مؤلم، دل هذا على أنهم بين أمرين:
إما عذاب يتعلق بدينهم من حيث الزيغ والضلال، أو بعذابٍ على أجسادهم، أو بعذاب يكون لهم في الدنيا وبين عذاب يكون لهم في الآخرة.
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (64)
{أَلا} للتنبيه وتدل على التأكيد، {إِنَّ} للتأكيد {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} ومن له ما في السماوات والأرض يجب أن يُعبد وأن يطاع.
{قَدْ} هنا للتحقيق فهو يعلم حالَكم {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}
يعني يوم القيامة يُخبرهم الله عز وجل بما عملوا وهو عالم بحالهم في يوم القيامة لا تخفى عليه خافية، ولذلك قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]
فقال هنا: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ليس بهذا الأمر فقط وبأحوالكم بل عالم بكل شيء.
وبهذا ينتهي تفسير سورة النور.