بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير المختصر الشامل
تفسير سورة سبأ
من الآية (1) إلى الآية ( 23)
الدرس ( 209)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة سبأ من السور المكية
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)﴾
﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ﴾ حَمِد الله ﷻ نفسه لأنه يستحق الحمد عز وجل، فله ما في السماوات وما في الأرض من حيث التدبير والملك والتصرف ﴿وَلَهُ الحَمدُ فِي الآخِرَةِ﴾ يعني في يوم القيامة؛ يحمده الخلق كلهم، يحمده المؤمن: ﴿وَقالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ﴾ [فاطر: ٣٤] ويحمده حتى الكفار لأنهم عرفوا في يوم القيامة أنه ما عذبهم إلا بعدله عز وجل: ﴿يَومَ يَدعوكُم فَتَستَجيبونَ بِحَمدِهِ﴾ [الإسراء: ٥٢] وذكر ﷻ أنه هو المحمود في الدنيا قال تعالى:﴿وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ لَهُ الحَمدُ فِي الأولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكمُ وَإِلَيهِ تُرجَعونَ﴾ [القصص: ٧٠]
﴿وَهُوَ الحَكيمُ الخَبيرُ﴾ فهو حكيمٌ ﷻ فله التصرف التام والكامل في خلقه وخبيرٌ ﷻ فهو يعلم بواطن الأمور.
﴿يَعلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرضِ﴾ من دلائل قدرته ﷻ أي: ما يدخل في الأرض من أمطار، من حبوب، من كنوز وما شابه ذلك ﴿وَما يَخرُجُ مِنها﴾ وما يخرج من الأرض من نباتات ومن كنوز وما شابه ذلك ﴿وَما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ﴾ من أمطار ومن ملائكة ﴿وَما يَعرُجُ فيها﴾ وما يصعد فيها ﴿إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصّالِحُ﴾ [فاطر: ١٠] ﴿يُدَبِّرُ الأَمرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرضِ ثُمَّ يَعرُجُ إِلَيهِ في يَومٍ كانَ مِقدارُهُ أَلفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ﴾ [السجدة: ٥] وعروج الملائكة.
﴿وَهُوَ الرَّحيمُ الغَفورُ﴾ فيرحم عباده ويغفر ذنوبهم لمن تاب وأناب إليه ﴿وَهُوَ الرَّحيمُ الغَفورُ﴾ ومن رحمته ﷻ أنه أودع لهم مثل هذه الكنوز التي بها ينتفعون.
﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا لا تَأتينَا السّاعَةُ قُل بَلى وَرَبّي لَتَأتِيَنَّكُم عالِمِ الغَيبِ لا يَعزُبُ عَنهُ مِثقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرضِ وَلا أَصغَرُ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرُ إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ(3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)﴾
﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا﴾ مع هذا كله أنكر الذين كفروا يوم القيامة ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا لا تَأتينَا السّاعَةُ قُل﴾ يا محمد لهؤلاء ﴿قُل بَلى وَرَبّي﴾ يعني أمر الله ﷻ نبيه محمدًا ﷺ أن يقسم به على تحقق البعث، قال ابن كثير: في ثلاثة مواطن لا رابع لها: هنا وفي قوله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذينَ كَفَروا أَن لَن يُبعَثوا قُل بَلى وَرَبّي لَتُبعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧] وفي قوله تعالى: ﴿وَيَستَنبِئونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُل إي وَرَبّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [يونس: ٥٣] فقال الله ﷻ هنا: ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا لا تَأتينَا السّاعَةُ قُل بَلى وَرَبّي لَتَأتِيَنَّكُم عالِمِ الغَيبِ﴾ هذي صفة لله ﷻ ﴿عالِمِ الغَيبِ﴾ أي ما غاب عنكم ﴿لا يَعزُبُ﴾ يعني لا يخفى عليه ﴿مِثقالُ ذَرَّةٍ﴾ أيوزن ذَرَّة، الذرة: هي النملة الصغيرة أو الهباءة التي توجد مع الغبار إذا فُتِحت النافذة ﴿فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرضِ وَلا أَصغَرُ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرُ﴾ معلومٌ أنه لا يعزب عنه الأصغر، قال ولا أكبر حتى لا يُظن أنه فقط لا يغيب عنه الأصغر فأكد هنا أنه لا شيء يغيب عنه ﷻ ﴿إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ ولذلك في سورة يونس قال عز وجل ﴿وَما تَكونُ في شَأنٍ وَما تَتلو مِنهُ مِن قُرآنٍ وَلا تَعمَلونَ مِن عَمَلٍ إِلّا كُنّا عَلَيكُم شُهودًا إِذ تُفيضونَ فيهِ وَما يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرَ﴾ [يونس: ٦١] لماذا نصبها في سورة يونس ولم ينصبها هنا: ﴿وَلا أَصغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرَ﴾ لأنه معطوفة على (من مثقال) مثقال مجرورة ﴿وَلا أَصغَرَ﴾ معطوفة، وأصغر: ممنوعة من الصرف فجُرَّت بالفتحة نيابة عن الكسرة، أما هنا لم يأتِ بكلمة (من) قبل (مثقال).
﴿لِيَجزِيَ الَّذينَ آمَنوا﴾ يوم القيامة قدَّرَه الله ﷻ وأنه آتٍ لا محالة لم؟ ﴿لِيَجزِيَ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُم مَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ﴾ يغفر الذنوب عنهم فيزول عنهم ما يكرهونه ولهم رزقٌ كريم وهو الجنة.
﴿وَالَّذينَ سَعَوا في آياتِنا مُعاجِزينَ﴾ سعوا: بمعنى أنهم بادروا إلى التكذيب بآيات الله ﷻ يظنون أنهم يعجزوننا وأنهم يفوتوننا ﴿أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ مِن رِجزٍ أَليمٌ﴾ الرجز: هو العذاب لكنه أسوأ العذاب ولذلك قال: ﴿ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ﴾ من ماذا؟ ﴿مِن رِجزٍ﴾ أي من أسوأ العذاب ﴿أَليمٌ﴾ مؤلم.
﴿وَيَرَى الَّذينَ أوتُوا العِلمَ الَّذي أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ﴾ من الذين أوتوا العلم؟ سواءً كان من هذه الأمة أو من أهل الكتاب؛ يعني هؤلاء يرون -وهم كفار قريش- أن ما أتيت به ليس بحق، لكن أهل العلم لهم منزلتهم ولذلك صدعوا بالحق ﴿وَيَرَى الَّذينَ أوتُوا العِلمَ الَّذي أُنزِلَ إِلَيكَ﴾ وهو القرآن ﴿مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ﴾ هُوَ الحَقَّ: الحقَّ نُصِب لأنه مفعول لـ( يرى) ﴿وَيَهدي إِلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ﴾ يعني هو الحق وأيضًا يهدي إلى صراط الله العزيز القوي الحميد المحمود على أفعاله، ولذلك لما ذُكر القرآن ذُكرت هنا أسماؤه ﷻ ﴿العَزيزِ الحَميدِ﴾ لأنه منزَّل من ربك الذي هو عزيز وقوي وحميد؛ محمود على أفعاله.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ(8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(9)﴾
﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَل نَدُلُّكُم﴾ هنا يستبعدون ويستنكرون ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا﴾ وصَرَّح بأنهم كفار لأن من أنكر يوم القيامة فهو كافر، قال بعضهم لبعض ﴿ هَل نَدُلُّكُم عَلى رَجُلٍ﴾ ولم يذكروا اسمه ﷺ من باب التحقير له مع أنهم يعرفون صدقه ﴿يُنَبِّئُكُم﴾ يعني يخبركم ﴿ إِذا مُزِّقتُم كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ يعني إذا تفرقتم في الأرض وأصبحتم مثل التراب واختلطتم بالعظام وبالرفات ﴿إِنَّكُم لَفي خَلقٍ جَديدٍ﴾ يعني يقول إنكم ستكونون في خلق جديد وستبعثون يوم القيامة ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَعَيينا بِالخَلقِ الأَوَّلِ بَل هُم في لَبسٍ مِن خَلقٍ جَديدٍ﴾ [ق: ١٥]
﴿أَفتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ يقولون هل محمد افترى بهذا القول ﴿أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ يعني به جنون، سبحان الله! فحَكَمَ الله عليهم ﴿بَلِ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذابِ وَالضَّلالِ البَعيدِ﴾ فهم في عذابٍ وذلك في عذابٍ في الدنيا حيث الحيرة والضلال ﴿وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: ١٢٤] وأيضًا هو يعمل الأعمال السيئة التي توصله إلى العذاب ﴿بَلِ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذابِ وَالضَّلالِ البَعيدِ﴾ فكيف يهتدون وهم في ضلال بعيد وذلك لأنهم بَعُدوا عن مصدر الهدى وهو القرآن.
﴿أَفَلَم يَرَوا إِلى ما بَينَ أَيديهِم وَما خَلفَهُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ﴾ يعني نظروا إلى ما أمامهم ونظروا إلى ما هو من خلفهم لتأملوا ما خلقه الله ﷻ -من حيث الأمام- في الأرض وفي السماء وكذلك في الخلف أحاط بهم ما يدل على قدرة الله ﷻ فيما خلقه في هذه السماوات والأرض ﴿إِن نَشَأ نَخسِف بِهِمُ الأَرضَ﴾ وذلك بأن يدخلهم في الأرض ويخسف بهم الأرض ﴿ أَو نُسقِط عَلَيهِم كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ يعني قطعًا نازلة من السماء وهي قِطَع العذاب ﴿ إِنَّ في ذلِكَ﴾ يعني التأمل والتدبر في السماوات وفي الأرض ﴿لَآيَةً﴾ علامة ﴿ لِكُلِّ عَبدٍ مُنيبٍ﴾ يعني رجَّاع إلى الله ﷻ لكن حال هؤلاء أنهم في ضلال بعيد.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا داود مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ داود شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)﴾
﴿وَلَقَد آتَينا داود مِنّا فَضلًا﴾ ذَكَر هنا داود ثم ذكر بعده ابنه سليمان ثم ذكر بعد ذلك سبأ؛ ذكر داود وسليمان لأن الله ﷻ أنعم عليهما فقاما بشكر هذه النعمة، لكن سبأ أنعم الله عليها فكفرت فما هو جزاء الصنفين.
﴿وَلَقَد آتَينا داود مِنّا فَضلًا﴾ أعطاه الله الفضل ولذلك في سورة النمل: ﴿ وَقالَا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي فَضَّلَنا عَلى كَثيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤمِنينَ﴾ [النمل: ١٥].
﴿يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ﴾ يعني رددي معه فإنه حسن الصوت متى ما سمعته الجبال والطيور فإنها تردد معه من حيث التسبيح والقراءة، ولذلك النبي ﷺ لما مر على أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ويرتل كما ثبت عنه قال: “يا أبا موسى ! لقد أُوتِيتَ مِزْمارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ”.
﴿وَالطَّيرَ﴾ والطير: نُصِبت على محل المنادى لأن أصل محل المنادى النصب ﴿ يا جِبالُ﴾: أصلها أمر للجبال ﴿وَالطَّيرَ﴾: منصوبة لأنها معطوفة على محل المنادى الذي هو الجبال ﴿وَالطَّيرَ﴾ يعني والطير أيضًا تردد معه
﴿وَأَلَنّا لَهُ الحَديدَ﴾ يعني أذاب الله له الحديد من غير مطرقة ومن غير نار ومن غير شيء.
﴿أَنِ اعمَل سابِغاتٍ﴾ وهي الدروع السابغة المغطية التي تغطي الأبدان من ضَرَبات السيوف ﴿وَعَلَّمناهُ صَنعَةَ لَبوسٍ لَكُم لِتُحصِنَكُم مِن بَأسِكُم فَهَل أَنتُم شاكِرونَ﴾ [الأنبياء: ٨٠] فقال هنا:﴿وَقَدِّر فِي السَّردِ﴾ يعني قَدِّر في السرد بمعنى أنك إذا صنعتها ووضعت المسامير لتكن مناسبة من حيث الحِلَق حتى لا تكون إحداها أوسع من الأخرى.
﴿وَاعمَلوا صالِحًا﴾ أُمِر آل داود مع تلك النعم أن يشكروا الله بالعمل الصالح ﴿إِنّي بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾ فلا يخفى عليه ﷻ شيء من أحوالهم.
﴿وَلِسُلَيمانَ الرّيحَ﴾ وسخرنا لسليمان الريح ﴿غُدُوُّها شَهرٌ وَرَواحُها شَهرٌ﴾ غدوها: الغدو هو أول النهار، والرواح من الزوال إلى المغرب؛ يعني أنها تقطع هذه الريح ما تقطعه الدواب في شهر تقطعه في غدوة وتقطعه في روحة ﴿وَأَسَلنا لَهُ عَينَ القِطرِ﴾ أذاب الله له عين القطر الذي هو النحاس والرصاص المذاب كما ألان لأبيه الحديد ﴿وَأَسَلنا لَهُ عَينَ القِطرِ﴾ من غير تعب ومشقة.
﴿ وَمِنَ الجِنِّ﴾ يعني وسخَّر له الجن ولذلك قال عز وجل: ﴿وَلِسُلَيمانَ الرّيحَ عاصِفَةً تَجري بِأَمرِهِ إِلَى الأَرضِ الَّتي بارَكنا فيها وَكُنّا بِكُلِّ شَيءٍ عالِمينَ – وَمِنَ الشَّياطينِ مَن يَغوصونَ لَهُ وَيَعمَلونَ عَمَلًا دونَ ذلِكَ وَكُنّا لَهُم حافِظينَ﴾ [الأنبياء: ٨١ – ٨٢].
فقال هنا: ﴿وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعمَلُ بَينَ يَدَيهِ بِإِذنِ رَبِّهِ﴾ يعمل بين يديه بإذن ربه: يعني أنه حاضرٌ أمامه وفي طوعه ﴿وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعمَلُ بَينَ يَدَيهِ بِإِذنِ رَبِّهِ﴾ وهذا كله من تيسير الله ﷻ ﴿وَمَن يَزِغ مِنهُم ﴾ من هؤلاء الجن ﴿ عَن أَمرِنا﴾ يعني يخالف أو يُفسد ما أصلحه وبناه ﴿ نُذِقهُ مِن عَذابِ السَّعيرِ﴾ وهو يشمل السعير الذي يكون في الدنيا وفي الآخرة ولذلك قال تعالى: ﴿وَكُنّا لَهُم حافِظينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] فقد حفظهم لسليمان عليه السلام وأيضًا حفظهم من أن يُفسدوا ما بنوه لسليمان.
﴿يَعمَلونَ لَهُ ما يَشاءُ﴾ هذه من أنواع ما يعملون له، قال ﷻ : ﴿وَيَعمَلونَ عَمَلًا دونَ ذلِكَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] المذكور هنا ﴿يَعمَلونَ لَهُ ما يَشاءُ﴾ مما يختاره ﴿ مِن مَحاريبَ﴾ والمحاريب هي الأبنية المرتفعة سواءً كانت قصورًا أو أنها أماكن للعبادة في زمنهم وفي عهدهم ﴿ يَعمَلونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحاريبَ﴾ من أجل العبادة ﴿وَتَماثيلَ﴾ أي صور ، يعملون له صورًا ، والصور لعلها هي جائزة في وقته لكن في سنة النبي ﷺ وفي شرعه محرم ﴿وَجِفانٍ كَالجَوابِ﴾ الجفان يعني الأواني ﴿ كَالجَوابِ﴾ يعني كالأحواض التي يُجبى إليها الماء لسقي الإبل لِعِظَمِها ﴿وَقُدورٍ راسِياتٍ﴾ قدور ثابتات في الأرض ما تتحرك لثقلها ﴿اعمَلوا آلَ داود شُكرًا﴾ يعني اشكروا الله ﷻ واعملوا صالحًا ولذلك في أول الآيات ﴿وَاعمَلوا صالِحًا إِنّي بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾ [سبأ: ١١] ﴿وَقَليلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكورُ﴾ قليل من يشكر نعمة الله ﷻ.
﴿فَلَمّا قَضَينا عَلَيهِ المَوتَ﴾ قضى الله على سليمان الموت لأن الجن كانوا يوهمون أنفسهم ويظنون أنهم يعلمون الغيب ويوهمون الإنس أنهم يعلمون الغيب، فظن الإنس أن الجن يعلمون الغيب فبين ﷻ أنهم لا يعلمون ذلك بموت سليمان فقال الله ﷻ: ﴿فَلَمّا قَضَينا عَلَيهِ المَوتَ﴾ حكمنا وأمرنا بالموت عليه ﴿ما دَلَّهُم عَلى مَوتِهِ إِلّا دابَّةُ الأَرضِ﴾ الأرضة التي تكون في الأرض ﴿ تَأكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ أي عصاه لأنه كان متكئًا عليها للعبادة وقد مات من قبل وإذا به يسقط – سميت العصا منسأة لأنه يُنسأُ بها يعني يؤخر بها؛ يؤخر بها مثلًا الحشرات، الهوام، الدواب- ﴿فَلَمّا خَرَّ﴾ يعني سقط ﴿ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَو كانوا يَعلَمونَ الغَيبَ ما لَبِثوا فِي العَذابِ المُهينِ﴾ الذي سُخِّروا لسليمان من تلك الأبنية وما شابه ذلك لو كانوا يعلمون الغيب لتوقفوا عن تلك البنايات كما قال ﷻ:﴿وَالشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ – وَآخَرينَ مُقَرَّنينَ فِي الأَصفادِ﴾ [ص: ٣٧ – ٣٨] الذين عصَوْه: ﴿وَآخَرينَ مُقَرَّنينَ فِي الأَصفادِ﴾ [ص: ٣٨] يعني مقيدين من الجن الذين لم يأتمروا بأمر سليمان.
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ(21) ﴾
﴿لَقَد كانَ لِسَبَإٍ﴾ هذا الصنف الذي أعطاه الله ﷻ النعمة لكنه كفر بخلاف داود وسليمان ﴿لَقَد كانَ لِسَبَإٍ﴾ يعني لقبيلة سبأ وأصل سبأ مرجعها إلى رجل، ولذلك لما سُئل النبي ﷺ عن سبأ هل هو رجل أم هو امرأة أم هو أرض ” فقال قالَ: ليسَ بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولَكِنَّهُ رجلٌ ولدَ عشرةً منَ العربِ فتيامنَ منهم ستَّةٌ، وتشاءمَ منهم أربعةٌ.” ، وهنا المراد القبيلة ومن قبيلة سبأ تلك المرأة التي أسلمت مع سليمان لله رب العالمين التي كانت تملكهم.
﴿في مَسكَنِهِم﴾ في بيوتهم ﴿آيَةٌ﴾ علامة، ما هي العلامة؟ ﴿جَنَّتانِ عَن يَمينٍ وَشِمالٍ﴾ يعني عن يمين مساكنهم وعن شمال مساكنهم وأيضًا مع وجود السد الموجود عندهم في هذا الوادي عن اليمين جنة وعن الشمال جنة، إن نظروا إلى الميمنة فجنة يعني بساتين وخيرات ﴿كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُروا لَهُ﴾ قيل لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له كحال داود وسليمان وممن امتن الله عليه فشكر ﴿ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ وصف لها هنا، بلدة طيبة؛ طيبة من حيث أجوائها ومن حيث هوائها هواء نقي وبها أشجار وخيرات ﴿ وَرَبٌّ غَفورٌ﴾ يغفر الذنب إن شكرتم الله عز وجل.
﴿فَأَعرَضوا﴾ لم يقبلوا هذا الوعظ والتذكير لما أتاهم من يذكرهم ﴿فَأَرسَلنا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ﴾ قيل العرم هو الوادي وكان به سد يقال له سد مأرب، وقيل الماء الشديد وعلى كل حال أرسل ﷻ عليهم ذلك الماء الشديد من ذلك الوادي المليء ﴿وَبَدَّلناهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ﴾ جنة عن يمين عن شمال ﴿جَنَّتانِ عَن يَمينٍ وَشِمالٍ﴾ [سبأ: ١٥] بها ما بها من الخيرات والطيبات.
﴿ذَواتَي أُكُلٍ﴾ أي مأكول من الثمار يعني أصبحت هناك جنتان ثمارها: ﴿ذَواتَي أُكُلٍ خَمطٍ﴾ خمط: من شجر مُرّ ﴿وَأَثلٍ﴾ الأثل المعروف الذي يشبه الطرفاء في البر ﴿وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَليلٍ﴾ السدر قد يُنتفع به لكن هنا سدرٌ لا فائدة منه إنما فيه الشوك فقط.
﴿ذلِكَ جَزَيناهُم بِما كَفَروا﴾ بسبب كفرهم ﴿وَهَل نُجازي إِلَّا الكَفورَ﴾ دل هذا على أنه لم يقل: وهل نجازي إلا هؤلاء، وإنما وصفهم بأنهم كفار وأن من صنع صنيعهم فسيحل به مثل ما حل بهم.
﴿وَجَعَلنا بَينَهُم وَبَينَ القُرَى الَّتي بارَكنا فيها قُرًى ظاهِرَةً﴾ يعني كانوا مع تلك الجنتين الطيبتين كانوا في قرى يصلون إلى الشام، وقيل المراد بالقرى المباركة بعض قرى صنعاء كان الواحد منهم ينطلق فيريد الشام أو يريد على القول الآخر المدن التي في صنعاء، يصل إليها بسهولة بحيث لا يغرب عليه شمس اليوم إلا وهو في القرية الأخرى و كل ما يمر عليه من القرى إنما هي قرى مليئة بالخيرات وبالثمار وما شابه ذلك فقال ﷻ: ﴿وَجَعَلنا بَينَهُم وَبَينَ القُرَى الَّتي بارَكنا فيها قُرًى ظاهِرَةً﴾ واضحة ومتواصلة يعني يصلون فيها بسهولة ﴿ وَقَدَّرنا فيهَا السَّيرَ سيروا فيها لَيالِيَ وَأَيّامًا آمِنينَ﴾ يعني تسيرون بالليل وبالنهار في أمن، فلا تغرب عليكم شمس ذلك اليوم إلا ووصلتم إلى القرية الأخرى قبل أن يظلم عليكم الليل.
﴿فَقالوا رَبَّنا﴾ وهذا من باب الطغيان والعناد والكفر من هؤلاء ﴿فَقالوا رَبَّنا باعِد بَينَ أَسفارِنا﴾ نريد أن تصيبنا المشقة والتعب مثل غيرنا من النصب حتى ذكر بعض المفسرين أن الواحد منهم كان إذا مشى في طريقه ومعه الإناء إذا به لا يصل إلى بيته إلا وقد امتلأ من الثمار من كثرة ما في أشجارهم وفي بلدتهم من الثمار اليانعة فقال الله ﷻ عن حال هؤلاء أرادوا أن تتبدل الأمور سبحان الله! كما قالت بنوا إسرائيل لما كان ينزل عليهم المن والسلوى: ﴿لَن نَصبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادعُ لَنا رَبَّكَ يُخرِج لَنا مِمّا تُنبِتُ الأَرضُ مِن بَقلِها وَقِثّائِها وَفومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَستَبدِلونَ الَّذي هُوَ أَدنى بِالَّذي هُوَ خَيرٌ اهبِطوا مِصرًا﴾ [البقرة: ٦١] يعني أي مصر وأي قرية من القرى ستجدون هذه الأشياء لكن المن والسلوى أين يوجد؟ ﴿فَقالوا رَبَّنا باعِد بَينَ أَسفارِنا﴾ حتى تصيبنا المشقة.
﴿وَظَلَموا أَنفُسَهُم﴾ بالكفر ﴿ فَجَعَلناهُم أَحاديثَ﴾ يتحدث من جاء بعدهم عن حالهم ﴿وَمَزَّقناهُم كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرَّقهم تفريقًا ولذلك انتقلت الأوس والخزرج من اليمن إلى المدينة وتفرق بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى مناطق أخرى، فتفرقوا لأن أصل الأوس والخزرج من اليمن ﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ﴾ ما مضى علامات لكل صبار إذا ابتلي وشكور: إذا ابتلي بالضراء صبر وشكور إذا ابتلي بالنعماء شكر الله ﷻ.
﴿وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إِبليسُ ظَنَّهُ﴾ ظنَّهُ: مفعول به لـ( صدَّق) لأن إبليس قال: ﴿وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصيبًا مَفروضًا﴾ [النساء: ١١٨] هذا ظنٌّ ظنه إبليس فصدق ظنه فيهم، هل صدق ظنه فقط في سبأ أو في جميع الخلق؟ الصحيح: -قيل بهذا وقيل بهذا- في جميع الخلق ومن هؤلاء سبأ.
﴿وَما كانَ لَهُ عَلَيهِم مِن سُلطانٍ﴾ ما كان له عليهم من تسلط وحجة ﴿إِلّا لِنَعلَمَ﴾ ليظهر هذا الأمر ويترتب هذا العلم الظهور والجزاء ﴿مَن يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّن هُوَ مِنها في شَكٍّ﴾ في ارتياب ﴿وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ حَفيظٌ﴾ قد حفظ أعمال الخلق وسيجازي كل إنسان بما عمل ولذلك قال عز وجل: ﴿إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوينَ﴾ [الحجر: ٤٢]
فقال الله ﷻ هنا:
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(23)﴾
﴿قُلِ ادعُوا الَّذينَ زَعَمتُم مِن دونِ اللَّهِ﴾ قل يا محمد لكفار قريش وفي هذه القصة لما ذكر سبأ عبرة لكفار قريش حتى يتعظوا ﴿قُلِ ادعُوا الَّذينَ زَعَمتُم مِن دونِ اللَّهِ﴾ ممن جعلتموهم آلهة مع الله ﴿ لا يَملِكونَ مِثقالَ ذَرَّةٍ﴾ أي وزن ذرة من نملة أو هباءة ﴿فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرضِ﴾ ما يملكون فيهما أي شيء ﴿ وَما لَهُم فيهِما مِن شِركٍ﴾ ليسوا مشتركين مع الله في ملكية هذه السماوات والأرض ﴿ وَما لَهُ مِنهُم مِن ظَهيرٍ﴾ يعني ما أحد من هؤلاء أعان الله على خلقهما.
﴿وَلا تَنفَعُ الشَّفاعَةُ عِندَهُ إِلّا لِمَن أَذِنَ لَهُ﴾ هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة؛ لا يملكون السماوات والأرض ملكًا متفردًا ولو وزن مثقال ذرة ولا يملكون الشراكة ولم يعينوا الله ﷻ ولن يشفعوا لأحد لأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ﷻ وبرضاه عن المشفوع له فكيف تعبدونهم؟ ما يملكون شيئًا فهم ضعفاء.
﴿حَتّى إِذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهِم﴾ زال الخوف عن قلوبهم ﴿قالوا ماذا قالَ رَبُّكُم﴾ يسأل بعضهم بعضًا ﴿قالُوا الحَقَّ﴾ أي: قال القول الحق ﴿ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبيرُ﴾ له العلو المطلق والكبير الذي لا أكبر منه ﷻ وَلَهُ الكِبرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ، وهل هذه الآية متصلة بما سبق أم لا؟ لأن بعض المفسرين يقول: ﴿حَتّى إِذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهِم﴾ يعني زال الخوف يوم القيامة عن قلوب هؤلاء الكفار فإنهم يعترفون بأن الله قد قال الحق في الدنيا لكننا لم نتبع ذلك ولكن لا ينفعهم ذلك، وهذا إن كان يدخل إلا أن تفسير القرآن بتفسيره ﷺ أولى ﴿حَتّى إِذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهِم﴾ هذا يتعلق بالملائكة فإن الملائكة إذا قضى الله ﷻ بالأمر فأوحى إلى جبريل؛ خضعت الملائكة بأجنحتها لله ﷻ خضوعاً لقوله، فإذا مر جبريل على ملأ من الملائكة ماذا قال ربك؟ قالوا الحق وكل ملأ من الملائكة يقولون إن الله يقول الحق.