تفسير سورة ص من الآية ( 41 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (218 )

تفسير سورة ص من الآية ( 41 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (218 )

مشاهدات: 487

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل

(تفسير سورة: ص) من الآية (41) إلى (آخر السورة)

الدرس ( 217 )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

﴿وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ (41) ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ (42) وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ (43) وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ (44) وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ (45) إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ (46) وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ (47) وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ (48)﴾

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ أمر الله ﷻ نبيه محمد ﷺ أن يذكر أيوب، وأيوب ابتلي بالبلاء ودل هذا على أن من ذكر فيما مضى داود وسليمان أُعطوا ما أُعطوا من الملك والنبوة والرزق ومع ذلك لم يسلما من الابتلاء، فكذلك أيوب لم يسلم من الابتلاء وهو فقير، فدل هذا على أن الإنسان سيُبتلى سواء كان غنيا أو كان فقيراً.

ولذلك ذكر قصة أيوب لهذا الغرض وهنا أضافه إليه ﷻ باعتبار التكريم له ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ وذلك كما مر معنا في قوله ﴿ ۞ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء-83]  قال مسني الشيطان بنصب، مع أن الذي يخلق البلاء والخير هو الله ﷻ، لكن هنا نُسب إلى الشيطان تأدباً مع الله ﷻ، ولذلك جاء في صحيح مسلم ﴿وَالشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ﴾ ومرت معنا هذه المسألة مفصلة في أكثر من موطن.

﴿بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ بنُصبٍ هو المرض، وعذاب أي ما حصل له من هذا العذاب الذي جرى له وذلك من فقد ماله ومن فقد أبنائه.

﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾ لما دعا ربه أمره الله ﷻ أن يفعل السبب، اركض برجلك يعني اضرب برجلك الأرض فنبعت ماء ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ أي تغتسل منه، وهذا الماء بارد تغتسل و تشرب منه، فالاغتسال يكون للظاهر والشراب يكون للباطن.

وأما ما يُذكر من قصص أن أيوب عليه السلام أصيب بالبلاء وتساقط جلده ولحمه ووُضِع في مكان قرب النفايات خارج البلد فهذا لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كل هذه من الإسرائيليات التي أتى بها اليهود من أجل الطعن في أنبياء الله ﷻ.

فقال الله ﷻ ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ ومر معنا في سورة الأنبياء لما قال الله ﷻ عنه ﴿۞ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء-83] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء-84] قال هنا ﴿رَحْمَةً مِنَّا﴾، في سورة الأنبياء ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾، وقال ﴿وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾، ﴿وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يعني لأصحاب العقول فدل هذا على أن من يعبد الله ﷻ فهو من أصحاب العقول النيرة. وهل أحيا الله له أبناءه أو أنه عوضه عنهم؟ مر معنا ذلك مفصلاً في سورة الأنبياء.

﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ الضغث هو مجموعة من الحشيش، فاضرب به ولا تحنث وذلك لأنه حلف، وقد ذكر ذلك المفسرون ولعل ما ذكروه يكون من دلالة السياق مؤيداً لما قالوه، أنه حلف على زوجته على أمر فتباطأت عنه أو تأخرت عنه فحلف أن يضربها مائة ضربة، فهنا أُمر من باب التخفيف عليه أن يأخذ حزمة من الأعواد اليسيرة وهي مائة فيضرب بها الزوجة ضربة واحدة.

أو انه أُمِر بأمر آخر يتعلق بالزوجة أو بغير ذلك، المهم من باب التخفيف عليه حتى لا يحنث ولا يخالف يمينه.

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ هذه هي العلة، ما أعظم فضيلة الصبر ﴿نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ﴾ أثنى الله عليه لأنه رجًّاع إلى الله ﷻ.

﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ واذكر عبادنا يا محمد اذكر عبادنا هؤلاء، واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب يعني إسحاق ابن إبراهيم ويعقوب ابن إسحاق، أصحاب القوة أولي الأيدي القوة في طاعة الله، والأبصار أي أنهم أصحاب بصائر يعرفون الحق ويطبقونه.

فإن ذكر هؤلاء الأنبياء من باب تسلية النبي ﷺ، وأيضاً تسلية للدعاة الذين يأتون في آخر الزمن إذا خولفوا.

﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ -الخالصة- أخلصهم الله ﷻ لِما أتوا به من الأعمال الطيبة والأقوال الطيبة فكانت أقوالهم وأعمالهم خالصة لله ﷻ فجعلوا همهم الوحيد هو ذكر الدار الآخرة ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ ماهي هذه الخالصة؟ ذكرى الدار فهم يتذكرون فقط ما يكون في الآخرة.

﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ أي ممن اصطفاهم الله ﷻ واختارهم وهم في ذلك أخيار>

﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ﴾ واذكر إسماعيل، إسماعيل هو ابن إبراهيم عليه السلام، لكنه أفرده هنا باعتبار مكانة إسماعيل إنه كان صادق الوعد وصبر لما أُمر أبوه بذبحه كما سورة الصافات.

اليسع وذو الكفل هم من الأنبياء فالله ﷻ ذكر بعض الأنبياء على وجه الإجمال، وبعضهم على وجه التفصيل، ولذلك قال ﷻ ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر-78] ونقف حيث وقف القرآن.

﴿وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ﴾ يعني هم أخيار، وكل من الأخيار يعني أنهم أطاعوا الله ﷻ.

﴿هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مَـَٔابٖ (49) جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ (50) مُتَّكِـِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ (51) ۞وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ (52) هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ (53) إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ (54)﴾

﴿هَٰذَا ذِكۡرٞۚ﴾ ما مضى من ذكر هؤلاء الأنبياء ذكر وتشريف لهم، وأيضاً هذا القرآن ذكر هؤلاء فهو ذكر وتذكير وشرف لمن أخذ به، ولذلك في أول السورة قال تعالى ﴿ صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ(1)﴾.

﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآب﴾ هنا بداية جملة، يعني لكل متقِ ﴿لَحُسْنَ مَآب﴾ يعني حسن مرجع إلى الله ﷻ.

توضحه الآية التي بعدها ﴿جَنَّٰتِ عَدۡنٖ﴾ جنات إقامة كما يقال عن المعدن، لأن المعدن ثابت ومستقر في الأرض ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ ولذلك يدخلون عليهم الملائكة ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار(24)﴾ [الرعد]

بينما أهل النار إذا دخلوا فيها فإنها تغلق عليهم بأبواب مؤصدة، ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ(9)﴾ [الهمزة].

﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ ولذلك فيأتيهم من كل خير ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا﴾ يطلبون فيها ويتمنون فيها، متكئين فيها أي أنهم يتكئون على السرر المرتفعة، وأيضاً على سرر متقابلين يقابل بعضهم بعضاً.

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا﴾ يطلبون فيها ويدعون فيها ﴿بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ﴾ تلك الفاكهة كثيرة ويدعون ويطلبون الشراب.

﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ قاصرات الطرف يعني زوجات قصرن أعينهن عليهم، فلا ينظرن إلى غير أزواجهن.

﴿أَتْرَابٌ ﴾ أي أنهن مستويات في السن، وسمين بهذا الاسم كما يوضع الإنسان أو بنو آدم على التراب، كما يوضعون حينما يخرجون من بطون أمهاتهم، يعني فإنهم متساوون في هذا السن.

فقال الله ﷻ ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ هذا ما مضى من النعيم ما توعدون ليوم الحساب، يعني وُعدتم في الدنيا بأن هذا سيكون لكم في يوم الحساب فهذا هو.

﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ يعني لا ينقطع لأنه نعيم دائم رزق من عند الله ﷻ.

﴿هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مَـَٔابٖ (55) جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (56) هَٰذَا فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ (57) وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ (58) هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ (59) قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ (60) قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا فِي ٱلنَّارِ (61) وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ (62) أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ(63)﴾

﴿هَٰذَاۚ﴾ ما مضى ذكره هو خاص بالمتقين. ﴿وَإِنَّ لِلطَّٰاغِينَ﴾ هذا استئناف جديد استئناف لبيان حال الطغاة ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ شر مرجع، بينما السابقون قال عنهم ﴿لَحُسۡنَ مَـَٔابٖ﴾.

وإن للطاغين لشر مئاب توضيحه البدل، ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ جهنم يصلونها يقاسون حرها وعذابها ﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس المهاد والفراش لهم.

﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ يعني هذا حميم وغساق فليذوقوا هذا العذاب، والحميم هو الماء الحار المتناهي في حره، والغساق قيل هو الزمهرير شدة البرد لأنه يقابل الحرارة، وقيل هو ما يسيل من صديد أهل النار مما يخرج من فضلاتهم.

ولا تعارض بينهما فلهم الحميم والغساق بنوعيه، فقال لله ﷻ ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ أي فليذوقوا الحميم والغساق فهذا هو عذابهم.

﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ﴾ من أنواعه وأمثاله من العذاب ﴿أَزْوَاجٌ﴾ يعني أصناف من العذاب وليس محصوراً على ما مضى.

فقال الله ﷻ ﴿هَذَا فَوْجٌ﴾ يعني جماعة ﴿مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ يُقال لأهل النار الذين دخلوها وهم الزعماء، يقال لهم: هذا الفوج الذي سيقتحم معكم هم من كانوا يتبعونكم، فيقول الزعماء: ﴿لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ﴾ يعني لا مرحباً ولا وسعت ولا رحب بهم المكان، لأن المكان هنا مكان جهنم من الضيق كما قال ﷻ ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان13].

فيقولون ﴿إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ﴾ سيصلون النار مثل ما نصلاها نحن إنهم صالوا النار. قالوا -أي الأتباع للزعماء- ﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ أي لا وسع بكم المكان ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ وذلك هو الإضلال ﴿فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ بئس القرار هو هذا المكان، وهو جهنم فبئس القرار.

يقول الأتباع ﴿قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّار﴾ ِيعني هم السبب الذي جعلونا ندخل هذه النار فزدهم من العذاب، فقال الله ﷻ في آية أخرى ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف-38].

يقول من في النار ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ﴾ أين أولئك الأشرار الذين كنا نعدهم في الدنيا مثل بلال ومثل صهيب وما شابه هؤلاء، فيقولون أين هؤلاء لم نرهم في النار ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ﴾ أي في الدنيا. ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ أي هل نحن اتخذناهم سخريا في الدنيا وكانوا على الحق فلم يكونوا معنا وإنما كانوا في الجنة ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ يعني أننا لم نرهم، هم في النار لكننا لم نرهم.

﴿إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ (64) قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ (65) رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ (66) قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ (67) أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۭ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ(70)﴾

﴿أِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ إن ذلك أي ما ذكر لك يا محمد لحق، وهو تخاصم أهل النار فيما يتخاصمون بينهم مما مضى من آيات، قل يا محمد لهؤلاء كفار قريش إنما أنا منذر يعني مبلغكم وأخوفكم من عذاب الله ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أي لا معبود بحق إلا الله الذي هو الواحد القهار.

فجمع بين الواحد وبين القهار، فهو الواحد وهو الذي يقهر وهو القهار، لأنه هو الواحد وهو الواحد القهار.

ثم قال ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أنتم تقرون بأنه هو الرب، إذاً أقروا بأنه هو الذي يستحق العبودية وحده، ﴿الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ فهو العزيز القوي الذي أدخل المتقين الجنة، وأدخل الكفار النار، وهو الغفار الذي يغفر الذنوب.

﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ قل يا محمد لهؤلاء هذا القرآن نبأ عظيم، واشتمل هذا النبأ العظيم على نبأ عظيم وهو البعث ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ (1) عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ (2)ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ (3)﴾ [النبأ]

﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ أنتم يا كفار قريش عنه معرضون ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ يبين لهم أنه رسول من الله ﷻ وأنه صادق.

﴿بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ وهم الملائكة ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ في شأن السجود لآدم، ﴿إِذْ﴾ أي وقت اختصامهم، إذاً لما أخبرتكم بهذا الخبر دل هذا على صدقي وأن هذا القرآن حق وصدق.

فقال الله ﷻ ﴿إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ وأكد ذلك بأكثر من توكيد من أنه نذير واضح وبيِّن ﷺ.

﴿إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ (71) فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ (72) فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ (73) إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (74) قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ (76) قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ (77) وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (83) قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ (85) قُلۡ مَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (87) وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۭ(88)﴾

ومر هذا مفصلاً في سورة الأعراف وسورة الحجر ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31)﴾ [الحجر]

أتى بكلمة كلهم أجمعون من باب أن كل ملك سجد لآدم عليه السلام، ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ استكبر عن أمر الله ﷻ وكان من الكافرين، ومر مفصلاً هذا في سورة البقرة.

قال الله ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وفي هذا إثبات لصفة اليدين لله ﷻ بما يليق بجلالته وعظمته، ومر معنا مفصلاً في سورة آل عمران وهذا يدل على فضل آدم إذ خلقه الله ﷻ بيديه ﴿أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ أستكبرت يعني هل تكبرت أم كنت من العالين الذين من طبيعتهم العلو.

﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ﴾ أي من الجنة أو من المنزلة العالية أو من السماء ﴿ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ مطرود ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ إلى يوم الجزاء والحساب، ومر معنا توضيح ذلك أكثر في سورة الحجر وفي سورة الأعراف.

﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ المنظرين أي من الممهلين ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ والوقت المعلوم النفخة الأولى ومر معنا أيضاً مفصلاً في سورتي الأعراف والحجر.

﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أقسم ابليس بعزة الله ﷻ، لأغوينهم أجمعين أي لأضلنهم أجمعين ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين أخلصهم الله ﷻ بسبب إخلاصهم، ولذلك قال الله تعالى ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر-42]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ قال الله ﷻ فالحق مني ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ نُصِبت بالذي بعده –أي فالحق منّي وأقول الحق- وهو يقول الحق، ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب-4] لأنه حق ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [ الحج-62] ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ وهذا يتضمن القسم.

ولذلك بعض المفسرين يقول قال فالحق الخبر قسمي محذوف ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لأملأن جهنم هذا جواب القسم، منك يعني من جنسك من الجن، وممن تبعك منهم من الإنس أجمعين.

قل يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ دنيوي ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ لست من المتكلفين الذين تكلفوا واختلقوا هذا القرآن أو أتوا بشيء من تلقاء أنفسهم.

وهذا يشمل أيضاً النهي عن التكلف، ولذلك ثبت أن النبي ﷺ نهى عن التكلف حتى للضيف، وأيضاً من التكلف أن الإنسان يُفتي بشيء لا يعلمه ولذلك ابن مسعود رضي الله عنه كما ثبت عنه قال: (إن نبيكم ﷺ نهاه الله عن التكلف، فمن علم فليقل به ومن لا يعلم فليقل الله أعلم).

﴿إِنْ هُوَ﴾ أي القرآن، أي ما هو إلا ذكر للعالمين، ذكر لهم يتذكرونه فينتفعون بهذا القرآن، وإن عملوا به فهو ذكر وشرف لهم ﴿ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ كما مر معنا في أول السورة وفي ثناياها.

﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ لتعلمن نبأ ماذا وخبر ماذا، هذا القرآن بعد حين إذا رأيتم العذاب ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ﴾ [الأعراف-53]

﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ لأنه قال في هذه السورة قبل آيات ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ ستعرفون حقيقة هذا النبأ إذا رأيتم العذاب.

وبهذا ينتهي تفسير سورة ص