تفسير سورة ( عبس ) كاملة
الدرس ( 267 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة عبس
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) }
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } النبي عليه الصلاة والسلام كان مشغولا ببعض كبراء كفار قريش من أجل أن يسلم، فأتى ابن أم مكتوم، وهو أعمى ليسأله، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يتشاغل عنه، كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل حرصه عليه الصلاة والسلام حتى يسلم هؤلاء؛ لأن بإسلامهم سيسلم غيرهم، ومن ثم فقد عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس في هذا انحطاط لقدره عليه الصلاة والسلام، بل عاتبه الله كما عاتبه كما في سورة التوبة { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ }
ولذلك لم يقل عبست، وإنما قال { عَبَسَ وَتَوَلَّى } { عَبَسَ } يعني تغير وجهه عليه الصلاة والسلام، { وَتَوَلَّى } يعني أعرض عن هذا الأعمى.
{ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } ووصفه بأنه أعمى من باب أنه هذا الأعمى معذور باعتبار أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بهؤلاء.
{ وَمَا يُدْرِيكَ } يا محمد { لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } يعني هذا الرجل { لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } يعني يتطهر.
{ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } لأن الذكرى تنفع المؤمنين، { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
{ فَتَنْفَعَهُ } فعل مضارع منصوب بعد فاء السببية؛ لأنه مسبوق بالترجي {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى }
{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } يعني استغنى بماله وبجاهه عن الدين.
{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} بمعنى أنك تقبل عليه.
{ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } ليس عليك أن يزكى أو أن يتطهر من الشرك.
{ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) } وهو هذا الأعمى { فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } يعني أنك تتشاغل بأولئك عنه، وكل ذلك كما سلف إنما هو لاجتهاد منه عليه الصلاة والسلام.
{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}
{ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } يعني هذه الآيات، وما في هذه السورة { تَذْكِرَةٌ } يعني عظة { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) } فمن شاء اتعظ بما في هذه السورة وبآيات القرآن.
{ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } يعني أن هذه الآيات في صحف مكرمة، مكرمة عند الله؛ لأنها كلام الله { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ } من حيث القدر والشأن، وأيضا مرفوعة فهي في اللوح المحفوظ { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } مطهرة من ألا يأتيها الباطل وألا تغير وألا تبدل.
{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } يعني بأيدي الملائكة وهم السفراء الذين يأمرهم الله أن يأتوا إلى الأنبياء أو بمعنى السفرة الذين ينسخون هذه الآيات من اللوح المحفوظ.
{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } كرام أكرمهم الله وايضا لما لهم من الأعمال الصالحة، فهم لا يفترون عن عبادة الله { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يعني أنهم مطيعون لله، وهكذا ينبغي لحامل القرآن أن تكون أقواله، وأن تكون أفعاله على السداد والرشاد.
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) }
{ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } يعني لعن وعذب الإنسان { مَا أَكْفَرَهُ } وهنا للتعجيب من حاله أو من باب الاستفهام، لماذا كفر؟
{ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } وهنا للتقرير { مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } فقدره عز وجل، فقدره في بطن أمه { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } بعد أن خرج من بطن أمه بيَّن له السبيل { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } وهذا أظهر من قول من يقول { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } يعني الطريق إلى خروجه من بطن أمه إلى هذه الدنيا.
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } وهذا من إكرام ابن آدم إذا مات أنه يدفن.
{ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } يعني بعثه يوم القيامة.
{ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } ذلكم الإنسان الكافر لم يقض ولم ينفذ ما أمر الله به.
{ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ } نظر اعتبار وتدبر، {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) } هو عز وجل صب الماء صبا، وذلك عن طريق مياه الأمطار.
{ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا } يعني أنه أخرج منها النبات، ولذلك قال { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } وهي الحبوب كالقمح ونحوه { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَقَضْبًا } وهو القت الرطب الذي هو العلف الرطب { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) } يعني بساتين أشجار، وعظيمة الأشجار.
{ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } والأب هو طعام البهائم، وأما قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أنهما قالا فيما ورد عنهما، من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه: ” أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم” لما سئل عن الأب، فهو لا يفهم لا يعرف أن الأب هو طعام البهائم؟ هو يعرف ذلك، لكن قال هذا القول باعتبار أنه لا يحدد نوعا باسمه من باب تفسيرالأب، وإلا فهو يعرف أن الأب هو طعام للبهائم، لكن التحديد هو الذي يبنى عليه كلام أبي بكر رضي الله عنه.
{ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } يعني تتمتعون وتستمتعون بهذه الأشياء أنتم وبهائمكم.
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ } وهي التي تصخ بصوتها العظيم حتى تكاد تصم الآذان.
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ } يعني زوجته { وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) }
كل مشغول بنفسه.
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } وذلك كما قال تعالى { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} { ضَاحِكَةٌ } وذلك لما لها من النعيم { مُسْتَبْشِرَةٌ } يعني فرحة من حيث قلوبها.
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } يعني غبار { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } يعني تغشاها كآبة وسواد.
{ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } الذين جمعوا بين الكفر وبين الفجور.
وبهذا ينتهي تفسير سورة عبس….