التفسير الشامل ـ تفسير سورة غافر من الآية ( 1 ) إلى ( 27 ) الدرس (222 )

التفسير الشامل ـ تفسير سورة غافر من الآية ( 1 ) إلى ( 27 ) الدرس (222 )

مشاهدات: 411

    بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل

تفسير سورة غافر ﴿ مكية﴾ من آية 1 إلى آية 27

﴿الدرس 222﴾

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿حمٓ ﴿1﴾ تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ﴿2﴾ غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ ﴿3﴾ مَا يُجَٰدِلُ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَا يَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ﴿4﴾ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۖ وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِيَأۡخُذُوهُۖ وَجَٰدَلُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ ﴿5﴾ وَكَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ (6)﴾

﴿حم﴾: هذه من الحروف المقطعة وقد مرَّ بيانها في أول سورة البقرة.

﴿تَنزيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزيزِ العَليمِ﴾: هذا القرآن تنزيل مِن الله ﷻ ﴿العَزيزِ العَليمِ﴾، ومرَّ معنا أن الله ﷻ إذا َذَكر في مواطن كثيرة: ﴿تَنزيلُ الكِتابِ﴾ ذكر أسماءه، كما في السورة السابقة سورة الزمر: ﴿تَنزيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزيزِ الحَكيمِ﴾[الزمر: ١]

هنا قال: ﴿تَنزيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزيزِ العَليمِ﴾، فهو العزيز ﷻ القوي الذي أنزل هذا الكتاب، وهو عليم ﷻ بكل شيء وعالم بأن خَلْقَه محتاجون إلى هذا القرآن.

﴿غافِرِ الذَّنبِ﴾: يغفر الذنوب ﴿وَقابِلِ التَّوبِ﴾: يقبل التوبة

 ﴿شَديدِ العِقابِ ذِي الطَّولِ﴾ يعني: ذي الغنى والسعة والفضل والإنعام.

﴿لا إِلهَ إِلّا هُوَ﴾ لا إله إلا هو: يعني من له تلك الأسماء والصفات هو المعبود وحده ﷻ الذي يستحق العبودية وحدَه.

وهنا قال: ﴿غافِرِ الذَّنبِ وَقابِلِ التَّوبِ﴾ سبحان الله ﴿غافِرِ الذَّنبِ وَقابِلِ التَّوبِ﴾ كُرِّرَت بأسلوب آخر مُغايَر من أجل أن يبين لعباده أن رحمته غلَبَت غضبه

 ﴿غافِرِ الذَّنبِ﴾ هو يغفر الذنب وأيضًا من تاب؟ ﴿وَقابِلِ التَّوبِ﴾

﴿شَديدِ العِقابِ﴾ أي لا يأمن أحد من عقاب الله ﷻ.

﴿ذِي الطَّولِ﴾ ذي الإنعام والفضل والسعة، سبحان الله، وذَكَر بين شدة العقاب ذَكَر قبله ما يتعلق بالرحمة ﴿غافِرِ الذَّنبِ وَقابِلِ التَّوبِ﴾ وذَكَر بعد ﴿ شَديدِ العِقابِ﴾ ما يتعلق أيضًا بالرحمة: ﴿ذِي الطَّولِ﴾ لأن ذي الطول يعني: السَّعَة، ورحمته واسعة.

لكن لماذا لم يأتِ بالواو في قوله: ﴿ذِي الطَّولِ﴾؟ على كل حال هناك كلام كثير، أحسنه ما ذكره ابن القيم رحمه الله، قال ابن القيم رحمه الله -وقد ذكرت ذلك في قوله عز وجل في سورة آل عمران ﴿الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنفِقينَ وَالمُستَغفِرينَ بِالأَسحارِ﴾ [آل عمران: ١٧] لماذا عطف هذه الصفات وقلت هناك سأذكر في مثل هذا الموطن كلام ابن القيم رحمه الله- فابن القيم رحمه الله يقول: إذا أتت أسماء الله ﷻ تأتي بدون عطف ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: ٢٣] لم يذكر الواو، قال: لأنه إذا ذُكِرَ الاسم فإن الاسم الآخر ينقدح في الذهن ويطرأ في الذهن؛ يعني يقول: إذا ذُكِرَ الرحيم فالذهن مباشرة والقلب مباشرة يتعلق بالرحمن وبالغفور، إذا ذُكِر الغني فإنه يذكر حينها الرزاق الوهاب فيقول: ولذلك لم تأتِ بحرف الواو.

لكن هنا: ﴿غافِرِ الذَّنبِ وَقابِلِ التَّوبِ﴾ لماذا أتى بالواو؟ قال رحمه الله لأنها في معنى الجملة الفعلية؛ يعني: ويغفر الذنب ويقبل التوب.

لكن لم يأتِ بالواو في قوله ﴿ذِي الطَّولِ﴾ لأنه يشابه ﴿العَزيزِ العَليمِ﴾ المذكور في أول السورة

لكن لو قال قائل: الله ﷻ أتى بالواو في قوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالباطِنُ﴾ [الحديد: ٣] لماذا أتى بالواو في هذه الأسماء؟ فيقول رحمه الله: أتى بها لأنه إذا قيل ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ قد ينقدح في الذهن أن ﴿الآخِر﴾ غير الله ﷻ كما يقال مثلاً: فلانٌ هو أمير البلد وخطيبها وقاضيها؛ فإنه لو قال: فلان أمير البلد، قد يُظن أن القاضي والخطيب غيرُهُ، لكن هنا من باب التأكيد: هو الأمير والقاضي والخطيب، إذن هنا لما قال: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ إذاً أيضًا وهو ﴿الآخِرُ﴾، ﴿وَالظّاهِرُ﴾ أيضًا وهو ﴿الباطِنُ﴾ فلهذا أتى بالواو هنا.

﴿لا إِلهَ إِلّا هُوَ إِلَيهِ المَصيرُ﴾ إليه المرجع فيجازي كلَّ إنسان بما عمل.

ـــــــــــــــــــــــ

﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ﴾ ما يُخاصم في آيات الله ﷻ وفي كفران النعمة وفي توحيد الله ﷻ ﴿ إِلَّا الَّذينَ كَفَروا﴾ هم الكفار ﴿ فَلا يَغرُركَ تَقَلُّبُهُم فِي البِلادِ﴾ فلا يهولنّك يا محمد {تَقَلُّبُهُم فِي البِلادِ} من حيث الذهاب والتجارة وما شابه ذلك، ولذلك قال تعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذينَ كَفَروا فِي البِلادِ – مَتاعٌ قَليلٌ ثُمَّ مَأواهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المِهادُ﴾ [آل عمران:١٩٦ – ١٩٧]

 

﴿كَذَّبَت﴾ يعني: قبل كفار قريش ﴿ كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نوحٍ وَالأَحزابُ مِن بَعدِهِم﴾ يعني الأحزاب الذين تحزبوا على الأنبياء السابقين ﴿ وَهَمَّت كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسولِهِم لِيَأخُذوهُ﴾ يعني: ليأسروه وليقتلوه، يعني كما همت قريش بأسرك وبقتلك، فالأمم السابقة همت بذلك بكل نبي من أنبيائها ﴿وَجادَلوا بِالباطِلِ﴾  خاصموا بالباطل وجعلوا الباطل دليلًا لهم من أجل أن يُبطلوا الحق  ﴿لِيُدحِضوا بِهِ الحَقَّ﴾ يعني: ليدفعوا به الحق ﴿ فَأَخَذتُهُم﴾  بالعقاب ﴿ فَكَيفَ كانَ عِقابِ﴾ فما هو عقابُ الله؟ كان عقاب الله عظيمًا شديدًا.

﴿وَكَذلِكَ﴾ مثل ما حقت كلمة الله ﷻ على أولئك ﴿وَكَذلِكَ حَقَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ يعني حقت ووجبت كلمة الله ﴿عَلَى الَّذينَ كَفَروا أَنَّهُم أَصحابُ النّارِ﴾ يعني: مثل ما حقت على أولئك، ستحق على مَن كفر إلى قيام الساعة، ومِن ذلك قومُك ﴿ أَنَّهُم أَصحابُ النّارِ﴾ وهنا وقف؛ ثم نبدأ:

 ﴿الَّذينَ يَحمِلونَ العَرشَ﴾ استئناف جديد لبيان وصف الملائكة.

﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (9)﴾

﴿الَّذينَ يَحمِلونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ﴾ يعني يحملون العرش، في مسند الإمام أحمد قال ابن كثير رحمه الله: إسناده صحيح، لما قال أمية ابن أبي الصلت:

 رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ             وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” صَدَقَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ ” قال ابن كثير رحمه الله:

” يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ ملائكة 1- على صورة رجل 2- وعلى صورة ثور 3- وعلى صورة ليث 4- وعلى صورة نسر؛ فيقول: إذا جاء يوم القيامة يكونون ثمانية:

 ﴿ وَيَحمِلُ عَرشَ رَبِّكَ فَوقَهُم يَومَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٧] ولذلك ثبت بالحديث الذي لا بأس به من أن النبي ﷺ قال: ” أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ

مَسِيرَة سَبْعِينَ سَنَةً ” فما أعظم الخالق ﷻ.

﴿وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِن حَولِ العَرشِ﴾ [الزمر: ٧٥] من هم الذين حول هذا العرش؟

هناك كلامٌ كثير عنهم؛ ولذلك بعضهم يسمون هؤلاء الملائكة بالكُروبيين -ولم أرَ حسب علمي دليلًا صحيحًا يثبت هذا الوصف لهم- المهم أنهم ملائكة يحملون العرش ويحفُّون حول العرش.

﴿الَّذينَ يَحمِلونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ﴾ وعرش الله {العرش}: هو سرير المُلْك له قوائم؛ وهو أكبرُ المخلوقات وهو سقف المخلوقات، ولذلك ما يقال إنه يُعرَض عن ذِكْر صفاته أو أنه فَلَكٌ مستدير! فهذا كلامٌ باطل، وإنما الأحاديث أتت أنه سرير المُلْك وهو عظيم -أعظم المخلوقات- وتحمِلُه الملائكة وله قوائم وهو سقفُ المخلوقات ولذلك يقول ﷺ كما في الصحيح: ” فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ “.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيُؤمِنونَ بِهِ﴾ يسبحو:ن يعني الملائكة يسبحون بحمد ربهم، ﴿وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِن حَولِ العَرشِ يُسَبِّحونَ بِحَمدِ رَبِّهِم ﴾ [الزمر: ٧٥] يعني في يوم القيامة، وأيضًا في الدنيا كما هنا في هذه الآية ﴿يُسَبِّحونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيُؤمِنونَ بِهِ﴾ يؤمنون بالله ﷻ ﴿وَيَستَغفِرونَ لِلَّذينَ آمَنوا﴾ مِن محبتهم لأهل الإيمان يستغفرون للمؤمنين.

 ﴿رَبَّنا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا﴾ يتوسّلون لله عز وجل: يعني عِلْمُك وَسِعَ كلَّ شيء، ورحمتُك وسعت كلَّ شيء، إذن يتوسلون إلى الله من أجل؟ ﴿ فَاغفِر لِلَّذينَ تابوا﴾ فضيلة التوبة ﴿وَاتَّبَعوا سَبيلَكَ﴾ الطريق المستقيم لا بدع ولا خرافات ﴿وَقِهِم عَذابَ الجَحيمِ﴾ عذاب النار المؤلم.

أيضًا مِن دعائهم: ﴿رَبَّنا وَأَدخِلهُم جَنّاتِ عَدنٍ﴾ جنات إقامة ﴿الَّتي وَعَدتَهُم وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيّاتِهِم﴾ يعني: من الأبناء لأن النفس تَقَرُّ إذا اجتمع الأبناء مع الآباء؛ الأولاد مع الوالدين والأزواج ﴿وَمَن صَلَحَ﴾ قال: ومَن صلح لأنهم إن لم يصلُحوا فإنهم لا يكونون في الجنة ﴿وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيّاتِهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ فأنت ﴿العَزيزُ﴾ القوي الذي لا يمتنع عليك شيء، وحكيم: تضع الأمور في مواضعها المناسبة.

﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ يعني: جِّنبهُم الوقوع في السيئات في هذه الدنيا التي توجب لهم العقوبة السيئة في الآخرة ﴿وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَومَئِذٍ﴾ يعني: ومَن تقِه من عقوبة السيئات في هذا اليوم: ﴿ فَقَد رَحِمتَهُ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ هذا أعظم فوز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِيمَٰنِ فَتَكۡفُرُونَ (10) قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ (11) ذَٰلِكُم بِأَنَّهُۥٓ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن يُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُواْۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ (12)﴾

﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا يُنادَونَ لَمَقتُ اللَّهِ﴾ يعني لبغض الله، والمقت أشد البغض، وفي هذا إثبات صفة المقت لله ﷻ بما يليق بجلاله وبعظمته.

  ﴿لَمَقتُ اللَّهِ أَكبَرُ مِن مَقتِكُم أَنفُسَكُم﴾ لأنهم يمقتون ويبغضون أنفسَهم، سبحان الله! أنفسُهم التي كانوا يحبونها؛ يمقتونها في النار! فيقول الله ﷻ: لبغض الله لكم في الدنيا لمّا دعاكم الرسل إلى الإيمان أعظم مِن بُغضِكم ومَقتكم لأنفسكم في النار.

﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا يُنادَونَ﴾ يُنادون: من باب التبكيت لهم والتحقير لهم ﴿لَمَقتُ اللَّهِ أَكبَرُ مِن مَقتِكُم أَنفُسَكُم﴾ متى هذا المقت مِن الله؟ ﴿إِذ تُدعَونَ إِلَى الإيمانِ} يوم أن دُعيتم في الدنيا ﴿فَتَكفُرونَ﴾

 

﴿قالوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثنَتَينِ وَأَحيَيتَنَا اثنَتَينِ فَاعتَرَفنا بِذُنوبِنا﴾ هذه الآية تفسر الآية التي في سورة البقرة: ﴿كَيفَ تَكفُرونَ بِاللَّهِ وَكُنتُم أَمواتًا فَأَحياكُم ثُمَّ يُميتُكُم ثُمَّ يُحييكُم ثُمَّ إِلَيهِ تُرجَعونَ﴾ [البقرة: ٢٨] ودل هذا على أن لهم موتتين وأن لهم حياتين، كما بيَّن الله ﷻ في سورة البقرة،

 وأما ما يقال إنهم إذا ماتوا في قبورهم أنهم يُحْيَون مرة أخرى، قال ابن كثير رحمه الله:

فإن هذا القول لا دليل عليه، بل إنه يُثبت هذا القول من أنهم يموتون ثلاث مرات وأنهم يُحيَون ثلاث مرات، إنما هنا: ﴿أَمَتَّنَا اثنَتَينِ وَأَحيَيتَنَا اثنَتَينِ﴾

﴿فَاعتَرَفنا بِذُنوبِنا﴾ يعني: أنهم يعترفون بذنوبهم وهم في النار ﴿ فَهَل إِلى خُروجٍ مِن سَبيلٍ﴾ هل هناك خروج ﴿مِن سَبيلٍ﴾ إلى الدنيا ونخرج من هذه النار!؟

 وِمن ثَم: فإنهم يتمنون وهم في النار أن يخرجوا من النار، وكذلك إذا وُقِفوا على النار يتمنون ذلك ﴿وَلَو تَرى إِذ وُقِفوا عَلَى النّارِ فَقالوا يا لَيتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكونَ مِنَ المُؤمِنينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] فقال الله ﷻ عن هؤلاء ﴿ فَهَل إِلى خُروجٍ مِن سَبيلٍ﴾

 

﴿ذلِكُم﴾ أي: ذلكم العذاب ﴿ذلِكُم بِأَنَّهُ﴾ يعني: بسبب ﴿بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحدَهُ كَفَرتُم وَإِن يُشرَك بِهِ تُؤمِنوا﴾ كما قال الله عز وجل: ﴿وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحدَهُ اشمَأَزَّت قُلوبُ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذينَ مِن دونِهِ إِذا هُم يَستَبشِرونَ﴾ [الزمر: ٤٥]

﴿ذلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحدَهُ﴾ بأن يُعبد وحدَه ﴿ كَفَرتُم وَإِن يُشرَك بِهِ تُؤمِنوا فَالحُكمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبيرِ﴾ فالحكمُ كلُّه لله ﷻ، ومِن ذلك الحكم الجزائي في يوم القيامة؛ فهذا جزاؤكم ﴿فَالحُكمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبيرِ﴾ فهو حكْمُه ﷻ لأنه هو العليٌّ: الذي أمره فوق كل أمر وله العلوّ: علوّ الذات وعلو الصفة وعلو القهر، وهو {الكَبيرِ﴾ الذي لا أحد أكبر منه عز وجل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقٗاۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13) فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ (14) رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ (15) يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ (16) ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (17) وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ (18) يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ (19) وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (20)﴾

﴿هُوَ الَّذي يُريكُم آياتِهِ﴾ يعني في الدنيا تأمّلوا حتى لا تقعوا في مثل هذا العذاب الذي ذُكِرَ لكم، {يُريكُم آياتِهِ﴾ من السماوات والأرض وما شابه ذلك ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِنَ السَّماءِ رِزقًا﴾ المطر، وسمي المطر بالرزق لأنه بإذن الله سبب للرزق؛ إذا نزل المطر: تنبُت الأرض فيحصل ما يحصل فيها من الثمار: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِنَ السَّماءِ رِزقًا﴾ وأتى بصيغة الفعل المضارع لأنه يدل على الاستمرار فإنعامُه ﷻ مستمرٌّ عليهم ﴿ وَما يَتَذَكَّرُ إِلّا مَن يُنيبُ﴾ ما يتذكر إلا من هو مقبل على الله ﷻ ولذلك كلما أقبل العبد على الله وأناب إلى الله كلما تذكر أكثر وأكثر، لكنكم لا تُنيبون إلى الله فكيف تتذكرون، ومِن ثَم فإن قوله ﴿ وَما يَتَذَكَّرُ إِلّا مَن يُنيبُ﴾ هذا أيضًا فيه شرفٌ لأهل الإيمان لأنهم يرون آيات الله ويتأملون ومِن ثم فإنهم يتذكرون.

 

﴿فَادعُوا اللَّهَ ﴾ إذًا إذا كان الأمْرُ كذلك ﴿فَادعُوا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ﴾ أنتم يا أهل الإيمان؛ لأن سياق الآيات يدل على أهل الإيمان وفيه إشارة إلى كفر الكفار ﴿هُوَ الَّذي يُريكُم آياتِهِ﴾ [غافر: ١٣] يعني: أهل الإيمان، لكن به إشارة أيضًا إلى تبكيت وتحقير وإعراض الكفار، فقال الله ﷻ إذا كان الأمر كذلك  ﴿فَادعُوا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ﴾  ﴿وَلَو كَرِهَ الكافِرونَ﴾ يعني لو كره الكافرون ما أنتم عليه من الحق؛ فعليكم أن تثبتوا على الدين الخالص.

 

﴿رَفيعُ الدَّرَجاتِ﴾ هو عز وجل رفيع الدرجات فصفاته رفيعة، أيضًا ﴿رَفيعُ الدَّرَجاتِ﴾ يرفع درجات أهل الإيمان وأهل الجنة ﴿ذُو العَرشِ﴾ أي صاحب العرش ﴿ يُلقِي الرّوحَ﴾ يعني الوحي، وسُمّي الوحي بأنه روح لأن به حياة الأرواح  ﴿يُلقِي الرّوحَ مِن أَمرِهِ﴾ دل هذا على أن القرآن مِن أمْرِه وليس مخلوقًا، ولذلك فرَّق بين الخلق والأمر في قوله تعالى:﴿ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ﴾ [الأعراف: ٥٤].

﴿يُلقِي الرّوحَ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ من أنبيائه ﴿ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ﴾ يعني لينذر هذا الذي أوحيَ إليه هذا الوحي مِن الرسل ﴿ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ﴾ ليحذِّر من يوم التلاق وهو يوم القيامة، يوم يلتقي الظالم بالمظلوم، ويلتقي أهلُ الجنة بأهل النار، ويلتقي العابد بالمعبود، فقال الله عز وجل ﴿ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ﴾.

﴿يَومَ هُم بارِزونَ﴾ يعني في هذا اليوم ﴿يَومَ هُم بارِزونَ﴾ ظاهرون ﴿لا يَخفى عَلَى اللَّهِ مِنهُم شَيءٌ﴾ فكلٌ تحت سيطرة الله عز وجل، ولا يخفى -حتى في الدنيا- ما يخفى عليه عز وجل شيء من أحوالهم في الدنيا، لكن لماذا قال هنا ﴿يَومَ هُم بارِزونَ لا يَخفى عَلَى اللَّهِ مِنهُم شَيءٌ﴾ لأنهم كانوا يقولون تلك الاعتقادات الفاسدة قالوا: نحن إذا خلونا فإن الله لا يرانا! ولذاك قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّهُم يَثنونَ صُدورَهُم لِيَستَخفوا مِنهُ أَلا حينَ يَستَغشونَ ثِيابَهُم يَعلَمُ ما يُسِرّونَ وَما يُعلِنونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾[هود: ٥] وهنا تبكيتٌ لهم.

﴿لِمَنِ المُلكُ اليَومَ﴾ لِمَنِ المُلكُ اليَومَ؟ في هذا اليوم يسأل الله عز وجل: لِمَنِ المُلكُ اليَومَ؟ ﴿لِلَّهِ﴾ من الذي يجيب؟ الله عز وجل

﴿لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ فهو الواحد القهار، فهو واحد لأنه هو الذي يقهر وحَده، وهو يقهر وحده لأنه هو الواحد،

 وقال بعض المفسرين: تكون الإجابة من أهل الإيمان، وقيل من أهل الموقف.

وعلى كل حال: السياق يدل على أن الذي يجيب ذلك هو الله عز وجل، ولذلك في الحديث إذا أخذ الله عز وجل السماوات فيطويها بيمينه فيقول: ” أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ “

 فقال الله عز وجل: ﴿ لِمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾

 

﴿اليَومَ﴾ في يوم القيامة ﴿ تُجزى﴾ تُحاسَب وتُوَفّى ﴿اليَومَ تُجزى كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت﴾ مِن خير أو شر ﴿ لا ظُلمَ اليَومَ ﴾ في هذا اليوم لكمال عدلِه ﴿إِنَّ اللَّهَ سَريعُ الحِسابِ﴾ فهو سريعٌ لحسابهم، فهو لا يحتاجُ إلى تريث أو عَدٍّ أو ما شابه ذلك لأنه عالم بكل شيء.

 

﴿وَأَنذِرهُم﴾ خوفهم ﴿يَومَ الآزِفَةِ﴾ وسميت القيامة بالآزفة لأنها قريبة؛ الآزف: يعني القريبة ﴿أَزِفَتِ الآزِفَةُ – لَيسَ لَها مِن دونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ [النجم: ٥٧-٥٨] ﴿اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ﴾ [الأنبياء: ١] ﴿اقتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: ١].

﴿إِذِ القُلوبُ﴾ في وقت يوم القيامة ماذا يحصل للقلوب؟

﴿إِذِ القُلوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمينَ﴾ كاظمين مِن الغيظ، وكاظمين من شدة الأمر، وكاظمين حتى لا تخرج أرواحهم من شدة ما يرونه.

 ﴿ما لِلظّالِمينَ مِن حَميمٍ﴾ يعني صديق ولا قريب

 ﴿وَلا شَفيعٍ يُطاعُ﴾ وَلا شَفيعٍ يُطاعُ يشفع لهم، لأنه لا شفاعةَ إلا بإذنه عز وجل للشافع ورضاه عن المشفوع له.

﴿يَعلَمُ خائِنَةَ الأَعيُنِ﴾ يعلم الخائنة من الأعين، خائنة: صفة لشيء موصوف محذوف، يعلم النظرةَ الخائنة من الأعين؛ يعني النظرة التي يسترق الإنسان بنَظَرِه، يعني هذا الشيء ولو كان به استراق وبه خُفية؛ إلا والله عز وجل عالم بذلك،

﴿وَما تُخفِي الصُّدورُ﴾ أي ما تُكنُّه الصدور.

 

﴿وَاللَّهُ يَقضي بِالحَقِّ﴾ فهو عز وجل الحق، وهو يقضي بالحق: بالعدل لا يظلم لكمال عدله ﴿وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِهِ﴾ من الأوثان ﴿ لا يَقضونَ بِشَيءٍ﴾ ليس لهم من الأمر شيء ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّميعُ البَصيرُ﴾ فهو السميع لكل الأقوال؛ البصير بأحوال خلقه، أما أولئك الذين يُعبَدون من دون الله فأنَّى لهم مثل هذه الصفات العظيمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿۞أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُواْ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَءَاثَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٖ (21) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ قَوِيّٞ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ(22)﴾

﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ﴾ يعني كفار قريش وهم يسيرون يذهبون بتجارتهم نحو الشام ونحو اليمن، اتجاه اليمن يرون قوم عاد وفي الشام قوم لوط ﴿ فَيَنظُروا﴾ ينظروا نظر تأمل وتدبر ﴿فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ كانوا مِن قَبلِهِم﴾ من الأمم السابقة ﴿ كانوا﴾ أي الأمم السابقة ﴿ هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثارًا فِي الأَرضِ﴾ يعني أنهم يتحركون في الأرض من حيث البناء والزراعة وما شابه ذلك ولذا قال عز وجل في الآية الأخرى:

 ﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم كانوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثارُوا الأَرضَ وَعَمَروها أَكثَرَ مِمّا عَمَروها﴾ [الروم: ٩]

أكثر مما عمرتها كفار قريش ﴿كانوا هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثارًا فِي الأَرضِ﴾ فما العاقبة؟

 ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ لما كفروا برسلهم ﴿ فَأَخَذَهُمُ ﴾ يعني عاقبهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنوبِهِم وَما كانَ لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن واقٍ﴾  من يقيهم من عذاب الله عز وجل.

 

 ذلك العقاب الذي نزل بهم بسبب ماذا؟ ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُم كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ﴾ الواضحات والدلائل الواضحة والمعجزات فما الذي جرى؟ ﴿فَكَفَروا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني عاقبهم الله عز وجل ﴿وَكَذلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ القُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليمٌ شَديدٌ﴾[هود: ١٠٢]

﴿ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَديدُ العِقابِ﴾ فهو قوي ﷻ وهو شديد العقاب لمَن خالَفَ أمْرَه.

 

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَقَٰرُونَ فَقَالُواْ سَٰحِرٞ كَذَّابٞ (24) فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ مِنۡ عِندِنَا قَالُواْ ٱقۡتُلُوٓاْ أَبۡنَآءَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ وَٱسۡتَحۡيُواْ نِسَآءَهُمۡۚ وَمَا كَيۡدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ (25) وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِنِّي عُذۡتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٖ لَّا يُؤۡمِنُ بِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ (27)﴾

 

﴿وَلَقَد أَرسَلنا موسى﴾ أيضًا تسلية للنبي ﷺ؛ تسلى بموسى عارَضَه مَن عارضه؛ ولذلك كان يقول ﷺ كما في الصحيح: ” رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ “

  ﴿وَلَقَد أَرسَلنا موسى بِآياتِنا﴾ وهي المعجزات: الآيات التسع ﴿وَلَقَد آتَينا موسى تِسعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ [الإسراء: ١٠١] ومرّ توضيحها وهي المذكورة في سورة الأعراف.

 ﴿وَسُلطانٍ مُبينٍ﴾ بحُجَّة بينة واضحة.

 

﴿إِلى فِرعَونَ وَهامانَ﴾ وزيره ﴿ وَقارونَ﴾ وهو مِن قوم موسى ﴿إِنَّ قارونَ كانَ مِن قَومِ موسى فَبَغى عَلَيهِم﴾ [القصص: ٧٦]

﴿فَقالوا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ قالوا لموسى: أنت ساحر وكذاب، كما قالت لك كفار قريش.

﴿فَلَمّا جاءَهُم بِالحَقِّ مِن عِندِنا﴾ جاءهم موسى بالحق الواضح البيِّن، ومِن عند الله ﴿قالُوا اقتُلوا أَبناءَ الَّذينَ آمَنوا مَعَهُ وَاستَحيوا نِساءَهُم﴾ من القائل؟ جاء في سورة الأعراف: ﴿وَقالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَومَهُ لِيُفسِدوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنّا فَوقَهُم قاهِرونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] قال هذا مَن؟ فرعون، وهذا يدل على أن هذا التقتيل وهذا الاستحياء للبنات استحياء ثاني؛ بعد إيمان قوم موسى بموسى، أما الأول فهو شيءٌ آخَر، وذلك لما كان فرعون يخشى أن يكونَ عرشُه ساقطًا بسبب مولودٍ مِن بني إسرائيل.

﴿وَما كَيدُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ﴾ وما كيد: يعني ما أراده الكفار من كيدٍ يكيدون به الرسل عليهم السلام وأولياء الله عز وجل إلا وكيدهم يكون في ضلال.

 

﴿وَقالَ فِرعَونُ ذَروني أَقتُل﴾ أقتل هنا جواب الأمر {ذَروني}، يعني اتركوني، من باب التمويه وهو يعلم أن موسى رسول، من باب أن يموِّهَ عليهم، يقول للملأ حوله ﴿ذَروني أَقتُل موسى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنّي أَخافُ أَن يُبَدِّلَ دينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسادَ﴾ سبحان الله! قال: إِنّي أَخافُ أَن يُبَدِّلَ دينَكُم؛ لأن هذا الدين دينُكم وما كان عليه آباؤكم، فأخشى أن يغير الدين! وأخشى مع ذلك أن يفسد في الأرض فيما يتعلق بمصالحكم الدنيوية! وقدّم ما يتعلق بالدين لأن البشر يتعلقون أول ما يتعلقون ويهتمون أول ما يهتمون بالعقيدة، فإن كانت عقيدةً صالحة فهذا خير لهم وإن كانت فاسدة فهي شرٌّ لهم ويقاتلون من أجلها كحال الروافض وما شابه هؤلاء ولذلك قدم ما يتعلق بالدين.

﴿وَقالَ موسى إِنّي عُذتُ بِرَبّي وَرَبِّكُم﴾ يعني: استجرت بالله ربي وربكم ﴿ مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ كفرعون ﴿ لا يُؤمِنُ بِيَومِ الحِسابِ﴾ وهذا اللي يظهر والعلمُ عند الله أن موسى قال هذا القول ليس بِمَحضَر فرعون، لأن فرعون جَمَعَ ملأه مِن أجل أن يستشيرهم  في قتْلِ موسى، فموسى كأنه وصل إليه الخبر؛ فقال هذا القول:

 ﴿وَقالَ موسى إِنّي عُذتُ بِرَبّي وَرَبِّكُم مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤمِنُ بِيَومِ الحِسابِ﴾

 

وللحديث إن شاء الله تتمة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

———————————