تفسير سورة غافر من الآية ( 53 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (224 )

تفسير سورة غافر من الآية ( 53 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (224 )

مشاهدات: 470

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل ـ تفسير سورة غافر من الآية (52) إلى آخر السورة

الدرس (224)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡهُدَىٰ وَأَوۡرَثۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡكِتَٰبَ (53) هُدٗى وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ (54) فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ (55) إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (56) لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (57) وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَلَا ٱلۡمُسِيٓءُۚ قَلِيلٗا مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (59)﴾

 

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡهُدَىٰ﴾ هنا فيه تسلية للنبي ﷺ، اذكُر حالَ موسى أتى إليهم بالتوراة التي هي هدى، ومع ذلك لم يستجيبوا له! فكذلك قومُك يا محمد، لتتسلى بموسى عليه السلام

 ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ التوراة توارثته أجيالهم جيلًا بعد جيل ﴿هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ ويمكن أيضًا أن يكون الكتاب أيضًا اسم جنس، لأن الكتاب الذي أتاهم أيضًا الزبور أنزله الله على دواد عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ في هذا الكتاب الهدى لهم من الضلالة، {وَذِكْرَى} يتذكر به من أراد اللهُ له التذكر، لكن مَن هم؟ ﴿وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ أصحاب العقول التي يحرصون على ما ينفعُهم.

﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد كما صبر موسى ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ وهو ما وُعِدتَ به مِن النصر وهلاك هؤلاء ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ ومِن ثَم بعض العلماء يقول: واستغفر لذنبك يعني لذنب المؤمنين، لأن النبي ﷺ ليس له ذنب، وعلى كل حال مر معنا مفصلاً مسألة هل تقع الذنوب الصغائر من الأنبياء في سورة النساء ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء:106].

فقال الله عز وجل هنا ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ عليك بالتسبيح والتذكير بتنزيه الله عز وجل ﴿بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ بالعشي آخِر النهار، والإبكار أول النهار، ولذلك يحتمل أن المقصود من التسبيح الصلاة الإبكار صلاة الفجر، والعشي يشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ أعاد الحديث عمن يجادل في آيات الله بغير سلطان، هناك قال ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر:35] عقابهم هناك المقت من الله ومن أهل الإيمان.

هنا قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ يعني: ما دعاهم إلى المجادلة إلا كِبْر في نفوسِهم لن يبلغوه ولن يحققوه، والكبر هنا هو إبطال دعوة النبي ﷺ ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ ولذلك قال عز وجل:

 ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان:21].

 ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ﴾ ما في صدورهم ﴿إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ التجئ إلى الله عز وجل من شر هؤلاء، ومن شر الشياطين ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فهو السميع للأقوال والبصير بجميع الأحوال، فيسمع أقوالَهم، ويُبصر حالَهم وحالَكَ.

﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ يعني أنه خَلَقَ السماوات والأرض وهي أعظم، فكيف لا يعيد خَلْقَ الإنسان مرة أخرى ﴿ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ وبعض المفسرين قال إن الناس هنا الدجال، فيقول هذه الآية تدل على ظهور المسيح الدجال في آخِر الزمن، ولذلك جاء في حديث قولُه ﷺ:

 «ما بينَ خلقِ آدمَ إلى قيامِ الساعةِ أمرٌ أكبرُ من الدجالِ»

 قال الله عز وجل ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ فهم جهلة لا يعلمون حقيقة هذا الأمر، لو تدبروا في خلق السماوات وفي خلق الأرض، لكنهم لا يتدبرون في آيات الله الكونية، ولا يتدبرون في آيات الله الشرعية من القرآن، بل يجادلون في آيات الله!

﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ هل يستوي الأعمى والبصير؟ الجواب: لا ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ﴾ كما لا يستوي الأعمى والبصير، لا يستوي الذي يعمل الصالحات، والذي يعمل السيئات ﴿قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ يعني: قليل تذكركم، وأتى بما الزائدة للتأكيد على أن تذكرَهم قليل أو انهم يتذكرون في زمن ثم ينسون، فيكونُ ذلك عَدَمًا يعني أنهم لا يتذكرون بعدها أبدًا.

﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا﴾ لا شك فيها ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ لا يؤمنون بهذه الساعة، ولذلك أنكرها كفارُ قريش.

 

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ (61) ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ (62) كَذَٰلِكَ يُؤۡفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ (63) ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (64) هُوَ ٱلۡحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (65)﴾

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ هنا وعد من الله عز وجل مَن دعاه استجاب الله له، كما قال عز وجل ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186].

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ في أول الآية ذَكَر الدعاء، وهنا ذَكَر العبادة دل هذا على أن الدعاء عبادة، ولذلك في الحديث الصحيح عند الترمذي: “الدعاء هو العبادة”، ولذلك مَن يدعو غير الله، هنا عَبَدَ غيرَ الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ يعني صاغرين أذلاء.

ــــــــــــ

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ دلائل على عظمة الله وعلى وجوب إفراده بالعبودية، فتأملوا فيها ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ بعد التعب في النهار ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ أي أنكم تنتفعون بمجيء هذا النهار ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ لأنه لو كان مستمرًا ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾[القصص:71]، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ [القصص:72] بعدها: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾[القصص:73].

فقال الله عز وجل هنا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ لأنه لو كان ليلًا مستمرًا أو نهارًا مستمرًا لتعطلت مصالحُ الخلق، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ لا يشكرون هذه النعمة من أعظم النعم، لأن الإنسان في ليله أحيانًا يقول متى يخرج النهار لكيَ أقضي حاجتي، وإذا كان بالنهار يقول متى يأتي الليل حتى استقر وارتاح، سبحان الله.

 

﴿ذَلِكُمُ﴾ يعني الذي فَعَل بالليل والنهار هذا الفِعل وتلك الأمور ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ إذًا هو الإله الذي يجب أن يُعبد ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لم يخلق فقط الليل والنهار، بل خالق كل شيء ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يعني لا معبود بحق إلا هو، فكيف تعبدون غيرَه؟! ﴿هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ يعني كيف تُصرَفُون عن الحق بعد تلك الآيات.

﴿كَذَلِكَ﴾ يعني مثل هذا الصرف والبُعد عن الدين ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ من يجحد بآيات الله عز وجل فهو مصروفٌ عن الهدى كما صُرِف هؤلاء

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر:56].

 

لما ذكر الدلائل السماوية ذكر الدلائل الأرضية ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا﴾ يعني مستقرة مذللة كالمهاد تستقرون عليها فلا تضطرب بكم لتنتفعوا لقضاء حوائجكم ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ يعني السماء كالبنيان السقف للأرض، كما قال عز وجل ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾[الأنبياء:32]، ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ انظروا كيف بنينا السماء، ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات:47] يعني بقوة، ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ:12] فهي قوية مُحكَمَة مُتقَنَة ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك:3] ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق:6].

﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ انظروا إلى خَلْقِكُم ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين:4]﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:6].

﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ مع ذلك كلِّه فيما يتعلق بما تحتاجون إليه من المطاعم والمشارب ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ فيجب أن تشكروه.

﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ يعني الذي فَعَلَ هذه الأشياء هو الله ربكم فاعبدوه ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ عَظُمَ وكَثُرَ خيرُ الله عز وجل ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو ربكم وهذا مِن بركته عز وجل فاعبدوه.

﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هو الحي ولذلك قال عز وجل ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ [الفرقان:58] والحي له الحياة الكاملة التي لا فناء يلحقُها. ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26-27]، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88].

﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا معبود بحق إلا هو، ما الذي بعدها؟ ﴿فَادْعُوهُ﴾ فادعوه واعبدوه لأن الدعاء هو العبادة ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ دون أن تدعوا معه غيرَه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يُحمَد عز وجل له الصفات العظيمة والأسماء الحسنى، فيُحمَد على أفعاله، فأفعالُه يحمد عليها عز وجل مما ذكره عز وجل من أفعالِه، ومِن خَلْقِه عز وجل لهذه الأشياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿۞قُلۡ إِنِّي نُهِيتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ ٱلۡبَيِّنَٰتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرۡتُ أَنۡ أُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (66) هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (67) هُوَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (68)﴾

﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي﴾ وقال في سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام:56]، قال هنا ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي﴾ جاءت البينات والدلائل على أن الذي يجب أن يُوَحَّد وأن يُفرَدَ بالعبودية هو الله عز وجل وحدَه، ولذلك جاء في الآية التي قبلها ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، أما أنتم بهذا الفِعل، فأنتم لو دعوتُم الله، دعوتم الله وأنتم تشركون معه غيرَه.

﴿لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي﴾ وهذا يدل على أن مَن رُزِقَ العلم ورُزِقَ الدين، فهي نعمة مِن الله عز وجل يجب أن يشكر الله عليها. ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أن أسلِمَ له وأن أخضع له وأن انقاد له، وقال: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني هو تقرون بأنه ربكم، ورب العالمين أي: إذًا أسلِموا له كما أسلمت.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ هنا فيه دلائل على قدرته وعظمته عز وجل إذ جعلكم أطوارًا في خَلْقِكُم، لأنه لما قال ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر:64]، بين هنا تلك الأطوار التي تكونُ لهؤلاء، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ أصل أبيكم آدم ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ يعني السن الذي تبلغوا به قُواكم، وهذه فيها مراحل ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ بمعنى أنكم تضعُفُون كما قال عز وجل في سورة الحج:

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شيئاً﴾ [الحج:5].

قال هنا: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾ يتوفى مِن قبل أن تكونوا أطفالًا، وأناس يتوفون قبل أن يبلغوا أشُدَّهم، وهناك أناس يتوفون قبل بلوغ سِن الهَرَم.

 ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾ يعني مَن بقيَ في هذه الحياة له أجل مسمى، ثم بعدها يموت ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تعقلون هذا الأمِر إذ خَلَقَكم عز وجل، فهذا يدل على أنه لابد أن تحضروا عقولكم ولذلك قال تعالى ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ [يس:68]، فقال الله عز وجل هنا:

 ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.

الذي قَدِرَ على ما مضى ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أحياكم مِن العدم ثم يميتكم، ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ والساعة إذا أرادها كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر:50] وقال اللهُ عز وجل: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام:72-73] ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ أَنَّىٰ يُصۡرَفُونَ (69) ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلۡكِتَٰبِ وَبِمَآ أَرۡسَلۡنَا بِهِۦ رُسُلَنَاۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (70) إِذِ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ وَٱلسَّلَٰسِلُ يُسۡحَبُونَ (71) فِي ٱلۡحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسۡجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ تُشۡرِكُونَ (73) مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمۡ نَكُن نَّدۡعُواْ مِن قَبۡلُ شَيۡـٔٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلۡكَٰفِرِينَ (74) ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمۡ تَفۡرَحُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَمۡرَحُونَ (75) ٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ (76)﴾

﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تأمل يا محمد في حال هؤلاء، ولْيتأمل كل عاقل ويتعجب من حالهم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ كيف يُصرفون عن الح ؟! كما قال تعالى في نفس السورة ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر:35]، وقال الله عز وجل في أول السورة: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر:5].

صفتهم ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾ بالكتب المنزّلَة ﴿وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ من الحجج والبينات والمعجزات ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعيد وتهديد.

ومِن ذلك الوعيد ﴿إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ﴾ يعني مع أن أيديَهم غُلّت إلى أعناقهم، يسحبون بالسلاسل في الحميم ﴿ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ أي أنهم حطب للنار، فتُسجر النار بهم ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6] ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾[الأنبياء:98].

﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ﴾ من باب التبكيت والتحقير لهؤلاء ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ غابوا عنا ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ تبرؤوا، وهذا يتضمن أيضًا أنهم يقولون نحن إنما ندعوا عَدَمًا، لو كان بهم خير لنفعونا، ولذلك قال الله عز وجل عنهم: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:23] لكن لا ينفعهم ذلك ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: 28]، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ [الزمر:48] ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ [الجاثية:33].

﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ كما أضللنا هؤلاء نُضل الكافرين لأنهم بعدوا عن الحق، وقال الكافرين هنا من باب أن يحكم على أولئك بأنهم كفرة.

﴿ذَلِكُمْ﴾ ذلكم العذاب سببه ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ تفرحون فرح كِبْر وغطرسة ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ بما كنتم تكونون عليهم من الأشر والبطر والتكبر ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ لأن المرح التوسع في الطغيان وفي الكِبر وفي العناد.

﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ وهنا صرح بالأبواب، لأنه إذا دخلوا في الأبواب يأتيهم العذاب، فكيف إذا استقروا في النار ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ بئس مثوى ومَقَر المتكبرين كأمثالكم، وهذا الذم لهذا المثوى النار.

﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ (77) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ (78) ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمَ لِتَرۡكَبُواْ مِنۡهَا وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ (79) وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَيۡهَا حَاجَةٗ فِي صُدُورِكُمۡ وَعَلَيۡهَا وَعَلَى ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَأَيَّ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ (81)﴾

﴿ فَاصْبِرْ﴾ فاصبر يا محمد ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ مِن نَصرِك وإهلاك هؤلاء وعذاب هؤلاء حق.

 ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ فذاك ستراه، وقد رآه النبي ﷺ، فأراه ما وعَدَه بما يحل بهم في غزوة بدر ولما فتح مكة ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ يعني لو توفيناك قبل أن تراه ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ ثم يُحاسَبون الحساب، ولذلك قال عز وجل ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 46] ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد:40].

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ﴾ تسلَّ بالرسل السابقين ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ وهؤلاء الرسل قال عز وجل عنهم ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ما يمكن أن يأتي بآية، بمعجزة كعصا موسى أو مثلاً ناقة صالح إلا بإذن الله، فهؤلاء طلبوا منك آية ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

 ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ جاء أمر الله بعذابهم ﴿قُضِيَ بِالْحَقِّ﴾ بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر والعناد ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ هم خاسرون في كلِّ وقت، لكن يتحقق ويظهر خُسرانُهم أعظم في مثل هذا اليوم، وقال {الْمُبْطِلُونَ﴾  لأنهم كانوا على الباطل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ﴾ آية ودلالة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ [يس:71-73].

﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ منها ما يُركب كالإبل، ومنها ما يُؤكل كالإبل والبقر والغنم.

 ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ من حيث الحمْل عليها كالإبل، والحرث كالبقر. ﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ يعني الإبل كما قال عز وجل: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل:7] فقال هنا ﴿وَعَلَيْهَا﴾ يعني على الإبل ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ أي على السفن، يعني جعل لكم ما تركبون في البر وفي البحر.

﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ حُجّة قاطعة ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ بعد هذه الآيات أي آية تُنكرونها، لن تستطيعوا أن تنكروا هذه الآيات، لأنها آيات دامِغَة لباطلكم.

﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِنۡهُمۡ وَأَشَدَّ قُوَّةٗ وَءَاثَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ (84) فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ (85)﴾

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾ يعني بعد تلك الدلائل وبعد ما جاء النبي ﷺ به من الحق ﴿فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ممن أهلكهم الله كعاد وقوم نوح ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾ كانوا أكثر منهم من حيث العدد وأشد قوة ﴿وَآثَارًا فِي الأَرْضِ﴾ يعني أنهم أثاروا الأرضَ وعمروها ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ما كانوا يكسبونه مِن هذه الدنيا، وما كانوا يحرثون وبُنيان وما شابه ذلك لم يُغنِ عنهم لما نزل عذاب الله.

﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فرحوا بما عندهم مِن عِلْمِ الدنيا ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم:7]، وأيضًا فرحوا بما عندهم من العلم مما ورثوه من آبائهم وأجدادهم من تلك التقاليد الكفرية، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ أحاط بهم ما كانوا به يستهزئون من آيات الله ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ لما رأوا العذاب ﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ لكن لا ينفع ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ أي عذابَنا ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ منصوبة على المصدرية، أو منصوبة بنزع الخافض (كسنةِ الله) ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ هذه سنة الله عز وجل من أنه إذا أتى العذاب فإنه لا ينفع الإيمان، وسنةُ الله أن من أتتهم الرسل فلم يؤمنوا بهم أن يُنزل بهم العذاب ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ حال نزول العذاب هم خاسرون، الكفار خاسرون في كل وقت لكن يتحقق ويظهر خُسرانهم، وقال هنا ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ وفي الآيات التي قبلَها ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ لأن كفرهم إنما الذي جَّرهم إليه هو ما كانوا عليه من الباطل.

وبهذا ينتهي تفسير سورة غافر.