تفسير سورة يس من الآية (41) إلى ( آخر السورة )
الدرس (214)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
﴿وَءَايَةٞ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ (41) وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا يَرۡكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ فَلَا صَرِيخَ لَهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيكُمۡ وَمَا خَلۡفَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ (45) وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥٓ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ(47)﴾
﴿وَآيَةٌ لَهُمْ ﴾ آية وعلامة لهم ﴿حملنا ذريتهم﴾ قال بعض المفسرين: الذرية يعني الأبناء، رأوا أبناءهم يركبون الفلك، وهي السفن المشحونة المملوءة بالبضائع أو ما شابه، لكن الذي يظهر من قوله تعالى وهو الرأي الآخر: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ يعني: آباءهم ﴿في الفلك المشحون﴾ في السفينة المليئة لما نجّا الله ﷻ نوحًا ومن معه ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الشعراء:119].
ويُطلق على الآباء ذرية، كما يُطلق على الأبناء ذرية، لأنها من (ذرأ) أي: من خلق، فالأبناء مخلوقون من الآباء، والآباء خُلقوا من آباءٍ سبقوهم، فقال الله ﷻ هنا: ﴿وآيةٌ لهم﴾ فهذه عبرة وعظة لماذا لا يعتبرون!
﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي: ما يشابهه ﴿مَا يَرْكَبُونَ﴾ قال بعض المفسرين: ﴿من مثله﴾ من الإبل لأنها تُركب في الصحراء، لكن الذي يظهر وإن كان هذا داخلًا ولا تعارض معه ﴿وخلقنا لهم من مثله﴾ يعني: من مثل السفينة التي ركبها نوح خلق الله من مثلها سُفنًا عظيمةً كبيرة، ولذلك قال عز وجل ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾[الزخرف:13].
﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ لا أحد يستغيث لهم ﴿وَلا هُمْ يُنقَذُونَ﴾ لا أحد ينقذهم، فلو يشاء الله لأغرقهم في البحر، ولذلك قال ﷻ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ أي: يهلكهن ﴿بِمَا كَسَبُوا(34)﴾ [الشورى:32-34].
فقال الله ﷻ هنا: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ أي نجاهم الله ﷻ فلم يغرقهم ولم ينجوا إلا برحمة رحمهم الله عز وجل، وأيضا من أجل أن يبقوا في هذه الدنيا يتمتعون فيها إلى انقضاء آجالهم.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ﴾ اتقوا ما سيكون لكم فيما يتعلق بأمر الآخرة وأيضا بأمر الدنيا، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: من أجل أن تنالوا رحمة الله ﷻ.
فهنا أمرٌ بالتقوى لهم، التقوى من أجل أن يؤمنوا بهذا الشرع، وأن يدعوا ما يخالف الشرع حتى لا يحل بهم العذاب في الدنيا وفي الآخرة.
﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾ مع ذلك كله مع تلك الآيات، كانشقاق القمر ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:1] هذا كمثال، ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾[الأنعام:4] ﴿وما تأتيهم من آية﴾ (من) هنا زائدة للتوكيد ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ (من) هنا للتبعيض يعني بعض آيات الله عز وجل، ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾[الأنعام:4].
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ إذا أُمِر هؤلاء بأن ينفقوا من أموالهم على الفقراء والمحتاجين، إذا أمرهم المسلمون أن ينفق هؤلاء الكفار على الفقراء والمحتاجين ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ يعني: نحن نقول: كيف نطعم من لم يشأ الله أن يطعمه!؟ يعني نحن مع مشيئة الله، لم يشأ أن يعطيهم إذًا لن نعطيهم، وهذا فيه اعتراض على قدر الله واحتجاج بالقدر على فعل الذنوب، وبَينا ذلك مُفصلا عند قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام:148]. وبَينا هناك بَيانًا واضحًا مُفصلًا فيما يتعلق في مسألة القضاء والقدر.
فقال الله ﷻ عن هؤلاء: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ يعني: ما أنتم إلا في ضلال مبين، هو يُحتمل أن هذا الخطاب موجهٌ لكفار قريش، أي ما أنتم إلا في ضلال مبين.
أو أنه من قول كفار قريش يقولون للمؤمنين: ﴿إن أنتم إلا في ضلال مبين﴾ يعني: ما أنتم إلا في ضلال مبين إذ تأمروننا بهذا الأمر.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ تَأۡخُذُهُمۡ وَهُمۡ يَخِصِّمُونَ(49) فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ تَوۡصِيَةٗ وَلَآ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ يَرۡجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ (51) قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ (52)إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ (53) فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ(54)﴾
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: أنتم تقرؤون علينا من أن العذاب سيحل بنا فأين هو؟ تعجلوه!؟. نسأل الله السلامة والعافية.
﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ وهي النفخة الأولى ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ يعني: يُصاح بهم ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ أي: يختصمون فيما بينهم من الأقوال.
﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ أن يوصوا بشيء ﴿وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ لا يتمكنون من ذلك ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: ” ولَتَقُومَنَّ الساعةُ وقد نشر الرجلانِ ثوبَهما بينَهما ، فلا يَتَبايَعَانِهِ ولا يَطْوِيانِهِ ، ولَتَقُومَنَّ الساعةُ وقد انصرف الرجلُ بلَبَنِ لِقْحَتِه فلا يَطْعَمُه ، ولَتَقُومَنَّ الساعةُ وهو يَلِيطُ حَوْضَه فلا يَسْقِي فيه ، ولَتَقُومَنَّ الساعةُ وقد رفع أُكْلَتَه إلى فِيهِ فلا يَطْعَمُها” هذا عند النفخة الأولى.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ﴾ يعني: القبور ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ يسرعون ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ﴾ [طه:108] ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾[القمر:6] ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾[الإسراء:52].
فقال الله ﷻ هنا: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا﴾ ينادون الويل يقولون: يا ويل هذا أوانك هذا الوقت وقتك، وهذا يدل على شدة ما نزل بهم ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ من بعثنا من مرقدنا؟ سبحان الله، هل هم يرقدون في القبور؟ قال بعض المفسرين: نعم تأتيهم رقدة بين النفختين. وقال بعض العلماء: أن ما كانوا فيه من العذاب في القبر يكون بمثابة الرقدة إذا بُعثوا من قبورهم فرأوا العذاب الأعظم الأشد.
﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ﴾ (ما): موصولة، يعني هذا الذي وعد الرحمن، وسبحان الله اسم ﴿الرحمن﴾ كثيرًا ما يأتي ذِكره في يوم القيامة.
ولذلك قال النبي ﷺ كما ثبت عنه: ” لما قضى اللهُ الخلقَ، كتب في كتابِه ، فهو عندَهُ فوقَ العرشِ : إِنَّ رحمتي غلبتْ غضَبِي”
﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ يصدق المرسلون فيما قالوه يوم القيامة من أن هذا اليوم سيأتي.
﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ﴾ من القائل؟، قال بعض المفسرين: تقوله الملائكة، وقال بعض المفسرين: يقوله أهل الإيمان، وقال بعض المفسرين: يقوله هؤلاء الكفار، اعترفوا في وقتٍ لا ينفع فيه الاعتراف، إذًا لا مانع أن الملائكة تقول هذا القول والمؤمنون يقولونه، وأيضًا هم الكفار إذا بُعثوا أقروا لكن لا ينفع هذا الإقرار، كما قال عز وجل: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾[السجدة:12]، لكن لا ينفع.
وتأمل هنا ﴿وصدق المرسلون﴾ لأن أولئك الرسل الذين أتوا إلى تلك القرية، ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾[يس:13]. إلى ما ذكره ﷻ من سياقٍ يدل على صدق الرسل، ويدل هذا على صدق محمد بن عبد الله ﷺ لما بَين لقريش دين الله ﷻ.
﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ الكل يُحضر أمام الله ﴿فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[غافر:17]. فاليوم في يوم القيامة ﴿فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وما ظلمكم الله عز وجل.
﴿إِنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡيَوۡمَ فِي شُغُلٖ فَٰكِهُونَ(55) هُمۡ وَأَزۡوَٰجُهُمۡ فِي ظِلَٰلٍ عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ مُتَّكِـُٔونَ (56) لَهُمۡ فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57)سَلَٰمٞ قَوۡلٗا مِّن رَّبّٖ رَّحِيمٖ (58) وَٱمۡتَٰزُواْ ٱلۡيَوۡمَ أَيُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ (59)﴾
ولما بَين حال هؤلاء الكفار، بَين حال أهل الجنة ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ ﴿ فاكهون﴾ أي: متلذذون، مثلما يقال: سميت الفاكهة بذلك لأنه يتلذذ بها ﴿في شغل﴾ ما هو هذا الشغل؟ في شغل عن أهل النار أهل النار في عذاب وهم يتنعمون، ومن الشغل أيضا كما قال المفسرون: ﴿في شغل﴾ أي في افتضاض الأبكار يعني النساء الأبكار، وفي سماع أصوات الحور العين، فهم لما أشغلوا أنفسهم في طاعة الله ﷻ في الدنيا كافأهم الله بهذا الشغل الذي هو لا تعب فيه ولا نصب بل هو النعيم.
﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾ ويشمل هذا الزوجات لهم، ويشمل أيضا من يشاكلهم من أهل الإيمان ﴿في ظلال﴾ لا يدل على أن في الجنة شمسًا، لأن الشمس تُكور وتُوضع في النار وإنما هناك ظل، ولذلك قال ﷺ كما ثبت عنه: “إن في الجنةِ لشجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلّها مائةَ عامٍ لا يقطعُها”
﴿الأرائك﴾ هي الأماكن المرتفعة من الأَسِرة التي يُجلس عليها ويُتكأ عليها ﴿ مُتَّكِئُونَ﴾ وهذا يدل على الراحة والنعيم والسعادة.
﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ مما لذ وطاب ﴿لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾[الواقعة:33] ﴿وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾ أي: لهم ما يطلبون ولهم أيضا ما يتمنونه ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف:71].
﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ يُسلم الله ﷻ عليهم ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾[الأحزاب:44] سلام من الله فيسلمون من الآفات والشرور والمنغصات والأكدار في الجنة.
﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ﴾ تميزوا أنتم أيها المجرمون عن أهل الإيمان ﴿أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ فلا يمكن أن تجتمعوا مع هؤلاء ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾[القلم:35] ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص:28].
﴿أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ (60) وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (61) وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ (62) هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ (64) ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡيَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾
﴿ألم أعهد يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ ﴾ ألم أوصِ إليكم وآمركم يا بني آدم ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ وذلك بطاعته ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[فاطر:6].
﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ فأمرتكم وعهدت إليكم بماذا؟ ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ عبادة الله وتوحيد الله هو الصراط المستقيم.
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا﴾ أي أضل الشيطان منكم جبلاً يعني خلقًا كثيرا، ولذلك قال: ﴿جِبِلَّا﴾ أمثال الجبال ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء:184] ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ أين عقولكم؟ فكيف اتبعتم الشيطان؟
﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ توعدونها في الدنيا، هذه جهنم ترونها الآن ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ قاسوا حرها وعذابها بسبب كفركم.
﴿ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (65)وَلَوۡ نَشَآءُ لَطَمَسۡنَا عَلَىٰٓ أَعۡيُنِهِمۡ فَٱسۡتَبَقُواْ ٱلصِّرَٰطَ فَأَنَّىٰ يُبۡصِرُونَ (66) وَلَوۡ نَشَآءُ لَمَسَخۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمۡ فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مُضِيّٗا وَلَا يَرۡجِعُونَ (67) وَمَن نُّعَمِّرۡهُ نُنَكِّسۡهُ فِي ٱلۡخَلۡقِۚ أَفَلَا يَعۡقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ (69) لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّٗا وَيَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ(70)﴾
ولذلك في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ” كنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضحِك فقال: ( هل تدرونَ ممَّ أضحَكُ ؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ قال : مِن مُخاطَبةِ العبدِ ربَّه يقولُ : يا ربِّ ألَمْ تُجِرْني مِن الظُّلمِ ؟ قال : يقولُ : بلى قال : فإنِّي لا أُجيزُ على نفسي إلَّا شاهدًا منِّي فيقولُ : كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ شهيدًا وبالكرامِ الكاتبينَ عليكَ شهيدًا فيُختَمُ على فيه ثمَّ يُقالُ لِأركانِه : انطِقي فتنطِقُ بأعمالِه ثمَّ يُخلَّى بَيْنَه وبَيْنَ الكلامِ فيقولُ : بُعْدًا لكُنَّ وسُحْقًا فعنكنَّ كُنْتُ أُناضِلُ ” يعني: كنت أدافع عنكم فكيف تشهدون علي!.
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ قال عن الأرجل تشهد ولم يقل تتكلم، تتكلم الأيدي لأن أعظم ما يباشره الإنسان بيديه، لكن الأرجل تشهد أي تحضر مكان الذنب، لأنه يمشي بها فهي تشهد، لكن الذي يمارس هي الأيدي.
﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم في هذه الدنيا ﴿فاستبقوا الصراط﴾ الطريق ﴿فأنى يبصرون﴾ كيف يبصرون الطريق حتى يعودا إلى أهليهم وإلى مصالحهم، لو نشاء عاقبناهم في الدنيا ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ على مكانهم الذي هم فيه ﴿على مكانتهم﴾ أنه يُغير خلقهم من البشر إلى قردة أو خنازير أو ما شابه ذلك ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا﴾ للأمام ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾ إلى الخلف.
وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية تكون أيضاً في يوم القيامة يعني: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون. بمعنى: أنه يطمس على أبصارهم فلا يبصرون الصراط الذي يعبرون منه إلى الجنة، ولو نشاء لمسخناهم في يوم القيامة على مكانتهم فما استطاعوا مضيًا ولا يرجعون.
والأول أظهر، والثاني يليه، فهناك قولٌ آخر: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم. يعني: لو نشاء لهديناهم فلو هديناهم فإنهم لن يضلوا لكن لم نفعل ذلك فكيف يبصرون؟ وهذا هو أضعف هذين القولين، وعلى كل حال هذا يدل على أن الله ﷻ إذا أراد شيئا فلا راد لأمره.
﴿ومن نعمره﴾ نُطيل في عمره نُنكسه والتنكيس هو أن يؤخذ الشيء من أعلاه إلى أدناه ﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ دل هذا على أن الإنسان إذا عُمر يُنكس في خلقه، بمعنى تضعف الأبصار والحواس والفهم والعقل والقوى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾[الروم:54]. ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾[النحل:70].
﴿ومن نعمره﴾ لو بقيتم في الحياة وزادت أعماركم فالمرد إلى الموت أو الهرم، ثم من الهرم إلى الموت ﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ سبحان الله، ولذلك ذكر العقل هنا يعني: ألا تنظرون وتتأملون.
هم يزعمون أن النبي ﷺ شاعر قال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ أي: لو أراد ﷺ ذلك ما استقام له، ولذلك إذا ذكر بيتًا من الشعر لا يأتي به على وزنه، لكن لو قال قائل: قال النبي ﷺ في حُنين: ” أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ… أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ” لأن الشعرهو ما كان على وزن وعلى قافية، لكن النبي ﷺ إذا قال شيئاً فإنه لا يأتي به على قافيةٍ ووزن، لكن لو قال قائل في مثل هذا الحديث: ” أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ… أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ”؟ فالجواب عن هذا أن هذا ليس بشعر، لأنه قاله ﷺ من غير قصدٍ كما يجري على اللسان، كما لو قال مثلا الخطيب جملة من الجمل وكانت مرتبة من غير قصدٍ منه فهل تُعد هذه من الشعر؟ الجواب: لا تُعد من الشعر لأنه لم يقصدها وإنما جاءت سَليقةً من غير قصد.
فقال الله عز وجل: ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: هذا القرآن أي ما هو ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ ذِكْرٌ لمن يتذكر من أراد يتذكر وشرف ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف:44] ﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ قرآن مُبين واضح ﴿لينذر﴾ من أجل ماذا أنزله عز وجل؟ ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ من به حياة القلوب.
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام:122].
فقال الله عز وجل: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ يجب القول ويثبت على الكافرين كما قال تعالى في أول السورة: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾[يس:7].
﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ (71) وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ (72) وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ (73) وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَهُمۡ وَهُمۡ لَهُمۡ جُندٞ مُّحۡضَرُونَ(75)﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- ومن أعظمها الإبل كما قال عز وجل: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾[الغاشية:17].
﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ مالكون لها، وذللناها لهم حتى إن الطفل الصغير ليقود البعير الكبير، وسخرها لهم، ولذلك قال عز وجل ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[الحج:36].
فقال الله عز وجل: ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ﴾ منها ما يركبونه وهو الإبل، ﴿ومنها يأكلون﴾ يعني: الإبل والبقر والغنم ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾
من حمل الأثقال، من السفر عليها، من حراثة الأرض كالبقر، ﴿وَمَشَارِبُ﴾ يشربون حليبها وألبانها ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ فأين شكر هؤلاء.
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ لا يدل على أن الله ﷻ خلق الأنعام بيديه كما خلق آدم، شرف الله ﷻ آدم فخلقه بيديه ، كما قال ﷻ عنه في أواخر سورة ص قال :﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص:75] قال: ﴿بيدي﴾ أتى بالباء ﴿لما خلقت بيدي﴾ فخلقه بيديه عز وجل، لكن الأنعام خُلقت كسائر المخلوقات، وإنما قال هنا ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ لأن الإنسان إذا عمل شيئًا فإن ذلك العمل يُنسب إلى يديه، ولذلك لو كان خلقها كما خلق آدم بيديه لقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾: لهم أنعاما.
ومع هذا كله: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ﴾ ﴿لا يستطيعون نصرهم﴾ هذه الآلهة لا تنصرهم ﴿وهم لهم جند محضرون﴾ كما قال بعض المفسرين: أي أن الكفار جند محضرون، يُحضِرون هذه الأصنام ويَحضرون عندها للدفاع عنها، سبحان الله، كيف يدافعون عنها وهم يطلبون منها النصرة!
والرأي الآخر: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ﴾ يعني: أن تلك الآلهة لا تنصرهم وعاقبة هذه الآلهة معهم أنهم يحضرون معهم في نار جهنم، كما قال عز وجل: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء:98]. ولا تعارض بين القولين.
﴿فَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ (76) أَوَلَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ (78) قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ (79) ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (81) إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ(83)﴾
﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ يا محمد لا يحزنك ما يقولونه عنك أنك شاعر وما شابه ذلك ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ أي: ما يخفون ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي: ما يظهرون، فلا يخفى علينا شيء من أحوالهم ومما يقولونه عنك.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وهذه دلالة وآية على قدرة الله ﷻ على بعثه، أصله من نطفة من ماءٍ مهين ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾
أي: أنه يخاصمنا ويجادلنا بجدالٍ وبخصامٍ مبين، ما هو هذا الخصام؟ قال بعدها: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ أتى بعظم من العظام وهي رفات فقال: أو تزعم يا محمد أن الله يعيد هذه بعد أن تكون هكذا !
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ تأمل في خلقك من حيث أصلك ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ وهي بالية.
قل يا محمد له ولأمثاله ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ خلقكم من عدم ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾[الروم:27] ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان:28].
﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ بكل ما خلق عليم ليس فيما يخصكم أنتم أيها البشر فهو عالمٌ بخلقه.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ﴾ أفلا تتأملون كيف أخرج من تلكم الشجرتين “المرخ والعفار” مرخ وعفار وهما شجرتان رطبتان تُضرب إحداهما بالأخرى فينقدح منها النار فيشعلون نارهم.
فقال الله عز وجل: ألا تتأملون تلك الأشجار الرطبة المملوءة بالماء يخرج منها النار، والنار ضد الماء، وهذا يدل على أن الذي أوجد هذه النار في هذه الشجرة الرطبة يدل على قدرته عز وجل ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ تشعلون ناركم.
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر:57] مع عِظمها، أفلا يخلق هؤلاء البشر ويعيدهم مرةً أخرى؟ ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ كثير ما يخلق ﷻ وقال هنا: العليم مع الخلق، يُذكر العليم مع الخلاق والخالق، فالله ﷻ ما خلق خلقه ليهملهم فهو عالمٌ بحالهم، ولذلك قال تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14]. فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي شيء يريده يقول له ﴿كن فيكون﴾.
﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ﴿ملكوت﴾ أي: ملك، والواو والتاء تُزاد للمبالغة الذي له الملك التام، ﴿فسبحان﴾ تنزيه لله عز وجل، ﴿الذي بيده﴾ إثبات صفة اليد لما يليق بجلاله وبعظمته ومر معنا توضيح لها في سورة آل عمران، ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فالمرد إليه، وهو مالك كل شيء وهو التصرف والتدبير في ملكوته.
وبهذا ينتهي تفسير سورة يس.