تفسير قوله تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات …. ) سورة النساء ( 58 )

تفسير قوله تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات …. ) سورة النساء ( 58 )

مشاهدات: 491

تفسير قوله تعالى

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } الآية ، النساء58

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

فقد قرأنا في هذه الليلة قوله تعالى :

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58

هذه الآية كما قال كثير من المفسرين نزلت لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وأراد أن يدخل الكعبة ، وكانت الكعبة لها باب ، وهذا الباب له سادن أي حارس وهو عثمان بن طلحة الحجبي ، لما دخل عليه الصلاة والسلام مكة وأراد أن يدخل الكعبة ، وكان المفتاح مع عثمان بن طلحة رفض ، فقام إليه علي رضي الله عنه ولوى يده وأخذ منه المفتاح ، ففتح علي رضي الله عنه الباب ودخل عليه الصلاة والسلام ثم خرج ، فلما خرج نزل قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }النساء58 ، فأتى علي بالمفتاح إليه ، فقال عثمان أخذته قسرا وقوة وعدت تعيده إليَّ برفق ولطف ؟ قال نعم ، إن الله سبحانه وتعالى أنزل فيك قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }النساء58 ، فقال أوحصل ذلك ؟ قال نعم ، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .

وهذه الآية وإن كانت نزلت في عثمان بن طلحة إلا أنه عامة لكل الخلق ، ولذلك يقول العلماء [ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ] يعني ليست العبرة فيمن نزلت فيه ، بل تشمل من نزلت فيه وتشمل غيره ، فغيره مأمور بأن يؤدي الأمانة إلى أصحابها ، ما هي الأمانة المذكورة في كلام الله سبحانه وتعالى ؟

الأمانة المذكورة في كلام الله سبحانه وتعالى تشمل – على القول الصحيح – تشمل ما هو حق لله عز وجل وما هو حق للمخلوق ، والأمر هو منه سبحانه وتعالى أمر شرعي ، يعني يمكن أن يفعله البشر ويمكن ألا يفعلوه {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ } أمرا شرعيا { أن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } لم ؟ لأنكم تحملتموها ، كيف ذلك ؟ قال تعالى

{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72

التكاليف الشرعية عرضت عرضا حقيقيا – وهذا هو الصواب – أن هذا العرض حقيقي ، عرضت الأمانة على السماوات وعلى الأرض وعلى الجبال ، فقيل لهذه الأشياء إن قمتم بها أثابكم الله وإن لم تقوموا بها عاقبكم الله  { فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }

وأمره عز وجل للسماوات وللأرض وللجبال ، والجبال من الأرض ، لكن لماذا ذُكر أمر الجبال هنا مع أن الجبال من الأرض ؟ لأن الجبال مع عظمتها وهي من الأرض أبت أيضا ، لأن في الأرض ما هو ضعيف مثل النبت ، مثل الحصى الصغير ، لكن الجبال مع أنها من الأرض أشفقت ، لأن الأمر عظيم { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }الحشر21.

كيف تعرض التكاليف على هذه الأشياء ، هل السموات والأرض والجبال يفقهون أمر الله ؟

نعم ، قال تعالى { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }الحشر21 ، وقال تعالى { وَإِنَّ مِنْهَا } يعني من الحجارة { لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ }البقرة74 ، وقال تعالى عن السماوات والأرض { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، وقال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44 ، والحصى سبَّح في يد النبي صلى الله عليه وسلم ، الشجر كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن إدراك ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى أو من يطلعه من البشر كما هو حال رسولنا صلى الله عليه وسلم .

والسماوات والأرض والجبال لم يلزموا بهذا ، لو أُلزمن بهذا لفعلوا ، ولما عصوا أمر الله عز وجل ، ولكنه أمر تخيير { فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } لأن هناك جنة وهناك نارا ، لكن آدم عليه السلام لما عرضت عليه { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ } يعني آدم عليه السلام ، ليس تهاونا منه عليه السلام بشرع الله – كلا – لكن لعلو همته ، ففي هذا فضل لآدم عليه السلام ، فعالي الهمة إنما ينظر إلى ما هو أعلى ولو كان شاقا ، كما قال الشاعر :

إذا كانت النفوس كبارا       تعبت في مرادها الأجسام

إذا كانت نفسك كبيرة فيا ويل جسمك منك ومن نفسك ، لكن إذا كانت النفس ضعيفة هزيلة خامدة ، هذه ولو كان لها جسم كبير كالجمل ما أفادته ولا رفعته

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } الضمير هنا لا يرجع إلى آدم عليه السلام ، وإنما يرجع إلى من فرّط في الأمانة ، كما جاء بعدها ، فقد قسَّم الله عز وجل الناس تجاه الأمانة ثلاثة أقسام ، منهم من أظهر الشرك ، ومنهم من أبطن الشرك والكفر وأظهر الإيمان وهم المنافقون ، ومنهم من انقاد للإيمان ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون ، قال تعالى :

{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب73 ، – سبحان الله – مع أن أكثر الخلق هم شر وفي النار إلا أنه سبحانه وتعالى بيَّن أنه غفور رحيم ، ختم الآية بقوله { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لم يقل { إَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

فهذا يدل على سعة رحمته عز وجل ، الشاهد من هذا أن الضمير راجع إلى الإنسان الذي فرَّط في الأمانة ، سواء كان مشركا أو منافقا .

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }

أصل ابن آدم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ” الظلم والجهل ” أصلنا ننساق إلى الظلم وننساق إلى الجهل ، لكن هناك من يرفعهم الله عز وجل عن هذا الدنس الوضيع إلى أعلى ما يكون { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }الشمس9 ، وإلا فأصل ابن آدم هو الظلم والجهل ، ولذلك لا يطمئن أحد إلى نفسه ، ولذلك في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ( ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )

قال تعالى :

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }

الصلاة أمانة ، الزكاة أمانة ، الحج أمانة ، الودائع التي عندك أمانة ، السر الذي بينك وبين أخيك المسلم أمانة ، ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( إذا حدثك صاحبك ثم التفت فهي أمانة ) كونه يلتفت هي قرينة تدل على أنه لا يريد أن يسمع كلامه أحد ، ففي هذا تأكيد على أن السر الذي أخبرك به هو أمانة .

{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }

فلو أديت الأمانة إلى غير أهلها هل برئت ذمتك ؟ الجواب لا ، لا تبرأ ذمتك إلا إذا أديت الأمانة إلى صاحبها أو إلى وكيله الذي وكله في قبض هذه الأمانة ، وإلا فلا تبرأ ذمتك ، والأمانة أمرها خطير وهي سترفع من قلوب الناس ، ولذلك في الصحيح في حديث حذيفة قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين رأيت أحدهما وأنا أنظر الآخر ، حدثنا ( أن الأمانة نزلت في جذور قلوب الناس ) يعني الأصل وجود الأمانة ( ثم نزل القرآن والسنة فتعلموا منها ، ثم حدثنا أن الرجل ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها كالمجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس بشيء )

يعني مثل الجمرة إذا وقعت على جسمك تكون بارزة وفيها ماء ولكنه ليس بشيء ، وهذا يدل على أن الأمانة زالت من قلوب الناس ولم يبق فيها إلا مثل هذا الأثر ، ثم قال ( حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا ) من قلة الناس ( حتى يقال للرجل ما أعقله ما أظرفه وليس في قلبه حبة خردل من إيمان )

 

 

هنا مسألة :

لو كانت هناك أمانة لك عند شخص فجحدها وليس لك بينة عليه ، فقدَّر الله عز وجل ووصل إلى يدك شيء من ماله أتجحد ؟

هذه تسمى بمسألة الظفر ، يعني ظفرت بشيء من مال ذلك الرجل الذي خانك ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )

والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم ، لكن ابن القيم رحمه الله يقول يجب أن يطبق هذا الحديث ( أدِّ الأمانة لمن ائتمنك  ) اللهم إلا إذا كان السبب ظاهرا بحيث إنك لو جحدت هذا الشيء ما نُسبت إليك الخيانة ، لأنه قال ( ولا تخن من خانك )

مثل : لو أن امرأة كانت تحت زوج بخيل ولا ينفق عليها ، والنفقة عليها واجب في ذمته ، فظفرت بشيء من ماله أيجوز لها أن تأخذ ؟ نعم يجوز لها أن تأخذ لأنها لو أخذت من هذا المال ما نسبت إليها الخيانة ، لأن الأمر ظاهر ، ولذلك لما قالت هند رضي الله عنها كما في الصحيحين ، قالت ( يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وفي رواية ( مسِّيك ) على وزن فِعِّيل يعني مبالغة ( لا يعطيني وولدي ما يكفيني  ، قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )

إذاً خلاصة القول في هذه المسألة أنه لو جحدك شخص حقا فظفرت بشيء من حقه فلا تأخذه إلا إذا كان السبب ظاهرا بحيث لو أخذته ما نُسبت إليك الخيانة ، وهنا تجتمع الأدلة .

 

 

ثم قال عز وجل :

{ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ }

هذا شامل للجميع ، يعني لو أن شخصا كان قاضيا فيجب عليه أن يعدل بين الناس ، لو أن شخصا لم يكن قاضيا ولكنه نصِّب من قبل شخصين نُصِّب على أن يحكم بينهم فيجب عليه أن يتحرى العدل { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } لأن السماوات والأرض ما قامت إلا بالعدل ، ولذلك إذا انتفى العدل واضمحل وزال من الأرض خربت السماوات والأرض وقامت القيامة ، فما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }الرحمن7 ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى ” إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة “

ثم قال عز وجل :

{ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ }

{ نعما } صيغة مدح ، يعني ما مر من أداء الأمانة ومن الحكم بين الناس بالعدل ممدوح ، وكلمة { يَعِظُكُم بِهِ } تدل على أن الشرع كله وعظ ، بعض الناس يقول بعض العلماء ما عنده وعظ ، هذا ليس بصحيح ، فقوله تعالى { إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ } يدل على أن ما سبق وهو الحكم بين الناس بالعدل موعظة

ولذلك قال القرطبي رحمه الله ” من بين مَنْ هو واجب عليه العدل المفتي الذي يفتي للناس يجب عليه أن يعدل في فتواه ، لأنه سيميز بفتواه بين الحق والباطل .

{ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58

فإنه سبحانه وتعالى سميعا لكل ما يقال {  يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }طه7 ، بصير بكل ما في الكون ، وفي ختام هذه الآية بهذه الاسمين الجليلين تجعل العبد يكون في رهبة من أن يفرِّط فيما أُمر به مما مضى ، لأنه إذا علم أن الله عز وجل يسمع قوله هل يقدم على ما يغضب الله ؟ لا ، إذا علم أن الله عز وجل يعلم حاله وشأنه هل يقدم على ما يغضب الله عز وجل ؟ لا .

وليس معنى { كان } أي فيما مضى – لا – فكان تدل على الاستمرار والدوام ، كما أنها تفيد الشيء في الماضي تفيد أيضا الدوام والاستمرار .

وفقني الله وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .