تفسير قوله تعالى ( الذين يأكلون الربا … ) سورة البقرة الآيات (275 ـ 281 )

تفسير قوله تعالى ( الذين يأكلون الربا … ) سورة البقرة الآيات (275 ـ 281 )

مشاهدات: 489

تفسير قوله تعالى  :

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد :

تلونا في هذه الليلة قوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } الآيات .

 

قوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } يأكلونه بأي وجه من وجوه المكاسب سواء عن طريق الأكل أو عن طريق المبايعة أو ما شابه ذلك من أنواع المكاسب

ما حالهم ؟

وهنا عقوبة تنتظر هؤلاء الذين لا يتورعون عن المال الحرام ، فإن المال الحرام عاقبته وخيمة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة ، أما في الدنيا فإن هناك محقا وسحقا لهذا المال الذي يأخذه عن طريق الربا فلربما لا ينتفع به ، لربما يصاب ببلية تجهز على هذا المال فيذهب هذا المال ويبقى الوزر ، وكذلك يعاقب في القبر

النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري رأى رؤيا من بين هذه الرؤيا ( أنه مر على رجل يسبح في نهر من الدم ، فإذا أتى إلى الشاطئ إذا برجل يرمي بحجر فيقع هذا الحجر في فم هذا السابح ثم يذهب ثم يعود فيلقمه الحجر وهكذا يفعل به حتى تقوم الساعة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل : مَنْ هذا ؟ فقال عليه السلام : هذا الذي يأكل الربا )

وإنما كان في نهر من الدم لأن الذهب أحمر والذهب يصدق تحته الأوراق النقدية وكذلك الفضة لأن النفس تميل إلى الذهب أكثر من غيره ، فكان يسبح فيه ويتردد والحجر يُلقم في فمه

 لم ؟

لأن هذا الرجل يتردد على أكل الربا بين الفينة والأخرى ولا يتورع عن ذلك فكان هذا العقاب عقابه ، ما عقوبته في الآخرة ؟

ما ذكره سبحانه وتعالى هنا يقوم من قبره – نسأل الله العافية – كهيئة المصاب بالجن ، كأنه مصروع ، متخبط ، لأنه لما تخبط في مال الله سبحانه وتعالى وأعطاه الله عز وجل المال الحلال فزاده بهذا المال الحرام وتخبط فيه وأصبح بمثابة المجنون لأنك لا تكاد ترى المرابي إلا وكأنه من المجانين حينما ترى إقباله على هذا المال لا ينظر ولا يرى ولا يسمع ولا يفكر إلا في هذا المال .

 

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }

ما السبب ؟

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } يقولون لا فرق ، البيع فيه ربح والربا فيه ربح فما الفرق ؟ وغفل هؤلاء أن في الربا من المفاسد والمخاطر الشيء الكثير ، لو لم يكن فيه إلا أنه مضاد لأمر الله سبحانه وتعالى لكفى

فرد الله عز وجل عليهم فقال { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }

 

ثم يأتي اللطف من الله سبحانه وتعالى ، إنسان وقع في الربا ، فلما وقع في الربا أخذ أموالا طائلة لكن الله سبحانه وتعالى أوقع في قلبه الندم وأراد أن يتوب وقد قبض أموالا طائلة من الربا ماذا يصنع بتلك الأموال التي قبضها ؟ تكون حلالا له

{ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ } يعني ما قبضه وما انتهى منه فإنه له ، ثم ليس الأمر بيدك – عبد الله – ( لا ) الأمر بيد الله ، ( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيفما يشاء ) لأن هذا الرجل إذا ندم من الربا وهداه الله سبحانه وتعالى لا يأمن ابن آدم أن يزيغه الله سبحانه وتعالى ولذلك ماذا قال ؟ { وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } يعني إن شاء بفضل منه ثبته على هذه الهداية وإن شاء بعدل منه أزاغه وأضله .

لكن{ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة275

ثم بيَّن سبحانه وتعالى العقوبة التي تحصل للمرابي في هذه الدنيا { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا } مُحق ، فبعض الناس – نسأل الله العافية – يمكن يملك الملايين ومع ذلك هذه الأموال لا ينتفع بها ، ممحوقة ، يمكن كما أسلفت تصاب بحريق ، يصاب بمرض يتداوى بهذا المال ، ربما أن هذا المال لا يذهب منه يبقى في يده لكنه غير مرتاح ، لم يتنعم بهذا المال ، ولو تنعم ورأيته قد ركب ولبس وشرب وأكل – سبحان الله – كأن جبالا من الهموم على رأسه { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا }طه124

 

{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } لأن الله سبحانه وتعالى كما أخبر عليه الصلاة والسلام ( طيب لا يقبل إلا طيبا )  { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } يعني ينميها ، فلربما يتصدق الإنسان بتمرة فيربها الله عز وجل تربية حتى تكون في الحسنات مثل الجبال .

 

ثم ماذا قال ؟

{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }البقرة 276

انتهى من هذا الصنف ، كأن فيه دعوة وتذكيرا إلى أولئك المرابين بأن يتذكروا أن هناك طائفة من الناس لم ينهجوا نهجهم ، من هم ؟ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة277 ، هؤلاء عندهم أموال ، لكن ماذا صنعوا بهذه الأموال ؟ غفلوا عن إقامة الصلاة ؟  لا ، غفلوا عن العمل الصالح ؟ لا ، غفلوا عما أوجب الله سبحانه وتعالى في هذا المال من الزكاة ؟ لا ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ }المنافقون9

لم يغفلوا هذا الجانب ، فكأن في ذلك تذكيرا إلى هؤلاء بأن يعودوا إلى رشدهم .

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة277.

 

ثم يعود السياق مرة أخرى إلى المرابين ، آية فيها وعيد شديد ، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الربا اثنان وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه ) وصح عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( درهم من الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زانية ) درهم ، كيف بمليون ؟ كيف بمليار ؟ نسأل الله العافية .

 

فماذا قال تعالى ؟

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }البقرة278

أول ما صُدِّرت الآية صُدِّرت بنداء لآهل الإيمان{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ثم ثني بالتقوى { اتَّقُواْ اللّهَ } ثم في ختام الآية { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كل هذا تذكير لك – عبد الله – وإخبارا لك وتعليما لك وتأديبا لك بأنك أنت مؤمن وما هكذا طريقة الإيمان , وما هكذا طريقة أهل الإيمان بأن ينحرفوا عما شرع الله سبحانه وتعالى .

 

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } عبد حقير ، ذليل ، لا تساوي شيئا :

أولك نطفة مذرة وأخرك جيفة قذرة وبين ذاك وذلك تحمل العذرة

تحارب من ؟ تحارب الله ؟! الله عز وجل يعلن بأن هناك حربا قد قامت بينه ومعه رسوله صلى الله عليه وسلم وبين المرابين { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } والله حينما يقرأها الإنسان يرتعد ، والذي يحمل شيئا من الإيمان في قلبه والله إذا سمع مثل هذه الآية أو سمع هذه الآية يعود إلى الله سبحانه وتعالى ويتخلص من الربا، فإن قبض شيئا فهو حلال له كما أسلفت ، لكن إن بقيت ديون من الربا ستأتيه في المستقبل بعد أن تاب وأناب ، هنا لا يأخذ شيئا من هذه الزيادة { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }البقرة279

 

إذاً هذه الآية { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }البقرة279

هذه في الأموال الآتية ، أما الأموال الماضية التي قد قبضت فهذه ملك له ، ثم بيَّن سبحانه وتعالى ما كان عليه أهل الجاهلية ، كان يقرض الغني الفقير إلى سنة مثلا فإذا جاء الأجل قال الفقير ما عندي مال زدني في الأجل وأزيدك في المال ، وهذا هو الربا ، وهذا للأسف تفعله بعض البنوك التي عندنا مثل [ البطاقات ] يقولون هذه بطاقة الفيزا بعشرة آلاف ريال تسددها إلى شهر أو شهرين فإذا فات الوقت ولم تسدد زادوا نسبة معينة ، لمَّا زيد في الأجل زيد في الربح المحرم ،فماذا قال سبحانه وتعالى فيما لو كان لك دين على الآخرين وكانوا معسرين ؟

 

{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } من باب الوجوب ليس من باب الإكرام وليس من باب المعروف منك إنما يجب عليك في الشرع أن تُنظر وأن تمهل المعسر الفقير فإن طالبته وضيقت عليه مع عسره وفقره فأنت آثم

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( مَنْ أَنْظَر معسرا أو وضع عنه ) أي خفف مما عليه من الدين                   ( أظله الله يوم لا ظل إلا ظله ) هذا إذا أنظره أو إذا أسقط منه شيئا {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني إن عفوتم عن مالكم كله ، إن عفيت عن دينك كله فهذا خير على خير { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

 

ثم ذكر بعدها آية تنقل الإنسان إلى الآخرة وأن هذه الدنيا فانية وأن التي يسعى فيها إلى المال الحرام بأنها زائلة وذاهبة ، ربما تجمعها من المال الحرام من الربا ويأخذها ورثتك حلالا لهم ، فقال سبحانه وتعالى {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281

 

ثم ذكر أطول آية في القرآن وهي آية الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } الآية ، لآن البعض من الناس والآن يتحدث بهذا ، وقد تُحدث به فيما سلف – وحاشا الشرع من كلامهم – يقولون إن الشرع قاصر وعاجز عن تنظيم معاملات الناس ، يقولون في أمر العبادة لا بأس بذلك ، قد وفّى ، لكن في أمور المعاملات التي بين الناس لم يوف، فلو أننا عدلنا عن الأحكام الشرعية في المعاملات لكان أفضل وأحسن مواكبة للتقدم والرُقي – سبحان الله – كيف يكون الشرع قاصرا عن تنظيم معاملات الناس وأطول آية في القرآن تتحدث عن المعاملات بين الناس .

 

أغفل سبحانه وتعالى وحاشاه ، أغفل عن أن ينظم معاملات الناس ؟ ولذلك قد تروج بعد هذه الأفكار على بعض من الناس فيظن أن كلام هؤلاء سليم ، ولكن المسلم حينما يربط نفسه بكلام الله سبحانه وتعالى ويتأمل ما جاء فيه من الآيات يكون هداية له بإذن الله تعالى من الشبهات ومن الشهوات .

 

نسأل الله عز وجل لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .