قبل أن نشرع في درسنا في هذه الليلة ، وردت إلينا ملحوظة من بعض الأخوات فيما يتعلق بصفوف النساء ، مفاد هذه الملحوظة أن بعضا من النساء لا يسوين صفوفهن ، فترى امرأتين أو ثلاثاً في صف ، وأخريات في صف آخر ، أو أن بين الصفوف فُرجاً كبيرة متباينة ، وهذا خلاف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فكما أنه يجب على الرجال أن يسووا صفوفهم في الصلاة ، فكذلك الحكم يتعدى إلى النساء ، لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا ما جاء الدليل بتخصيص أحد الجنسين ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين
( لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) وفي رواية ( أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) بل قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ) فمن وصل صفا فهو بإذن الله حاصل على صلاة من الله عز وجل وصلاة من الملائكة ، هذا ما أردنا التنبيه عنه .
أما الآية التي معنا في هذه الليلة فهي قول الله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى } قد يتبادر إلى الذهن من حين ما يُقرأ ظاهر هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام كان لديه شك في إحياء الموتى – وهذا لا يمكن – لم ؟ لأن القرآن الكريم يرده ، ولأن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ترده ، ما الدليل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنا تمام الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الموتى ؟
الدليل / ما مر معنا قبل هذه الآية ، لما حصلت محاورة بين إبراهيم وذلك الرجل الذي جاء عن المفسرين أنه اسمه ( النمرود ) هذا الرجل طغى وتكبر وأنكر أن يكون هناك إله ، فماذا قال جل وعلا ؟
سبحان الله ! يُفترض أن الإنسان إذا أُسبغت عليه نعمة أن تكون هذه النعمة معينة له على طاعة الله {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }الرحمن60 ، ولكن كما قال سبحانه وتعالى { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى } لم ؟ {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }العلق7 وقال تعالى { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ }الشورى27
يعني لما آتاه الله الملك وأسبغ عليه النعم وأعطاه وأكرمه وميزه على كثير من خلقه ، يحاج إبراهيم في الله سبحانه وتعالى ! كان من الواجب عليه أن يكون هذا المُلك داعيا له إلى الإيمان ، فماذا قال إبراهيم عليه السلام ؟ { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }
إذاً إبراهيم لا يشك في أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الموتى ، ولذلك هذه الآية التي قبل الآية التي نحن بصدد الحديث عنها أوضحت هذا الأمر ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فالسنة النبوية ترد ذلك أيضا ، بمعنى أن إبراهيم لو كان يشك ، فنحن أكثر وأسبق شكا منه ، فلما لم نشك ، فإبراهيم أولا بأن لا يشك في قدرة الله سبحانه وتعالى في إحياء الموتى ، ولو تأملتم في بعض كلمات الآية ، إبراهيم عليه السلام سأل عن الكيفية ، كيفية إحياء الله سبحانه وتعالى للموتى { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى }
إذاً أراد إبراهيم عليه السلام أن ينتقل من مرحلة علم اليقين إلى مرحلة عين اليقين ، لأن عندنا ثلاثة أشياء وقد وردت في القرآن [ علم اليقين – عين اليقين – حق اليقين ] أضرب مثالا فيما يخص هذه الدنيا ، لو أن شخصا أتى مسافرا وقال رأيت بلدا جميلة ذات أنهار وذات حدائق وأشجار ، وفيها ما فيها ، وكان هذا الرجل المُخبِر ، ثقة ثبتا ، هنا ماذا لدينا ؟ علم اليقين ، لماذا ؟ لأن هذا الخبر ورد إلينا من شخص ثقة ثبت ، فلو قدَّر الله سبحانه وتعالى وسافر أحدنا إلى هذه المنطقة ، وقبل أن يصل إليها ، هنا رآها ، فهنا عين اليقين ، فإذا دخلها ، هذا هو حق اليقين .
فإبراهيم عليه السلام يعلم علم اليقين بأن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى ، ولكن أراد أن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها ، وهي عين اليقين ، ولذلك المؤمن في هذه الدنيا نال علم اليقين ، لأن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أخبراه بأن هناك جنة ، فلما آمن لديه علم اليقين ، فإذا جاء يوم القيامة وأزلفت الجنة للمتقين ، هنا عين اليقين ، فإذا دخل الجنة – نسأل الله عز وجل أن يدخلنا وإياكم إياها – هنا تحققت لديه مرتبة حق اليقين ، فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها وهي عين اليقين ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله ” إن المسلم إذا ازداد إيمانه قد تحصل له مرتبة عين اليقين في الدنيا ، مثل أنس بن النضر لما جاء في غزوة أحد ورأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد كفَّوا عن القتال وشاع الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، فمر بهم فقالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، فقال ماذا تريدون بالحياة بعده ؟ فلما قابل سعدا ، قال والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد ) فبعض الناس قد يرى مرتبة عين اليقين ، وليس بالبصر ، وإنما بالبصيرة ، كما حصل لأنس
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } معاتبا له أن يرد منه مثل هذا السؤال ، والله سبحانه وتعالى يعلم أن إبراهيم مؤمن بدلالة ما ذكره الله عنه في الآية السابقة في مخاصمته ومجادلته مع النمرود { قَالَ بَلَى وَلَـكِن } أريد شيئا { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } وأكرم وأعظم وأجل نعمة بعد نعمة الدين أن يظفر الإنسان بطمأنينة القلب ، فالإنسان إذا كان مطمئنا يرى أن الخير يأتيه ولو كان عديم ذات اليد ، ولذلك في قصة أم موسى عليه السلام { لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }القصص10 ، وقال عن الفتية { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ }الكهف14، فإذا ربط الله على قلبك فاعلم أن الله قد أراد بك خيرا ، ولذلك الخبر ليس كالمعاينة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه قال ( إن موسى لما أخبره الله سبحانه وتعالى بأن قومه قد عبدوا العجل ما ألقى بالألواح ، فلما عاينهم ألقى بالألواح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ) كثير منا يظن أن هذا مثل من الأمثال ، بل هذا حديث .
{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ } لماذا حدد بأربعة ؟ نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى كما نكل علم تحديد صلاة الظهر بأربع والعصر بأربع والمغرب بثلاث والعشاء بأربع والفجر بركعتين ، فهذه علمها عند الله ، ما نوع هذا الطير ؟ قد أسرف بعض المفسرين في ذكر أنواع هذه الطيور ، ولكن لم يرد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحديد نوعية هذه الطيور .
{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } يعني قطعهن ومزقهن واخلطهن واضممهن إليك { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يعني بعدما قطعت رؤوسهم وأجسامهن وخلط بعضهم ببعض ، ضع كل جزء من هذه الأعضاء على جبل ، وليس على كل الجبال ، وإنما على جبال معينة { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } بمجرد ما تقول هلموا أو تعالوا
{ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } فلما فعل إبراهيم ما فعل إذا بهذه الطيور تنضم جزئيات كل طير إلى حقيقته الأولى ، وهذه يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى ، ثم قال { وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
{ عَزِيزٌ } يعني قوي
{ حَكِيمٌ } يضع الأمور في مواضعها المناسبة ، قد يكون أحدنا قويا في هذه الدنيا ويظفر بشيء ، ولكن قد يكون ظفرانه بهذا الشيء ليس عن حكمة ، قد يكون قويا ويحصل على شيء ويكون حصول هذه الشيء ضررا عليه ، ولكن الله سبحانه وتعالى قوي ومع قوته فإنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها ، ولذلك عمَّم ، قوي في كل شيء ، وحكيم في كل شيء ، ولم يقل إني قادر على إحياء الموتى وإنما قال
{ وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } يعني كما أنني قادر على إحياء الموتى كما أريتك هذه الطيور ، فأنا قادر على كل شيء .