الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
مما تلوناه في هذه الليلة قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِين } إلى آخر ما ذكره سبحانه وتعالى حول هذا الأمر الجلل الذي أُمرت به بنو إسرائيل .
قول تعالى { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } من نِعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ما ذُكر هنا قال { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ } يعني جعل منكم أنبياء { وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } يعني أصبحتم ملوكا بعد أن كنتم خدما وأسرى وممتهنين ومستذلين من قِبل فرعون والقبط ، كما ذكر سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من أنهم كانوا يستحلون نساءهم { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ }
{ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِين } يعني آتاكم أشياء لم يؤتها أحد من العالمين في زمانكم من فرق البحر ، من إنزال المن والسلوى ، وما شابه ذلك مما منحه الله سبحانه وتعالى لهؤلاء ، ولذا قال تعالى { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ }
وقال أيضا سبحانه وتعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ }
أورثناهم ماذا ؟
{ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }الأعراف137.
ثم قال سبحانه وتعالى آمرا لهؤلاء أن يدخل الأرض المقدسة ، وهذه الأرض المقدسة هي الشام ومن بينها بيت المقدس { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } يعني كتب الله سبحانه وتعالى عليكم أن تدخلوها بأمره عز وجل
{ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } وهذا يدل على أن من أعرض عن أمر الله سبحانه وتعالى وجعل أمر الله سبحانه وتعالى خلف ظهره فإنه يكون من الخاسرين
ولذلك قال سبحانه وتعالى { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } فالخاسر حقيقة هو من أعرض عن أمر الله سبحانه وتعالى
{ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ } يعني فيها قوم ذو جبروت من القوة ومن الطول وما شابه ذلك مما أعطي هؤلاء { قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون }
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على جُبن وخوف وهلع اليهود كما قال تعالى { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } فهم أذلاء
وقال تعالى { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون }الحشر14.
{ فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22} قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } يعني يخافون الله عز وجل { أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا } بأن وفقهم الله سبحانه وتعالى وعصمهما فلم يخالفا أمره ولا أمر نبيه موسى عليه الصلاة والسلام ، لأن موسى عليه السلام كما ذكر المفسرون ( بعث اثني عشر نقيبا ) يعني رئيسا ، فبنو إسرائيل يعدون ثنتا عشرة قبيلة كما قال تعالى { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } يعني لكل سبط من هؤلاء عين يشربون منها
قال تعالى { َلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } لماذا بعثهم ؟ ( بعثهم ليستطلعوا أمر من في الأرض المقدسة ) بعث هؤلاء النقباء وهم اثنا عشر إلى هذه الأرض المقدسة ليستطلعوا أخبارها ومن فيها
فأباح كل واحد من هؤلاء ما عدا اثنين أباحوا ونشروا خبر من في هذه الأرض المقدسة وأنهم اطلعوا على قوم هم فيها غلاظ ذو قوة ، ذو عظمة ، ولذلك قالت بنو إسرائيل ما قالت { قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون {22} قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } يعني الأمر يسير جدا لا يهولنكم عظمة هؤلاء ولا كبرهم ولا قوتهم إنما عليكم أن تفعلوا السبب الذي أمرتم به
{ ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ }
بمجرد ما تدخلوا عليهم الباب فإن هؤلاء سيقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الرعب
ولذلك لو أن الأمة الإسلامية في هذا العصر لو أنها أخذت بأمر الله سبحانه وتعالى وتوكلت على الله حق التوكل لنصرهم الله سبحانه وتعالى على أعدائهم ، لكن أين فعل السبب ، يعني بمجرد أن يفتح الباب تفتح لكم الأرض المقدسة وتكونون من الغالبين { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن من يقدم على هذا الأمر لا يقدم عليه إلا من كان متوكلا قد وقر الإيمان في قلبه
بمجرد أن تدخلوا الباب نصرتم وظفرتم ، وهذا أمر يسير على الله سبحانه وتعالى لكن لو رأى الله جل وعلا من هذه الأمة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم لو رأى منها تقدما وقوة وإقبالا على الله سبحانه وتعالى وأصلحوا أحوالهم وجاهدوا أنفسهم قبل أن يجاهدوا أعداءهم ، لأنه لا يمكن أن تجاهد العدو وأنت لم تجاهد نفسك ، كيف لك أن تقدم شبابا قد انغرقوا في المخدرات أو في التدخين أو في ترك الصلوات أو فعل المحرمات !؟ لا يمكن أن يقدم لك شيئا قبل أن تهيئه ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( المجاهد مَنْ جاهد نفسه )
ولذلك لا يمكن أن يتمكن من أعداء الأمة إلا بأن يجاهد المسلم نفسه عا حرَّم الله سبحانه وتعالى ، فإذا تهيأت هذه النفس البشرية وأصبحت مليئة بالإيمان نصرها الله سبحانه وتعالى وبإمكانك أن تقدم مَنْ تقدم إلى ساحة الوغى وإلى ساعة الحرب فتجد شجعانا
ولذلك في معركة القادسية في عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، لأن الأمر يسير على الله سبحانه وتعالى في عهد عمر رضي الله عنه وكان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وفتح المسلمون مدن الفرس مدينة تلو الأخرى ما بقي عليهم إلا أن يصلوا إلى قصر كسرى ، ولا يمكن أن يصلوا إليه إلا بعد يعبروا نهر دجلة ، فما استطاعوا ما عندهم سفن ، ما عندهم قوارب ، ما عندهم إلا خيول وجمال فماذا يصنعون ؟
– سبحان الله – يذكر أهل التاريخ ومنهم ابن كثير رحمه الله أن أحدهم بدأ بخيله وبفرسه فدخل في النهر فلما دخل في النهر ، بمجرد ما دخل في النهر ما غرق بل ارتفع – سبحان الله – يقول ابن كثير رحمه الله لم يصل الماء إلى ركبتي الفرس ، وكان الفرس يسير وكلما تعب هيأ الله سبحانه وتعالى له أكمة ، يعني مكانا مرتفعا ليستريح فيها ، فلما رأى القوم أن هذا الرجل يسير في البحر بهذه الطريقة وبأمر الله سبحانه وتعالى دخلوا أفواجا
ولذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه حلف لما دخلوا قال [ والله كما دخلتموه سالمين لتخرجون منه سالمين ] وبالفعل يقول أهل التاريخ : خرجوا من هذا النهر ولم يفقدوا لا مالا ولا متاعا ولا نفسا ولا أي شيء ، فلما رآهم القوم قد أقبلوا عليهم وهم يسيرون على النهر بالخيول قالوا : هؤلاء مجانين ، فما كان من القوم إلا أن فرُّوا هاربين ، فانتصر المسلمون بمجرد ما دخلوا في النهر نصرهم الله سبحانه وتعالى
ولذلك ماذا قال هذان الرجلان ؟
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين } ثم أتوا بأمر فصل حاسم ، يعني لا تحاول فينا ولا تحاول معنا { قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا } إذا كنت راغبا في القتال { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }
فلما يأس منهم وعلم أن هؤلاء ليس منهم خير ولا صلاح ولا فلاح دعا { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ } أي فافصل واقض { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
فماذا قال سبحانه وتعالى ؟
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ }
حرَّم سبحانه وتعالى على ذلك الجيل الذي كان مع موسى حرم عليهم دخول الأرض المقدسة تحريم منع يتيهون في الأرض كلما أرادوا أن يسيروا تجاه الأرض المقدسة إذا بهم ينظرون في حالهم وإذا بهم في أماكنهم التي كانوا فيها ، فيسيرون بالليل فإذا ظهر النهار وجدوا أنهم لم يبرحوا مكانهم وإذا ساروا بالنهار وأتى الليل وجدوا أنهم لم يبرحوا مكانهم { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ } يعني فلا تحزن { عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
إذاً هناك فائدة بل فوائد من هذه القصص ومنها : أن هؤلاء لما عصوا أمر الله سبحانه وتعالى ضيعوا على أنفسهم خيرا كثيرا ، ضيعوا على أنفسهم الخيرات في هذه الدنيا بدخول الأرض المقدسة وضيعوا على أنفسهم الخير من قِبل الله سبحانه وتعالى في جناته جنات النعيم .
وهذه القصص – أيها الأحبة في الله – حينما يذكرها الله سبحانه وتعالى أو يذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا ألا تمر علينا مرا سريعا وإنما نقف ونتأمل ونأخذ العبرة من هذه القصص وأن نحذر مما وقع فيه هؤلاء القوم مما أغضب الله سبحانه وتعالى .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر أمتنا وأن يعيد إليها مجدها وعزتها وكرامتها عاجلا غير آجل .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .