تفسير قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان … ) سورة البقرة (102 ـ 103 )

تفسير قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان … ) سورة البقرة (102 ـ 103 )

مشاهدات: 463
تفسير قوله تعالى
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ }
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
أما بعد فيا عباد الله /
مما تلوناه في هذه الليلة قول الله تعالى  :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ{102} وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُون { 103 } }
المتأمل في الآية التي قبل هذه الآية ، وهي قول الله تعالى { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }البقرة101 ثم قال بعدها { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية ، فالمتأمل في هذه الآية والتي قبلها يدرك أن من أعرض عن الخير وقع في الشر ، ومن ترك الهدى أصابته الضلالة ، ومن نبذ شرع الله ، اتبع طريق وسبيل الشيطان { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
ما الذي جرى لهم ؟
 { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ }
وهذه الآيات في سياق اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة ، فأودى بهم هذا إلى أن يتبعوا السحر وطرائقه وتعلمه ، فقال جل وعلا :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ }
 مَنْ الذي اتبع ؟
 اليهود ، اتبعوا ماذا ؟ اتبعوا ما بقي من تركة الشياطين من السحر في عهد سليمان عليه السلام ، الشياطين كانوا يسترقون السمع في عهد سليمان ، وكانوا يبثون بين الناس بعض الأخبار التي ستقع ، فزعم الناس في ذلك الزمن ، في عهد سليمان عليه السلام ، أن الجن يعلمون الغيب ، ولذا وبَّخ الله سبحانه وتعالى من يزعم ذلك ، لأن الجن وَقَرَ في نفوسها في عهد سليمان أنها تعلم الغيب ، فأمات الله سبحانه وتعالى سليمان وبقي متكئا على عصاه ، والجن مسخرون له ، يعملون له ما يشاء ، فقال جل وعلا في سورة سبأ { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } يعني من عصاه { فَلَمَّا خَرَّ } يعني سقط ميتا { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14
ما هو هذا العذاب المهين ؟ ما كانوا يعملونه لسليمان ، من الغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والذهب ، ومن تشييد البنيان والتماثيل والجفان ، وما شابه ذلك ، فهؤلاء الجن والشياطين كانوا يسترقون السمع مما سيقع مما يُتداول بين الملائكة ، فظن الناس أنهم يعلمون الغيب ، فقال سبحانه وتعالى :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } يعني ما تقرأ وتعمل الشياطين
{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } يعني في عهد سليمان عليه السلام
{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأن اليهود لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سليمان قالوا انظروا إلى هذا النبي يذكر سليمان وما كان سليمان إلا ساحرا ، لأنه ما وطَّن الجن إلا بالسحر – هذا في ظنهم – فقال سبحانه وتعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } دل على أن السحر وتعلمه كُفر ، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ( لما سئل عن النشرة ؟ ) وهي فك السحر بسحر مثله ، إنسان مسحور يؤتى به إلى ساحر آخر ليفك سحره ، فقال عليه الصلاة والسلام ( هذا من عمل الشيطان ) فأفهمنا هذا الحديث وقبل ذلك هذه الآية أن ما يشاع من فتوى في هذا العصر التي في مضامينها أنه يجوز فك السحر بسحر مثله ، مناقضة لصريح القرآن ولصريح سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
 وإذا قلنا إن السحر يفك بسحر مثله ، يلزمنا في مثل هذه الحال أن نبقي بعض السحرة ، لأن فيهم فائدة – على غرار هذه الفتوى – ولكن هؤلاء ليس لهم فائدة ، ولذلك الشرع حكم على السحرة بالقتل ، ثم إن قلنا إن السحر يجوز أن يُفك بسحر مثله لقيل إن القرآن عاجز – وحاشاه – أن يشفي أمراض الناس
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }الإسراء82
 فلماذا يُعدل عن القرآن ؟
النبي صلى الله عليه وسلم لما أصابه السحر ما عدل إلى السحرة ، وإنما عدل إلى القرآن ، فقرأ عليه الصلاة والسلام المعوذتين حتى انفك السحر الذي أصابه عليه الصلاة والسلام ، فأردتُ أن أبين أن ما يُشاع ويذكر عبر وسائل الإعلام ، وما يتناقله الناس من هذه الفتوى ، أنها فتوى مناقضة لصريح القرآن وصريح سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال تعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ }  لم ؟
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } يعني ويُعلِّمون ما أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } هناك ملكان اسمهما
( هاروت وماروت ) أنزلهما الله سبحانه وتعالى بأرض بابل بالعراق ، وأمرهما جل وعلا أن يعلما الناس السحر ، ابتلاءً واختبارا ، ينظر هل هؤلاء البشر يعرضون عن السحر أم أنهم يقبلون عليه ، فأنزل الله عز وجل هذين الملكين ابتلاء واختبارا ، يعلمان الناس السحر ، ولذلك هذان الملكان يمخضان النصح والخير للناس
ولذلك قال تعالى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } يعني ابتلاء واختبار من الله { فَلاَ تَكْفُرْ } فدل على أن تعلم السحر كفر ، ثم بين سبحانه وتعالى نوعا من أنواع السحر ، وهو ما يسمى بالصرف ، إذ إن في بعض أنواع السحر ما يُبغض الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته ، ولذا قال :
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } قد يظن أن هؤلاء الجن أو هؤلاء السحرة لهم من التمكين والقوة ما يستطيعون به إيصال الضرر للبشر ، فقال عز وجل  { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ }
إذاً ماذا علينا نحن ؟
 علينا أن نتسلح بالسلاح الذي أمرنا الله جل وعلا وأمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نتسلح به ، ما هو السلاح من الوقوع في السحر أو الوقوع في العين ؟ قراءة القرآن والذكر ، والآيات تدل على ذلك { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } قال بعض المفسرين ( هو القرآن  ) فإذا نبذ القرآن ماذا يحل بالإنسان ؟ يحل به السحر والألم وكل ما لا يلائمه .
ثم قال تعالى { وَيَتَعَلَّمُونَ } يعني اليهود ، وهذا يدل على أن مكمن السحر من اليهود ، وأن أصله السحر من اليهود ، وكل الشر من اليهود  {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } لم يقل { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } وسكت – لا – { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } قد تتضرر بشيء وتنتفع بجزئية منه ، لكن هنا نفى النفع عن السحر، وأن السحر شر وضرر محض ، وليس فيه خير وليس فيه نفع ، فكيف يقال يجوز فك السحر بسحر مثله ؟!
ثم قال تعالى { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } يعني اليهود، عندهم علم ، لكنهم اتبعوا أهواءهم ، ولذلك لما كان عندهم علم وتركوا العمل ، وصفهم الله عز وجل بأنهم مغضوب عليهم .
{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني من استبدل السحر بكلام الله عز وجل { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يعني حظ ونصيب ، والذي لا نصيب له البتة في يوم القيامة هو الكافر ، فدل على أن السحر وتعلمه كفر بالله سبحانه وتعالى ، ثم  ذم الله سبحانه وتعالى ما صنعوه
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لم ؟
 لأنهم باعوا أنفسهم لتعلم هذا السحر الذي يوصلهم إلى العذاب الأليم ، ولذا قال تعالى { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني لو كانوا حقيقة ما ينتظرهم من العذاب بتعلم هذا السحر ما أقدموا عليه وما تركوا كلام الله .
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الطريق الأسلم الذي كان ينبغي لهم أن يسلكوه {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}البقرة103 هناك تقدير في الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا } لأثيبوا ، ما الذي دل عليها ؟ { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } البقرة103
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا وإياكم الشر والوباء والبلاء والسحر والعين وما شابه ذلك من هذه الأمراض  ، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .