تفسير قوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب … ) سورة الأنعام الآية ( 59 )

تفسير قوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب … ) سورة الأنعام الآية ( 59 )

مشاهدات: 434

تفسير قوله تعالى

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } الأنعام59

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

فقد قرأنا في هذه الليلة قوله تعالى :

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } الأنعام59 .

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }

في اللغة العربية إذا قدِّم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم ، كان ذلك دليلا على الحصر ، لو كان في غير القرآن لكان الأسلوب ( مفاتح الغيب عنده ) لأن { مَفَاتِحُ } مبتدأ ، والمبتدأ من حقه التقديم ، و {وَعِندَهُ } هو الخبر ، لكن لما قدِّم ما حقه التأخير دلَّ هذا على الحصر يعني أن علم الغيب محصور في علم الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليه أحد ، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم ( من زعم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – يعلم ما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية )  لأن الله سبحانه وتعالى يقول { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون } النمل65 ، ولذلك نوح عليه السلام بيَّن أنه لا علم له بالغيب

{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } هود31 ، بل لم يكن يعلم أن ابنه ليس من أهله ، أي ليس من أهله الصالحين الناجين {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ }هود45، لو كان يعلم غيب الله سبحانه وتعالى لما دعا بهذه الدعوة .

إبراهيم عليه السلام حلَّت الملائكة عليه ضيوفا ولا يدري وأنكرهم ، وذهبوا إلى لوط وهو لا يدري ، ولذا { قَالُواْ يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ } هود81 ، فلا يعلم وإلا لما  { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ }هود80 .

يعقوب عليه السلام قد بلغ به الحزن ما بلغ ومع ذلك ما كان يعلم بمكان ابنه يوسف عليه السلام مع أنه نبي .

سليمان عليه السلام مع ما لديه من الجنود والعتاد وسُخِّرت له الشياطين الجن والريح ، ما علم بشأن تلك المرأة التي كانت تملك اليمن يسميها المفسرون ( ببلقيس ) وإنما أخبر بأمرها الهدهد { فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } النمل22 .

النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل قبل هذه الآيات كما قرأنا {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } الأنعام50.

فالغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، ولكن قد يطلع عليه بعضا من ملائكته أو من رسله ، كما قال سبحانه وتعالى { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } آل عمران179، وقال تعالى  { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }

مفتاح : إما أن يكون على وزن ” مِفتح ” يعني الآلة التي تفتح الخزائن، أو” مَفتح ” يعني خزائن الغيب عند الله سبحانه وتعالى

ما هذه الخزائن التي استأثر الله عز وجل بها ؟

ذكرت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري ، قوله صلى الله عليه وسلم ( خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } لقمان34  هذه خمسة

أشياء استأثر الله عز وجل بعلمها .

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }

قد يقول قائل : إنهم الآن يستمطرون السُّحب ، فقد يظن ظان أن هذا يشوش على ما جاء في هذه الآية ؟

نقول : ليس بصحيح ، لأن الذي أنشأها هو الله سبحانه وتعالى، ولذا قال جل وعلا { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } الرعد12، يقول ابن القيم رحمه الله ” السحاب يسمى ناشئا  “

هم الآن يستمطرون – بغض النظر عن جواز فعلهم من عدم ذلك – يستمطرون ، ولا يمكن أن ينزل المطر إلا بإذن الله سبحانه وتعالى ، وقد جرَّبوا ذلك في مواطن ومع ذلك ما نزل ما أرادوا ، فكل هذا بأمر الله سبحانه وتعالى ، ولو نزل فإن الذي نزله هو الله سبحانه وتعالى .

قال تعالى { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ }

وقال تعالى {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } الرعد8

{ وَمَا تَغِيضُ } يعني ما تنقص .

هم الآن يقولون نحن نعلم الذكر من الأنثى في الرحم ؟

نقول : ليس هذا من علم الغيب ، لم ؟ لأن الملك كما جاء في حديث ابن مسعود عند الأربعين يعرف شأن هذا الجنين ، فلما عرف الملك كون هذا الجنين ذكرا أو أنثى لا يكون غيبا ، وليس في ذلك علم للغيب ، إذاً ما يُذكر من أنهم يعرفون الأنثى من الذكر في بطن الأم ، هذا لا يدخل ضمن الآية ، لأن هذه آلات تصور وتعكس ما يكون في الرحم ، وهذا ليس بجديد ، ولذلك قد يخطئون في هذا ، وقد ذكر القرطبي رحمه الله عن ابن العربي أنهم كانوا يقولون فيما مضى “إذا اسودت حلمة الثدي الأيمن للمرأة الحامل فإن هذا دليل على أن ما في بطنها ذكر ، وإذا كان الذي على اليسار فهو أثنى ، وإذا ثقل حملها من جهة اليمين في بطنها فإن هذه عبارة حسب العرف والعادة يكون ذكرا وإذا كان عن اليسار تكون أنثى ، وهذا من القِدم ، فكيف مع تطور هذه الآلات ؟

لكن العجب ليس في هذا ، وإنما العجب أنهم يقولون إن الرجل إذا قذف منيا ، في القذفة الواحدة يخرج منه ستون مليون حيوان منوي في القذفة الواحدة ، وهذا العدد الكبير مكوناته إما ذكر أو أنثى ، لكن البويضات التي تكون من المرأة لا تكون إلا أنثى ، العجب أن هذه القذفة التي تحمل هذا العدد، أيعلم أحد إلى أين يذهب واحد من هذا العدد الكبير إلى أي بويضة ؟ وما ينتج عن ذلك من أمر هذه البويضة أتكون ذكرا مع هذا الحيوان المنوي أو أنثى ؟ كيف يكون رزقه ؟ كيف تكون حياته أهو شقي أم سعيد ؟

لا يعلم بهذا إلا الله سبحانه وتعالى .

ولذلك قال سبحانه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }

هل ما ذُكر في مفاتح الغيب أمر نحسه ؟ لا ، إذاً ذكر سبحانه وتعالى أنه عالم بما لم ندركه عن طريق الحس ، ثم قال :

{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وهذا ندركه ، لماذا ذكر البر قبل البحر ؟ لأن بالنسبة إلينا أكثر من البحر معايشة ، فنحن نعايشه أكثر ، من الأشجار والجبال والأشجار والطيور ، بينما البحر لا ، أو من باب أن يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، لأن البحر أعظم ، فبدأ بالأقل وهو البر .

{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }

ما الذي في البر والبحر ؟

عجائب ، لو قلنا أشجار ، ما هي هذه الأشجار وما أعدادها ؟ وما أنواعها ؟ وما يثمر فيها ؟

لو قلنا حيوانات ، كم أعدادها  ؟ كم ألوانها ؟ ما أمكنتها ؟

لو قلنا حشرات ، لو قلنا جبال ، أعداد هائلة ، حصى ، رمل ، هذه لا تعد ولا تحصى ، ولكن أحصاها وعلم بدقائقها رب العالمين سبحانه وتعالى ، عجز البشر أن يدركوا أشياء كثيرة فيما يكون في هذا البحر ، ولذلك لما عثروا على بعض الأشياء ونراها في بعض الأفلام الوثائقية التي تكون في البحر ترى العجائب ، كيف خلق الله عز وجل ما في هذا البحر ؟!

{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }

يعني يعلم الكليات والجزيئات ، الآن ذكر الكليات { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } يعني كلية ، ثم قال عز وجل :

{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } بدأ الآن في الجزئيات ، كم عدد الأشجار ؟ هذه الورقة التي سقطت كيف تقلبها ظهرا لبطن حين سقوطها ، أين سقطت ؟ أعلى جماد أم على حيوان ؟

ولو كان في غير القرآن ( وما تسقط ورقة ) لكن أتى بـ { من } الزائدة من حيث الإعراب ، لكن من حيث المعنى لها فائدة للتنصيص على العموم ، يعني ما من ورقى تسقط إلا ويعلم بشأنها ، من باب التأكيد .

ثم قال عز وجل :

{ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ }

إما من وضع الآدمي وإما من خلقه سبحانه وتعالى ابتداءً ، أين تذهب هذه الحبة ؟ تحت الأرض ، ما الذي يختلط بها ؟ ما مصيرها وما مآلها ؟

ثم أين هو جل وعلا ؟ في العلو مستوٍ على عرشه ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ) تصور لو أنك سرت بخيل لمدة خمسمائة سنة كم تقطع من المسافة ؟ تلك المسافة هي ما بين الأرض وبين السماء الدنيا ( وما بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة سنة ، وسمك كل سماء خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر ما بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة ، والله قد استوى على العرش ويعلم أعمالكم )

{ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ }

لما ذكر العموم في أول الآية وذكر التفاصيل عاد مرة أخرى للعموم ، يعني ما يكون من شيء رطب ولا يابس إلا يعلمه سبحانه وتعالى .

{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

وهو اللوح المحفوظ ، كتب الله عز وجل فيه كل شيء ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أولُ ما خلق الله القلم فقال له اكتب ، قال يا رب وماذا أكتب ؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة )

وكان ذلك التقدير قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم  ( قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء )

لو قال قائل : لماذا هذه التفاصيل ؟

نقول هذه التفاصيل ليبن لنا أن علمه محيط بكل شيء الكبير والدقيق ، الصغير والعظيم ، ثم إذا كانت هذه الأشياء مكتوبة في اللوح المحفوظ ولا يترتب عليها عقاب ولا ثواب ، ألا يكون ما يعمله ابن آدم من خير أو من شر مكتوب ؟

فيكون المسلم حينها على حذر من نفسه وعلى حذر من الشيطان .

ثم إن الله عز وجل ذكر شيئين ذكر العلم والكتابة ، وهاتان مرتبتان للقدر ، فقدر الله عز وجل له أربع مراتب

المرتبة الأولى : علمه المحيط بكل شيء .

المرتبة الثانية : كتابته عز وجل لكل شيء ، فما من شيء يقع في هذا الكون إلا وهو مكتوب .

لو قال قائل :

قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) يعني أن الدعاء يرد القدر ؟

نقول نعم ، فإن الله عز وجل جعله سببا ، كتب الله عز وجل أن هذا الإنسان ستنزل به مصيبة أو تحل به محنة ، لكنه سيدعو الله عز وجل فترتفع هذه المحنة ، فيكون التغيير والتبديل ليس في اللوح المحفوظ ، اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير ، إنما الذي يتغير ما في يد الملائكة من الصحف ، يعني الملائكة سيتفاجئون لأنهم يعلمون أن فلانا من الناس سيحل به أمر ، وإذا بهذا الأمر لم يحل ، ولذلك قال عز وجل { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ }

ولكن { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } الرعد39، فأصل الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل ، ولذلك صلة الرحم تزيد في العمر ، فإذا وصل العبد رحمه زاد عمره ، وهذا كله مكتوب ، على أن فلانا سيصل الرحم وسيزيد عمره ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري ( جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )

المرتبة الثالثة : مشيئته سبحانه لكل شيء .

المرتبة الرابعة : خلقه سبحانه لكل شيء، جمعها الناظم فقال

علمٌ كتابة مولانا مشيئته      وخلقه وهو إيجادٌ وتكوين

فمثل هذه الآيات إذا مرت بالإنسان عليه أن يستحضر أن الله عز وجل عالم بكل شيء ، فلو أن الإنسان أغلق الباب على نفسه ليعصي الله سبحانه وتعالى وقد خلا من كل شيء ليعلم أن الله عز وجل مطلع عليه .

والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .