تفسير قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع … ) سورة البقرة الآيات ( 155 ـ 157 )

تفسير قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع … ) سورة البقرة الآيات ( 155 ـ 157 )

مشاهدات: 528

تفسير قوله تعالى

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }

البقرة155- 157

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

فمما تلونا في هذه الليلة قوله تعالى :

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} }

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } الابتلاء هو الاختبار والامتحان ، والابتلاء لا يكون بالضراء أو بما لا يناسب العبد فحسب ، بل قد يكون الابتلاء بالنعم ، فالابتلاء نوعان: ابتلاء بالسراء ، وابتلاء بالضراء ، وقد يكون الابتلاء بالسراء أي بالنعمة ، قد يكون أشد وأعظم من الابتلاء بالضراء ، ولذلك يقول الشاعر :

قد يُنعم اللهُ بالبلوى وإن عظمت   ……………….

يعني يصير البلاء نعمة ، وإن كان هذا البلاء عظيما في نظر الناس

 

قد يُنعم اللهُ بالبلوى وإن عظمت    ويبتلي الله بعض الناس بالنعم

 

وهذا رأيناه في الواقع أناس كانوا على ضلال فلما أصيبوا بمرض  كمرض السرطان أو ما شابه ذلك أحدث لهم هذا المرض – مع أنه ابتلاء عظيم – أحدث لهم توبة صادقة إلى الله عز وجل فأصبح هذا الابتلاء في حقهم نعمة ، وأناس كانوا على هدى فلما ابتلوا بهذا الدنيا وبزخارفها انحرفوا وضلوا ، إذاً اجعل الأمر لله عز وجل ، ولتعلم أن العبد ما دامت أنفاسه في بدنه وتخرج منه فإنه عرضة للابتلاء ، إما بالسراء وإما بالضراء ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله كما في زاد المعاد ، يقول ” لو سبرت حال الناس كلهم لوجدت أنهم مبتلون “

يقول رحمه الله ما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو مبتلى ، وكل على حسبه ، كيف هذا الابتلاء العام ؟ قال رحمه الله ” إما بفوات محبوب أو حصول مكروه ” إن فاتك شيء محبوب فهذا ابتلاء ، وإن أصابك مكروه مما لا يناسبك فهذا ابتلاء ، ومن رحمة الله عز وجل أنه أقسم في هذه الآية أنه سيبتلي عباده من أجل ماذا ؟ من أجل أن يهيئوا أنفسهم

ولذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه ( والله ما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا ) وإذا علم العبد أنه مبتلى هانت عنده هذه الدنيا وصغرت في عينه ، ولا يظن أحد أن السعادة في مال أو في منصب وفي جاه – كلا –

من العجائب التي قرأتها في كتاب ” سير أعلام النبلاء ” للذهبي رحمه الله ، سيرة ” :

الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الناصر لدين الله ” قصته من أعجب القصص ، مما يدل على أن هذه الدنيا ليست بشيء ، هذا الخليفة وُلد في بيت الخلافة وكانت الخلافة آنذاك في الأندلس يعني في ” إسبانيا ” كانت تحت سيطرة الدولة الأموية ، توفي أبوه وعمره عشرون يوما ، فتولاه جده الذي هو الخليفة ، فأخذ جده العهد على أعمامه أن هذا الطفل إذا كبر أن يتولى الخلافة ، فانصاعوا لهذا الأمر ، فلما كبر وبلغ ما يقرب من عشرين سنة تولي الخلافة )

كم جلس في هذا الخلافة ؟

وهو خليفة فاضل أحيى الله عز وجل به السنة وقمع به البدعة ، ولكنه زاد في تملك الدنيا ، هذا الرجل بقي في الخلافة خمسون سنة ونصف سنة ، يعني أكثر من مائة وثمانين ألف يوم ، كان هذا الخليفة نبيها ، ومن نباهته أوصى جده أن يتولى الخلافة إذا كبر ، الشاهد من هذا أنه بنى في الأندلس ، ومعلوم أسبانيا بطيب هوائها وخضرتها ونضرتها

 

فبنى مدينة الزهراء وكان له اثنا عشر ألف خادم ، وبنى قصورا من الزبرجد والياقوت والذهب والفضة وشق الأنهار من تحت هذه القصور ، وكان هذا الرجل مع ما فيه من هذه النعمة ، وأين ؟ في الأندلس – نسأل الله عز وجل أن يردها إلى المسلمين – كان هذا الرجل يحسب في عمره اليوم الذي يمر عليه ليس فيه نغص ولا كدر ، كان يقيد أي يوم يمر عليه ولم يكن به هم ولا قلق ، تصوروا في مائة وثمانين ألف يوم كم يوم مر عليه وليس به كدر ولا نغص ولا هم ؟

ما أحصى إلا أربعة عشر يوما ، فلا يظن أحد أن السعادة في هذه الدنيا ، ولذلك من رحمته سبحانه وتعالى أنه قال { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } أفرد كلمة ( شيء ) من باب أنه شيء يسير ، لأن الله عز وجل لو سلَّط علينا الخوف والجوع لأهلكنا ، كما قال عز وجل

{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } النحل112

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ } الخوف من الأعداء ، الخوف مما يلقيه الشيطان في نفوس بعض الناس .

{ وَالْجُوعِ } قد لا يجد الإنسان طعاما أو يجد الطعام ولا يجد الدراهم التي يشتري بها هذا الطعام .

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ } يمكن أن يباد هذا المال في تجارة ، يمكن أن يباد بآفة سماوية .

{ وَالأنفُسِ } نقصان الأنفس في الأمراض ، فإذا أصيب الإنسان بمرض فهذا نقصان في نفسه .

{ وَالثَّمَرَاتِ } كأن تصاب بجائحة أو لا تنبت ، حتى قال بعض السلف ” ربما يأتي على الناس زمان لا تُنتب النخلة إلا تمرة واحدة “

ومع وجود هذه الأنواع من البلايا ما على المسلم إلا الصبر ، ولذلك قال عز وجل :

{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } بشارة للصابرين ، من هم ؟

 

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } ما قال أصابهم الله ، قال { مُّصِيبَةٌ } من أجل أن تشمل المصيبة الواقعة من الله عز وجل أو الواقعة من العباد بأمر الله عز وجل ، ثم أيضا قال { مُّصِيبَةٌ } من أجل أن كل شيء لا يلائم الإنسان صغر أم عظم فهو مصيبة ، حتى لو افتقد الإنسان نعله وأتعبه ذلك فإن هذا من المصائب ، لكن ماذا على المسلم إذا أصيب بمصيبة لا تلائمه ولا تناسبه ؟

{ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ } يعني نحن ملك لله عز وجل أجسامنا ، أموالنا ، أولادنا كلها ملك لله عز وجل ، فلا يعترض أحد على ملكه سبحانه وتعالى إذا أخذ منه شيئا ، ثم مع هذا كله مما ملكنا الله عز وجل من الصحة والعافية والأموال والأولاد كل ذلك باقٍ أم فاني ؟ فاني ، ولذلك ماذا نقول في ختام هذه الجملة الطيبة ؟

{ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } تذكير للعبد بأن هذه الدنيا ليست دار مقام وإنما هناك دار باقية وأن الجميع سيرجع إلى الله عز وجل .

وكلمة  ( إنا لله وإنا إليه راجعون )

قال سعيد بن جبير رحمه الله ( ما أعطي أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة ) جاء ذلك في حديث لكنه ضعيف ، قال سعيد بن جبير ( ما أعطي أحد من الأنبياء هذا الكلمة ، لأنها لو كانت موجودة فيما سبق لما قال يعقوب { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } يوسف84 ) لو كانت موجودة لقال ( إنا لله وإنا إليه راجعون )

ومن أصيب بمصيبة فقال ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فإنه على خير ، إما أن يبقى له الثواب العظيم ، كما جاء عند الترمذي من أن الله عز وجل يقول للملائكة ( أقبضتم ولد عبدي ؟ أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون نعم يا ربنا ، فيقول الله عز وجل – وهو أعلم – ماذا قال عبدي ؟ قالوا حمدك واسترجع أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون ، قال ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) هذا ثوابه .

 

وإما أن يخلف الله عز وجل عليك في الدنيا ، وقد يجمع الله لك الأمرين مثل ما حصل لأم سلمة رضي الله عنها كما جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم لما توفي أبو سلمة رضي الله عنه قيل لها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما أصيب عبدٌ بمصيبة فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي  خيرا منها إلا آجره الله على مصيبته وأخلفه الله خيرا منها ) فقالت أم سلمة ومن لي بخير كأبي سلمة ؟! تقول ليس هناك أحد ، لكن من باب أنه امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم قالت هذه الكلمة ، فما الذي حصل لها ؟ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلف الله عليها خيرا من أبي سلمة ومن أمثاله بأعداد لا تُحصى ، مع فضل أبي سلمة رضي الله عنه .

ما هو ثواب هؤلاء الصابرين ؟

{ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ثناء من الله عز وجل على العبد ، إذا أصيب بمصيبة فتحمل وصبر وقال هذه الكلمات النيرات يثني الله عز وجل عليه في الملأ الأعلى { أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم وربى قلوبهم على الهدى والتقى والخير

{ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } لم يقل ( وأولئك المهتدون ) لا – قال { وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

قال العلماء : هذا يدل على أنه خصهم بالاهتداء ، كأن المهتدين هم ليس سواهم ، ولذلك قال { وَأُولَـئِكَ } لم يقل ( هؤلاء ) إشارة إلى القريب ، قال { َأُولَـئِكَ } إشارة إلى البعيد ، مما يدل على رفعة منزلتهم وعلو درجتهم وأنه لا يبلغ مبلغ هؤلاء إلا من سار على طريقتهم ، ولذلك يقول العلماء إن العبد إذا أصيب بمصيبة فهو على أربع حالات :

الحالة الأولى : أن يجزع ويسخط ولا يتحمل فيضرب الخد ويشق الجيب ، وهذا نراه من بعض الناس يمكن أن يصطدم بشخص في سيارته فتجد السباب والشتام وربما حصل الضرب – يا أخي هذا قدر الله عز وجل – ذهبت أنفس فكيف بأموال ! فهذا يدل على عدم الصبر  ، والتسخط حرام ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من رضي فه الرضا ومن سخط فله السخط )

الحالة الثانية : الصبر ، هو لا يحب أن تقع به هذه المصيبة ، لكنه حبس نفسه عن التسخط وحبس جوارحه ولسانه من أن يفعل أو يتكلم بما لا يليق ، لكنه في صراع مع نفسه ، لكنه لا يريد أن يفقد الثواب ، وهذا لا يدل على أنه لا يحزن – لا – النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال ؟ ( إن الله لا يعذب بحزن القلب ولا بدمع العين ) وقال( إن العين تبكي والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) وهذا الصبر واجب .

الحالة الثالثة :  أن يكون راضيا بقضاء الله وقدره ، لم يهتم بهذه المصيبة ، علم أنها من عند الله ، فوقوعها وعدم وقوعها سواء ، كما قال عز وجل { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } المائدة119، قيل للحسن رحمه الله ” كيف يرضون عن الله ؟ قال رحمه الله أن تُسرَّ بالنقمة كما تسرَّ بالنعمة ” لأنك تعلم أنها من عند الله ، لكن هذه مرتبة عظيمة لا يصل إليها أي أحد

ولذلك استحبها العلماء .

الحالة الرابعة : الشكر عندما تنزل المصيبة بالعبد ، يشكر الله عز وجل – سبحان الله – أقلبه متبلد إلى هذه الدرجة حتى يشكر الله ؟ لا ، وإنما شكر الله عز وجل لأمرين :

الأول : أن هذه المصيبة لم تكن أعظم .

الثاني : لأن الله عز وجل سيعطيه ثوابا على هذه المصيبة إذا صبر عليها ، وهذه درجة عالية جدا ، وهي مستحبة ليست بلازمة ، اللازم أن يكون صابرا .

هذه بعض الفوائد وبعض المواقف حول هذه الآيات الكريمات ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .