تفسير قوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) سورة الأنعام ( 38)

تفسير قوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) سورة الأنعام ( 38)

مشاهدات: 478

دروس رمضان 1429هـ

تفسير قوله تعالى :

 { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } الآية  

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد :

تلونا في هذه الليلة قول الله سبحانه وتعال { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }الأنعام38.

قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ذكر الطير وأكد على أنه يطير بجناحيه ذلك لأن ابن آدم قد يطلق عليه الطيران إذا أسرع في المشي ، فإن ابن آدم يطلق عليه في اللغة إذا كان مسرعا يقال فلان قد طار ، يعني سار ، فلو قال عز وجل{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ } لربما دخل في ذلك ابن آدم ، وإنما المقصود من هذه الآية هو الطير الذي يطير بجناحيه .

 

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } :

 

ما تراه من فصائل وأنواع وأشكال الحيوانات كل نوع وكل شكل يُعد أمة ، النمل أمة ، الخنفساء أمة ، العقارب أمة ، الحيات أمة ، يعني أمة مستقلة لها شؤونها ، لها تدبيرها ، لها أحوالها ، لها نطقها ، لها كلامها ، لها فهمها ، ولذلك لما مر سليمان عليه الصلاة والسلام بالجنود{ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا } لأن الله سبحانه وتعالى قد يسر لسليمان عليه الصلاة والسلام أن يعرف لغة هذه الحيوانات وهذه الحشرات ، فكل ما تراه من فصائل الحيوان والهوام والحشرات هذه أمة لها رؤساؤها ، لها زعماؤها ، لها رزقها ، لها منافعها ، ولذلك لما قال فرعون لموسى وهارون { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى }؟ ماذا أجاب موسى عليه الصلاة والسلام ؟ { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي ربنا الذي أعطى كل شيء من خلْقِه خَلْقَه ثم هدى ، يعني كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى أعطاه خلقه ، له طريقته في الخلق ، له أعين ، له سمع ، له أحشاء ، له أمعاء ، يمشي على رجلين ، يمشي على أربع ، يمشي على بطنه { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } يعني هدى هذا الخلق المختلف في الأنواع هداه إلى منافعه وإلى رزقه ، ولذلك ترون بعض الحشرات وتعجبون حينما ترون مثل هذه الحشرة يعني أقرب ما يكون [ هذه النملة ] التي نراها يتعجب ابن آدم وهذا يدلل ويبرهن على عظمة الله سبحانه وتعالى وأن الإنسان ينبغي له أن يتفكر في خلق السماوات وفي خلق الأرض { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } الشورى29 ، يعني من علامات وجوده وقدرته سبحانه وتعالى ، وإذا دلت هذه الأشياء على قدرته وعلى عظمته وعلى كماله عز وجل فواجب عليك أنت يا ابن آدم أن تُعظم هذا العظيم الذي لا يماثله شيء ولا يكافئه شيء { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } مع هذه الأعداد ومع مختلف هذه الأنواع { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } الشورى29 ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في هذه الآية { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }

{ الكِتَابِ } هنا المراد منه اللوح المحفوظ ،

واللوح المحفوظ كما أخبر ابن عباس عند الطبراني بإسناد حسن كما قال بعض العلماء :

(( أنه من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء عرضه كما بين السماء  والأرض ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في كل نظرة يحيي ويميت ، يرزق  ويعطي جل وعلا ))

فله تدبير سبحانه وتعالى .

{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }

بمعنى أن كل شيء يقع في هذه الدنيا ، ما من متحرك ولا ساكن إلا وقد كُتب { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنعام13، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( وكتب في الذِكر كل شيء ) الذكر / المراد به اللوح المحفوظ ، قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم ( قدَّر الله مقادير الخلائق ) متى ؟ ( قبل أن يخلق السماوات والأرض ) بكم ؟ ( بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ) فإذا عَلمِ ابن آدم بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء فالواجب عليه ألا يحزن على ما فاته وألا يفرح فرح بطر وتكبر وطغيان على ما جاءه { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } يعني من قبل أن نخلق الخليقة { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ{22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } فإذا تعلق قلب ابن آدم بالله سبحانه وتعالى وبالقضاء والقدر هنا لا يحزن ولا ييأس فيما لو أصابه ضُر ولا يطغى حينما يأتيه خير ، لأن البعض من الناس حينما يأتيه خير يطغى { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } وبعض الناس إذا أصابه ضُر يئس من روح الله { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } يوسف87 ، { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } الحجر56، فهذا ضلال وهذا كفر بالله عز وجل .

 

فقال سبحانه وتعالى :

{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }  :

اجتماعنا هنا مكتوب ، جلوسك أنت هنا وهذا هنا وجلوسي هنا مكتوب ، كل شيء قد كتب وقد فرغ منه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) ثم هذه الدنيا يأتي فيها ما يلائم الإنسان وما لا يلائمه ، ما يوافقه وما لا يوافقه ، أحزان ثم أفراح ثم أحزان ثم ينتقل من هذه الدنيا المتقلبة الأحوال إلى الله سبحانه وتعالى ولذا ختم الآية فقال { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } الكل يُحشر ، جميع الأمم بما في ذلك أمة الإنس ، جميع الحيوانات والبهائم والحشرات تُحشر حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها فإذا اقتصت منها قال الله سبحانه وتعالى ( كوني ترابا ) فإذا رأى الكافر مصير هذه البهائم حينما يُقتص منها ثم تذهب ترابا { يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }النبأ40 .

 

إذاً :

مثل هذه الآية ينبغي للمسلم أن يقف معها وقفة وأن يتأمل عظمة الله ، يتأمل قدرة الله سبحانه وتعالى لأن القلب إذا امتلأ بالتفكر والتذكر لله سبحانه وتعالى زاده هذا التفكر إيمانا وتعلقا بالله سبحانه وتعالى فإذا أراد أن يُقدم على ذنب أحجم عن فعل هذا الذنب لأنه يعرف عظمة الله سبحانه وتعالى ، ولذا ماذا قال سبحانه وتعالى عن الكفار ؟ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } يعني ما عظموا الله عز وجل حق عظمته وما عبدوه حق عبادته ، ولذلك ماذا قال بعدها ؟ { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } هذا يدل على قوة وجبروت الله سبحانه وتعالى .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع قلوبنا وألسنتنا وجميع جوارحنا بما نقول ونسمع والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .