تفسير قوله تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين … ) سورة الكهف الآيات ( 83 ـ 99 )

تفسير قوله تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين … ) سورة الكهف الآيات ( 83 ـ 99 )

مشاهدات: 517
تفسير قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا{ 83 }  }
إلى قوله تعالى
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا  { 99 }}
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
تفسير قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا{ 83 }  }
  إلى قوله تعالى 
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا  { 99 }}

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين

أما بعد :

فقد جاءت اليهود إلى رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم وسألوه عن قصة ذي القرنين ، { وَيَسْأَلُونَكَ } أي اليهود { عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ } سمُي بذي القرنين أو وصُف بهذا الوصف إما لأن له قرنين أو لأنه بلغ قرنا الشمس من جهة الغرب ، ومن جهة الشرق ، والقرآن أيها الأحبة في الله لا يقف عند الأسماء لأن العبرة أن يستفيد المسلم حينما يتلو كلام الله سبحانه وتعالى ، فيستفيد مما جاء فيها من العبر

ولذلك أمرنا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة كما جاء عند البيهقي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : (  من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاءت له من النور ما بينه وبين البيت العتيق  )

وفي رواية (  ما بينه وبين الجمعة الأخرى  )

وفي رواية (  كانت له نورا يوم القيامة  )

 لِمَ سورة الكهف بالذات تقرأ في يوم الجمعة ؟

لأن من تأملها وجد أن سورة الكهف تتحدث عن اليوم الآخر ، فمن تمعن في قصصها وفي آياتها وجد أن معظم ما تتكلم عنه الآيات عن البعث والحساب

 ومعلوم أن البعث والحساب يكون في أي يوم ؟

يكون في يوم الجمعة ، ولذا من قرأها جُزي بثواب ما هو هذا الثواب ؟ كانت له نورا يوم القيامة ، ما قدر هذا النور ؟ ما بينه وبين البيت العتيق ، أي ما بينه وبين مكة

 وفي الحديث الآخر (  أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعة الأخرى  )

قال بعض العلماء : ”  إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة استقبل أسبوعه بانشراح صدر للطاعات إلى الجمعة الأخرى “

هذه السورة الكريمة ، فيها قصة ذي القرنين ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } يعني خبرا

 ما قصة هذا الرجل ؟

هذا الرجل عند أكثر العلماء من العلماء ، من عباد الله الصالحين وليس نبياً ، قال تعالى { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } سهل الله سبحانه وتعالى له السير في الأرض حسب ما يريد { وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } أعطاه الله عز وجل من العلم ما يتوصل به إلى مراده حيث ما أراد

فماذا صنع ؟

فأتبع سببا يعني سار ، وسلك طريقا إلى أن بلغ مغرب الشمس

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ }

العين الحمئة هي العين المتغيرة اللون بالسواد ، ووجد هذه الشمس تغرب في عين حمئة يعني في رؤية الناظر ، وإلا فالشمس لا تغرب في هذه العين ، لأن الشمس أكبر منها بكثير

وإنما كما ترى الشمس أحيانا تغرب من وراء الجبل كأن الشمس غربت في الجبل ، فوجد الشمس تغرب في عين حمئة { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } هؤلاء القوم كفار

{ قُلْنَا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا }

أنت مخير بين أن تنزل بهم العذاب والنكال والعقوبة أو أن ترفق بهم وتحسن إليهم بتعليم شرع الله سبحانه وتعالى

{  قَالَ } ذو القرنين { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا } يعني مهما أبلغ الإنسان في تعذيب إنسان آخر ، وأوقع به أعظم النكال والعقوبة فإنه لا يمكن أن يصل إلى عقوبة الله عز وجل بمن أراد أن يعاقبه { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } {الفجر:25} أي لا يمكن أن يعذب أحد أحدا كعذاب الله عز وجل بالكافر ولذلك قال ذو القرنين { وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا }

يعني الجنة ، ثم ماذا صنع ؟

{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } يعني سار ذو القرنين طريقا آخر متجهاً إلى ماذا ؟

إلى شرق الأرض { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } ليس هناك ما يسترهم لا من لباس ولا من بناء ولا من شيء

إما لأنهم يختفون في سراديب أو لهم أمكنة معينه ، ثم يخرجون إذا ظهر النهار ، لكن الشمس ليس بينها وبينهم ستر ووقاية

ثم ماذا قال سبحانه وتعالى {  كَذَلِكَ } ما معنى كذلك ؟

معنى كذلك أنه كما بلغ مغرب الشمس فحكم فيمن لقيهم هناك بلغ مشرق الشمس وحكم فيمن وجدهم هناك

ثم ماذا قال { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } يعني علما ، يعني مهما أعطي الإنسان شيئاً لا يظن أنه بلغ المنزلة العلى لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط به علما وقادر على أن يزيل ما أعطاه ، فلا يغتر أحد لا بصحة ولا بقوة ولا بمال ولا بجاه ، ولا بأولاد

ثم ماذا صنع { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } يعني بين الجبلين ، أتى منطقة  وهذه المنطقة فيها جبلان وبينهما طريق { وَجَدَ  } ذو القرنين { مِن دُونِهِمَا } يعني أمامهما { قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } يعني لا يفهم كلامهم ولا يفهمون كلام غيرهم ، فلما رآى هؤلاء القوم ما لدى هذا الرجل من أسباب القوة اقترحوا عليه اقتراحا

 ما هو هذا الاقتراح ؟

هؤلاء القوم يتأذون من يأجوج ومأجوج ، ومعلوم أن يأجوج ومأجوج قبيلتان لهما من العدد والقوة ما لا طاقة للبشر بهم ، ويخرجون قبل قيام الساعة فلا يمرون ببحيرة أو ماء إلا شربوا  ماءها

وعددهم كبير كثير لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى

ولذلك سموا بيأجوج ومأجوج من تأجج النار ، النار إذا تأججت انتشرت وإذا انتشرت كثر خيرها أم شرها ؟ كثر شرها

فاقترحوا عليه أن يبني لهم سدا بينهم وبين يأجوج ومأجوج حتى يسلموا من إفسادهم لأراضيهم

 ولكن لو قال قائل :

كيف حصل حوار بين ذي القرنين وبين هؤلاء ، مع أن الله سبحانه وتعالى بين أنهم لا يفقهون قولا ، لا يفقون قوله ، ولا يفقه قولهم ؟

قال العلماء كان هناك مترجم يترجم بينهما

ولذلك لو قال قائل :

أهناك دليل على الترجمة ترجمة لغة إلى لغة أخرى ، هل هناك دليل من القرآن فقل نعم واذكر هذه الآية  { قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا } يعني مالًا { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا }

فماذا قال { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } يعني ما أعطاني من القوة والمال خير من جعلكم ومن مالكم ، إنما أفعله ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى

لكن ماذا عليكم { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } فدل هذا على أن الجماعة رحمة وخير وقوة فلم يعمل بمفرده وإنما استعان بغيره ، فدل على أن عمل الجماعة عمل مبارك ، ثم إذا عملت الجماعة وعمل الفرد عملاً عليه أن يعمله بقوة {  خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }

ولذلك ماذا قال لهم { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } يعني سدا منيعا ، فاستجابوا له فأمرهم أن يأتوا بقطع الحديد { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } يعني قطع  الحديد { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ  } يعني وضع قطع الحديد بين الجبلين وأحضرت الأخشاب والأحطاب مما يوقد في النار أمرهم أن يشعلوا النار على الحديد

فماذا قال لهم { انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا } يعني جعل الحديد { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا } من شدة نفخهم أصبح الحديد نارا

{ قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } يعني النحاس ، أذاب النحاس على الحديد  {  فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ } منهم ؟ يأجوج ومأجوج { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } يعني أن يعلوه أن يتسلقوه لطوله ولشدة ملمسه { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } يعني ثقبا ، من شدة سماكته وغلظة حجمه

 ولو قال قائل :

الله سبحانه وتعالى لما ذكر علو السقف قال {  فَمَا اسْطَاعُوا } بدون تاء ، ولما ذكر الثقب والنقب أتى بالتاء ، لأن التاء تدل على القوة يعني يمكن لهؤلاء القوم يأجوج ومأجوج يمكن أن يعلوا هذا السد ، لكن أن يثقبوه يصعب عليهم ، ففرق بين إتيان التاء وبين تركها ، فدل على أن الإتيان بها أشد وأعظم كما قال سبحانه وتعالى في قصة موسى مع الخضر قبل أن يعلم الخضر موسى ماذا قال {  سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا  } أتى بالتاء لأن الأمر عظيم عند موسى ، لكن لما بين له أمر السفينة وأمر الغلام وأمر اليتيمين فماذا قال { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } {الكهف:82} ما أتى بالتاء لأن الأمر خف وهان على موسى عليه السلام ، ثم ماذا قال ذو القرنين { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } توفيق من الله عزوجل أن وفقني لبناء هذا السد حتى تسلموا من شر يأجوج ومأجوج ، قال { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } دكت الأرض دكاً دكاً { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّ  }

{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } منهم ؟ يأجوج ومأجوج يخرجون فلكثرتهم يدخل بعضهم بعضاً كما تتداخل الأمواج

وكذلك تصدق هذه الآية على الأولين والآخرين من البشر يجمعهم الله عزوجل يوم البعث فيدخل الكافر في المؤمن ويختلط الأسود بالأبيض ويختلط بعضهم ببعض إذاً { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا }

وهذه القصة تدل على عظم الله سبحانه وتعالى إذ أتى هذا الرجل ذو القرنين أتى إلى مغرب الشمس وإلى مطلع الشمس ففعل ما فعل ، فالذي أقدره جل وعلا على هذا الفعل يدل على قدرته سبحانه وتعالى إن الله على كل شيء قدير

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .