أما بعد :
فقد قرأنا في هذه الليلة قوله سبحانه :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {208} فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {209} هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ }البقرة210
إذا مرت بك أُخيّ { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فتذكر أربعة أمور :
الأمر الأول :
تذكر قول ابن مسعود رضي الله عنه حينما قال ( إذا سمعت الله عز وجل يقول { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فارع لها سمعك ، فإما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه )
الأمر الثاني :
أن قوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } الإتيان بحرف النداء أبلغ من الأمر وحده ، فلو قال شخص للآخر ( قم ) فإن هذا اللفظ يختلف عن قوله ( يا فلان قم ) فإن قولك ( يا ) يدل على التنبيه ، فكأنك تنبهه لأمر عظيم .
الأمر الثالث :
أن ما بعد قوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فإنه من الإيمان ، قوله عز وجل { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة183 يدل على أن الصيام من مقتضيات الإيمان ومن تمام الإيمان ، إذاً الدخول في السِّلم من مقتضيات الإيمان .
الأمر الرابع :
أن من كان ممتثلا لهذا الأمر وهو من المؤمنين فيراد منه أن يستمر على هذا العمل ، فمن كان داخلا فيه فنودي فكان من جملة المؤمنين يُطلب منه أن يستمر عليه وأن يبقى عليه .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً }
{ السِّلْمِ } يعني الإسلام .
{ كَآفَّةً } أرجح القولين أن على المسلم أن يعمل بجميع شرائع الإسلام الصغير منها والكبير .
وكلمة { كَآفَّةً } لو نظرنا إلى معناها فإن معناها من حيث الأصل من الكفاف ، كأنها تكف شيئا ، ففهم من هذا أن من دخل في دين الله عز وجل فإن هذا الدين يكف عنه الشر في دنياه وفي أخراه .
ثم قال سبحانه تعالى :
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {208} }
دل هذا على أن من خالف شرع الله عز وجل فإنه متبعٌ للشيطان ، وأن من اتبع الشيطان فإن في دينه خللا ، ولذا قال سبحانه وتعالى { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } لم يقل ( خطوة ) فدل هذا على أن مداخل الشيطان كثيرة ، ربما يدخل للعبد عن طريق الشرك ، عن طريق البدعة ، عن طريق الكبائر ، عن طريق الصغائر والاستمرار عليها ، له مداخل قلبية ، له مداخل عضوية ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) وإذا كان الأمر كذلك فإن على المسلم أن يحذر من طرقه ، ولذلك علَّل سبحانه النهي عن إتباع خطوات الشيطان من أنه عدو مبين { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } يعني قد أظهر العداوة وأن عداوته ظاهرة ، ولذلك قال عز وجل { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }فاطر6 ، سبحان الله – لو تعلم أن هناك بشرا من البشر هو عدو لك أتتبعه فيما يقول ؟ أو فيما يأمر ؟ الجواب : لا ، إذاً الشيطان من أعظم أعداء ابن آدم ، فعيه أن يحذر من طرقه ومن مداخله ومن وساوسه .
ثم قال سبحانه وتعالى :
{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ }
الزلة تكون بالقدم ، يقال ” إنسان زلت به قدمه ” وإذا زلت القدم بالإنسان قد يهلك ، أو يتألم ، فدل هذا على أن من خالف دين الله عز وجل فإنه على خطر عظيم ، ولذا قال سبحانه { فَإِن زَلَلْتُمْ }
{ من بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ }
أي من بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات ، دل هذا على أن من عصى الله عز وجل وهو عالم فإنه معرض لوعيد الله عز وجل ، بينما من كان جاهلا لا يدري أن هذا الأمر محرم فوقع فيه لا يُعاقب ، إنما الذي يعاقب ويؤنب هو العالم ، ولذلك قال تعالى بعدها :
{ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
من معاني العزة له سبحانه ” القوة والقهر ” فمن خالف شرع الله عز وجل فليحذر قوة الله وقهره ، لأنه سبحانه وتعالى حكيم يضع العقوبة في مكانها المناسب لها ، ومن عصى الله عز وجل فعاقبه الله عز وجل فهذا يدل على حكمته سبحانه وتعالى ، ولذلك لم يقل ( فاعلموا أن الله غفور رحيم )
كعب الأحبار رحمه الله من كبار التابعين ، وهو من علماء اليهود ، لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، أسلم زمن أبي بكر ، وأتى المدينة في زمن عمر ، وسكن الشام وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنهم ، هذا الرجل وهو كعب الأحبار من علماء اليهود وتنسب إليه مرويات إسرائيلية لكن كثيرا منها لا تصح عنه ، كما قال الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ، وليس له حديث عند البخاري وإنما له حديث عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، الشاهد من هذا أن كعب الأحبار لما أسلم أراد أن يتعلم القرآن ، فعلمه رجل ، فأخطأ هذا الرجل في تعليمه
فلما بلغ قوله تعالى { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هو تعلم هذه الآية من باب أن القرآن يُتَلَقى ويُلقن تلقينا ، فقال لما علمني كان في نفسي شيء منها ، حتى مررت برجل مسلم آخر يقرأ القرآن فقلت له كيف تقرأ هذه الآية ؟ قال أقرآها هكذا { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال نعم هذه هذه )
والذي يقع في الزلل والخطأ عنده ضعف فيما يتعلق بيقينه باليوم الآخر ، لأن أعظم ما يرد النفوس عن الشر هو تذكر اليوم الآخر ، ومن اليوم الآخر تذكر الموت ، ولذا ماذا جاء بعدها ؟
{ هَلْ يَنظُرُونَ }
{ هَلْ } هنا يراد منها النفي يعني ما ينظرون، يعني من تأخَّر في الدخول في دين الله عز وجل والتمسك بشرعه عز وجل ماذا ينتظرون ؟ هل تبقى لهم هذه الدنيا ؟ هل يبقون على ما هم عليه ؟ كلا ، والله إن المرد إلى الله عز وجل طال الزمن أم قصر { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } البقرة96 ، لو عُمِّر آلاف السنين فإن المرد إلى الله عز وجل .
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ وَالْمَلآئِكَةُ }
الله عز وجل يأتي يوم القيامة على ما يليق بجلاله وعظمته ، وهذا الأسلوب يحمل الوعيد والتهديد .
{ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } وهو السحاب الأبيض الرقيق ، والله عز وجل لا يحيط به شيء ، لأن كل شيء محتاج إليه ، فالسماء لا تقله ولا تحمله ولا تحيط به فكيف بهذا السحاب الذي هو أضعف من السماوات ! ولذلك السماوات محتاجة إليه عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا }فاطر41
{ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ }الحج65 ، فهي محتاجة إليه ، ولذلك إذا أراد الله عز وجل خراب هذا العالم ماذا يحصل لهذه السماء ؟
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ }الفرقان25 ، يعني تثور هذه السماء بالسحاب ، كل هذا مقدمة لماذا ؟ لمجيء الله عز وجل ، فالسحاب لا يحيط به عز وجل ، وإنما معنى الآية { فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } يعني مع ظلل من الغمام ، فيكون معنى الآية : يعني ما ينتظر هؤلاء الذين أعرضوا عن شرع الله عز وجل ما ينتظرون إلا أن يأتي الله وتأتي الملائكة ويأتي انقضاء أمر الله ، ولذا قال { وَقُضِيَ الأَمْرُ }
أو يكون المعنى كما قال بعض المفسرين : يعني ما ينتظر هؤلاء إلا أن يأتي الله وتأتي الملائكة في ظل من الغمام وإذا كان كذلك قضي الأمر ، يعني انتهى الأمر فلا رجوع إلى الدنيا ولا توبة ، فأهل النار دخلوها وأهل الجنة دخلوها .
ثم قال عز وجل :
{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } يعني شؤون الدنيا والآخرة ، كل ذلك يرجع إليه عز وجل ، فإليه المصير والمرد { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } وإذا كان الأمر كله يرجع إليه سبحانه وتعالى ، فماذا عليك عبد الله ؟ { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }هود123.
نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا شر أنفسنا ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .