تفسير قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ….) سورة المائدة الآية (8)

تفسير قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ….) سورة المائدة الآية (8)

مشاهدات: 544
تفسير قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ }
المائدة 8 الآية
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
أما بعد فيا عباد الله /
مما تلوناه في هذه الليلة قول الله تعالى  :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } المائدة8
إذا ضممنا هذه الآية مع الآية التي في السورة التي قبل هذه السورة ، وهي سورة النساء ، لخرجنا من ذلك بفوائد : وهي قول الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } النساء135 ، فهاتان الآيتان أمرتا بإقامة الشهادة بالعدل ، وإقامة العدل به قامت السماوات والأرض ، ولا تقوم قائمة لأي أمة من الأمم إلا بالعدل ، حتى ولو كانت هذه الأمة فاجرة كافرة ، ولكنها عادلة فإنها تُنصر ، كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى ، فإنها تنصر على الأمة المسلمة الظالمة – انظروا – لو تقاتلت فئتان ، فئة كافرة عادلة ، وفئة مسلمة ظالمة ، فإن النصر حليف للأمة الكافرة العادلة ، هذا يدل على ماذا ؟ يدل على عظم العدل ، ومن مواضع العدل ، العدل في الشهادة ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } ما الذي بعدها ؟
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } يعني لا يحملنكم
{ شَنَآنُ قَوْمٍ } يعني بغض قوم { عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } هذه آية المائدة ،
والآية التي في سورة النساء
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ }
 إذاً التي في سورة النساء الشهادة في مقام الرضا والمحبة ، والتي في سورة المائدة : الشهادة في مقام البغض والكراهة ، إذاً لا يمكن أن يصل إنسان إلى التقى إلا إذا عدل في الشهادة ، سواء كان المشهود له أو عليه حبيبا لك أو بغيضا لك ، فأنت لا تنظر إلى الشخص ذاته ، وإنما تنظر إلى الحق والعدل الذي أمرك الله به أن تقوم به ، فتقوم به ، سواء كان المشهود عليه حبيبا أو بغيضا ، قريبا أو بعيدا ،
ولذلك قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل ، انظروا { قَوَّامِينَ } على وزن فعالين ، قوَّام على وزن فعَّال ، وهي صيغة مبالغة ، تدل على أن المؤمن ينبغي له أن يكون مبالغا في إقامة العدل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } فإذا جرت قضية من القضايا وتعلم أن الحق مع غيرك فتشهد لغيرك على نفسك ، أو إذا كانت المخاصمة بين والديك وبين شخص آخر فتشهد بالعدل ولو كان الحكم على والديك أو على قريبك ، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا قال كما صح عنه ؟ قال ( ثلاث منجيات ) ذكر من بينها ( العدل في الغضب والرضا )
لا تكون عادلا وقت رضاك عن الشخص فقط – لا – بل يجب عليك أن تكون عادلا في غضبك وفي كرهك ، ولذلك كثير من اليهود لما جرت بينهم مخاصمة وبين بعض الصحابة فاحتكموا إلى بعض الصحابة ورأوا العدل والحق أسلم كثير منهم ، ولذلك ما أنزل الله الميزان إلا لإقامة العدل { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7} } لم ؟
{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{8} } وقال تعالى مبينا أن العدل قرين الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } من أجل ماذا ؟
{  لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } الحديد25
 ولذلك قال تعالى { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } بمعنى أنك لا تشهد على الغني لكونه غنيا فتظلمه ، ولا تحابي الفقير وتشهد معه مع أنه هو الظالم ، فهذا الأمر ليس إليك ، الأمر الموكول إليك أن تقيم العدل ، هذا هو الواجب عليك ، ولذلك قال تعالى { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أنت لا تعطي هذا ولا تمنع هذا ، الله سبحانه وتعالى يتولى الغني والفقير ، الذي عليك أن تقيم العدل { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } يعني لا يمنعكم الهوى من أن تعدلوا ، ولتعلم أن الهوى أشد ما يكون على دين المرء ، ولذلك قال تعالى { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ص26 .
ثم قال تعالى في سورة النساء { وَإِن تَلْوُواْ } أي تحرفوا في الشهادة
{ أَوْ تُعْرِضُواْ } يعني لم تقيموها مع أن الناس بحاجة إليها ، كأن تكون هناك محاكمة أو مخاصمة أو قضية أنت شهدتها ودعيت إلى أن تشهد مع المظلم فأبيت أن تشهد ، فيكون هذا ظلما منك { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } عالم ببواطن الأمور ، أنت يا من علمت بهذه القضية التي حُكم بها على إنسان مظلوم وأنت لك خبرة بهذه القضية ، اعلم بأن الله عالم بكل شيء ، ولذلك قال تعالى في آية المائدة التي معنا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } يعني لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدوا فيهم
والآية التي في سورة النساء : لا يحملنكم فقر إنسان أن تشهدوا معه رحمة به – كلا – لا ينظر إلى هذا ، ولذلك الرحمة التي لا تأتي عن طريق الشرع ليست برحمة حسنة ، ولذلك رحمة المخلوق قد تكون عن جهل ، يمكن أن يرحم الإنسان ابنه فلا يوقظه للصلاة في شدة البرد ، هذه الرحمة محمودة أم مذمومة ؟ مذمومة ، لأنها رحمة ليست عن علم ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله : إن الله سبحانه وتعالى يقرن بين رحمته وعلمه { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا }غافر7 ، لم ؟ لأن رحمه سبحانه وتعالى صادرة عن علم ، إذاً إذا أردنا أن نكون رحماء هذه الرحمة ننطلق منها من الدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ } وكذلك في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ } مما يدل على أن الواجب على المسلم إذا شهد أن يكون قائما بهذه الشهادة ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ } الأمر الأول العدل في الشهادة
ثم قال { اعْدِلُواْ } في كل شيء ، العدل بين الأولاد ، العدل بين الزوجات ، العدل في الحكم بين الناس ، العدل في الحكم بين الموظفين ، كأن أكون رئيسا عليهم ، وعلى هذا فقس { اعْدِلُواْ } إذا عدلت { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فمن أراد التقوى فعليه بطريق العدل ، ولذا قال تعالى { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } من أجل ألا يتكل الإنسان على عدله ، لا يقل إنسان أنا عادل ووصلت إلى التقوى ، ولذلك قال تعالى { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } من أجل أن يكون الإنسان على حذر ، فلا يظن أنه وصل إلى التقوى ، بل يكون بين الخوف والرجاء ، ولذلك في سورة الكهف  { وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } الكهف24 حتى لا يغتر إنسان ويقول أنا وصلت إلى التقوى { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ثم كرر { وَاتَّقُواْ اللّهَ } لما بين أن العدل طريق إلى التقوى أمر بتقوى الله عز وجل في السر وفي العلانية ، ثم قال عز وجل { إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } المائدة8 ، وقال في سورة النساء
{ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } النساء135،
والله أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .