شرح كتاب ( بلوغ المرام )ـ حديث 122
( باب الغسل وحكم الجنب )
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r
{ إِنِّي لَا أُحِلُّ اَلْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٌ }
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَة .
( من الفوائد )
أن هذا الحديث الذي معنا وهو حديث عائشة رضي الله عنها اختلف العلماء في ثبوته ، فمن العلماء – وليسوا بقلة – يرون أن الحديث غير ثابت ، أن مداره على ” أفلت بن خليفة العامري ” ويسمى بـ ” فليت ” قالوا إنه رجل مجهول ، وبالتالي فإن الحديث لا يكون صحيحا ، إضافة إلى ما يعارض هذا الحديث من قوله عز وجل :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ }النساء .
فدلت الآية على جواز دخول الجنب إلى المسجد ، بينما هذا الحديث يمنع دخول الجنب والحائض إلى المسجد ، وكذلك ما جاء عند مسلم ، قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها :
( ناوليني الخمرة من المسجد ، قالت إني حائض ، فقال صلى الله عليه وسلم إن حيضتك ليست في يدك )
ففي سند الحديث هذا الرجل المسمى ” أفلت ” إضافة إلى ما ذُكر من تلك المعارضة للنصوص الصحيحة الصريحة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حُكِم عليه بأنه ضعيف .
وقال بعض العلماء : إن الحديث صحيح ، وممن يصححه ما ذكره ابن حجر رحمه الله هنا قال ” وصححه ابن خزيمة “
ومن المحسنين له ” ابن القطَّان ، والزيلعي في نصب الراية ، وكذلك رواه أبو داود وسكت عنه ، والقاعدة عند العلماء
” أن ما سكت عنه أبو داود في سننه فإنه يعد ثابتا عنده “
وقالوا إن هذا الرجل وهو ” أفلت أو فليت ” قال عنه الإمام أحمد ” لا أرى به بأساً “
فخلاصة القول أن هذا الحديث يدور على حُكمين إما الثبوت وإما الضعف على حسب ما ذكره هؤلاء الأئمة .
فعلى اعتبار ثبوت الحديث فنأخذ منه من الفوائد ما يلي .
( ومن الفوائد )
أن ظاهر الحديث يقضي بأنه لا يجوز للحائض ولا للجنب أن يمكث في المسجد ولا أن يعبر فيه من باب إلى باب ، لأنه عمَّم :
( إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب )
وهذا ما رآه بعض العلماء ، فإذا قيل لهؤلاء ماذا تقولون في الآية التي أباحت المرور ؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ }النساء .
قالوا إن عابر السبيل في الآية هو ” المسافر ” وليس المقصود المار مرورا اعتياديا .
لكن يرد عليهم / أن المسافر ذُكر بعد ذلك في آخر الآية ، وهذا تكرار يصان عنه القرآن .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها :
( ناوليني الخمرة من المسجد ، قالت إني حائض ، فقال صلى الله عليه وسلم إن حيضتك ليست في يدك )
ما الجواب عن هذا الحديث ؟
أنا لم أقف على ما يقولونه نصَّا ، لكنني أفرع على حسب ما أفهمه .
قوله صلى الله عليه وسلم ( من المسجد ) هل متعلق بقوله ( قال ) أم بقوله ( ناوليني ) ؟
وهذا مما يدل على فائدة اللغة العربية في فهم النصوص الشرعية .
لكن من المسجد إن كان متعلقا بقوله ( قال ) فيكون قوله صلى الله عليه وسلم صادرا من المسجد .
وإن كان متعلقا بقوله ( ناوليني ) فإنه يكون خارج المسجد ويأمرها أن تدخل المسجد وتأخذ الخمرة فتخرجها إليه .
والخمرة : بساط ، قال بعض العلماء يكفي سجود الوجه والكفين عليه .
وقال بعضهم : إنه يصلح أن يوصف البساط بأنه خمرة .
وهذا هو الصحيح ، وقد وردت السنة بذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم :
( كان جالسا على خمرة فأتت فأرة فجرَّت الفتيلة فأحرقت هذه الخمرة )
فكون صلى الله عليه وسلم جالساً عليها يدل على أنه ليست مخصوصة بهذا القدر .
قالوا إن كلمة ( من المسجد ) متعلقة بقوله ( قال ) ولا يلزم حينها أن تدخل، والمناولة تكون باليد ، ولا يكون الإنسان داخل إلا إذا دخل برجليه لا بيده ، ولذلك قال :
( إن حيضتك ليست في يدك )
فيقال جوابكم يجاب عنه /
إن المتعلق هنا بكلمة ( ناوليني )
لو قالوا : لماذا رددتم قولنا وصوبتم قولكم وهذا محتمل وهذا محتمل ؟
نقول : صوبنا قولنا لما جاء في حديث ميمونة رضي الله عنها:
( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهن أن يبسطن الخمرة في المسجد وهن حِيَّض ، فتقوم إحدانا فتضع الخمرة في المسجد )
فدل هذا على أن القول الصحيح هنا أن الحائض ممنوعة من المكث في المسجد وليست ممنوعة من المرور ، والدليل ما ذكر من حديث ميمونة رضي الله عنها .
نأتي إلى الجنب “
نقول : شأن الجنب كشأن الحائض يمنع أن يمكث في المسجد ، لكن له المرور بدليل ما جاء في الآية .
لكن الجنب يجوز له زيادة على حال الحائض ، يجوز له أن يمكث في المسجد إذا توضأ ولو لم يغتسل ، لكن لا يمكث بدون وضوء .
والدليل : ما جاء في سنن سعيد بن منصور عن عطاء بن السائب قال :
( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم جنب يمكثون في المسجد إذا توضئوا )
قال ابن كثير رحمه الله ” إسناده صحيح “
لو قال قائل : هل يجوز للحائض أن تمكث في المسجد إذا توضأت كحال الجنب ؟
الجواب / لا ، ما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما : أن الوضوء له تأثير في تخفيف الجنابة ، بينما الوضوء لا يكون له تأثير في تخفيف الحيض .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : هل يجوز المرور ولو من غير حاجة ؟
قال بعض العلماء : يكره له أن يمر من غير حاجة ، فإن وجدت حاجة فلا بأس في ذلك .
وقال بعض العلماء : يباح له المرور سواء وجدت حاجة أو لا .
وقد جاء حديث وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا تتخذوا المساجد طرقا )
وهو حديث ثابت ، وبالتالي فإن خلاصة ما يُقال :
إن الحائض والجنب إذا أرادا المكوث في المسجد ” فيحرم ” إلا الجنب إذا توضأ .
أما العبور في المسجد فيجوز ، ولكن الأفضل ألا يكون إلا لحاجة .
( ومن الفوائد )
أن قوله صلى الله عليه وسلم :
( لا أُحل )
يدل على أن ما هو مصطلح عند الأصوليين ” لا يحل ” أنه يدل على التحريم بدلالة هذا الحديث ، وللأدلة الأخرى :
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ }البقرة 229
( ومن الفوائد )
جاء عند ابن ماجه من حديث أم سلمة رضي الله عنها :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته فقال ” وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد )
كانت البيوت شارعة ، فكانت بيوت بعض الصحابة رضي الله عنهم كانت متوجة إلى المسجد فإذا أرادوا أن يدخلوا دخلوا مباشرة ، فقال صلى الله عليه وسلم :
(” وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد ، فلم يفعلوا رجاء أن تنزل فيهم رخصة ، فلما لم يفعلوا نادى بأعلى صوته فقال :
إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب )
يستفاد من ذلك : أن سبب هذا الحديث هو أن هناك بيوتا مشرعة إلى المسجد .
( ومن الفوائد )
أن حديث أم سلمة رضي الله عنها عند ابن ماجه وردت فيه زيادة :
( إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب إلا عليا وفاطمة وزوجاته )
قال ابن القيم رحمه الله كما في تهذيب سبب أبي داود :
” هذه الزيادة من غلاة بعض الشيعة “ا.هـ
فليست بثابتة وإنما الثابت هو ما امتاز به أبو بكر رضي الله عنه كما صحَّ بذلك الحديث ، قال صلى الله عليه وسلم :
( لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ) وهذا فضل لأبي بكر رضي الله عنه .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : لو أن ساكن المسجد أو أن المعتكف فيه أجنب ؟
نقول : لا إشكال في ذلك ، والواجب عليه أن يبادر بالاغتسال أو أن يتوضأ ليخفف جنابته إن كان ساكانا أو معتكفا ، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام في مصلاه وأراد أن يكبر تذكر أنه جنب ، فقال صلى الله عليه وسلم على رسلكم ، فذهب فاغتسل فأتى ورأسه يقطر ماء )
( ومن الفوائد )
أن حديث أم عطية رضي الله عنها :
( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – في العيد – أن نخرج العواتق والحِيَّض وذوات الخدور ، وليعتزلن الحِيَّض المصلى ) يؤيد منع المرأة الحائض من المكث في المسجد .
هذا إذا اعتبرنا أن مصلى العيد مسجد ، فهنا يتفق مع هذا الحديث .
وبالتالي فإن من اعتبر مصلى العيد مسجدا فإن السنة المتأكدة في حقه أنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين .
والصحيح – والعلم عند الله – أن مصلى العيد ليس بمسجد ، وإنما أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال المصلى خيفة من أن يتلوث هذا المصلى بما قد ينزل منهن لكثرتهن ، ولذلك قالت يا رسول الله :
( إحدانا ليست عندها جلباب ، قال لتلبسها أختها من جلبابها )
فدل على أن وجود الأكسية عندهم قليلة .
وأيضا لأن صورة النساء الحِيَّض في المصلى ولا يصلين والنساء الأخريات يصلين ليس بمناسب ، فكان من الأفضل أن تكون المرأة الحائض بعيدة بحيث يعرف أن بعدها عن هذا المكان إنما هو لعذر قام بها وهو الحيض .
( ومن الفوائد )
يجب أن تصان المساجد وتحترم ، وأما ما يفعله بعض الناس مما قد يحرص على نظافة المسجد نظافة حسية قد يقع في عدم النظافة المعنوية ، بعض الناس إذا دخل المسجد ترك جواله على حاله فيرن فيشغل إخوانه المصلين ، إضافة إلى ما يصحب هذا الرنين من موسيقى أو أغاني ، وبالتالي فإنه لا يكون محترما للمسجد ، فإذا كانت المرأة الحائض وكذا الجنب ينهيان عن المكث في المسجد من أجل هذا الأمر مع أنهما طاهران ، فكيف بهؤلاء ؟
ولذلك من عظمة الإسلام في احترام المساجد أنه منع آكل الثوم والبصل من أن يحضر صلاة الجماعة حتى لا يتأذى منه بنو آدم ، فخليق بالمسلمين أن يعنوا بالمساجد عناية تامة .