( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
متفق عليه .
+ابن حجر رحمه الله ذكر هذا الحديث تحت ” باب الآنية “ لما ذكر رحمه الله الماء وما يتعلق به ، ومعلوم أن الماء سيَّال بطبعه يحتاج إلى ما يحويه وهي الأواني ، ذكر هذا الحديث .
( من الفوائد )
%أن قوله : ( لا تشربوا )
وقوله ( لا تأكلوا )
[ نهي ] وكما هي القاعدة الأصولية :
[ أن النهي يفيد التحريم ما لم يصرفه صارف ]
ولم يصرف هذا النهي صارف آخر .
( ومن الفوائد )
*أن الرسول صلى الله عليه وسلم نصَّ على ” الشرب والأكل ” في هذا النهي ، + فهل يحلق بهما غيرهما من وجوه الاستعمالات؟
كأن يغترف بآنية فضة أو ذهب ؟
أو أن يكتب بقلم فضة أو ذهب ؟
بعض العلماء :
يرى أن النهي شامل للأكل والشرب وباقي الاستعمالات ، لأن الحديث جاء في سياق ذكر الغالب ، فالغالب أن الأواني تستخدم في الأكل والشرب :
[ وإذا جاء النص لبيان الغالب فلا مفهوم له ]
يعني لا يفهم منه أن ما عدا الأكل والشرب يجوز .
وهذا هو رأي ” الجمهور “
ويرى بعض العلماء – ويختاره شيخ الإسلام رحمه الله – أن النهي يخص الأكل والشرب ولا يلحق بهما ما سواهما ، لأن الحديث نصَّ على الأكل والشرب .
ومما يؤكد ما ذهبوا إليه ” قول أنس رضي الله عنه رضي الله عنه كما عند البخاري :
( انكسر قدح النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ مكان الشَّعب سلسلة من فضة )
بل يرى شيخ الإسلام رحمه الله :
” أن الأصل في الفضة الجواز “
ليس جواز الأكل والشرب في آنيتهما وإنما يرى أن الأصل هو الجواز ويستثني منه ما استثناه الشرع ، وهو ” النهي عن الأكل والشرب في أواني الفضة “
لقوله صلى الله عليه وسلم في الفضة :
( العبوا بها لعباً )
ونحن نقول : إن حديث ( العبوا بها لعبا ) له صدرٌ وهو : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( من أحب أن يلبس حبيبه سوارا من نار فليلبسه سوارا من ذهب )
والمقصود بـ ( الحبيب ) هو ( الأنثى )
وذكر أشياء أخرى من التحلق ، إلى أن قال :
( وأما الفضة فالعبوا بها لعبا )
فقوله صلى الله عليه وسلم :
( العبوا بها لعبا ) المقصود ” النساء “
لأن الذهب كان محرما عليهن ، فأباح لهن الفضة فيما سبق ، ثم في نهاية الأمر :
( رفع الحرير والذهب وقال هذا حِلٌّ لإناث أمتي حرام على ذكورها )
والصواب / ما ذهب إليه الجمهور – والعلم عند الله .
( ومن الفوائد )
$أن النهي في مثل هذا الحديث لا يخص الرجال بل يدخل في ذلك النساء ، وأين الدليل ؟
الدليل أنه أتى ” بواو الجماعة “
( لا تشربوا ) ( لا تأكلوا )
و [ واو الجماعة يدخل فيها الذكور والإناث ] عند كثير من الأصوليين .
ولو سلمنا بعدم دخول الإناث فإن القاعدة الأخرى تقول :
[ما ثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء إلا إذا دل دليل يستثني النساء]
فلا يجوز للمرأة أن تشرب وأن تأكل في آنية الفضة أو في صحافهما .
أما لباس الذهب والفضة فحلال لهن كما هو معلوم .
( ومن الفوائد )
*أن قوله صلى الله عليه وسلم
( فإنها لهم في الدنيا )
لا يدل على أنه مباحة لهم ، فلا يفهم منها هذا الأمر ، لم ؟
لأن القاعدة في الأصول تقول :
[ إذا جاء النص لبيان الواقع فلا مفهوم له]
كما قال تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً }آل عمران130 .
هل يجوز أن يؤكل الربا دون أن يضاعف فيه ؟
الجواب : لا .
لو قال قائل : الآية تدل على الجواز ؟
فنقول : إن الآية جاءت لبيان واقع ما كانوا يفعلونه .
ومعلوم – كما هو مرجح في الأصول – أن [ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما هم مخاطبون بأصولها ]
فأكلهم وشربهم في هذه الأواني يزيد من عذابهم في النار .
( ومن الفوائد )
&أن الحديث أطلق عمَّم وأطلق ، فلو أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة خالصة أو مطلية أو مموهة ، فإنه يدخل في التحريم ، بل جاءت رواية :
( أو في شيء منهما )
إلا ما استثناه الشرع وهو الإناء إذا انكسر ، فيجوز أن يضبَّب بضبَّة يسيرة من الفضة ، كما ذكرت لكم حديث أنس عند البخاري
( انكسر قدح النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ مكان الشَّعب سلسلة من فضة )
( ومن الفوائد )
_أن العلماء اختلفوا في حكمة النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة :
فقال بعض العلماء :
إن هذا الفعل يكسر قلوب الفقراء .
وهي علة تُرَدُ بقولنا :
” إن هناك أشياء مباحة لو استعملها الأغنياء كسرت قلوب الفقراء “
وهذا يدعونا إلى مسألة وهي :
” أن ما عدا الذهب والفضة من الأواني فيجوز استعماله واتخاذه ولو كان ثمينا ”
وقال بعض العلماء : إن الحكمة من النهي:
” أن الذهب والفضة تستخدمان في التجارة لكونهما عملتين “
فإذا استعملتا في هذا الأمر قلَّ الكسب والسعي في الأرض للبحث عن الربح .
وهذه العلة تُرَد : لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يأكل أو أن يشرب في أواني الذهب والفضة ، فلو فعل هذا الفعل لكان على طائفة معينة لا تقل فيها الاستفادة من هذين المعدنين .
وقال بعض العلماء :
إن العلة هي “
” التشبه بالكفار “
لقوله صلى الله عليه وسلم :
( فإنها لهم في الدنيا )
فقد وقعوا في هذا ، فلا يفعل هذا الفعل حتى لا يتشبه بهم .
ويجاب عن هذه العلة :
من أن التشبه بالكفار لا شك أن الأصل فيه هو التحريم ، لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود وغيره :
( ومن تشبه بقوم فهو منهم )
ولكن قد يأتي دليل يجيز التشبه بهم .
مثل : قوله صلى الله عليه وسلم :
( صلوا في نعالكم فإن اليهود لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم )
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم
( صلى حافيا )
وقال بعض العلماء – وهو أحسنها وأوجهها – وهو قول ابن القيم رحمه الله :
إن الأكل والشرب فيهما يُضعف التقرب إلى الله عز وجل ، ويقلل من العبودية التي تكون في القلب لله عز وجل ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
( فإنها لهم في الدنيا )
لم ؟
لأنهم خرجوا عن مقتضى العبودية ، فهي داعية صاحبها إلى أن تضعف معه العبادة .
( ومن الفوائد )
&أن الواجب على المسلم أن يعلق قلبه بالآخرة ، لم ؟
لأنها هي دار البقاء ، بينما دار الدنيا دار فناء ، لو استمتع بها وتلذذ بما فيها فإنها زائلة ،ولذلك بيَّن عليه الصلاة والسلام فضل من ترك الأكل والشرب فيهما ، قال :
( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )
________