شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 47 حديث ( 52 ـ 54 )
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن طلحة بن مصرِّف ، عن أبيه ، عن جده ، قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق )
أخرجه : أبو داود بإسناد ضعيف .
( من الفوائد )
هذا الحديث حكم عليه ابن حجر رحمه الله بأنه ضعيف ، وهكذا حكم عليه أئمة – كما قال ابن القيم رحمه الله – لم يثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفصل بين المضمضة والاستنشاق .
وبالتالي فإن ما يفعله كثير من الناس من عوام الناس من أنه يفرد المضمضة بماء والاستنشاق بماء آخر ، فإنه خلاف السنة .
ولكن ليس بمحرم ، لم ؟
لأن الشرع أمرنا بالمضمضة وبالاستنشاق ، فبأي طريقة حصلت هذه المضمضة وهذا الاستنشاق كفى ، لكن إن أتى بما هو ثابت فبها ونعمت ، ولاسيما وأن بعض العلماء يرى أن من السنة أن يفصل بين المضمضة والاستنشاق ، لكن الحديث ضعيف .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( بين ) ظرف مبهم يحتاج إلى شيئين .
لو قلت : ” زيد بين ” مبهم .
لو قلت : ” زيد بين عمرو ” مبهم .
إذاً يلزم أن يكون هناك شيئان .
تقول : ” زيد بين عمرو وخالد “
ولكن أيلزم في اللغة أن تكررها إذا كانت بين هذين الشيئين ؟
لو قلت : ” زيد بين عمرو وبين خالد ”
بعض أئمة اللغة قال ” لابد من تكرارها “
والصواب / عدم ذلك ، ما الدليل ؟
هذا الحديث لو صح ، وما جاء في السنن قوله صلى الله عليه وسلم :
( ما بين المشرق والمغرب قبلة )
قد تشبع الفتحة التي على النون فيتولد منها ألف ، نقول ( بينا )
ويصح أن تأتي بالميم ، فتقول ( بينما )
قلنا ” بين ” ظرف مبهم ” لكن إن أشبعنا الفتحة فتولد منها ألف ، أو أضفنا الميم فإنها تصبح ظرفا للمفاجئة ، ولا نحتاج إلى شيئين .
مثال : ” بينما أنا ألقي الدرس دخل خالد “
يعني تفاجأت بدخول خالد .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث لو صح فإن فيه استحبابا للفصل بين المضمضة والاستنشاق لأمر ، وهو ” المبالغة في المضمضة وفي الاستنشاق “
لأنه إذا خص الفم بماء والأنف بماء كان أبلغ في التنظيف ، ولكن يكون أكثر استعمالا للماء ، بينما لو جمع بينهما ولم يفصل فإن الماء يكون قليلا .
( ومن الفوائد )
” أنه لم يذكر هنا الاستنثار “
وإنما ذكر الاستنشاق ، لأن الاستنثار ليس مطلوبا ، إنما المطلوب هو الاستنشاق ، فالمطلوب إدخال الماء إلى الأنف لا إخراجه من الأنف ، وبالتالي فإن الاستنثار سنة وليس بواجب كالاستنشاق ،إلا في حالة واحدة ” إذا استيقظ من نوم الليل ” لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه )
” عن علي رضي الله عنه – في صفة الوضوء – ثم تمضمض صلى الله عليه وسلم واستنثر ثلاثا ، يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء )
أخرجه : أبو داود والنسائي .
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه – في صفة الوضوء :
( ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده فمضمض واستنشق من كفٍّ واحد يفعل ذلك ثلاثا )
متفق عليه .
( من الفوائد )
” بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم “
إذ نقلوا لنا صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله ، ومن بين هذه الأحوال ” الوضوء ” نقلوا إلينا ذلك نقلا مفصلا ، وهذا يدل على فضل الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى أن من أتى بعدهم عليهم أن يعرفوا لهم قدرهم ومكانتهم ، خلافا لما تفعله الرافضة من الطعن والسب فيهم ، فإن الطعن والسب فيهم هو في الحقيقة طعن في دين الله عز وجل ، لم ؟
لأنهم هم من نقل شرع الله ، فإذا طعن في الرواة والناقلين للشرع ، إذاً لا يُؤْمن على الشرع من هؤلاء ، وبالتالي فإن الحجة التي تدمغ مذهب الرافضة فيما يخص الطعن في الصحابة رضي الله عنهم أن يقال ” إذا طعنتم في الصحابة طعنتم في دين الله ، طعنتم في كتاب الله ، طعنتم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم “
( ومن الفوائد )
أن المضمضة والاستنشاق لها عدة صفات :
من بين هذه الصفات ما ذكر هنا في حديث علي رضي الله عنه ، والمراد هنا على أقوى الاحتمالين :
أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ غرفة من ماء بكفه فيتمضمض ويستنشق في آنٍ واحد دون فصل ثم إذا بالماء المتبقي في هذا الكف يعيده مرة أخرى ويتمضمض ويستنشق ثم بقية الماء الذي يكون في هذا الكف يتمضمض ويستنشق به مرة ثالثة ، فتكون المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات ، ولكن بكف واحد .
وقد يحتمل هذا الحديث أن هذا من باب التكرار ، فعل هذه مرة ثم عاد مرة أخرى ، لكن الاحتمال الأول هو الاحتمال الأقوى الذي يؤيده ظاهر هذا النص .
( ومن الفوائد )
أن الكف ضابطها من أطراف الأصابع إلى الرُّسغ .
والرسغ : هو مجمع العظمين ، العظم الذي يلي الإبهام ، والعظم الذي يلي الخنصر .
فالعظم الذي يلي الخنصر يسمى ” الكرسوع “
والعظم الذي يلي الإبهام يسمى ” الكوع “
والعظم الذي يلي إبهام القدم يسمى ” البوع “
بعض الناس يقول ” لا تعرف كوعك من بوعك ” ويشير إلى المرفق ، وهذا خطأ .
فالكوع هو العظم الذي يلي إبهام اليد .
والبوع هو العظم الذي يلي إبهام القدم .
( ومن الفوائد )
أن الكف : تذكَّر وتؤنَّث “
فيصح أن تقول ” هذا كفٌّ “
ويصح أن تقول ” هذه كفٌّ “
ولهذا أمثلة مثل ” الروح “
تقول : ” خرجت روح فلان “
وتقول : ” خرج روح فلان “
( ومن الفوائد )
استعمال اليمين في المضمضة والاستنشاق ، لكن ( الاستنثار يكون باليد اليسرى )
كما جاء بذلك الحديث عند النسائي ، أنه صلى الله عليه وسلم ( كان يستنثر بيده اليسرى )
وذلك للقاعدة التي قعدها العلماء وذكرناها مرارا :
[ أن اليمين تستعمل فيما هو للتكريم ، وتكون الشمال لما سوى ذلك ]
( من الفوائد حديث عبد الله بن زيد )
أن هذه صفة ثالثة : وهي ” أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كفٍّ واحد يفعل ذلك ثلاث مرات “
بمعنى : أنه يأخذ غرفة من ماء فيتمضمض ويستنشق بهذه الغرفة ، ثم يأخذ غرفة ثانية فيفعل كذلك ، ثم يأخذ غرفة ثالثة ويفعل كذلك ” .
ويحتمل في هذا الحديث / أنه يتوافق مع حديث علي السابق في الاحتمال الأول وهو أنه يتمضمض ويستنشق من كفٍّ واحد “
لكن الاحتمال الأول في هذه الحديث هو الأظهر لأنه نصَّ على الثلاث .
( ومن الفوائد )
أنه لو صح حديث طلحة بن مصرِّف عن أبيه عن جده ، ومطعن العلماء في حديث طلحة لأن جدَّه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم .
فلو صح حديث طلحة فتكون للمضمضة والاستنشاق ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أنه يفصل بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرفات “
وهذا – كما أسلفنا – فيه زيادة في الماء ، ولكن أبلغ في التنظيف ، فتكون هذه الصفة أعلى ، لو صح الحديث .
الصفة الثانية التي تليها : حديث عبد الله بن زيد وهو التوسط ، أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق وإنما يكون ذلك بثلاث غرفات .
الصفة الثالثة : حديث علي ، أنه يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة .
لو قال قائل : هل يتصور ذلك ؟
الجواب / يتصور ، وقد وقع نظيره في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، لما أخبر جابر رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه ( كان يغتسل بالصاع ) قال رجل كيف يغتسل بالصاع ؟
فقال ( لقد كان يكفي من هو أتقى لله منك وأكثر شعرا )
( ومن الفوائد )
أن السنة في حق المسلم متى ما وردت عبادة على وجوه متنوعة أن يفعل هذه مرة وتلك مرة حتى يطبق السنن “
لكن الطريقة الأولى وهي الفصل بين المضمضة وبين الاستنشاق ” الحديث فيها لا يصح .
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله كما في ” زاد المعاد ” يقول :
” ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق بغرفة واحدة وبغرفتين وبثلاث غرفات “
فأفاد ابن القيم رحمه الله أن هناك صفة أخرى رابعة على ما ذكرنا وهي ” أنه يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات ، ولكن بغرفتين “
( ومن الفوائد )
” أن تطبيق السنن المتنوعة له فوائد “
منها : العمل بالسنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ” وينبغي للمسلم في مثل هذا المقام متى ما وردت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها ولو مرة واحدة في عمره ، ولذلك بعض السلف – رحمهم الله – كان بعضهم يحرص على أن يطبق كل سنة ولو مرة واحدة ، فلما سئل ؟ قال حتى أتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم “
فإذا أتيت يوم القيامة تكون من زمرة من فعل هذه العبادات .
ومن الفوائد من تطبيق السنن :
” إحياء السنن ” ولذا لما لم تطرق هذه السنن التي ذكرتها آنفا ، جهلها بعضهم ، لو كانت مطبقة ومشاعة ومنتشرة ما ماتت ، ولذلك لو أن شخصا من عوام الناس سمع مثل هذه الكلام في درس ثم طبَّق ذلك فرآه إنسان قد يكون طالب علم أو ممن يرغب في الخير فقد ينكر عليه لجهله بالسنن .
ومن الفوائد من تطبيق السنن :
” التسهيل واليسر على المكلف ” فقد يكون لدي الماء قليلا ، فأعمل بتلك الصفة ، قد تكون أوساخ عالقة بي في فمي أو في أنفي ، فيكون تطبيق السنة الأخرى التي فيها كثرة الماء أحسن لي ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم – كما مر معنا في السنن قال ( أن من خصال الفطرة ” الاستنشاق ” ) حتى ولو كان في غير الوضوء ، ولذلك قد يحتاج بعض الناس أن يستنشق ، قد يصيب أنفه غبار ، فإن من السنة إذا احتاج إلى الاستنشاق أن يستنشق ولو لم يكن هناك وضوء .
ومن الفوائد من تطبيق السنن :
” استحضار القلب في أداء هذه العبادة “
فإن كثيرا منا يتمضمض ويستنشق على أنه سيتوضأ ، لكن لو أنه طبَّق تلك السنة مرة وتلك أخرى ، فإنه لما يتوضأ يفكر هل أطبق تلك الصفة أو تلك الصفة ؟ وبالتالي يستحضر أنه في عبادة وأنه متأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم .