شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 48 حديث 55
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” عن أنس رضي الله عنه قال :
( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء ، فقال : ” ارجع فأحسن وضوءك ” )
أخرجه : أبو داود والنسائي .
( من الفوائد )
أن هذا الحديث أعله بعض العلماء “
وتعليل بعض العلماء لهذا الحديث لأمرين :
الأمر الأول : ” الطعن في بقية بن الوليد عند أئمة الحديث “
الأمر الثاني : ” أن هذا الرجل المجهول لم يصرح به ، فيكون مجهولا “
وهذا ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله من أن الحديث لا يصح لهاتين العلتين .
فرد عليه ابن القيم رحمه الله فقال :
إن الجواب عن العلة الأولى مردودة ، لم ؟
قال : لأن بقية ” رجل ثقة صدوق ” وإنما نقم عليه لأنه كان يدلس ، ومعلوم أن المدلس لا يقبل حديثه إلا إذا صرَّح به كأن يقول ” حدثنا ” وبالتالي فإنه صرَّح هنا ، فتنتفي هذه العلة .
وأما الجواب عن العلة الثانية : وهي كون هذا الرجل مجهولا : فإنه صحابي ، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تضر ، لم ؟
لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول ، فلا يمكن أن يقدم أحدهم على أن يقول شيئا لم يره أو لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، لم ؟ لأن الله سبحانه وتعالى زكَّاهم ، وبالتالي يكون هذا الحديث ثابتا ، ولذا لما سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله ؟
قال ” هذا إسناده جيد .
ومما يقوي ذلك : أنه جاء عند مسلم من حديث عمر رضي الله عنه ،لكن في صحيح مسلم ليس بمرفوع وإنما هو موقوف على عمر رضي الله عنه ، وعلى كل حال فإن هذا الحديث ثابت .
( ومن الفوائد )
أن الظُفْر : مفرد .
والجمع : أظفار .
وجمع الجمع ” أظافير .
( ومن الفوائد )
بيان أن العضو المأمور بغسله يجب أن يغسل كله ، وألا يبقى منه شيء ولو قلَّ .
وفي هذا الحديث ردٌّ على روايات حكيت عن أبي حنيفة رحمه الله من أنه قال : يجزئ في غسل العضو الربع أو الثلث “
وهذه روايات حكيت عنه ، ولا شك أن أبا حنيفة رحمه الله من أئمة الإسلام وأنه من التابعين الذين أدركوا بعض الصحابة رضي الله عنهم ، وله قدره ومكانته في الإسلام ، وهو رحمه الله أول الأئمة وكان في العراق في الكوفة ، والعلم وقتها لم ينتشر انتشارا واسعا كانتشاره عند الأئمة الذين أتوا بعده كالإمام مالك والشافعي وأحمد ، بل إن الإمام مالك وهو من أهل الحديث تأتي له بعض المسائل ينكرها ، لأنه كما كان يجيب عنه أهل الإسلام من أنه لم يبلغه الحديث ، فيختلف حال زمن الإمام أحمد عن حال زمن أبي حنيفة ومالك ، وبالتالي فإن أبا حنيفة رحمه الله باعتبار أن الدليل لم يصل إليه يذكر آراءً ، فقد يقرأ بعضهم أن أبا حنيفة يخالف نصاً صريحا برئي من عنده ، ليس لأنه يقدم رأيه – لا – لأن ما ينقل عنه رحمه الله من تقديم النصوص الشرعية على رأيه
واضحة ومشهورة ، لكنه رحمه الله لم يبلغه النص ، ثم إنه ابتلي بأصحاب وتلاميذ أتوا بعده كانوا على درجة من التعصب ، فكان بعضهم يطرح الأحاديث مع بلوغها إليه ، لأنني سمعت أن بعضا من الناس في هذا الزمن يقدح في أبي حنيفة ، وهذا – وللأسف – لم يطلع على كلام أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين في فضل هؤلاء الأئمة ، حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله يقول ” إن الأئمة الأربعة من أهل الجنة “
وهذا رأيه رحمه الله وهناك من يخالفه ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( أنتم شهداء الله في أرضه )
وقد انطبق الثناء من الأئمة على هؤلاء .
فكيف يقال في أبي حنيفة رحمه الله هذا القول ، وللأسف هذا لا يصدر من شخص لم يدخل في العلم الشرعي المدخل الصحيح ، بعض الناس يسعى ويجتهد في العلم الشرعي ولكنه يغتر بما يطلع عليه ثم إذا به يقدح في فلان وفي فلان ، ولذلك منهج أهل السنة أنهم يعتذرون للأئمة إذا أخطأوا وإذا زلَّوا ، ولذلك يسميهم العلماء أهل الرأي ، لأن العراق بها مدينتان ” البصرة والكوفة ” هي أشهر مدن العراق ، ومن الغرائب أن من يسكن البصرة اهتموا بالعبادة والزهد ، ولذلك الزهاد معظمهم منهم يقال له ” زاهد البصرة ”
بينما الكوفة ” أهل الرأي ” أهل العلم ، ولكنهم يدخلون آراءهم ، ولذلك على المسلم أن يكون منصفا ، ويعرف لكل إمام قدره ، حتى يسلم قلبه من أن تكون به ضغينة أو حقد على أخيه المسلم فكيف بعالم ؟
( ومن الفوائد )
فيه الرد على الرافضة إذ إنهم إذا توضئوا مسحوا على أعلى أقدامهم وهي مكشوفة “
ففي هذا الحديث ردٌّ عليهم ، لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز عن مثل هذا القدر الذي مثل الظفر .
( ومن الفوائد )
فيه ردٌ على من قال : إنه يجوز أن يمسح على النعال ، فلو كان المسح على النعال مع أنها تظهر أكثر من الظفر – لو كان المسح على النعال جائزا لما كلَّف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يحسن وضوءه .
وما جاء من أحاديث :
( أنه صلى الله عليه وسلم مسح على النعال )
فعلى افتراض صحتها ، لأن بعضا من العلماء يضعفها ، فهي محمولة على نعال بها خفاف ، فيكون صلى الله عليه وسلم مسح على النعال مع الخفاف التي تستر القدم .
( ومن الفوائد )
أنه صلى الله عليه وسلم أمره ( أن يحسن الوضوء )
ما المقصود من إحسان الوضوء ؟ هل المقصود أنه يغسل المتبقي من هذا العضو ؟
بمعنى أنه يغسل ما فاته من القدم الذي هو بمثابة الظفر ، أم أن المقصود أنه يستأنف ويعيد الوضوء من جديد ؟
محتمل أنه أراد أن يغسل هذا القدر ، ومحتمل أنه أمره بالإعادة ، لكن ما هو الفاصل الزمني بين أمره صلى الله عليه وسلم وبين ترك هذا الرجل لهذا الموضع ؟
إن قلنا إنه أمره بأن يعيد غسل ما فاته من هذا العضو ، فإنه فيه دليلا لمن قال إن الموالاة سنة ، وليست فرضا ، ولذلك يقولون لو أنه غسل إحدى قدميه ثم ظل نصف ساعة ولم يحدث وغسل الأخرى صح وضوؤه ، لأن الموالاة سنة .
ولكن الصواب / أن الموالاة فرض من فروض الوضوء ،ويدل له هذا الحديث .
ما وجه الدلالة ؟
وجه الدلالة أنه قال : ( ارجع فأحسن وضوءك )
ولم يقل ” فأحسن غسل قدمك ” فلما قال ( فأحسن وضوءك ) دل على أنه بتركه لهذا العضو أن وضوءه لم يكن حسنا ، والوضوء الشرعي لا يمكن أن يكون وضوءا شرعيا إلا بغسل الأعضاء من جديد .
ويقويه ما جاء عند أبي داود :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا رجلا ترك من قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة ) وهذا دليل على أنه ترك الموالاة وبتركه للموالاة بين أعضاء الوضوء تكون صلاته باطلة لبطلان الوضوء .
وعلى افتراض أن قوله صلى الله عليه وسلم :
( أحسن وضوءك )
المراد منه غسل العضو الذي لم يصبه الماء ، فإننا نقول إن هذا الزمن قصير ، بينما أمره بالعادة للوضوء والصلاة لأن الزمن طويل .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث دليل لما قاله الفقهاء : أن من شروط صحة الوضوء ” إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة “
فهذا دليل لهم ، وأنا لم أرَ أنهم ذكروا ذلك ، لكن مما استوحيته الآن ، ما وجه الدلالة ؟
وجه الدلالة : أن مقصود الشرع الحقيقي أن يصل الماء إلى العضو ، فإن ترك جزءا من هذا العضو لم يصل إليه الماء ، فحاله كحال من وضع طبقة تمنع وصول الماء ، فكلاهما في الحكم سواء ، فهذا بالترك ، وهذا بوضع مادة تمنع وصول الماء إلى البشرة .
ولذلك البوية تمنع وصول الماء إلى البشرة .
المناكير التي تضعها النساء تمنع وصول الماء إلى البشرة .
وليس المقصود هو اللون – لا – ولذلك لو وضعت المرأة حناء ، فإنها لا تمنع وصول الماء إلى البشرة ، فلا إشكال في ذلك .
لو أن الإنسان كتب على يديه بقلم له لون ، فلا يؤثر ، فلا يمنع وصول الماء إلى البشرة .
لكن يغتفر في هذا الباب ما كان يسيرا ، فلو كان هناك شيء يسير يمنع وصول الماء إلى البشرة فلا يؤثر ، مع أن الأكمل أن يزال ، لكن لو كان قليلا فلا بأس به ، مثل قطعة من البوية ، أو قطعة من العجين فلا حرج ، وهناك دليلان على ذلك :
الدليل الأول : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم ) ولم يثبت عنه أنه كان يحركه في الوضوء ، ومعلوم أن الخاتم يمنع وصول الماء إلى البشرة ، فاغتفر في مثل هذا الجانب .
الدليل الثاني : ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يشتغلون بأيديهم وأرجلهم ، وكانت الخفاف والنعال عندهم قليلة ، وكانت هناك أوساخ تجتمع تحت أظافرهم من الأقدام ومن الأيدي ، ومع ذلك ما كانوا يتعاهدونها بالإزالة ، فدل على أن الشرع تجاوز في مثل هذا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .