شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 50 حديث 57
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن عمر – رضي الله عنه – قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ، ثم يقول :
” أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة ” )
أخرجه مسلم .
والترمذي وزاد ( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين )
( من الفوائد )
أن مناسبة ذكره بعد الوضوء مناسبة تامة وظاهرة “
فإنه لما طهَّر أعضاءه الظاهرة بالماء كان من المناسب أن يطهر باطنه بذكر ” شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ”
( ومن الفوائد )
أن ( ما ) هنا ما نوعها ؟ “
في نسخة ” توضيح الأحكام ” التي عندي قال بمعنى ” الذي ” وهي نسخة قديمة .
لكن في الحقيقة ( ما ) هنا نافية ، بدليل إتيان الاستثناء بعدها ، وقد مر معنا أن من أعظم أدوات الحصر الأربع ” النفي مع الاستثناء ”
فيكون في ذلك تأكيد على هذا الذكر والاعتناء به ، وأن من فعل هذا الفعل وقال هذا الذكر فإنه ينال بذلك هذا الأجر .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث في فضله يشمل كل شخص من أهل الإسلام صغر أم كبر ، ذكرا كان أو أنثى “
لم ؟
لأنه قال ( أحد ) وهي نكرة في سياق النفي ، وقد مر معنا مرارا :
[ أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ]
فإذا زيدت عليها ( مِنْ ) كانت أعظم في العموم ، ولذلك أصل الكلام ( ما منكم أحدٌ )
فـ ( من ) هنا زائدة .
و ( أحد ) مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد .
أين الخبر ” الجار والمجرور “
ولهذا نظائر : قال تعالى :
{ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ }المائدة19
لو كان في غير القرآن : ” ما جاءنا بشير ولا نذير “
قوله تعالى :
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ }
لو كان في غير القرآن ” ما زكا منكم أحد “
( ومن الفوائد )
أنه قال هنا : ( يتوضأ )
ما الذي بعدها : ( فيسبغ )
هنا فائدة : وهي ” أن ” الفاء ” ليست للترتيب والتعقيب ” وإنما هي ” للترتيب الذكري “
لبيان صفة هذا الوضوء ( ما منكم من أحد يتوضأ ) ما صفة هذا الوضوء ؟ ( فيسبغ )
فتكون الفاء هنا بيانية أو تفسيرية .
وله نظائر كثيرة منها :
قوله تعالى :
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي }هود45
الفاء ” هنا وضحت المناداة ، لو كانت للعطف ،كيف ينادي ويقول ؟
فالمناداة هي القول ، {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } ما تفسير هذه المناداة ؟
{ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي }هود45
( ومن الفوائد)
أن الإسباغ ” على ثلاثة أنواع :
[ إسباغ واجب – إسباغ مستحب – إسباغ فاضل ]
الإسباغ الواجب : هو أن تسبغ أعضاء الوضوء بحيث تغسل أعضاء الوضوء ولو بمرة واحدة .
الإسباغ المستحب : أن تغسل أعضاء الوضوء ثلاث مرات دون دلك .
الإسباغ الفاضل : أن تغسل أعضاء الوضوء ثلاثا مع دلكها .
وهنا يصدق على أي نوع ؟
النوع الأول .
( ومن الفوائد )
بيان فضيلة إسباغ الوضوء ، وأن من أسبغ وضوءه فقال هذا الذكر فإنه يحصل على هذا الثواب العظيم “
( ومن الفوائد )”
” أن ما ورد من أن هذا الذكر يقال ثلاث مرات “
فإنه لا يصح ، وإنما الوارد مرة واحدة .
( ومن الفوائد )
أن النص المذكور هنا :
أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له “
ورد في رواية أخرى بدون ( وحده لا شريك له ) فلو أن المسلم اقتصر مرة على هذا اللفظ ومرة على ذلك اللفظ ، فإنه طبَّق السنة .
وهذا له نظير : كما في الأذكار التي بعد الصلاة ، تقول ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام )
جاءت رواية ( تبارك ذا الجلال والإكرام ) بحذف ( الياء )
( ومن الفوائد )
” أن هذا الذكر لا يحصل للإنسان فضله إلا إذا نطق به فحرَّك به لسانه وشفتيه “
لأن القول في العرف اللغوي وفي العرف الشرعي ليس المعنى الذي يكون في القلب ، بل لابد أن يتلفظ به .
( ومن الفوائد )
” بيان فضل الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم “
فإنه لا يذكر جل وعلا في الشهادة إلا ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مصداق قوله عز وجل :
( ومن الفوائد )
أن زيادة الترمذي طعن فيها بعض العلماء بالاضطراب ” فلم يروها ثابتة .
بينما المباركفوري والألباني رحمهما الله يرون أنها تعضد بالرواية التي عند الطبراني فترتقي إلى درجة الحسن لغيره فتكون مقبولة .
( ومن الفوائد )
أن زيادة الترمذي زيادة مناسبة من حيث المعنى “
فإنه لما طهَّر قلبه بهذا الذكر ، ناسب أن يدعو الله عز وجل أن يجعله توَّابا متطهرا ،وهذا يدل على أن الإنسان إذا عمل العمل الصالح يدعو الله عز وجل أن يتقبله منه ، وهذا ما تفيده رواية الترمذي ، هو توضأ وقال هذا الذكر ، إذاً ناسب أن يكون هناك دعاء بالقبول .
( ومن الفوائد )
” أن اتفاق المخلوق والخالق في الاسم لا يعني الاتفاق في المسمى ، وأن اتفاقهما في الصفة لا يعني اتفاقهما في الموصوف “
فالله جل وعلا توَّاب ، والعبد توَّاب ، فاتفقا في الاسم ولا يلزم من ذلك أن يتفقا في المسمى .
وهذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام في رسالته ” التدمرية ” وقد مرت معنا في دروس العقيدة .
( ومن الفوائد )
أن ( التوابين ) مفردها توَّاب ، وهي على وزن فعَّال ، ومر معنا في شرح ( الآجرومية ) أن صيغ المبالغة من بينها ما كان على وزن ( فعَّال ) ” غفَّار – قهَّار ” وفي حق المخلوق نقول ” توَّاب ” كما هنا ، يعني أنه مبالغ في الرجوع إلى الله عز وجل .
وهناك فائدة : قلنا إن ” فعَّال ” صيغة مبالغة “
فقوله ( اللهم اجعلني من التوابين ) يعني كثير التوبة .
تأتي ” فعَّال ” للنسبة ، والنسبة تختلف عن المبالغة ، يعني اجعلني من ذوي التوبة “
لا يلزم أن تكون هناك مبالغة ، لكنها على وزن مبالغة أفضل وأتم وأكمل ، ومثل هذه المعاني لا توجد في أي لغة بتاتا {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }يونس58 ، فهذا فضل من الله عز وجل على الأئمة الإسلامية .
( ومن الفوائد )
ورد عند النسائي ذكر آخر وهو : قوله صلى الله عليه وسلم :
( ما من أحد يتوضأ فيقول ” سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ” إلا كتبت في رَقٍّ ) يعني في جلد { وَالطُّورِ{1} وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ{2} فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ{3}
( إلا كتبت في رق ، فطبع عليها بطابع ) يعني بختم ( فلم تكسر إلى يوم القيامة )
فهذا الذكر هو نفس الذكر الذي يقال عند كفارة المجلس ، هو هو ، وبالتالي فعليك أن تقول هذا الذكر أيضا استحبابا .
وهذا الحديث يرى النسائي رحمه الله ” أنه موقوف ” ولو سلمنا على قول النسائي بأنه موقوف ، فإنه في حكم المرفوع حكماً ” كيف ؟
لأن هذا الثواب مما لا يقال بالرأي ، فدل هذا على أن الراوي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن في هذا ذكرا لفضل لا يمكن أن يثبت بالرأي وبالاجتهاد ، وإنما يثبت عن طريق السماع من الشرع .
( ومن الفوائد )
أن ( جعل ) هنا بمعنى صيَّر ( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ) يعني صيرني من التوابين ومن المتطهرين .
( ومن الفوائد )
بيان فضل الشريعة وأنها جاءت بالحث على التطهر ، وأعظم ما يحث فيه في الشرع على التطهر القلبي ، كما أن التطهر البدني الحسي مطلوب شرعا .
( ومن الفوائد )
أن الأحاديث تكاثرت على أن الأعضاء إذا غسلت في ثنايا الذنوب تتساقط الخطايا ، فكان هذا الدعاء المذكور في رواية الترمذي مناسبا
( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين )
( ومن الفوائد )
أن من قال هذا الذكر ما ثوابه ؟
( فتِّحت له أبواب الجنة الثمانية ) ويصح
( فتِحت ) بالتخفيف وبالتشديد ، وبالتشديد أبلغ وأعظم .
( ومن الفوائد )
ما هو نوع هذا التفتيح ؟
إما أن هذا التفتيح هو ” تيسير الله عز وجل وإعانته للعبد على أن يسلك السبل من الطاعات التي بها يدخل أبواب الجنة الثمانية ، فيكون في هذا الذكر إعانة يإذن الله للعبد على أن يسلك سبيل الطاعات .
أو – وهو الأقرب والأظهر – أن الجنة تفتح له تكريما وتشريفا له ، وهذا إن دل يدل على فضل الوضوء ، ويدل على فضل التوحيد ، وإذا فضل الوضوء بالتالي تفضل الصلاة ، فدل هذا على أن أعظم العبادات ” توحيد الله والصلاة “
لأن مفتاح الصلاة الوضوء ، وهذا مما يؤكد على أن من ترك الصلاة حاله كحال من ترك التوحيد ، ومن ترك التوحيد فهو كافر ، كذلك من ترك الصلاة فهو كافر .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : جاء عند البخاري وغيره :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبا بكر – رضي الله عنه – يُدعى من جميع أبواب الجنة الثمانية ، قال وأرجو أن تكون منهم )
أيتفق أبو بكر – رضي الله عنه – في هذه المنقبة مع آحاد المسلمين ممن كان في زمنه أو ممن جاء بعده في هذا ؟
فأين المفارقة ؟
يقال : إن من قال هذا الوضوء تفتح له أبواب الجنة من داخل الجنة ، وليست الأبواب الرئيسية ، كما أشار إلى ذلك ابن حجر رحمه الله إشارة عابرة .
ويمكن – وهو الأقرب والأظهر – أن من يقول هذا الذكر تفتح له أبواب الجنة فقط ، لكن أبا بكر
تفتح له أبواب الجنة ويدعى ، ولذلك في رواية ( تقول خزنة كل باب ” هلم ” ) وفرق بين من يُفتح له الباب ، وبين من يفتح له الباب ويقال له ادخل .
( ومن الفوائد )
ابن حجر رحمه الله لما ذكر البخاري حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( أن من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة )
قال
هذا باب ( الصلاة )
( وأن من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، وأن من كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، وأن من كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة )
قال ابن حجر رحمه الله : ” ولا يبعد أن يكون هناك باب للحج “
وقال ورد عند أحمد – لكنه مرسل – ( أن هناك بابا يسمى بباب الكاظمين الغيظ )
وجاء في حديث الشفاعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن للجنة ) والذين لا حساب عليهم هم المتوكلون ، إذاً هناك ” باب المتوكلين “
وقال جاء عند الترمذي ( باب الذكر )
قال ويحتمل أن يكون هناك ” باب العلم ” ولا شك أن أعظم الذكر هو العلم الشرعي .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .