شرح كتاب ( بلوغ المرام ) الدرس 75 حديث 87
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وعنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا دخل الخلاء قال ” اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )
أخرجه : السبعة .
( من الفوائد )
أن المصنفين إذا ذكروا حديثا وصرحوا باسم الراوي وثنوا بحديث رواه نفس الراوي قالوا ( وعنه )
والضمير هنا يعود إلى من ؟
الراوي في الحديث السابق الذي هو أنس بن مالك رضي الله عنه .
( ومن الفوائد )
أن قوله هنا ( الخلاء ) يؤكد ما يبوب عليه الفقهاء من قولهم ” باب الخلاء ”
وبعضهم يسميه ” باب الاستطابة ” ويدل له ما جاء عند أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه )
وبعضهم يسميه “باب الاستنجاء ”
المهم أن هذه التبويبات استوحيت من الأحاديث .
( ومن الفوائد )
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم في نقل ما يقولوه ويفعله صلى الله عليه وسلم للتأسي .
( ومن الفوائد )
أن ظاهر هذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول إذا دخل يعني وهو في الخلاء لقوله :
( كان إذا دخل الخلاء )
وهذا ليس مرادا ، وإنما يكون هذا الذكر قبل الدخول إلى الخلاء ، فكيف يوجه مثل هذا الحديث وأمثاله كثير ؟
فيه حذف دلَّت عليه القرينة يعني :
( كان إذا أراد دخول الخلاء )
ما هي القرينة ؟
القرينة فعله صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك رواية البخاري في الأدب المفرد ( كان إذا أراد الخلاء )
ونظير هذا قوله تعالى :
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }النحل98
ظاهره أن الاستعاذة تكون عقيب وبعد نهاية القراءة ، وهذا ليس بمراد ، والقرينة هنا فعله صلى الله عليه وسلم ، ففعله عليه السلام والسلام أنه كان يستعيذ عند قراءة القرآن لا بعد الفراغ من القراءة .
والقاعدة الأصولية :
[ أن النص يبقى على ظاهره ]
لأن ضد الظاهر ” المؤول ” وما ذكر من أحاديث هنا مؤولة لوجود الدليل ، لكن إذا لم يوجد دليل وأوِّل النص فلا يكون مقبولا ، بل لا يسمى تأويلا وإنما يسمى تحريفا ، كما قالت المبدعة من الجهمية ومن حذا حذوهم من المعتزلة في قوله تعالى :
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }طه5
قالوا : استولى .
وقالوا في قوله تعالى :
{وَجَاء رَبُّكَ }الفجر22
قالوا : جاء أمر ربك .
ولذلك التأويل منه ما يكون مقبولا ومنه ما يكون مرفوضا .
( ومن الفوائد )
أن رواية البخاري في الأدب المفرد ( كان إذا أراد الخلاء ) يستفاد منها فائدة وهي ” أن هذا الذكر يقال في الصحراء في الفضاء كما يقال في البنيان ” فإذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته فيندب في حقه أن يقول هذا الذكر ولو كان في الصحراء .
( ومن الفوائد )
أن الدلالة عند الأصوليين على ثلاثة أنواع :
[ دلالة تضمن – دلالة مطابقة – دلالة التزام ]
هنا من دلالة اللزوم حتى ينقل إلينا أن رضي الله عنه هذا القول منه صلى الله عليه ، من دلالة اللزوم أنه جهر به عليه الصلاة والسلام ، وإلا لو كان سارَّا به كيف سمعه أنس .
والأصل في أفضلية الذكر أن يكون خفيا :
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً }مريم3
لكن إن اقتضت الحاجة للتعليم ونحوه فيستحب أن يجهر به ، فيكون صلى الله عليه وسلم من باب دلالة اللزوم أنه جهر به .
ولتعلموا أن دلالة اللزوم فيها فائدة عظيمة لطالب العلم في استنباط الأحكام .
مثال / قال عز وجل :
{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }البقرة187
إذا أبيح لنا الأكل والشرب وكذلك ما تقدم في أول الآية من الجماع ، فكون هذا الأمر مباحاً لنا يترتب على ذلك أن الإنسان ربما يجامع في الرمق الأخير من الليل فيخرج عليه الصبح وهو جنب ، وبالتالي يكون صومه صحيحا ولا يشترط في صحة الصوم الطهارة لا من الحدث الأصغر ولا من الحدث الأكبر ، وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها :
( كان يصبح صلى الله عليه وسلم من جماع من غير احتلام فيصوم )
( ومن الفوائد )
أن الحديث صدِّر بـ ( كان ) وهي هل تفيد الاستمرار والدوام أم لا ؟
قولان لأهل العلم ،بعض أهل العلم لا يرى أنها للاستمرار والدوام .
وقال بعضهم : إنها للاستمرار .
والمشهور : أنها للاستمرار إلا إذا دلَّ دليل يخرجها عن ذلك “
فيكون هذا القول منه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستمرار والدوام .
( ومن الفوائد )
أن هذا الذكر ورد بصيغتين :
الأولى : كما هنا ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )
الثانية : بدون اللهم ( أعوذ بالله من الخبث والخبائث )
ومن ثم فإن على المسلم من حيث السنية أن ينوِّع .
وله نظائر – كما يقال بعد الصلاة ( تبارك يا ذا الجلال والإكرام )
جاءت رواية بحذف الياء ( تبارك ذا الجلال والإكرام ) فعلى المسلم أن ينوع .
ويمكن أن يقال : إن الراوي اختصر ، ولكن الصحيح التنويع .
وعلى طالب العلم أن يأخذ هذه القواعد ويطبقها في كل نص يمر عليه ، فما مر معنا في ( كان ) طبقها في كل نص من كتاب أو سنة ، فإن وجد نصَّاً آخر فخير على خير وثالث ورابع وخامس ، وإذا به يجمع حصيلة من المعلومات تحت القاعدة .
( ومن الفوائد )
أن قول ( اللهم ) أصلها ( يا الله )
( يا ) في الأصل أداة نداء ، وقد ترد للتنبيه ، كما في قوله تعالى : { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }النبأ40 ، على أحد وجوخ التفسير في الآية ، لأن ( يا ) لا تدخل على الفعل ولا على الحرف وإنما تدخل على الاسم ، لأن النداء من خصائص الأسماء كما مر معنا في الألفية .
بالجر والتنوين والندا وأل ومسند للاسم تميز حصل
فإذا وجدت حرف النداء ( يا ) دخل على غير الاسم فاحكم على هذه ( الياء ) أنها للتنبيه على قول .
القول الآخر / أنها للمناداة ولكن حذف المنادى .
فائدة : حرف النداء ( يا ) لا تدخل على الاسم المحلى بالألف واللام إلا على ( الله ) فلا يصح أن تقول ( يا الرجل ) أو ( يا المرأة ) فلا يصح ، وإنما إذا أردت أن تدخلها على الاسم المحلى بالألف واللام تأتي في حق الرجل بـ ( أيها ) وفي حق المرأة ( أيتها )
أما كلمة ( الله ) فتقول ( يا الله )
وكذلك عند بعض النحاة ( الاسم الموصول ) فيصح أن تقول ( يا الذي ) أو ( يا الذين ) وهذا عند البعض .
فأصل كلمة ( اللهم ) ( يا الله ) فحذفت ياء النداء وعوض عنها بـ ( الميم ) ولم توضع ( الميم ) في أول الكلمة لكي نبدأ أول ما نبدأ باسم الله تبركا ، وجعلت الميم في آخر الكلمة .
ولماذا عوض عن ياء النداء بالميم دون غيرها من الحروف ؟
قالوا : لأن الميم تدل على ضم الشفتين ( اللهمَّ ) فيكون فيه دلالة على توافق ضم القلب في الذكر مع اللسان .
( ومن الفوائد )
أن معنى ( أعوذ بالله ) يعني ألتجئ إلى الله من شيء أخافه وأحذر منه ، ولذلك تختلف الاستعاذة عن اللياذة ، فالاستعاذة : من شيء تخافه .
واللياذة : من شيء ترجوه .
وهنا المخوف من ماذا ؟ ( من الخبث والخبائث )
( ومن الفوائد )
بيان ضعف ابن آدم وأنه ب حاجة إلى عون وإعانة وحفظ من الله سبحانه وتعالى ولاسيما عند المواطن التي يكثر فيها الشر ، ولذلك الكفار فيما سبق إذا هبطوا وادياً استعاذوا بسيد هذا الوادي من الجن من سفهاء قومه ، لكنهم استعاذوا بقوي أم بضعيف ؟ بضعيف لأنه مخلوق ، ولذا قال عز وجل :
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }الجن6
لكنهم لو استعاذوا بالله عز وجل زادهم قوة وحفظا ، ولماذا يستعيذون إذا نزلوا الوادي ؟
لأن الوادي مكان شر ، وكذلك مكان قضاء الحاجة مكان شر ، ولذا عند ابن ماجه قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن هذه الحشوش محتضرة )
يعني يحضر فيها الشياطين والشر .
( ومن الفوائد )
أنه مر معنا في البلاغة أن البلاغيين يقسمون الكلام إلى قسمين [ خبر وإنشاء ] والخبر عندهم ثلاثة أنواع :
[ خبر ابتدائي – خبر طلبي – خبر إنكاري ]
الخبر الابتدائي : أن تخبر شخصا بأمر يجهله ، فلا يحتاج إلى توكيد .
مثال : لو قلت لشخص ” زيد قائم ” هذا خبر ابتدائي .
الخبر الطلبي : أن يكون المخاطب مترددا ، فيحتاج في مثل هذه الحال إلى أن يؤكد له بمؤكد .
تقول ” إن زيداً قائم .
الخبر الإنكاري : هو أن يكون منكرا لما تخبر به فيحتاج إلى أن يؤكد على سبيل الوجوب .
لكن هنا في الحديث أُكِّد الخبر فهل هناك تردد أو إنكار ؟
لا ، ولذا تأتي الفائدة البلاغية الأخرى التي تقول :
[ إن الخبر قد يؤكد وليس المخاطب منكرا ولا مترددا لتقوية هذا الحكم ]
تقول : ” إن أعظم كلمة هي كلمة التوحيد “
فلا أحد ينكر ولا يتردد ، لكن لماذا أتيت بمؤكد ؟
من باب تقوية الحكم .
وكذلك هنا من باب تقوية الحكم بحيث يستحضر القلب أهمية هذه الجملة .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( من ) لها معاني ، لكن ما معناها هنا ؟
هنا ( من ) بيانية ، لتبيين ما يستعاذ منه ، ما هو الذي يستعاذ منه ؟ ( الخبث والخبائث )
( ومن الفوائد )
أن ” الخبيث ” :
إذا أطلق على المشروب فهو ” الضار “
وإذا أطلق على المأكول فهو ” المحرم “
وإذا أطلق على القول فهو ” القول الفاحش “
وإذا أطلق على ملة فهو ” الكفر “
هذا ما قاله بعض أهل اللغة ، وبالنسبة إلى ” المأكول ” فيه نظر ، لم ؟
لأن الشرع سمى ” الثوم والبصل أنهما من الشجر الخبيث “
( ومن الفوائد )
أن كلمة ” الخبث ” ضبطت بضابطين :
الأول : تسكين الباء .
الثاني : ضم الباء ، ولكل معنى ، وهذا يدل على عظيم اللغة العربية فإنه بتغير حركة واحدة وليس بتغير حرف ، يتغير المعنى تغيرا كاملا .
الأول : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبُث والخبائث )
صار معنى ( الخبُث ) ذكران الشياطين ( الخبائث ) إناث الشياطين ، فتكون الاستعاذة هنا بالله عز وجل من الشياطين الذكران والإناث .
الثاني : التسكين ( اللهم إن أعوذ بك من الخبْث والخبائث)
صار معنى ( الخبْث ) الشر ( الخبائث ( الشياطين )
فتكون الاستعاذة هنا بالله عز وجل من الشر وأهله ، من هم أهله ؟ الشياطين ، ويدخل فيهم الذكران والإناث .
ولذا الأعم ” تسكين الباء “
( ومن الفوائد )
أنه صلى الله عليه وسلم لما استعاذ بالله عز وجل بهذا الكلام قبل دخول الخلاء دلَّ على أن بيت الخلاء ليس محلا لذكر الله عز وجل ، وليس محلا لقراءة القرآن ، وليس محلا لإدخال ما فيه تعظيم لله من أذكار وأدعية ونحوها ، وليس محلا لإدخال المصحف فيه .
ولما يتأمل طالب العلم ، وقد يمر به الحديث ويحفظه ولكنه لا يتمعن فيه ، لكن مع التأمل والتدبر يأتيه نص آخر يدعم ما ذهب إليه ، مرت معنا هذه المسألة في الدرس الماضي وهي ” دخول الخلاء بشيء من الأذكار أو المصحف “
وقلنا إن قوله تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ }الحج30 ، وقوله : {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }الحج32
يدل على هذه المسألة ، هنا هذا الحديث يؤكد ما ذكرناه في هذه المسألة ، ولم تظهر لي هذه الفائدة إلا الآن .
( ومن الفوائد )
أن السنة أتت أن يقال ( بسم الله ) قبل دخول الخلاء ، كما في حديث علي ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا بسم الله )
فهناك سنة قولية منه صلى الله عليه وسلم عند دخوله الخلاء
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : ما هو الخلاء ؟
فيقال هو المكان المعد لقضاء الحاجة ، ولذا الأماكن المخصصة لقضاء الحاجة لها أبواب وهناك مواضئ ، هذه المواضئ لو ذكر الله فيها فلا إشكال في ذلك ، لأنها ليست بيت خلاء .
( ومن الفوائد )
أن ابن حجر رحمه الله قال ” أخرجه السبعة “
ومر معنا ( الثلاثة والأربعة والخمسة ) وبينا هذا .
الثلاثة : المقصود أهل السنة ما عدا ابن ماجه .
الأربعة : المقصود أهل السنن .
الخمسة : المقصود أهل السنن مع الإمام أحمد .
الستة : المقصود البخاري والمسلم وأهل السنن .
السبعة : الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن .
التسعة : الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن ومالك في الموطأ والدارمي .
( ومن الفوائد )
أن ما يقال – وصحيح ما يقال – ( الوقاية خير من العلاج ) لها أصل في السنة ،كما هنا فالذكر وقاية لك وحماية لك بإذن الله عز وجل من ضرر الشياطين ، كما أن الذكر علاج لك من شر الشياطين إذا وقع ، فمما ينبغي لك أن تتوقى شرهم قبل أن يقع .
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله :
” من كان له ورد في يومه لا يتركه فالسحر عنه أبعد إلى غيره “
( ومن الفوائد )
أن من ذكر الله في كل موطن جاءت به الشريعة ولا يدع هذا الذكر في هذا الموطن فإنه كما قال العلماء يحسب من الذاكرين الله كثيرا “
فلو قال قائل : كيف أظفر بأن أكون من الذاكرين الله كثيرا ؟
الجواب / لا تدل دعاء وذكرا وردت به السنة في مقام إلا وقلته ، لو دخلت إلى المسجد فيه ذكر ، خرجت فيه ذكر ، دخلت بيتك فيه ذكر ، خرجت من بيتك فيه ذكر ، ركبت دابتك فيه ذكر ، أتيت أهلك فيه ذكر ، سافرت فيه ذكر ، أردت أن تدخل قرية مسافرا إليها فيه ذكر .
والذاكرون الله عز وجل كثيرا ليسوا على درجة واحدة ، فهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لربه كذكر سائر الأمة ؟
لا ، فكلما زاد العبد كلما زاد خيرا .