الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب )
أخرجه : مسلم
وفي لفظ له ( فليرقه )
وللترمذي : ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ) .
يستفاد من هذا الحديث :
أن كلمة ( طُهور ) بضم الطاء ، المراد منها المصدر الذي هو الفعل ، وأما ( طَهور ) بفتح الطاء ، فيراد منها الآلة الذي هو الماء ، كما يقال في وَضوء ووُضوء ، وسَحور وسُحور ، هذا هو المشهور ، مع أن بعض العلماء يرى أن هذه ا لكلمة لا يصح فيها إلا الضم ( طُهور )
(ومن الفوائد )
أن الإضافة هنا في قوله : ( في إناء أحدكم ) لا يعني أن هذا الحكم يقتصر فيه على الملكية ، فكأن الظاهر منها أن من ملك هذا الإناء يفعل هذا الفعل ، والصواب أن من ملك ومن لم يملك ، فالمستعير للإناء يلزمه هذا الحكم ولو لم يكن مالكا للإناء .
ومن الفوائد )
أن الولوغ : هو تحريك اللسان في الإناء
( ومن الفوائد )
أن فم ولعاب الكلب نجس واستثنى من ذلك العلماء ما صاده الكلب بفمه ، لأن الشرع رخص في ذلك ، فإذا كان كلبا معلما فصاد فلا يغسل هذا المصيد ، قال تعالى { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ }المائدة4 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين لعدي بن حاتم :
( إذا صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل )
ولم يأمره بأن يغسل هذا المصيد .
وهل يلحق ما عدا الفم واللسان واللعاب به أم لا ؟
الصواب / أنه يلحق خلافا لما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذا الحكم مخصوص به فقط اللعاب والفم ، والصواب خلاف ما ذهبوا إليه للقاعدة الشرعية :
[ أن المسكوت عنه قد يكون أولى في الحكم من المنطوق ] فالمنطوق في هذا الحديث الولوغ ، والمسكوت عنه البول والغائط ، فيكون من باب أولى ، كما قال { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا }الإسراء23 سكت عن الضرب ، فهو أولى بالحكم من كلمة { أُفٍّ}
ومن الفوائد :
الجمهور كما نقل شيخ الإسلام رحمه الله على أنه طاهر ، بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عدي بن حاتم أن يصيد بالكلب المعلم ولا تخلو يد عدي من أن يكون رطبة .
وقال علماء آخرون : إنه نجس ، ويمكن أن يوفق بين القولين ، فيقال : ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله صحيح ولكن ليس على إطلاقه في الطهارة ، فلا يأت إنسان ويأخذ شعر الكلب ويستخدمه في أشياء ويقول هي طاهرة ، لكن ما كان في مثل هذه الحال ، وهي حالة المشقة عفا الشرع عنها كما عفا عن غسل الصيد ، فهذه مثل تلك ، أما أن يكون الشعر طاهراً على إطلاقه فلا .
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا لمن قال إن جميع الكلاب تأخذ هذا الحكم فيما لو ولغت في الإناء ، سواء كان كلب صيد أو زراعة أو حراسة أو لم يكن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم ، قال ( الكلب ) وأل من صيغ العموم ، ولم يستثن لا كلب صيد ولا ماشية ولا حراسة ، بينما علماء آخرون نظروا إلى قاعدة فقهية وهي ( المشقة تجلب التيسير ) فقالوا ييسر في هذا الأمر ، فما كان للصيد أو الحراسة أو الزراعة فلا يأخذ هذا الحكم والصواب العموم .
ومن الفوائد :
أن الأمر الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب نسخ ، فكأن فيه إشارة إلى أن هذه الكلاب تبقى ولا تقتل ، وبالفعل نسخ هذا الحكم ولم يبق إلا حكم الأمر بقتل الكلب الأسود لأنه شيطان ، والمراد أنه شيطان كلاب ، فإن في الكلاب شياطين .
ومن الفوائد :
أن نجاسة الكلب نجاسة مغلظة ، لأن النجاسة ثلاثة أنواع
نجاسة مغلظة وهي نجاسة الكلب ويلحق بها الخنزير على رأي الحنابلة ، يقولون إن الخنزير يأخذ حكم الكلب ، بل هو أشد من الكلب ، ولكن الصواب أن الخنزير لا يأخذ هذا الحكم ، لم ؟ لأن الخنزير كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض له بحكم ، فدل على أن نجاسة الخنزير كسائر النجاسات .
نجاسة المخففة ، وهي بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، وألحق بعض الحنابلة قيء الطفل الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، وسيأتي له حديث إن شاء الله ، والصحيح أن القيء في حكم النجاسة المتوسطة .
نجاسة متوسطة ، ما عدا هذين النوعين ، وهي تغسل ومتى ما زالت النجاسة زال حكمها .
ومن الفوائد :
أن بعض العلماء لم ير سبع غسلات ، لم ؟
لأن أبا هريرة رضي الله عنه راوي الحديث قد أفتى بأن تغسل ثلاثا .
فيجاب عن هذا / بأن الحكم الصحيح الوارد عن أبي هريرة أنه أفتى بسبع .
قالوا وردت رواية ( فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا ) فالتخيير يدل على أن التسبيع ليس واجبا .
فيجاب عن هذه الرواية بأنها ضعيفة ، فيبقى الحكم على وجوب التسبيع
ومن الفوائد :
أن نجاسة الكلب إذا وقعت على الأرض تأخذ حكما غير هذا الحكم ، كما نص على ذلك فقهاء الحنابلة ، فمتى ما وقعت نجاسة مخففة أو متوسطة أو مغلظة على الأرض وما يتصل بها من صخور ونحوه فإنها تغسل غسلة واحدة تزيل عين النجاسة ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي وصب على بوله ذنوبا من ماء .
ومن الفوائد :
قالوا لأن رواية التراب مضطربة مرة ( أولاهن ) ومرة ( أخراهن ) ومرة ( إحداهن ) ومرة ( عفروه الثامنة بالتراب ) فهي مضطربة ، والاضطراب ضعف في الحديث ، فهذه الكلمة ضعيفة .
والجواب / أنها ثابتة ، لأن الاضطراب ولا شك ضعف في الحديث ولكن متى ؟ إذا تساوت الروايات كلها في الدرجة ، أما إذا كانت إحدى الروايات أرجح من الأخرى لكثرة روايتها أو لأن الشيخين رووها ، فتكون مقدمة ، فتكون الرواية المقدمة ( أولاهن ) أما ( إحداهن ) تحمل على (أولاهن ) والإشكال في ( أخراهن ) فهي مردودة فالصواب أن التراب لابد منه ، ولذلك أثبت الطب أن في لعاب الكلب أمراض فتاكة ودودة شريطة تفتك بمعدة الإنسان ، ولا يفتك بها إلا التراب .
إذاً / لو قال قائل : أيمكن أن يغني عن التراب شيء آخر ؟ لأن هناك مطهرات أعظم ؟
الجواب / أن ما سوى التراب لا يغني ، لم ؟ لأن الحديث نص عليه ، ولأن السدر وما شابهه مثل القرظ كان موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشر إليه ، لكن متى يعدل إلى غير التراب ؟
قال العلماء : إذا عدم التراب ، فإذا عدم التراب أصبح الحال حالة اضطرار ، ومع الضرورة فإن الجراثيم الفتاكة لا تضر بابن آدم [ ما ارتفع ضرره شرعا ارتفع ضرره قدرا ] ولذلك فالميتة فيها من الجراثيم العظيمة لكن إذا كان الإنسان في حالة اضطرار فأكل منها بقدر ما يسد رمقه فإنها لا تؤثر فيه .
الحالة الثانية : ذكرها ابن قدامة رحمة الله نقلا عن بعض أئمة الحنابلة ، من أن التراب يستغنى عنه مع وجوده إذا كان التراب يفسد الإناء ، فلو كان الإناء متشققا ووضع فيه التراب لتسرب التراب في شقوقه ففسد ، هنا يعدل عن التراب .
والصواب / أن هذا القول في محله ، لكن متى ؟ إذا لم يكن هناك إناء آخر ، إما إذا كانت هناك آنية أخرى فإنه لا يلتفت إلى هذا الإناء ولا يكون هذا الحكم ثابتا ، لأنه إذا كان لا يوجد إلا هذا الإناء أصبحنا في حالة ضرورة .
ومن الفوائد :
أن هناك رواية عند مسلم :
( وعفروه الثامنة بالتراب )
بعض العلماء ردها ، لم ؟ قال لأنها أتت بغسلة ثامنة ، ولكن النووي رحمه الله يقول هي ثابتة ، وإن استطعنا أن ننأى بالرواة الثقات عن التغليط فلنفعل ، فقال تحمل هذه الرواية على أنه عد التراب ضمن غسلة كأنها غسلة أخرى ، لكن التراب يخلط مع الماء ، فكأن التراب وحده صار غسلة .
لكن المشكلة فيها أنه قال ( الثامنة )
ومن الفوائد :
أن التعفير بالتراب مطلق ، إما أن يوضع التراب في الماء ، أو يوضع التراب ثم يوضع الماء ، فهي مطلقة ، لكن الفقهاء قالوا : لو أنه نثر التراب نثرا ، فإن المقصود لا يحصل ، فلابد من التتريب .
ومن الفوائد :
أن لفظة : ( فليرقه ) فيها دليل على أن فم ولعاب الكلب نجس ، فنجاسة لعابة أثرت في الماء ، ومن ثمَّ أخذ بعض العلماء الذين قالوا بأن الماء اليسير ينجس استدلوا بهذه الرواية ، فهي تعضد ما ذهبوا إليه ، وقد مر معنا حديث بئر بضاعة ، فيقولون ما دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة ينجس تغير أو لم يتغير كما هنا ( فليرقه ) وأطلق تغير أم لم يتغير .
والجواب عن هذا / أن بعض العلماء كما نقل ذلك ابن حجر كما في الفتح ، أن بعض العلماء رد هذه الرواية وقال إنها ضعيفة .
وآخرون أثبتوها لأنها في مسلم ، فما هو جواب من يرى أن ما دون القلتين لا ينجس إلا إذا تغير ؟
أن هذه الإراقة ليس المقصود منها النجاسة ، فقد تكون هناك أمور أخرى مثل الجراثيم وما شابه ذلك تؤثر في هذا الماء ، ولذلك مما يؤكد أن النجاسة ليست مقصودة من الإراقة وإنما مقصود آخر ، أنه قال ( في إناء أحدكم ) ربما يكون الإناء كبيرا ، فيكون الأمر بالإراقة مطلقا في أي إناء ولغ فيه الكلب .
وبعض العلماء قال : إن الأمر تعبدي في التتريب والإراقة ، لكن كلمة تعبدي لا يجنح إليها إلا إذا لم نجد حكمة ، لأنه لا يمكن أن يأمر الشرع بأمر أو ينهى عن شيء إلا وله حكمة ، لأن الأحكام الشرعية أتت بجلب المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خفيت علينا الحكمة هنا نقول تعبدي .