شرح كتاب التوحيد ( 1 ) شرح ( مقدمة كتاب التوحيد )

شرح كتاب التوحيد ( 1 ) شرح ( مقدمة كتاب التوحيد )

مشاهدات: 518

مقدمة كتاب التوحيد

 ( الجزء الأول والثاني )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وهذا هو رابط هذا الدرس على القناة العلمية الصوتية للشيخ :

 

1 ــ رابط الجزء الأول :

https://www.youtube.com/watch?v=cMlchxGe8zg&list=PLLqPd_eY0IBM6kO0TRJOVvrp3H7mmLbbz&index=1

2 ـ رابط الجزء الثاني :

https://www.youtube.com/watch?v=Iu_xdL433cg&index=2&list=PLLqPd_eY0IBM6kO0TRJOVvrp3H7mmLbbz&spfreload=10

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد :

فهذه الفوائد التي بين أيديكم هي عبارة عن فوائد على كتاب التوحيد، وهذه الفوائد معظم ما فيها يتعلق بالعقيدة، وإن كانت هناك بعض الفوائد ليست في العقيدة لكن الصبغة الكبرى لها تتعلق بالعقيدة،ولذلك أسماها من أسماها بـ «القول الفريد فوائد على كتاب التوحيد» وهذه الفوائد ألقيتها في رحلة مع بعض الطلاب في سفرة لنا إلى المدينة النبوية في غضون يومين، وكانوا على قدر من العزم والجهد، وليس هذا الجهد جهداً مني فقط، فلولا الله ثم حرص هؤلاء الطلاب ما أنهيت في مدة يومين، وكان الشرح في السيارة في الطريق، وفي المسجد النبوي، وفي مقر السكن حتى تيسَّر تسجيلها كلها في غضون يومين، وكان ذلك عام 1426هـ ، يعني قبل تسع سنوات، ثم فُرِّغَت من قِبل بعض الطلاب فكتبت وقرئت عليَّ أكثر من مرة وروجعت، وهناك من يقرؤها من الشباب في جلسات؛ لأنهم رأوا فيها سلاسة العبارة، فهي ولله الحمد واضحة، ثم علمت أيضاً أن بعض الأخوة من أئمة المساجد يقرؤها على المصلين بعد الصلاة، فظلت هذه الفترة وهي حبيسة الأوراق، لكن طُلب مني بعد إلحاح أن تكون في كتاب حتى يتيسر تداولها، وأهم ما يعنى به الإنسان في حياته كلها هو التوحيد، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الآراء الفاسدة وكثرت فيه الطوائف وما يكيدون به لأهل السنة من الدسائس وتشتيت أذهانهم وإيقاع الاضطراب والشك في قلوبهم.

فنشرع بتوفيق من الله عز وجل بذكر فوائد مختصرة على كتاب التوحيد الذي هو حق الله عز وجل على العبيد، لشيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب, المولود سنة  [1115هـ] ، وهذا الإمام قد أعطاه الله عز وجل ذكاءً ثاقباً، وقدرة على الحفظ ومصابرة عليه، وقد نشأ في أحضان أسرة متعلمة ، ورحل رحمه الله  في طلب العلم إلى أماكن متعددة، فظفر من علمائها بعلم نافع ، وأكثر من استفاد منه استفاد من كتب شيخ الإسلام رحمه الله ، فنشر العقيدة السليمة الصحيحة حتى عَمَّت أرجاء نجد، وانتقلت من نجد إلى سائر أقطار الدنيا، حتى وافته المنية سنة  [1206هـ] ، فقد عاش رحمه الله  [إحدى وتسعين سنة]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كتـاب التوحـيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــ

 

هذا هو الباب الأول الذي ذكره الشيخ  رحمه الله :

 من الفوائد على عنوان هذا الباب :

1ـ أن المؤلف رحمه الله لم يصدره بخطبة ، ولعلَّ ذكر الآية وما جاء بعدها من نصوص تدل على ذلك.

فكأنه يقول: هذا مؤَلَّفٌ في كتاب التوحيد، وهذا شأنه رحمه الله في بعض الأبواب لا يذكر عنواناً ، وإنما يقول: «باب قوله  عز وجل … » ونحو ذلك.

2ـ أن التوحيد ينقسم إلي ثلاثة أقسام :

أولا :  توحيد الربوبية :

وهو توحيد الله عز وجل بأفعاله كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة وإنزال الغيث ونحو ذلك مما يتعلق بأفعاله عز وجل ، فلا يجوز أن يُزعَم بأن هناك خالقاً غيرَ الله،أو أن هناك رازقاً غيرَ الله ؛ فمن اعتقد ذلك فإنه كافر مشرك بالله عز وجل  شركاً أكبر في توحيد الربوبية.

ثانياً: توحيد الألوهية :

وهو توحيد الله عز وجل  بأفعال العباد كـ [الصلاة والنذر والذبح والدعاء والاستعانة والاستغاثة] ونحو ذلك من سائر العبادات، فمن صرف عبادةً لغير الله عز وجل  فقد أشرك به شركاً أكبرَ في توحيد الألوهية.

ثالثاً : توحيد الأسماء والصفات :

وهو أن يعتقد المسلم أن لله عز وجل  أسماء وصفاتٍ، ومع ذلك الاعتقادِ يجب أن يمتثل وأن يسير على طريقة أهل السنة والجماعة بأن يثبت ما أثبته الله عز وجل  لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، وأن ينفي ما نفاه الله عز وجل  عن نفسه من الأسماء والصفات، أو ما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يسكتَ عمَّا سكتَا عنه.

وبعض العلماء يقسم التوحيد إلى قسمين ؛ كابن أبى العز الحنفي رحمه الله فيقول التوحيد نوعان :

1ـ  توحيد المعرفة والإثبات ، ويدخل في ذلك توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.

2ـ توحيد القصد والطلب ، ويدخل في ذلك توحيد الألوهية.

وهذا الكتاب قد احتوى على هذه الأقسام الثلاثة من أقسام التوحيد، لكنه في توحيد الألوهية أظهرُ من غيره.

أما النصوص التي ذكرها الشيخ رحمه الله تحت هذا الباب :

فقوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات56].

 من الفوائد تحت هذه الآية :

1ـ ذِكْرُ الحكمةِ من خلق الله عز وجل  للإنس والجن، وأنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته.

2 ـ أن تعريف العبادة أشملُ ما قيل فيه هو قول شيخ الإسلام رحمه الله: هي   «اسم جامع لكل ما يحبه الله عز وجل ، ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة»  فكلُ قولٍ كقول: «سبحان الله» أو كلُ فعل كـ «الصلاة» مثلاً فإن الله عز وجل  يحبه، وإذا أحب شيئاً وارتضاه فإنه من العبادة، فيكون هذا المرضي، وهذا المحبوب عند الله عز وجل  لا يجوز أن يصرف لغيره سبحانه وتعالى .

3 ـ أن في هذه الآية قصراً للعبادة على الله عز وجل  ، ثم فيها قصراً آخر، وهو: أن العبرة من خلقه عز وجل   والمقصودَ من إنشائه للخلق أن يعبدوه ؛ ولذا كانت أولَ آيةٍ في القرآن تأمر بالعبادة، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21﴾  [البقرة21].

4 ـ أن الله عز وجل  قد تكفَّل برزق عباده، وكلما كان العبد أطوع وأعبد له عز وجل  كلما كان رزقه واسعاً ، فلا ينشغل أحد بالرزق عن عبادته،ولذا قال تعالى بعد هذه الآية : ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ75﴾  [الذاريات].

5 ـ إثبات صفة الخلق لله عز وجل  في قوله: ﴿خَلَقْتُ﴾

ولا يدخل داخل فيقول: إن الله عز وجل  قال: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ14﴾ [المؤمنون14]  فهذا الخلق منسوب إلى المخلوقين؟ فنقول: إن هذه النسبة ليست خلق إيجاد بمعنى أنها ليست إيجاداً من عدم ، وإنما هو تحويل شيء خلقه الله عز وجل  لأنه قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾  [الزمر62]  فالمخلوق حينما يخلق شيئاً إنما يأخذ هذا الشيء الذي خلقه الله عز وجل  ابتداءً، ولذا صح عنه عليه صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله خَالِقُ كُلِّ صَانعٍ وصَنْعَتِه»

6 ـ أن الجن مأمورون بعبادة الله عز وجل  فهم يستوون مع الإنس في أصل الأمر بالعبادة، وإن كانت هناك تكاليف قد يختصُّون بها دون سائر الإنس.

7ـ أن أمر الجن بعبادته عز وجل  يدل دلالة واضحة على أنهم لا يعلمون الغيب، ، ومن اعتقد أنهم يعلمون الغيب فقد كفر بالله عز وجل  ؛ قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ  إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ65﴾  [النمل65].

وقال تعالى: ﴿عالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً 26 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾  [الجن: 27] وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ 14﴾  [سبأ14].

8 ـ أن ابن القيم رحمه الله  قال: إن من أسباب قسوة القلب أن يُكثر العبد من مخالطة الناس، فالبعض يخالط الناس للأُنْسِ بهم كما تدل عليه كلمة ﴿اَلْإِنْسُ﴾ لأن بعضهم يأنس ببعض، لكن الواجب على كل مسلم ألا يكون وقته كله مع الناس، فإن ذلك مما يقسي القلب، وأعظم الأُنسِ أن يكون المسلم آنساً بذكر ربه عز وجل .

9 ـ أن الله عز وجل  لم يذكر بقية المخلوقات ؟

والجواب: لأن الجن والإنس مكلَّفون بينما الملائكة فقد ذكر الله عز وجل  عنهم في آيات كثيرة أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون قال تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ38﴾  [فصلت38]  أما بقية المخلوقات ما عدا الملائكة فقد قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً 44﴾  [الإسراء44].

10 ـ أن العبودية ثلاثة أنواع :

النوع الأول: عبودية عامة، وهي لجميع الخلق بمعنى أنهم متذللون منقادون لله عز وجل  قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً93﴾ [مريم93]،  وقال تعالى﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 83﴾ [آل عمران83].

النوع الثاني: عبودية خاصة، وهي عبودية المؤمنين، قال تعالى : ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾  [الفرقان63].

النوع الثالث: عبودية خاصة الخاصة، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾  [ص41]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾  [ص45].

وهذا بخلاف تقسيم الصوفية الذين يقولون إن العبادة ثلاثة أنواع :

النوع الأول: العبودية العامة: وهو قول: لا إله إلا الله.

النوع الثاني: العبودية الخاصة: وهي أن يُتعبد بتكرار كلمة الله الله  الله.

النوع الثالث: عبودية خاصة الخاصة وهي كلمة  «هو»  وذلك أن يقول: «هو هو هو»  وهذا من العجب أن يجعلوا « لا إله إلا الله » هي عبودية العامة كيف وموسى عليه السلام – كما سيأتي –  لما قال لربه عز وجل : (علمني دعاءً أدعوك وأذكرك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله ) فإن دعوة الرسل هي قولهم: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾  [الأعراف59]

 

ثم ذكر المؤلف رحمه الله  قوله تعالى: 

﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾

[النحل36].

مما يستفاد من هذه الآية :

1ـ أن المؤلف رحمه الله  أحسن في الترتيب، لأنه لما بيَّن الحكمة من خلق الجن والإنس كما في الآية السابقة، بيَّن الحكمة من إرساله للرسل، وأنهم أُرسلوا للدعوة إلى التوحيد، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ25﴾ [الأنبياء25].

2 ـ أن توحيد الألوهية هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أما توحيد الربوبية فقد كان الكفار يُقِرون به، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ87﴾  [الزخرف87].

3 ـ أن قوله:﴿وَلَقَدْ﴾ مؤكدة بثلاثة توكيدات، وهي  [اللام – والقسم المقدر – وقد] ففيه توكيد بأن الله  عز وجل  قد بعث في كل أمة رسولا.

4 ـ أن معنى قوله: ﴿بَعَثْنَا﴾ أي أرسلنا، وكلمة البعث توحي بالحياة، وذلك بأن من أطاع الرسل عليهم الصلاة والسلام فإنه في حياة، قال تعالى:﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ بهذه الرسالة ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ122﴾  [الأنعام122].

5 ـ أن الله  عز وجل  بعث في كل أمة رسولا.

6  –  أن الأمة ترد في القرآن على أربعة معاني:

المعنى الأول: الجماعة كما هنا.

المعنى الثاني: الزمن، كقوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾  [يوسف45]. يعني بعد زمن.

المعنى الثالث: الملة والعقيدة، قال تعالى عن الكفار ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف22].

المعنى الرابع: الإمامة، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾  [النحل120]  يعني إماماً يُقتدى به.

7- أن أهل الفترة أشار الله عز وجل  إليهم في قوله تعالى:

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 19﴾  [المائدة: 19].

وهذه الفترة التي بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام اختلف العلماء في تحديدها بالسنين:

والصحيح ما جاء في صحيح البخاري عن سلمان رضي الله عنه، قوله: «فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ».

وهذا قول صحابي مما لا مجال للرأي فيه، فيأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

 وقد اختلف العلماء في أهل الفترة  : هل هم في النار لكفرهم أم أنهم معذرون لعدم مجيء رسول لهم؟

قال بعض العلماء: هم في النار لكفرهم ويستدلون على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة:

فالأدلة من الكتاب: قوله تعالى:  ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾  [المائدة: 72].

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا 48﴾  [النساء: 48].

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161﴾  [البقرة: 161].

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ 91 ﴾  [آل عمران: 91].

وهذه آيات عامة وهي كثيرة.

وأما الأدلة من السنة:

ما جاء في صحيح مسلم: «أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِى ؟ قَالَ « فِى النَّارِ» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ «إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ» ومنها ما جاء عند مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي»

فدل على أنها كافرة ومصيرها النار.

والدليل قوله تعالى : ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ 113﴾  [التوبة- 113]

ومن الأدلة أيضا:

وهي أدلة نظرية مبنية على نصوص، فهذا الدليل يقول: «إن هناك بقايا لدعوة الرسل السابقين كإبراهيم عليه السلام وغيره ، ولذا كانت قريش تحجُّ البيت، وكانت تصوم عاشوراء» كما في صحيح البخاري.

ويدل لهذا : أن ورقة كان على دين النصارى، وقد قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾  [هود: 116].

فدل على أن هناك  بقايا من دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»

القول الثاني: أنهم معذورون:

ولهم أدلة:

من بينها قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 15﴾ [الإسراء- 15]

فحكمته البالغة تأبى أن يعذب أحداً من غير إرسال رسول:

ولذا قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ وكلما: تفيد العموم في الأزمان.

﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ يعني النار ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ 8 قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ 9﴾  [الملك: 8، 9]

فدل على أن عدم مجيء الرسول عذر يعذر به .

ومنها قوله تعالى :  ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾  [النساء: 165].

والقول الأول يختاره النووي رحمه الله.

والراجح: أن القاعدة الشرعية تقول:

[ إن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وأنه متى ما أمكن الجمع بين الأدلة فلا يسار إلى غيره إلا عند التعذر] ولا تعذر هنا، وإمكان الجمع هنا متيسر، وهو أن يقال:

إن أهل الفترة يجرى لهم اختبار يوم القيامة وحقيقة هذا الاختبار: أنه قد جاء في مسند الإمام أحمد: أنه صلى الله عليه وسلم قال:

«أرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوّمَ القِيامَةِ رَجُلٌ أصَمُّ لا يَسْمَعُ شَيْئاً وَرَجُلٌ أحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ ماتَ في فَتْرَةٍ فأَمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جاءَ الإِسْلامُ وما أسْمَعُ شَيْئاً وأمَّا الأَحْمَقُ فَيَقُولُ رَبِّ جاءَ الإِسْلامُ وما أعْقِلُ شَيْئاً والصِّبْيانُ يَحْذُفُونَنِي بالبَعَرِ وأمَّا الهَرِمُ فَيَقُولُ رَبِّ جاءَ الإِسْلاَمُ وما أعْقِلُ شَيْئاً وأمَّا الَّذِي ماتَ في الفَتْرَةِ فَيَقُولُ رَبِّ ما أتانِي لَكَ رَسُولٌ فَيأْخُذُ مَواثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسَلُ إلَيْهِمْ أنِ ادْخُلُوا النَّارَ فَمَنْ دَخَلَها كانَتْ عليهِ بَرْداً وَسَلاماً ومنْ لَمْ يَدْخُلْها سُحِبَ إلَيْها»

فيكون هذا الحديث فاصلا في المسألة .

وأما ما ذكره من قال: إنهم لا يعذرون، نقول:

إن قوله عز وجل :  ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا 48﴾  [النساء: 48]

وقوله عز وجل  ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ 91 ﴾  [آل عمران: 91]

وما أشبهها من أدلة نقول: هي أدلة عامة.

والقاعدة في الأصول:

[ إن العام لا يتعارض مع الخاص لأن العام يكون مُخصَصَاً ]

وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم في حق والده « إنه من أهل النار »  وكذا استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، هذان محمولان على أنه صلى الله عليه وسلم أُخبر عن حال والديه، وأنهما ممن لا يدخلان النار يوم القيامة بأمره عز وجل ، كما في حديث: «أرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوّمَ القِيامَةِ» الحديث.

وأما قولهم: إذ قالوا إن قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 15﴾  [الإسراء: 15].

إن هذا العذاب هو العذاب في الدنيا، فلا يعذبون في الدنيا، وإنما يعذبون في الآخرة.

والجواب عن هذا:

أن هذا تقييد لما أطلقته النصوص، فقوله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 15﴾  [الإسراء: 15]

يشمل العذاب الدنيوي والأخروي

وأما قولهم: «إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه ضعيف» وهو ما ذكر لكم آنفا: «أرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوّمَ القِيامَةِ».

فقولهم: إنه ضعيف لكونه تكليفاً يوم القيامة، ويوم القيامة لا تكليف فيه، إنما فيه الجزاء .

فالجواب:

أن نفي التكليف إنما هو في الجنة، ولا ينفي وقوع التكليف في عرصات يوم القيامة، بدليل ما جاء في «الصحيحين»:

«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا»

«فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ»

كما قال عز وجل : ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ 42 ﴾  [القلم: 42]

ونحو ذلك من الأدلة التي جاءت بوقوع التكليف في العرصات.

ولو قال قائل: هل هناك فترة تكون في آخر هذه الأمة؟

الجواب:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا رسول يأتي بعده، قال عز وجل : ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾  [الأحزاب: 40].

وقال صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا الْعَاقِبُ» أي: لا نبي بعدي.

لكن ورد عند ابن ماجة: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْرُسُ» يعني يذهب «الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ» يعني زخارفه «حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل  فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا فَقَالَ لَهُ صِلَةُ مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ له  صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ثَلَاثًا»

فهذا يدل على أن هناك زمنا تدرس فيه معالم الإسلام، فيصبح أهله:«أي أهل هذا الزمن معذورين».

لو قال قائل:

هل هذه الآية لها متعلق أو أن من ذكر فيها يدخل في أهل الفترة؟

وهي قوله تعالى:  ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 173﴾  [الأعراف: 172، 173].

هذه الآية اختلف في معناها وهي في سورة الأعراف، وهذه الآية ليس لها متعلق بما نحن فيه، وإنما هي مسألة تتعلق بالميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم يوم خلقه الله عز وجل ، وأخرج ذريته من صلبه، وقد جاءت بذلك الأحاديث.

وبعض العلماء يقول:

إن هذه الآية ليس لها علاقة بالميثاق، لأن أخذ الذرية هنا أخذ من ظهور بني آدم لا من آدم .

لو قال قائل:

قلتم إنه سيأتي زمن يدرس الإسلام فيه كما يدرس وشي الثوب، وأنهم لا يعرفون لا صلاة ولا صيام، ولا يعرفون إلا كلمة «لا إله إلا الله» فتدخلهم هذه الكلمة الجنة وتنجيهم من النار،هناك حديث:«لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ» فكيف يكون شرار الخلق ويدخلون الجنة؟.

الجواب:

المراد بشرار الخلق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من تقوم عليهم الساعة وهم أحياء، فالمؤمنون: «يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّأْمِ فَلاَ تَدَعُ أَحَدًا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ».

من بينهم هؤلاء، وقد يكون هؤلاء قبل قيام الساعة، يعني هذه المدة التي ذكرت هنا ليست معلومة:هل هي بآخر الأمة هل هي بالوسط هل هي ما قبل الأخير؟ الله أعلم.

8ـ أن الطاغوت عُرِّفَ بأنه «كل ما عُبد من دون الله عز وجل ، وهو راضٍ» وأجود منه تعريف ابن القيم رحمه الله للطاغوت، إذ قال: الطاغوت هو «ما تجاوز العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ».

فالمعبود: كالأصنام.

والمتبوع: كالكهان.

والمطاع: كأمراء السوء.

وأما التعريف الأول فيجب أن يقيد بكلمة [وهو راضٍ] لأن هناك الملائكة و هناك عيسى عليه السلام وغيرهم ممن عبد من دون الله عز وجل  لكنهم لم يرضوا بهذا.

9 ـ وجوب الإخلاص لله عز وجل  بالعبادة ، ولذا قال تعالى: ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾  [النحل36].

10ـ  البلاغة في القرآن إذ قال : ﴿وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل36] والاجتناب أبلغ من الترك لأنه يكون في جانب والطاغوت في جانب آخر.

11 ـ أن كلمة «الرسول» جاءت في سياق البعثة كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾  [الأنبياء25]، وهذا يشير إلى أن الرسول هو: «من أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه»، فيفترق عن النبي لأن النبي : «من أوحي إليه بشرع  ولم يؤمر بتبليغه» وهناك معنى آخر للنبي : وهو «من جاء مُجَدِّداً لرسالة النبي الذي سبقه» ولكن الصحيح هو الأول.

12 ـ أن القَسَم قد يكون من غير طلب من الطرف الآخر ؛ فقد يُقسَم على أمر لأهميته ولم يُطلب منه، ويستفاد هذا من قوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا﴾ فإن اللام هنا موطئة لقسم مقدَّر، فهو جل وعلا لا يُطلب منه، فهو أقسم جل وعلا من باب التأكيد على أهمية هذا الأمر.

ويستفاد من هذا أن الإنسان يجوز له ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وليس هذا مأخوذاً من الآية، وإنما الآية فيها إشارة، وإنما هو مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقسم من غيرأن يطلب منه كما قال صلى الله عليه وسلم: «وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ…» الحديث.

وكفعل الصحابة كابن عمر رضي  الله عنهما قال كما عند مسلم: «وَالَّذِى يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» وذلك إذا دعت الحاجة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قال رحمه الله : وقول الله  تعالى: 

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..﴾  [الإسراء23].

 مما يستفاد من هذه الآية:

1ـ أن القضاء المذكور هنا قضاء شرعي، فمعنى ﴿قَضَى﴾ أي شرع وأمر،  وهناك قضاء كوني قدري كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾  [الإسراء4]  فالقضاء الشرعي  يكون فيما يحبه الله عز وجل ،  ولا يلزم بأن يقع فهو قضى بأن يُعبد عز وجل ، وأن يطاع الوالدان، وقد لا يحصل ذلك من بعض البشر، وهذا المأمور والمقضي به محبوب عند الله عز وجل ، لكن القضاء القدري قد يكون فيما يحبه الله عز وجل ، وقد لا يكون، لكنه إذا قضى قضاءً قدرياً كونياً فلابد أن يقع، ومن ثمَّ فإن المؤمن إذا عبد الله عز وجل  وأطاع والديه فإنه يصدق عليه القضاءان، القضاء الشرعي الديني والقضاء الكوني القدري.

2 ـ بيان كرمه عز وجل  فإنه لما ذكر حقه ذكر حق المخلوق تفضلاً منه عز وجل ، فإنه لما أمر بتوحيده أمر بالإحسان إلى الوالدين، وهذا كثير في النصوص الشرعية كما قال تعالى : ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾  [الأنعام151].

وإذا ذكر عز وجل  الصلاة ذكر الزكاة، فإن الصلاة من حقه عز وجل  وذِكْرُ الزكاة حق للمخلوق الفقير، لأن الزكاة تُدفع له، فإذا أخرجها صاحب المال فإن هذا فيه إحسان للمخلوق،ولا يعني أنها ليست بعبادة، هي عبادة وحق لله عز وجل  فمن قام بها أجر كما أن من أبر بوالديه فإنه يؤجر.

3 ـ أن للتوحيد ركنين:

أ- نفي .

ب-إثبات.

قولك :«لا إله إلا الله»  فـ «لا إله»  نفي و «إلا الله» إثبات .

فلابد أن تنفي الألوهية عن غيره عز وجل ، وأن تثبتها له عز وجل  وحده حتى تكون موحداً، وقد ذُكر هذا في هذه الآية كما قال عز وجل : ﴿أَلَا تَعْبُدُوا﴾ هذا نفي، ثم قال: ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وهذا إثبات، ولذلك إذا أتى إثبات الألوهية من غير النفي أكد إثباتها بكلمة «واحد» كما قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾  [البقرة: 163]

4 ـ أن الاستثناء معيار العموم، ففيه حصر للعبودية لله عز وجل  لما قال ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وهذا يقتضي الإخلاص له عز وجل  في هذه العبادة.

5 ـ أن هنا صيغة حصر وقصر وهي من أعظم أنواع القصر ، كما هي عند البلاغيين  [النفي والاستثناء] «لا» هنا نافية «إلا» أداة استثناء ، وهذا من أبلغ أساليب الحصر، ففيه حصر للعبودية له جل وعلا كما هو الشأن في قوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ﴾ [الذاريات56] فإن فيه حصراً في خلق الإنس والجن في عبادته عز وجل .

6 ـ أن أعظم ما أمر الله عز وجل به هو التوحيد ،  فإنه قدَّمه فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾  [الإسراء23] ، ثم ذكر بعد ذلك عبادة أخرى وهي الإحسان إلى الوالدين، وفي المقابل [الأمر بالشيء نهي عن ضده]  كما هي القاعدة ، فإنه لما أمر بالتوحيد ففيه نهي عن الشرك، فيكون الشرك أعظم ما نهى الله عز وجل  عنه.

7 ـ أن كلمة ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾  تفيد أن العبادة لا تكون لأي كائن من كان، لا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا لنبي مرسل.

8 ـ أن الحُسْنَ : هو الحُسنُ الشرعي، قال تعالى : ﴿وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَاناً﴾  [الإسراء 23] وذلك لأن الوالدين قد يأمران  الولد بأمر يخالف أمر الله عز وجل ، فهذا ليس بإحسان للوالدين أن يطيعهما الولد ، وليس بحسن، لأن الحسن الحقيقي إنما هو الحسن الشرعي ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»

9 ـ أن كلمة التوحيد كما قلنا لها ركنان [نفي و إثبات] وكذلك لها شروط سبعة مذكورة في قول القائل:

علمٌ يقينٌ وإخلاصٌ وصدقُكَ مَعْ     محبةٍ  وانقيادٍ والقبولِ لهَا

ويزاد شرط ثامن عند البعض وهو الكفر بما يخالفها وهو شرط له أصل في الشرع كما في قوله صلى الله عليه وسلم عند مسلم .

«مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»

وهذه الشروط مع أدلتها كالتالي:

العلم: ضده  الجهل، والدليل قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾  [محمد: 19].

اليقين : ضده الشك، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم « فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»

الإخلاص: ضده النفاق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا من قلبه».

الصدق: ضده الكذب، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ  مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»

المحبة: ضدها  البغض، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»

الانقياد: ضده الإعراض، والدليل قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا 66﴾  [النساء: 66]

القبول: ضده الرد، والدليل قوله تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا 65﴾  [النساء: 65].

فهذه شروط لا إله إلا الله.

10 ـ أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، ولذا قال هنا: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ ولم يقل: وقضى الله.

﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ فمن أقر بأن الله عز وجل  هو الرب فالواجب عليه بدلالة الإلزام أن يعبده عز وجل .

11 ـ أن من أعظم السوء أن تقابل من أحسن إليك بالسوء، فإنَّ الله عز وجل   كما تفيد كلمة  « الرب » هنا هو الذي ربَّاك بنعمه وأسبغ عليك آلاءه، فمن أعظم الإساءة والسوء أن تصرف العبادة لغيره عز وجل .

وقوله تعالى:

﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾  [النساء36].

 من الفوائد تحت هذه الآية :

1 ـ أن ذكر جملة قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾ ثم ذكر جملة ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا﴾ يدل على القاعدة المذكورة التي تقول:  [إن الأمر بالشيء نهي عن ضده]   فإنه لما أمر بالعبادة نهى عن ضدها ، ما ضدها ؟ الشرك.

2 ـ أن العبادة المأمور بها في النصوص الشرعية تتضمن الإخلاص لله عز وجل  ، بدليل أنه لما أمر بالعبادة هنا فقال:﴿وَاعْبُدُوا اَللَّه﴾ قال بعدها: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ﴾ فذكر كلمة ﴿شَيْئاً﴾ وهي في سياق النهي وهي نكرة، و النكرة في سياق النهي تفيد العموم، فلا يُشرك مع الله عز وجل  أي شيء لا مَلَك ولا نبي ولا رسول مهما عظمت منزلته.

3 ـ أن الشرك: هو: جعل شيء من العبادة لغير الله عز وجل  وهذا يؤخذ من هذه الآية فقولنا: « جعل شيء من العبادة لغير الله عز وجل » لأنه عز وجل  لما أمر بالعبادة نهى أن يشرك به شيء، فدل هذا على أن هذه العبادة الداخلة تحت قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾ إذا صرفت لهذا الشيء هو الشرك بعينه.

ويعرف بعض العلماء الشرك بقوله: «مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله» لكن الأول هو الأسهل.

4 ـ أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ صيغة نهي، والنهي كما هي القاعدة في الأصول يقتضي التكرار، فقوله: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ﴾ يفيد أنه لا يجوز أن يشرك مع الله عز وجل  في أي حال من الأحوال، فليس هذا النهي مقتصراً على حالة واحدة أو في وقت معين أو في زمن دون زمن آخر بل يقتضي التكرار.

5 ـ أن العبودية من أعظم أركانها محبة الله عز وجل ، ولذا قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾  فالله عز وجل  هو المعبود مع المحبة والتعظيم، فلابد أن تكون هذه العبادة متضمنة حب الله عز وجل ، مع تضمين الركنين الآخرين وهما  الرجاء والخوف.

وقول الله تعالى :

﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾  [الأنعام151].

وعَقَّب بعده بقول ابن مسعود رضي الله عنه، وله مُتَعَلَّقٌ بهذه الآية قال رضي الله عنه :

«من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم  التي عليه خاتمه فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾  [الأنعام151] إلى قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153﴾  [الأنعام: 153، 154]

 من الفوائد تحت هذه الآية وهذا الأثر:

1 ـ أن الشرك هو أعظم ما نهى الله  عز وجل عنه.

2- أن التحريم هنا تحريم ديني شرعي ، فقد يقع وقد لا يقع فهو عز وجل  حرَّم الشرك وقد وقع من البعض، بينما التحريم القدري الكوني لابد أن يقع ، كما قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ﴾  [القصص12]، وكما قال تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء95].

3 ـ جواز مناظرة الكفار والطوائف المبتدعة ، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام151] إذا وجدت المصلحة ولم تثر شبهة وشكوك على الناس بشروط المناظرة التي ذكرها أهل العلم.

4 ـ وجوب الدعوة إلى توحيد الله  عز وجل ، وهذا مأخوذ من قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾.

5ـ أن الله عز وجل  جمع بين حقه وبين حق المخلوق، وسبق بيان ذلك.

6 ـ أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فإنه ذكر هنا كلمة ﴿رَبُّكُمْ﴾ ثم قال:  ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ فدل هذا على أن من آمن بالرب يلزمه ألا يشرك بالله شيئاً.

7 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصِ بشيء مكتوب، ولذلك علي رضي الله عنه لما سئل: «هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ ؟ قَالَ لَا ، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ قُلْتُ فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ» أي أن الدية في قتل الخطأ على أقرباء القاتل «وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»

8 ـ أن أثر ابن مسعود رضي الله عنه اختلف في ثبوته، وعلى افتراض صحته فإن ابن مسعود رضي الله عنه  جعلها من الوصايا تنويها لشأنها، بأن هذه الآيات ذَكَرت ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، والمتأمل والمتدبر في هذه الآيات يدرك هذا، ويدل لذلك أنه ذكر «الخاتم» من باب التأكيد لما ذكره رضي الله عنه.

9ـ أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم » ذكر النبي صلى الله عليه وسلم  باسمه، وهذا في ظاهره يخالف قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً﴾ [النور63] فنهي الصحابي أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي «يا محمد»، ولكن ليس هناك مخالفة ؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه  ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم  من باب الإخبار، أما الآية فمن باب الدعاء والطلب، فمن نادى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه من صحابته وهو حي صلى الله عليه وسلم لا يدعوه باسمه بل يقول: «يا رسول الله».

10 ـ إثبات صفة العلو لله عز وجل ، وذلك في قول ابن مسعود رضي الله عنه:«فليقرأ قوله تعالى » ففيه إثبات صفة العلو لله عز وجل  على ما يليق به، وهذا ليس مستفاداً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقط وإنما من نصوص أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم ختم المؤلف رحمه الله الباب بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه

قال:« كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : يَا مُعَاذُ أتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِك بِهِ شَيْئًا، قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»   أخرجاه في الصحيحين.

 من الفوائد تحت هذا الحديث:

1 ـ أنه يجوز الإرداف على الدابة شريطة أن تكون قادرة ولا ضرر عليها، ويكون صاحبها أحق بصدرها، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم  كما في سنن أبي داود والترمذي «لما كان يسير وراءه أحد أصحابه قال: اركب يا رسول الله، وأراد أن يركبه في صدر الدابة  فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ مِنِّي إِلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ لي».

فيكون صاحب الدابة هو أحق بصدرها، والنبي صلى الله عليه وسلم  لما قدم من إحدى الغزوات «أركب طفلين من قرابته»  ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ»  لأن هذا يشق عليها.

2 ـ تواضع النبي صلى الله عليه وسلم  وملاطفته أصحابه، فإنه أركب معاذاً رضي الله عنه وأردفه ، وهذا يدل على تواضعه ، وظهر هذا التواضع في أعلى مقاماته لما كان هذا الإرداف على حمار، فإن الحمار ليس كالبعير

3 ـ أنه يجوز أن يُطرح السؤال الشرعي على من لا يعرف جوابه، حتى إذا لم يعرفه يكون سمعه وعقله ولبه حاضراً في ثنايا تعليمه وتعريفه ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاذُ أتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟».

4 ـ أن الإنسان ينادى في الأصل باسمه : يا معاذ، يا علي، يا زيد، يا خالد ، كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم  معاذا رضي الله عنه ، فقال:«يا معاذ »  لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص من هذه المناداة كما قال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ﴾ [النور63]  وإن لقَّب الإنسان  صاحبه أو كنَّاه فهو حسن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم  يصنع مع بعض أصحابه.

5 ـ أنه يجوز أن يُقرن صلى الله عليه وسلم مع الله عز وجل  في معرفة العلوم الشرعية ، لقول معاذ : « الله ورسوله أعلم » وهذا يكون في حياته، أما بعد مماته فإنه ينبغي ألا يقال بهذا، ويدل لذلك ما جاء عند البخاري :

« قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ ؟ ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ266﴾ [البقرة]  قَالُوا اللَّهُ أَعْلَم»

ولم يقولوا: ” الله ورسوله أعلم”

أما العلوم الكونية فإنه لا يجوز أن يجمع النبي صلى الله عليه وسلم مع الله عز وجل فإنه لا يجوز إلا ما أطلعه الله عز وجل  عليه ، فمعرفة نزول المطر أو ما في الأجنة فهذا لا يعلمه إلا الله عز وجل  .

6 ـ أن حق الله عز وجل على العباد مفسر في الحديث ، وهو: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» وأن حق العباد على الله عز وجل  مفسر في الحديث، وهو : « أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لا يقرن بِهِ شَيْئًا ».

7 ـ بيان فضل الله عز وجل  وكرمه كما سبق ذكره ، من أنه يجمع بين حقه وحق المخلوق تكرماً، وليس على سبيل المعاوضة ، كما قالت المعتزلة من أنه واجب على الله وجوباً عقلياً.

8 ـ عظم التوحيد، وهو أن مآل الموحد إلى الجنة، وأنه سالم من عذاب الله عز وجل .

9ـ أنه يجوز أن يقال: «لبيك وسعديك»، كما وردت في رواية أخرى إذ  قال معاذ:«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»

وكلمة:«لبيك»  يعني مستجيبا لك،  ويجوز أن تصرف للمخلوق من حيث المعنى العرفي واللغوي بمعنى ” أجبتك ” أما ما يتعلق بالعبادات فلا يجوز، ولذا قال جابر رضي الله عنه كما عند مسلم:

« رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ َ…فأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ» ، لأن الكفار كانوا يشركون في تلبيتهم .

ومعنى «سعديك»  أي إسعاد لك بعد إسعاد.

10 ـ أن تبشير المسلم من المندوب ؛ ولذا قال معاذ رضي الله عنه: «أفلا أبشر الناس؟»، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ» ؛ ولذا كعب بن مالك رضي الله عنه لما بُشِّر بتوبته أعطى المُبَشِّرَ ثوبه وهذا من السنة أنه إذا بشر أحد أحداً بشيء أن يعطي المُبَشَّرُ المُبشِّرَ، من باب المكافأة، لأن هذا من المعروف كما قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ».

11 ـ أن كلمة  «البشرى»  تطلق في أحوال ثلاث:

الأولى: إما أن تكون في الخير، كأن يقول الرجل لآخر أبشرك بمولود لك، أو بمال لك، أو بقدوم غائبك.

الثانية: أن تكون مطلقة، كأن يقول رجل لآخر أبشرك يا فلان، ولم يُذْكَرْ المُبَشَّرُ به، فإذا أطلقت تكون في الخير.

الثالثة: إذا قيدت بالشر فإنها تكون في الشر ، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾  [آل عمران21].

12 ـ أن قوله: «وحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِك بِهِ شَيْئًا»  لا يعني أنه يترك الشرك فقط ولا يُلزم بالعبادة، فهذا ليس بصحيح ، فلابد مع ترك الشرك من فعل العبادة، ويدل له أنه صدَّر هذه الجملة بقوله:«وحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ»  فإنهم كانوا عباداً لله عز وجل  حينما تركوا الشرك , أو لعل هذه الجملة اُختصرت فاستغني عن معناها بما في الجملة الأولى، فإنها مُبَيِّنَةٌ ومُوضِّحة لها، وهي جملة «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» فلابد مع ترك الشرك من فعل العبادة.

13 ـ بيان عدل الله عز وجل ، فإن العبد إذا قام بأمره عز وجل  فلا ظلم عليه، كما قال تعالى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾[غافر17]، وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾  [فصلت46]،  فهو لا يظلم عز وجل  بل ولا يريد الظلم، فإذا كان لا يريد الظلم فمن باب أولى أنه لا يظلم، كما قال عز وجل :  ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾  [آل عمران108].

14 ـ أن الرجاء إذا اعتمد عليه أنه يوجب الأمن من مكر الله عز وجل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» فيتكلون على مغفرة الله وعلى رجائه عز وجل ، فيقعون في الأمن من مكره عز وجل .

15 ـ جواز كتمان العلم للمصلحة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد معاذاً رضي الله عنه  إلى أن يكتم، ما هي المصلحة؟  خيفة من أن يتكلوا، أما قوله صلى الله عليه وسلم  لأبي هريرة رضي الله عنه  لما دخل في الحائط وقال:

«اذْهَبْ بِنَعْلَي هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» فإن هذا الحديث محمول على أنه يكون هذا الإخبار لقوم يعلم صلى الله عليه وسلم أن من وراءه لا يتَّكِلون، ولذا لقي أبو هريرة أول مَنْ لقي عمر رضي الله عنه، فأخبره بالخبر فرده عمر رضي الله عنه، فاشتكى أبو هريرة رضي الله عنه  إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فذكر عمر الاتكال، فأقره صلى الله عليه وسلم  فلعل عمر  رضي الله عنه  خاف أن ينتشر الخبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص قال: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ» ولم يقل كما هنا «أفلا أبشر الناس» على سبيل العموم ، أو أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه سابق لحديث معاذ رضي الله عنه.

16 ـ حرص الصحابة رضي الله عنهم على نشر الخير والعلم، ولذا قال معاذ رضي الله عنه : «أفلا أبشر الناس» وأعظم ما يُبشر به المسلم ما كان خيراً في دينه، فهذه هي البشرى الباقية النافعة .

17 ـ أن كلمة أخرجاه في الصحيحين المراد  « البخاري ومسلم ».