( شرح كتاب التوحيد )
( 2 )
باب بيان فضل التوحيد وما يُكَفِّرُ من الذنوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو رابط هذا الدرس على القناة العلمية الصوتية للشيخ :
https://www.youtube.com/watch?v=JmH-nYdxHjk&list=PLLqPd_eY0IBM6kO0TRJOVvrp3H7mmLbbz&index=3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى :
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ82﴾ [الأنعام82].
من الفوائد تحت هذه الآية :
1 ـ أن من فوائد وفضائل التوحيد حصول الأًمن والهداية في الدارين الدنيا والآخرة.
2 ـ أن من لم يخلط إيمانه بشرك يحصل له أمن مطلق إذا أتى بمقتضيات التوحيد كلها، أو يحصل له مطلق أمن، بمعنى أنه أمن ليس بكامل ، وإنما هو ناقص ، وذلك بقدر ما أتي به من التوحيد.
3 ـ أن معنى الأمن في الدنيا أن يأمن العبد فيها على نفسه وعرضه وماله بسبب هذا التوحيد، كما قال عليه صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن ثمَّ تحصل بقية أنواع الأمن بشتى صورها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وأما الأمن في الآخرة فيأمن من الفزع والأهوال كما قال عز وجل : ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ﴾ [الأنبياء103]، وقال تعالى:﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 38﴾ [البقرة38].
وأما الهداية في الدنيا فإن الله عز وجل يهديه في هذه الدنيا إلى ما فيه صلاح دينه ودنياه ، وأما في الآخرة فيهدى إلى منزله في الجنة ، وهذا ضرب من أضرب الهداية في الآخرة قال تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد6]، وقال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري رحمه الله:
«فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا»
4 ـ أن الشرك ظلم ، بل هو أعظم الظلم ، كما قال تعالى في سورة لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان13] فوصفه بأنه عظيم لأنه أشد أنواع الظلم، فهو لا يُغفر بخلاف سائر الذنوب ، وإن كانت ظلماً لكن هذا الذنب ظلم فظيع، فكيف يقابل العبد إحسان الله وإنعامه بالإشراك به، ولأن الشرك ظلم محض ليس للنفس فيه رغبة ، بخلاف الذنوب فإنها تتعلق بالشهوة.
5 ـ أن من أدوات التوكيد في البلاغة [ضمير الفصل] والمذكور هنا ضمير ﴿هُمْ﴾ فيستفاد من ذلك أن هؤلاء ﴿هُمْ اَلْمُهْتَدُونَ﴾ وأن من لم يأت بما أتى به هؤلاء أنه ليس بمهتدٍ، ولذا أتت الجملة الاسمية وهي تفيد عند البلاغيين الثبوت والاستمرار قال: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام 82] فالهداية ثابتة مستمرة لهم.
6 ـ أن ذهاب الأمن والهداية يحصل بذهابهما ضدهما وهو «الخوف والضلال» والخوف والضلال حاصلان بالإشراك بالله عز وجل .
7 ـ أنه أتى بأداة «لم» وهي تفيد النفي، فقال: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام82] ويستفاد من ذلك أن قليل الشرك يوجب ذهاب الأمن والهدى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
« مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ» أخرجاه.
من فوائد هذا الحديث:
1 ـ أن التوحيد من ثماره دخول الجنة.
2 ـ إثبات صفة الكلام لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، كما في جملة «وكلمته».
3 ـ بيان أن عيسى عليه السلام مخلوق بكلمة «كن» كما قال تعالى : ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فيكون﴾ [آل عمران59].
4 ـ أن عيسى عليه السلام وُصف بأنه روح ، ولكنها روح ذات جسد، ولذا فإنه يأكل ويشرب، قال تعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة75]، فتكون الإضافة هنا في قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [الجاثية13] أي حاصلة وكائنة منه، لا أنها جزء منه عز وجل ، فهو بائن من خلقه ليس فيه شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء منه، فتكون إضافة الروح هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
5 ـ أنه يشترط في صحة إسلام الكافر إذا أراد أن يسلم أن ينطق بالشهادة، لأنه قال: «من شهد ألا إله إلا الله»
والشهادة بمعناها العام تتضمن أربعة أشياء:
أولاً: النطق بها.
ثانياً: العلم بها.
ثالثاً: الإخبار بها.
رابعاً: الإلزام بمقتضاها.
فلابد أن يكون هناك نطق ؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب:«قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ولم يقل له: اعتقد أو أقر بقلبك.
6 ـ أن ” لا إله إلا الله ” كما سلف لها ركنان : [نفي وإثبات] وفي هذا الحديث تأكيد للإثبات بقوله: «وحده» وتأكيد للنفي بقوله: «لا شريك له».
7 ـ أن كلمة «لا شريك له» نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، أي لا يشرك بالله عز وجل أحد مهما علت منزلته، وأيضاً تفيد عموم نفي الإشراك به في جميع أنواع التوحيد، فلا يشرك به لا في توحيد الربوبية ولا في توحيد الألوهية ولا في توحيد الأسماء والصفات.
8 ـ أن نبينا صلى الله عليه وسلم وُصف بالعبودية والرسالة ، كما وصف بذلك عيسى عليه السلام ، فيفاد الإنسان بفائدة وهي أنه لا إفراط ولا تفريط في حق الرسل، فهم رسل لهم منزلة من حيث الرسالة لكنهم عباد لله ولا يجوز أن يرفعوا فوق منزلتهم، فتكون كلمة «عبده» ردٌ على من رفعه، وأن كلمة «رسوله» ردٌ على من انتقص من حقه , فهو صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة شروط الصلاة قال: «هو عبد لا يُعبَد، ورسول لا يُكَذَّب».
9 ـ أن معنى «شهادة أن محمداً رسول الله» معناها ما ذكره المؤلف في الأصول الثلاثة «طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع»
10ـ أن اشتراك الأنبياء في صفة العبودية ليست في مقام واحد وفي درجة واحدة، فإن عيسى عليه السلام وصف هنا بأنه «عبد الله ورسوله» وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، لكن في حديث الشفاعة قال عيسى «وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ» فيدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أرفع الأنبياء منزلة ورتبة في عبادة الله عز وجل ، وهذا ظاهر من صنيعه فقد «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
11 ـ أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان الستة، ويدل لذلك قوله : «والجنة حق و النار حق» والجنة والنار مما يكون في يوم القيامة، فدل على أن إنكار شيء أو جزء مما يكون في الآخرة يكون كفراً بهذا الأصل العظيم، حتى لو آمن بكل ما يقع ما عدا أشياء منها فإنه يكون كافراً، والإيمان باليوم الآخر يكون بالإيمان بكل ما يكون بعد الموت.
12 ـ فيه ردٌ على الجهمية الذين قالوا: إن الجنة والنار تفنيان، فكون المسلم يعتقد بأن الجنة حق وأن النار حق، فواجب هذه الأحقية أن يصدِّق بكل ما أخبر به الشرع، و الشرع أخبر بأن الجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان.
13- أن الجنة والنار موجودتان، قال تعالى لما ذكر الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران133] وقال عن النار : ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة24]، والمُعَدُّ قد خُلق ووجد، وقد رآهما النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.
14ـ وجوب الإيمان بكل ما يكون في الجنة وبما يكون في النار لأن هذا هو المعتقد الكامل الصحيح في كون الجنة هي حق والنار هي حق، فيجب الإيمان بكل ما يكون فيهما.
15 ـ أن من أتى بما جاء في هذا الحديث فإن مصيره إلى الجنة، ويختلف الناس في ذلك، فمن أتى بما ذُكر كاملاً كان دخوله في الجنة غير مسبوق بعذاب، وإن لم يأتِ به كان دخوله مسبوقاً بعذاب إن لم يرحمه الله .
16 ـ أن عيسى عليه السلام ليس له أب ، ولذلك يُنسب إلى أمه كما قال الله عز وجل في مواضع عدة منها: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة116]، وفي هذا فائدة أخرى وهي أن عيسى عليه السلام ليس ابناً لله عز وجل كما زعمته النصارى، وإنما هو ابن لمريم عليهما السلام
17 ـ أن دخول الجنة إنما هو برحمة الله عز وجل ، ولذا جاء التعبير من النبي صلى الله عليه وسلم «أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ» ولم يقل أدخله هذا العمل، أو دخل بهذا العمل , فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
«لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا»
18ـ أن كلمة «أخرجاه» مصطلح على أن هذه اللفظة تكون للبخاري ومسلم رحمهما الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما في حديث عتبان رضي الله عنه :
«فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ»
من الفوائد تحت هذا الحديث :
1 ـ أن الموحِّد يُثمر له توحيده تحريمه على النار.
2 ـ إثبات صفة التحريم لله عز وجل .
3 ـ أن التحريم هنا نوعه « تحريم قدري كوني».
4 ـ أن النار واحدة ، وليس هناك أدلة تدل على أن هناك للعصاة ناراً وأن للمشركين ناراً أخرى.
5 ـ أن كلمة «من قال» لا يعني أن القول بهذه الكلمة موجب للتحريم على النار، لأن اليهود يقولونها وكذلك المنافقون، وإنما المراد القول مع العمل، بدلالة قوله «يبتغي بذلك وجه الله عز وجل » ومن ابتغى شيئاً وطلبه عمل له.
6 ـ إن كان هذا الابتغاء ناقصاً كان التحريم على النار ناقصاً ، وإن كان الابتغاء كاملاً كان التحريم على النار كاملاً.
7 ـ إثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليق بجلاله وعظمته، وهو من الصفات الخبرية التي نخبر بها عن الله عز وجل ، ولا نقول: إنها أبعاض وأجزاء، فهي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، أما بالنسبة لله فليست كذلك، إنما نقول جاء بها الخبر، وفيه ردٌ على من قال: إن الوجه بمعنى الذات أو بمعنى الثواب.
8 ـ أن ذكر وجه الله عز وجل يدل على الإخلاص ، فلابد من الإتيان بهذه الكلمة مخلصاً بها لله عز وجل وهذا هو أحد شروط لا إله إلا الله .
9 ـ فيه ردٌ على الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على فعله وقوله ولا مشيئة له، وليس هذا بصحيح، فإن في هذا الحديث جملة «من قال» وفيه جملة «يبتغي» فلابد أن يكون من العبد فعل وقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« قَالَ مُوسَى عليه السلام : يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يقولُونَ هَذَا، يَا مُوسَى لَوْ أن السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعُ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
من الفوائد تحت هذا الحديث :
1 ـ بيان حاجة البشر حتى الأنبياء إلى هداية الله عز وجل وتعليمه، ولذا أمر عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً 114﴾ [طه114].
2 ـ أن الذكر يختلف عن الدعاء، ولذا قال موسى عليه السلام: «أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ» والعطف يقتضي المغايرة، لكن قد يدخل أحدهما في الآخر عند الإطلاق ، ولذا جاء عند الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله» .
3 ـ أن الربوبية التي دعا بها موسى عليه السلام ربوبية خاصة، لأن الربوبية نوعان :
النوع الأول : ربوبية عامة : وهي لجميع البشر، يخلقهم عز وجل ويرزقهم ويعافيهم كما قال عز وجل : ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة2].
النوع الثاني: ربوبية خاصة: وهي لعباده المؤمنين فهو يربيهم ويغذي قلوبهم بالإيمان والتقى، ولذا كانت دعوة الأنبياء وعباد الله الصالحين مصدرة بقولهم: ﴿ربنا﴾ قال تعالى عنهم:﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ [آل عمران193] إلى غير ذلك من هذه الأدعية.
4 ـ حرص موسى عليه السلام أن تكون له منقبة لا يشاركه فيها أحد، وليس هذا من الحسد ، وإنما هو من باب التنافس على وصول الدرجات العلا، ولذا قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة10] وقال تعالى:﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين26]، ولذا كانت دعوة سليمان عليه السلام : ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص35]، فهو لا يريد هذا المُلك لذات الملك، وإنما للاستعانة به على طاعة الله عز وجل ودحر وقهر الأعداء ونشر الخير بين الناس .
5 ـ فيه تفويض العبد أمره إلى الله فهو يختار له ما يشاء ، قال تعالى:
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص68]، ولذا موسى عليه السلام قال: «يا رب علمني شيئاً» ولم يحدد، فالأمر مفوض إليه عز وجل .
6 ـ أن توجيه الأمر إلى الله ليس على باب الأمر، لأن الأمر لا يكون إلا من الأعلى إلى الأدنى، ولا يمكن أن يكون هذا في حق الله عز وجل ، فقوله: «علمني» المراد من ذلك الدعاء.
7 ـ أن تقديم الذِّكر على الدعاء هنا يدل على أن الذكر أفضل من الدعاء، فكون العبد يذكر الله بقول : « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » أفضل من أن يدعو الله عز وجل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :
«أفْضَلُ الدُّعاءِ دعاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه»
ولذا جاء في حديث قدسي لكنه ضعيف «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَن مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته فَوْقَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» لكن قد يكون الدعاء في بعض الأحيان أفضل من الذكر، وذلك كأن يكون هذا الدعاء قد ورد في حالة معينة من العبادة ، أو أن يكون قلب الإنسان في تلك اللحظة الأخشع له والأصلح لقلبه أن يدعو الله عز وجل فيكون الدعاء في حقه في تلك اللحظة أفضل من الذكر .
8 ـ أن التوحيد هو أفضل ما يُدعى به الله ، ولذا قال موسى عليه السلام «وأدعوك به» ومن التوحيد توحيد الأسماء والصفات قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف180] وفي هذا جواز التوسل بأسماء الله عز وجل وصفاته.
9 ـ أن كلمة «لا إله إلا الله» يقولها عباد الله المصطفون، ولكنهم ليسوا على رتبة واحدة فهم يتفاوتون، فهذه الكلمة الجارية على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ليست في الأجر والرتبة كما تجري على لسان غيره من الصالحين.
10 ـ أن الدعاء نوعان:
النوع الأول: دعاء عبادة
النوع الثاني: دعاء مسألة.
فمثال دعاء العبادة [الصلاة والصيام] لأن العابد بلسان حاله يدعو الله عز وجل أن ينجيه من النار وأن يدخله الجنة لما صلى وصام، وأما دعاء المسألة فهو الدعاء الصريح كقولك، اللهم ارحمني، اللهم ارزقني.
11 ـ أن قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عِبَادِكَ يقولُونَ هَذَا» المراد «العبودية الخاصة» وهم المؤمنون.
12 ـ إثبات علو الله عز وجل وأنه في السماء، لكن السماء لا تحيط به ولا تُقِلُّه، فالسماوات محتاجة إليه عز وجل قال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [فاطر41]، وقال عز وجل : ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحج65].
13 ـ أن ذكره صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام أو غيره من الأنبياء ليس ذكراً يتسلى به، وإنما لمحبة هؤلاء الحريصين على الخير وللاقتداء بهم، فموسى عليه السلام مع مرتبته العليا إذ رآه النبي صلى الله عليه وسلم في السماء السادسة ليلة المعراج، مع ذلك كله يسأل موسى الله عز وجل أن يعلمه خيراً ينتفع به.
14 ـ إثبات أحد نوعي القول لله عز وجل وهو النداء بصوت رفيع في قوله:«يا موسى»
والنوع الآخر: هو المناجاة ، ويكون بصوت خفيض، كما قال:﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم52] ومعتقد أهل السنة والجماعة أن لله كلاماً، فهو يتكلم كلاماً حقيقياً بصوت مسموع بحروف ومعان .
15 ـ أن الرسل بحاجة إلى أن يُذَكَّروا بفضل لا إله إلا الله، ولذا فموسى عليه السلام قال: «كُلُّ عِبَادِكَ يقولُونَ هَذَا» ليس من باب التقليل من شأنها، وإنما خفي عليه عظيم فضلها .
16 ـ بيان أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، إذ لو كان موسى عليه السلام وهو نبي يعلم الغيب لما خفي عليه مثل هذا الأمر .
17 ـ أن للسماوات عُمَّاراً من الملائكة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ» .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن البيت المعمور: «يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا إليه» .
18 ـ أن «لا إله إلا الله» لها عظم وثقل، فلو وضعت في إحدى كفتي ميزان والسماوات العظام بعددها السبع وكذلك الأرض في الكِفة الأخرى لرجحت لا إله إلا الله ، ومن ثمَّ فإن هذا يذكرنا بحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند وغيره قال: «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مد البصر، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»
فدل على أن هذه الكلمة إذا قيلت معتقداً لمعناها عاملاً بمقتضاها فإنها نجاة وخلاص لصاحبها.
19 ـ أن السماوات سبع، وكذلك الأرضين سبع.
20 ـ أن حديث الباب فيه من ضعفه وفيه من حسنه، وممن يحسنه ابن حجر رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً»
من الفوائد تحت هذا الحديث :
1 ـ أن التوحيد من ثمرته أنه يكفر الذنوب.
2 ـ إثبات القول لله عز وجل .
3 ـ أن السنة يفسر بعضها بعضاً ، فإن هذا الحديث مطلق فليس كل من قال لا إله إلا الله تُكَفَّر ذنوبه ، وإنما هو مقيد بما جاء في النصوص الأخرى من وجوب العمل .
4 ـ بيان لقاء العبد لله عز وجل ، واللقيا تتضمن الرؤية – كما ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى، واللقيا على نوعين :
النوع الأول: خاصة كما هي في هذا الحديث ، وهي للمؤمنين الموحدين قال تعالى:﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف110]
النوع الثاني: لقيا عامة وهي لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم ، كما قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق6].
5 ـ إثبات صفة العلو لله بجميع أنواعه.
6 ـ إثبات صفة المغفرة منه عز وجل .
7 ـ أن الذنوب مهما عظمت فإنها تحت المشيئة بخلاف الشرك، قال تعالى : ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء48].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ