شرح كتاب التوحيد
( 49 )
باب ما جاء في قول الله تعالى :
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾
[فصلت50]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو رابط هذا الدرس على القناة العلمية الصوتية للشيخ :
https://www.youtube.com/watch?v=Eobl-Jvyw7A&index=50&list=PLLqPd_eY0IBM6kO0TRJOVvrp3H7mmLbbz&t=147s
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الفوائد :
1 ـ أن هذا الباب شبيه بباب قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل83]، فهناك أضاف العبد النعمة إلى السبب ونسي المسبب مع اعتقاده بأنها من عند الله عز وجل ، أما هنا فإنه أضاف النعمة إلى السبب واعتقد أنها ليست من عند الله عز وجل
ثم ذكر رحمه الله كلام بعض المفسرين حول هذه الآية: قال مجاهد « هذا بعملي وأنا محقوق به » وقال ابن عباس: «يريد من عندي»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى:﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص78].
قال قتادة: «على علم مني بوجوه المكاسب»
وقال آخرون: «على علم من الله أني له أهل» وهذا معنى قول مجاهد : « أوتيته على شرف»
من الفوائد:
1 ـ أن هؤلاء المفسرين فسروا هذه الآية تفسيراً بالمثال فكلها داخلة تحت هذه الآية.
2 ـ أن البعض قد ينسب النعمة لشرفه، وذلك بأن يقول إنما ورثت هذا المال أو هذه الصفات عن آبائي وعن أجدادي، والبعض قد ينسب النعمة إلى نفسه فيقول:هذا من ذكائي ، وهذا من حرصي ، وهذا من معرفتي، والبعض قد ينسب النعمة إلى نفسه بوجه آخر فيقول: أنا له أهل وأنا أحق بذلك من غيري، كشأن العاص بن وائل، كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78)﴾ [مريم77 ـ 78]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه :
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فأراد الله أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ ويذهب عني الذي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ به، قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قذره، وأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ ـ شَكَّ إسحاق ـ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ بارك الله لك فيها، قال: فأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ أو الإبل فأعطي بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ بَارَك الله لَكَ فِيهَا، قال فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الغنم فأعطي شاة والدة فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم،قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي فَقَالَ الْحُقُوق كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ عز وجل المال، فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ كَابِرا عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قال: ثم إنه َأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قال: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ قد انقطعت بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إليَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شيئا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» أخرجاه.
من الفوائد:
1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر هذه القصة وقد وقعت في الأمم السابقة من باب العظة والتذكر .
2 ـ أن الأبرص وكذلك الأقرع فيهما طمع ، إذ قال الأبرص أريد جلداً حسنا ، وقال الأقرع أريد شعراً حسنا ، بينما الأعمى فيه تواضع وقناعة ، ولذا قال: «يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ» فلم يقل أريد بصرا ثاقباً قويًا.
3 ـ أن المَلَك مسح هذه العاهات وهذا يدل على أنه لابد من فعل السبب.
4 ـ أن اختيار الأبرص للإبل يدل على أن فيه صفة الكبر ،لأن الإبل فيها الغلظة والجفاء، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْإِبِلِ» بينما الأعمى عنده قناعة فرغب في الغنم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : «الغَنَمُ بَرَكَة»
وقال: «السَّكِينَةُ في أَهْلِ الْغَنَمِ» ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:« اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» لأن المراد من هذا الحديث التواضع لأن المسكين من لوازمه أن يكون متواضعا.
5ـ أن الأبرص والأقرع نسبا النعمة إلى غير الله عز وجل فقالا : ورثت هذا المال كابراً عن كابر، والمقصود كابراً عن كابر أي من أب إلى جد أو من شريف إلى شريف .
6 ـ أنه لو قال الإنسان على سبيل الإخبار: ورثت هذا المال عن أبي، لجاز، لأن الشرع جعل الإرث سبباً في تملك المال .
7 ـ أن الأعمى قد قرن الشكر بالقلب وباللسان وبالجوارح، إذ قال: «فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ» فهذه الكلمة فيها علامة الإخلاص الذي يكون في القلب ، وكذلك قوله ” قد كنت أعمى فرد الله علي بصري وكنت فقيرا فأغناني الله عز وجل ” فشكر الله عز وجل بلسانه، وأما قوله «خذ ما شئت» فشكر بالجوارح.
8 ـ أنه يجوز للإنسان أن يدعو بدعاء مُعَلَّق، ولذا قال الملك:«إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ» ولذا في حديث الاستخارة «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ… الحديث» فإنه علَّقه بشرط، ولكن هذا التعليق بشرط إنما إذا أراد العبد أن يفوض أمره إلى الله عز وجل لكن إن كان التعليق للدعاء بشرط يدل في ظاهره على أن هذا العبد قد استغنى عن الله عز وجل فلا يجوز كما سيأتي معنا في باب «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ»
9 ـ أنه يجوز أن تطلق الصحبة على شخص لم يصحبك، وإنما شاركك في شيء معين ، وذلك أن هذا الأعمى قال له الملك: «فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» لأنه اشترك معهما في الابتلاء.
10 ـ أن الابتلاء قد يكون بالنَّعم كما في هذا الحديث، وقد سبق معنا ذلك في باب ما جاء في الصبر على أقدار الله عز وجل
11 ـ أن البعض إذا ذكر الملك قال: الملِك بكسر اللام ، وهذا لا يصح وإنما يقال الملَك لأنه اسم مفعول لأن هذا الملك مدبر مخلوق .
فلو قال قائل : إن الله أقسم بهم فقال: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾ [النازعات 5] فهم يدبرون؟ نقول: نعم، يدبرون بأمر الله عز وجل لكن ليس لهم تدبير من محض اختيارهم.
12 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما عند مسلم «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ » ولذا فإن الأبرص والأقرع أرادا أن يكونا في صورة حسنة كاملة ، وهذا خلاف الإخلاص والتواضع لله عز وجل .
13 ـ أن الملك قال: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي» فدل على أن المال ليس محصورا في الأوراق النقدية أو في الذهب والفضة بل يتعدى إلى ذلك فإن هؤلاء أعطوا إبلا وبقراً.
14ـ أن الملك أعطاه ناقة عشراء أي حامل، لأنه لو أعطاه ناقة غير حامل ليس معها ذكر، كيف يحصل التوالد والتناسل.
15 ـ أن النماء الحقيقي إنما هو في البركة بقطع النظرعن كثرة المال ؛ ولذا فإن الأعمى قال: «فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ» ولذا بارك الله عز وجل له، فأبقى له المال وسخط على صاحبيه.
16 ـ أنه إذا قال بالله عز وجل وأراد أن يذكر أحدا من المخلوقين فيجب أن يقول: «بالله ثم بك» كما قال الملك، أما لو قال: «بالله وبك» فإنه شرك أصغر، فإن أراد أن يكون في هذا التشريك مثل الله عز وجل فهو مشرك شركاً أكبر.
17ـ أن الملك توسل بأفعال الله عز وجل لأنه من أفعاله جل وعلا أنه رد البصر ، فإنه رد البصر إلى الأعمى ، وأنه أعطاهم المال ، ومن ثمَّ يجوز التوسل بأفعاله، وهو مندرج تحت التوسل بصفات الله، لأنه يؤخذ من فعل الله صفة له.
والتوسل المشروع ثلاثة أنواع:
أولا: التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا.
ثانيا: التوسل بدعاء الصالحين لا بذواتهم.
ثالثا: التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
وأما ما عدا ذلك من أنواع التوسل فإنها غير جائزة.
18 ـ خطورة الشح فإن الأبرص والأقرع شحا فكانت العاقبة وخيمة ، وذلك أن سخط الله عز وجل عليهما، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن16].
19 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» وهذا قد تمثَّل في هذا الأعمى ، فإنه كان غني النفس بينما كان الأبرص والأقرع كانا فقيري النفس.
20 ـ أنه يجوز الحلف ولو لم يستحلف الحالف ، وذلك أن الأعمى قال: «فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ».
21ـ أن الجزاء من جنس العمل فقد عاقب الله جل وعلا الأبرص والأقرع على صنيعهما السيء بينما أثاب الأعمى على صنيعه الحسن
ولذا فإنه عليه الصلاة والسلام لما سكت عن حالهما دل على أن هذه النعمة قد سلبت من الأبرص والأقرع
وهذه أظهر الفوائد تحت هذا الحديث، وهناك فوائد أخرى لكن أقتصر على ما هو ظاهر ويتعلق بالتوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ