بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب عن الحج الذي هو ركن من أركان الخمسة.
( الأصل فيه قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }آل عمران97
( الأصل فيه ) يعني الدليل على وجوبه وفرضيته قوله تعالى { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }آل عمران97
، فهذه الآية من الآيات التي تدل على وجوب الحج متى ما توفرت شروطه .
( والاستطاعة أعظمُ شروطه ، وهى: ملك الزاد والراحلة بعد ضرورات الانسان وحوائجه الأصلية )
من أهم شروط وجوب الحج الاستطاعة ، لأن الله سبحانه وتعالى قيَّد ذلك ، فإنه فرض الحج على الناس ثم أتى بالبدل – بدل بعض من كل- { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } هذا عام ، ثم قال { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }آل عمران97، فمتى ما استطاع الإنسان الحج بماله وبدنه فيجب عليه أن يحج ، وذلك بعد بقاء حوائجه الأصلية وضرورياته ، فمن ضرورياته المسكن ، السيارة التي يركبها ، الثياب التي يلبسها ، هذه تُعد من الضروريات والحاجيات الأصلية ، فلا يلزم ببيعها والتخلي عنها حتى يحج ، فالأشياء الكمالية إذا كانت لدى الإنسان يجب عليه أن يبيعها حتى يحج ، أما ما كان محتاجا إليه حاجة ضرورية أو حاجة مستمرة فإنه لا يلزم ببيعها ليحج .
( ومن الاستطاعة: أن يكون للمرأة محرم إذا احتاجت إلى سفر )
من شروط الاستطاعة فيما يتعلق بالمرأة أن تجد المحرم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم ) وعمَّم عليه الصلاة والسلام فلم يفصِّل ، لا في سفر طاعة ، ولا في سفر نزهة ، عمَّم، فدل على أن (المَحْرم) واجب من الواجبات التي تلزم بها المرأة إذا أرادت الحج ، فإن المرأة إذا لم يوجد لها محرم ، أو وُجد المحرم وامتنع فإن الحج غير واجب عليها ولا يُلزم المَحْرَم بأن يحج معها ، ليس واجبا عليه على الصحيح من قولي العلماء ، لأن الله سبحانه وتعالى قال { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }الأنعام164 ، والأمر ، وهو الأمر بالحج وُجِه إليها هي ولم يوجه إليه هو .
( وحديث جابر حج النبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على أعظم أحكام الحج، وهو ما رواه مسلم عن جابر رضى الله عنهما: “أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث فى المدينة تسع سنين لم يحج )
حديث جابر رضي الله عنه من أشمل الأحاديث الواردة في الحج ، ولذلك يعول عليه كثير من العلماء ، بل إن كثيرا من العلماء خصصه بالشرح ، خصصه بشرح لمفرداته وما يستوحى منه من أحكام ، لأنه أتى بأشياء مفصلة لما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم فُرِض عليه الحج في السنة التاسعة من الهجرة ، على الصحيح من أقوال العلماء ، لأن آية الحج في سورة آل عمران وهي نازلة حينما وَفَدَ وفد نجران ، وكان وفودهم في السنة التاسعة من الهجرة ، لكنه عليه الصلاة والسلام ما حج إلا في السنة العاشرة ، لأنه عليه الصلاة والسلام في العام التاسع كان مشغولا ببعض أمور الجهاد ، ولأنه كان عليه الصلاة والسلام يستقبل الوفود ، ولذلك يسمى العام التاسع يسمى بعام الوفود ، ولأنه عليه الصلاة والسلام علم أن في مكة بقايا من الشرك ، فأحب عليه الصلاة والسلام ألا يحج إلا وقد خلت المشاعر المقدسة من ظواهر الشرك ، ولذلك أرسل عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعليا رضي الله عنهم إلى مكة في العام التاسع وأمرهم أن يشيعوا في الناس ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، فهذا تنبيه لهم حتى تتنقى تلك المشاعر الطيبة من أصول وظواهر الشرك .
( ثم أذَّن في الناس فى العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله )
الناس لما سمعوا برغبة النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في العام العاشر ، أتت إليه الوفود من كل أصقاع الأرض لينالوا شرف الحج معه عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا لفتة طيبة وهي أن المسلم إذا أراد الحج عليه أن يحرص على الرفقة التي فيها طلاب علم ، لأنه ينتفع بعلمهم ويستنير بآرائهم .
( فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع ؟ قال اغتسلي واستشفري بثوب وأحرمي )
ذو الحليفة : هو ميقات أهل المدينة ، ويسمى الآن بأبيار علي ، والواجب على المسلمين ألا يهملوا الحقائق والتسميات الشرعية ، لا يقل أحد سأحرم من السيل الكبير – خصوصا طلاب العلم – يقول أحرم من قرن المنازل الذي يسميه الناس السيل الكبير ، أحرم من ذي الحليفة الذي يسمى بأبيار علي ، حتى لا تلغى هذه الحقائق الشرعية ، وسمي بهذا الاسم لأن فيه نبتا ، فأطلق عليه هذا الاسم باعتبار وجود هذا النبت .
ويستفاد من هذه الجملة : أن المسلم لا يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام .
ومن الفوائد : أن المستحب في حق من أراد النسك من حج أو عمرة أن يغتسل ، لأن أمره عليه الصلاة والسلام لأسماء أن تغتسل ، ليس غسلا للنفاس ، لأنها لو اغتسلت ما طهرت ، وإنما هو أمر لها بالغسل حال الإحرام ، أو عند الرغبة في الإحرام ، فهذا دليل على سنية الغسل عند الإحرام .
ومن الفوائد : أن الحائض والنفساء إذا أرادتا النسك لا يجوز لهما أن يتجاوزا الميقات ، فعليهما أن يحرما ، وإحرامهما صحيح ، حتى ولو كانتا في حالة حيض أو في حالة نفاس .
ومن الفوائد : أن المرأة إذا حاضت أو نفست فإنها تتحفظ قال (واستشفري ) تتحفظ حتى لا ينزل معها الدم .
( فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد ثمّ ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء: أهل بالتوحيد: ” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك” )
النبي عليه الصلاة والسلام وافق وقت إحرامه وقت الصلاة ، فأحرم عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة ، ومن ثمَّ فإن الصحيح من قولي العلماء أن الإحرام ليس له صلاة ، بل متى ما صادفت في إحرامك وقت صلاة ، فأخِّر إحرامك إلى ما بعد الصلاة ، إن لم يصادف وقت صلاة فأحرم حينما تركب دابتك يعني سيارتك .
والقصواء : هي ناقته عليه الصلاة والسلام .
ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كرَّر التلبية والإهلال، بعد الصلاة وحينما استقلت به على البيداء ، وهو مكان في ذي الحليفة ، فلبى بالتوحيد ، سمى جابرٌ رضي الله عنه التلبية سماها بالتوحيد ، لم ؟ لأنها اشتملت على جميع أنواع التوحيد الثلاثة
( لبيك اللهم لبيك ) من ألبَّ بالمكان إذا أقام فيه ، كأنه يُقر ويعترف بأنه مقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى .
ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالتلبية ، ولو لم يرفع صوته لما سمعها جابر ، فدل على أن السنة للمحرم أن يرفع صوته بالتلبية ، حتى كان الصحابة رضي الله عنهم كما في صحيح مسلم ( كان الواحد منهم يصرخ بها صراخا ) من أجل أن يزيل عليه الصلاة والسلام تلك التلبية الشركية التي كان يلبيها كفار قريش ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله : ” من تتبع مناسك النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن فيها كثيرا من الأمور التي تلغي ما كان عليه الكفار وما كان عليه أهل الجاهلية ” .
( وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)
يستفاد من هذا : أن بعض الصحابة كان يزيد في التلبية ، فكان عليه الصلاة والسلام لا ينكر عليهم .
ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته ، هذا على حسب ما علمه جابر ، وإلا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخلط التلبية بالتهليلة ، بقول ” لا إله إلا الله ” .
( قال جابر، لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة )
يعني ما أحرموا إلا بالحج ، لأنهم ما كانوا يعرفون العمرة ، لأن العمرة عند كفار قريش في أشهر الحج وهي ( شوال – وذو القعدة – وذو الحجة )
فكان كفار قريش يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فعلى حسب ما اعتادوا عليه ما نووا العمرة وإنما نووا الحج فقط .
( حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فطاف سبعاً ، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً )
يستفاد من هذا : أن السنة في حق من أراد أداء النسك عمرة أو حجاً أن يبدأ أوًَّل ما يبدأ بالطواف ، بأن يستلم الحجر ، ولا يذهب ليستريح أو ليبحث عن مسكن ، إن ذهب لا بأس بذلك ، لكن السنة أن يبادر من حين ما يصل إلى البيت ، وأن يستلم الركن الذي هو الحجر الأسود .
ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط مما يدل على أنه لابد من هذا العدد .
ومن الفوائد : أن الرَمَل هو : الهرولة ، فهرول النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة الأولى ، ومشى في الأشواط الأربعة المتبقية ، فهذا هو الأفضل ، لو ترك الرمل لا بأس عليه فهو سنة ، لو لم يتمكن من الرمل مع القرب وتمكنه منه مع البعد ليبعد ويرمل ، هذا هو الأفضل في حقه .
( ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة 125] ، فصلى ركعتين، فجعل المقام بينه وبين البيت – وفى رواية أنه قرأ الركعتين { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }الكافرون1 و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } الإخلاص1 )
السنة حينما تصل إلى المقام بعد الفراغ من الطواف أن تقرأ هذه الآية استشعارا لما كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي هو إمام الحنفاء ، فكأن فيه إلغاءً وإحباطا لما كان عليه أمر الجاهلية .
ومن الفوائد : أن السنة بعد الطواف أن يصلي ركعتين ، بعض العلماء أوجبها وله مستند قوي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المقام قرأ الآية { وَاتَّخِذُواْ } أمر { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ففسر هذا الأمر في الآية بالصلاة لهاتين الركعتين ، فحري بالمسلم أن يحرص عليهما ، لكن الذي عليه الجمهور أنها سنة ، فيجعل هاتين الركعتين خلف المقام ، يعني يجعل المقام بينه وبين الكعبة ، لو صلَّاها في أي مكان من الحرم أجزأ ، كما فعل عمر رضي الله عنه ، والسنة أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }الكافرون1 و في الثانية بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } الإخلاص1 ، وتسما بسورتي الإخلاص ، وخصص هاتين السورتين من أجل أن يلغي أمر الشرك والكفر ، ولذلك سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن ، وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن ، ومن ثمَّ فإن النبي صلى الله عليه وسلم هل أطال القراءة في هاتين الركعتين ؟ لم يطل القراءة ، وكان ركوعه عليه الصلاة والسلام قريبا من قيامه ، فدل على أن السنة ألا يطيل في هاتين الركعتين لا في ركوعه ولا في سجوده ولا بين السجدتين ولا في التشهد ، خلافا لما يفعله البعض .
( ثمّ رجع إلى الركن واستلمه )
المقصود من الركن هو الحجر الأسود ، الاستلام هو ” المسح باليد ” كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، فإذا أراد أن يسعى يستلم ، وإذا لم يُرد السعي فلا يستلم ، إن لم يتيسر له الاستلام لا يُشر إليه ، إنما الوارد هنا هو الاستلام فقط بعد صلاة هاتين الركعتين .
( ثمّ خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } البقرة158 )
يستفاد من هذا: أن قراءة هذه الآية تكون عند دنو الإنسان من الصفا ، لا أن يصل إلى الصفا ، وإنما إذا دنا ، وظاهر حديث جابر أن الآية لا تُكمل { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } ويقف ، ومن ثم فإنه لا يقرأ هذه الآية لا على الصفا ولا في أثناء السعي ولا عند المروة ولا يكررها ، تُقال مرة واحدة إذا دنا من الصفا .
( فبدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا اله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يمّ دعا بين ذلك – قال مثل هذا ثلاث مرات – ثمّ نزل ومشى إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا )
يستفاد من هذا : أن السنة وليس بواجب أن السنة أن يصعد وأن يرقى على الصفا الذي هو الجبل حتى يرى البيت ، لو لم يصعد فليس عليه شيء .
ومن الفوائد : أن السنة إذا صعد الصفا أن يستقبل البيت وأن يقول هذا الذكر ، ثم إذا قاله يدعو ، يفعل ذلك ثلاث مرات ، وهذا مستحب وليس بواجب ، وما يفعله البعض من الإشارة إلى البيت كما يُشار باليدين عند الدخول في الصلاة ، فليس بوارد .
ومن الفوائد : أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسرع بل نزل ومشى ، فلما وصل إلى العلمين الأخضرين الموجودين الآن هرول عليه الصلاة والسلام اقتداء بما كانت تفعله هاجر عليها السلام ، فإن الطعام لما نفد منها وجف ثديها من اللبن وجعل إسماعيل عليه السلام يبكي ذهبت إلى الصفا تنظر لعلها أن ترى أحدا فلم ترَ أحدا فهبطت ، فلما هبطت في الوادي اختفى عنها ولدها فخشيت عليه فأسرعت حتى وصلت إلى المرتفع ثم مشت ، فهذا الرمل اقتداء وتأسيا بها ، ولذا لا تسعى المرأة بين هذين العلمين ولا تهرول ، اللهم إلا في حالة واحدة إن تيسر ، إذا خلا المسعى من الرجال ، ليس فيه إلا النساء فللمرأة أن تسعى بين العلمين ، فلما ارتفع عليه الصلاة والسلام شيئا يسيرا مشى .
ومن الفوائد : السنة أن ما فعله على الصفا من استقبال البيت ومن الذكر والدعاء يقال على المروة ثلاث مرات ، لكن لا يقرأ الآية .
( حتى كان أخر طواف على المروة، فقال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدى وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة )
يستفاد من هذا : أن آخر سعيه عليه الصلاة والسلام توقف عند المروة ، مما يدل على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط ، ومن المروة إلى الصفا شوط ، خلافا لمن قال ” إنه أربعة عشر شوطا ” لأنه لو كان أربعة عشر شوطا لانتهى سعيه بالصفا ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى سعيه إلى المروة .
ثم كان عليه الصلاة والسلام سائقا للهدي ، يعني أتى به في سفره ، ومن أتى به في سفره قارنا فإنه لا يحل من إحرامه ، لكن الصحابة رضي الله عنهم كثير منهم لم يسق الهدي وكان قد نوى الحج قال ( لا ننوي إلا الحج ، ما كنا نعرف العمرة ) فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلُّوا من إحرامهم وأن يجعلوها عمرة ، ففزعوا كيف يفعلون ذلك ؟! ولذلك قال بعضهم ( أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟! ) يعني أيباح لنا إذا أديَّنا العمرة وحللنا ، أيباح لنا أن نجامع وأن نتطيب وما أشبه ذلك ؟ فاستغربوا هذا الأمر لأنه غير معتاد لديهم ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع الحبال التي كان أهل الجاهلية يسيرون ويتمسكون بها .
ومن الفوائد : أن الإنسان لو كان مفردا أو كان قارنا لم يسق الهدي فلما فرغ من طواف القدوم ومن السعي أحب أن يتمتع فله ذلك ، فله أن يغيّر نيته ولو بعد الطواف والسعي ، كما حصل للصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أنه لم يسق الهدي ، فدل على أن التمتع أفضل كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء .
( فقام سراقة بن مالك بن جعثم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لابد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين ، لا بل لأبد أبد )
استفاد من هذه الجملة بعض العلماء كابن القيم وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما أن التمتع واجب ، وأن الإنسان متى ما طاف بالبيت وسعى فإنه قد تحلل ، إن تحلل حقيقة وإلا فقد تحلل حكما رغم أنفه ، ولكن الصواب الذي عليه الجمهور : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( بل لأبد أبد ) أن هذا جائز وليس واجبا على الأمة ، وإنما هو واجب على أصحابه الذين كانوا معه ، فإن الواجب على أصحابه في ذلك الزمن أن يتحللوا ، أما من جاء بعدهم فإنه لا يجب عليهم التمتع ، إنما لهم الحق في أن يفعلوا فيما لو أرادوا إفرادا أو قرانا لهم أن يحولوا النية بعد الطواف والسعي يحولوها إلى تمتع .