شرح كتاب ( بلوغ المرام )ـ حديث 95
( أما بعد :
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
{ لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ, وَهُوَ يَبُولُ, وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ اَلْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ, وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي اَلْإِنَاءِ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم
( من الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة من الآداب :
ما يخص البول ، وما يخص الاستنجاء وما يخص الشرب
فيكون بذلك قد أتى صلى الله عليه وسلم على ذكر ما يضر بالإنسان مما يدخل فيه ومما يخرج منه ، فمما يخرج منه ” البول والغائط ” وما يدخل إليه ” الشراب ” فتكون بذلك الشريعة قد أتت بتحقيق المصالح للبشر ودفع المضار عنها .
( ومن الفوائد )
أن هذا النهي المذكور في هذا الحديث يرى جمهور العلماء إنه ليس للتحريم وإنما هو من قبيل المكروهات .
بينما يرى ” أهل الظاهر ” أن النهي للتحريم ، وحجتهم أن ” الأصل في النهي التحريم “
لكن جمهور الجمهور العلماء يرون أنه للكراهة ، ما صارف النهي ؟
صارف النهي أنهم يقولون ” إن هذه آداب ، والآداب لا تصل إلى التحريم في النهي ولا إلى الوجوب في الأمر “
لكن قولهم ” هذا من باب الآداب يعد صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة ؟ أو صارفاً للأمر من الوجوب إلى الندب ؟
عند الجمهور قاعدة وهي :
[ أن الشرع أتى في قواعده بتحقيق المصالح كلها أو أكثرها ، وبتحجيم المفاسد أو تقليلها ]
فلو نظرنا إلى هذه الآداب نجد أن فعلها ليست بتلك المفسدة أو بتلك المضرة ، وبالتالي أتوا بهذه الجملة الذي يقرأها طالب العلم في الكتب .
ولا شك أن قول أهل الظاهر قول قوي ، ولذلك يتنبه المسلم إلى هذا الأمر .
وأيضا من حيث التربية ينبغي للمسلم أن يربي نفسه على فعل ما أمر به الشرع ، وعلى ترك ما نهى عنه الشرع ، ولا يسأل أهو واجب أم مستحب ؟ محرم أو مكروه ؟
ولذلك ما كان السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر هل هذا للاستحباب أو أنه للوجوب ، أو أنه للتحريم أو أنه للكراهة ؟
وإنما متى ما أتى الأمر ائتمروا ، ومتى ما أتى النهي انتهوا ، ولذلك تربت نفوسهم على تحقيق الانقياد والاستسلام لأحكام الشرع .
ولا يدع الإنسان لنفسه مجالا ، ولذا قال عز وجل آمرا بعض الأنبياء : {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }مريم 12، وقال عز وجل : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }البقرة63
فإذا أخذ الإنسان دين الله عز وجل بقوة تقوى ، وإذا أخذه بضعف ضعف ، وإذا أخذه بتوسط توسط ، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله ” إن المكروهات بوابة للمحرمات – فإذا أسرف في المكروهات ولج في يوم من الأيام في المحرم – وإن المباحات بوابة للمكروهات – فمن أكثر من المباحات تجره هذه المباحات إلى المكروهات “
فمن حيث التربية على المسلم أن يربي نفسه على الأخذ بما جاءت به الشريعة .
( ومن الفوائد )
” النهي عن مسك الذكر بيده اليمنى حال البول “
والبخاري رحمه الله بوَّب [ باب مس الذكر باليمين حال البول ]
فأطلق رحمه الله لأنه يعلم أن هناك قولا للظاهرية وهو قول قوي .
( ومن الفوائد )
أن اللغة العربية مفيد علمها لطالب العلم ، فإن ” الحال يقيد الحكم ” قال هنا :
( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه )
لو أتت هذه الجملة فقط لكان النهي منصباً على مسك الذكر باليمين في أي حال من الأحوال ، لكن لما قال :
( وهو يبول ) وهي جملة حالية ، قيدت الحكم حال البول .
بل إن معرفة الحال في اللغة العربية يجعل طالب العلم على دراية تامة بالمعنى ويدفع معنى فاسداً قد يحصل .
قال عز وجل :
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }الأنبياء16
فكلمة { لَاعِبِينَ } حال ، فلو قرأ الإنسان {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } هنا نفي لخلق السماوات والأرض من الله ، لكن لما أتت جملة الحال قيدت الحكم .
( ومن الفوائد )
أنه قال هنا :
( وهو يبول )
لو قال قائل : لو أنه مسك ذكره بيمينه في غير حالة البول ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول : يجوز ، ولا يكره ، لم ؟
لأن النص قيَّد بالجملة الحالية ( وهو يبول ) فدلَّ على أن ما عدا هذه الحالة يجوز .
القول الثاني : مكروه ، لم ؟
قالوا : لا شك أن الحديث أتى بجملة ( وهو يبول ) لكن إذا كان قد نهي عن مس ذكره بيمينه حال البول مع وجود الحاجة ، إذاً مع عدمها من باب أولى .
والأقرب / هو الأول ، لكن الأولى بالمسلم ألا يمس ذكره بيمينه في غير حال البول .
لو قال قائل / حكم مس ذكر الغير حال البول ؟
إن كان منهيا عن مس ذكر نفسه فالنهي عن مس ذكر غيره من باب أولى .
وقد يحصل هذا من قِبل المرأة مع زوجها ، لكن أيليق بالمرأة أن تفعل هذا حال قضاء الحاجة من زوجها ؟
قد يكون في حال الحاجة كمرض وغيره .
لو قال قائل / حكم مس ذكر الغير في غير حال البول ؟
الجواب / المسألة هي المسألة السابقة ، لكن يمكن أن تمس ذكر زوجها حال الجماع ، فمن يرى بالقول الآخر فعليه أن ينهاها ، لكن كما قلنا الأقرب هو القول الأول وأنه لا حرج في ذلك .
( ومن الفوائد )
أن ذكره صلى الله عليه وسلم لليمين يدل على جواز ذلك باليسار ، فيجوز أن يمس ذكره بشماله حال البول ، وهذا ما يسمى بـ [ مفهوم المخالفة ]
ومفهوم المخالفة مهم جداً لطالب العلم ، ودليله :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( لما كسفت الشمس في عهده قالوا إنما كسفت لموت إبراهيم ، فخطب صلى الله عليه وسلم وقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته )
وهم قالوا إنها كسفت من أجل موت إبراهيم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو اقتصر على قوله ( لا ينكسفان لموت أحد ) لربما فهم شخص أنها قد تكسف لحياة شخص ، فلما ذكر الحياة دل على أن مفهوم المخالفة معتبر شرعا ، فتمسَّك بهذه الفائدة .
( ومن الفوائد )
بيان تكريم اليمين وأنها تكون فيما شأنه التكريم ، والشمال تكون لما سوى ذلك .
والأدلة في ذلك كثيرة ، منها حديث حفصة :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت يمينه لأكله وشربه وأخذه وإعطائه وكانت شماله لما سوى ذلك )
(ومن الفوائد )
أن الاستنجاء باليمين منهي عنه سواء كان بآلة أو بغير آلة ، فإن كان بآلة كالماء أو بالحجارة فيكون الخلاف السابق بين الجمهور وبين الظاهرية .
لكن إن كان من غير آلة كأن يزيل النجاسة بيمينه من غير ماء ولا أحجار فهذا محرم ، لأنه لا يجوز – كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح – لا يجوز للمسلم أن يلامس النجاسة .
لو قال قائل :
هل له أن يلامس النجاسة بيده اليسرى من غير آلة ؟
الجواب / لا يجوز له أن يمس النجاسة من غير حائل لا بيده اليمنى ولا بيده اليسرى .
( ومن الفوائد )
أنه قال ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )
( من ) هنا ” سببية ” ولا يتمسح بسبب الخلاء بيمينه .
( ومن الفوائد )
نهي المسلم عن التنفس في الإناء ، لأن التنفس في الإناء سبيل لتقذير هذا المشروب من ماء أو نحوه على الشارب أو على الشاربين الآخرين .
أو لسبب إيجاد الضرر الذي يكون من تنفسه في هذا المشروب .
وهذا يؤكد أن الإسلام نهى عما يضر بالإنسان فيما يدخل بدنه ، بينما الجملتان الأوليان نهي عن الضرر الذي يقع للإنسان فيما يخرج من بدنه .
لو قال قائل / ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ( كان يتنفس في الإناء ثلاثاً )
نقول / إن الجملة هنا حذف فيها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ( كان يتنفس في خارج الإناء )
وهذا تدل عليه السنة الفعلية منه صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت عند الطبراني بإسناد لا بأس به كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح :
( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس ثلاثاً فيسم الله في أول الشربة ويحمد الله في آخرها وفي الشربة الثانية وفي الشربة الثالثة )
( ومن الفوائد )
أن التنفس في الإناء ليس منهيا عنه على سبيل الإطلاق ، فإنه يجوز في حالة الرقية ، فإذا أراد شخص أن يقرأ في إناء فإن له أن ينفس نفسا يسيرا في الإناء .
وهل الرقية في الماء جاءت بها السنة ؟
الصحيح الوارد أنه جاء عن بعض السلف ، فيكون فعلهم دليلا
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن ذلك فأجاب :
” أن السلف كانوا يفعلونه “
( ومن الفوائد )
لو قال قائل :
لو كان الإنسان بيده إناء فيه شراب حار فأراد أن يخفف من حرارته بالنفث فيه وهو الشارب وليس غيره ؟
الجواب / أن الحكم لا يتغير ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى لم يخصص قال ( ولا يتنفس في الإناء ) سواء سيشربه هو أو غيره .
فتكون السنة أن يتنفس خارج الإناء ويشرب بثلاثة أنفاس ، ولذلك علَّلَّ صلى الله عليه وسلم قال :
( فإنه أهنأ وأبرأ وأمرأ )
فيكون هنيئا حال الشرب وتكون العاقبة أيضا حسنة وطيبة ، ولا يعني أن الشرب بنفس واحد محرم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
( ولا يشرب أحدكم من الإناء كشرب البعير ، فقال رجل يا رسول الله إني لا أروى ) يعني إلا بنفس واحد ( فقال صلى الله عليه وسلم فأبن القدح إذاً عن فيك ) يعني لك أن تشرب بنفس واحد لكن إذا فرغت من هذه الشربة أخِّر القدح عن فمك حتى لا تتنفس فيه .
( ومن الفوائد )
ما جاء من حديث عب الماء أو مص الماء فإنه ضعيف .