بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف من الآية ( 23) إلى (49)
الدرس (139) لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
قال تعالى :
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(23)
﴿ وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها ﴾ هنا بدأ الابتلاء الثاني و هو: الابتلاء المتعلق بالشهوة و لذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ما فعلته تلك المرأة مع يوسف من حيث الابتلاء أعظم من ابتلائه بما جرى من إخوته معه ) ﴿ وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها عَن نَفسِهِ ﴾ وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن الفتنةَ هنا أعظم باعتبار ماذا؟ باعتبار أنه شاب و لم يتزوج وباعتبار أنه عند امرأة العزيز ذات منصب و جمال، و في بيتها يعني الريبة والشك مُنتفيان في ذلك.
أيضًا فيما يتعلق أن هذه المرأة هي التي دعته وتهيأت له و أغلقت الأبواب ،و أيضًا زوجُها ليس عندها من تلك الغيرة التي بها غَضِبَ على زوجتِه لم يكن شيءٌ من ذلك و مع تلك السُّبُل و مع تلك المِحنة إلا أنَّ الله عز وجل أعان يوسف و ثبته و هداه إلى الخير فامتنع و استعصم بالله عز و جل .
﴿ وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ ﴾ و لم يذكر اسمها سِتراً عليها ﴿ وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها ﴾ و لذا القرآن لا يذكر النساء و إنما صّرَّحَ بمريم عليها السلام باعتبار التأكيد على أنَّ عيسى ليس ابناً لله و إنما هو ابنٌ لمريم كل ذلك سِتراً على النساء حتى فيما يتعلق بأسمائهن، و لا يعني أنَّ ذِكرَ اسمَ المرأة به عيب !كلا، فالصحابيات رضى الله عنهن صُرِّحَ بأسمائهن ولا حرج في ذلك ، لكن متى ؟ عند الحاجة ،لكن من غير حاجة فلا .
﴿ وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها ﴾ قال : ﴿ هُوَ في بَيتِها ﴾ يعني الريبة مُنتفية ﴿ هُوَ في بَيتِها عَن نَفسِهِ ﴾ أرادته عن نفسه.
﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبوابَ ﴾ لم يقل و أغلقت ﴿ وَغَلَّقَتِ ﴾ من باب التحكيم و التشديد في قضية الإغلاق . وأيضاً يدل على أنه ليس باباً واحداً . ﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبوابَ وَ قالَت هَيتَ لَكَ ﴾ و هنا فيه قراءات متعددة ﴿ هَيتَ لَكَ ﴾ يعني أقبل فدعته إلى أن يُقبل وقد تهيئت وتزينت له . ﴿ وَ قالَت هَيتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّـهِ ﴾ ﴿ مَعاذَ اللَّـهِ ﴾ أستعيذُ بالله معاذاً ﴿ مَعاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبّي ﴾ أي سيدي لأنه سيده . ﴿ إِنَّهُ رَبّي ﴾ و يصح أن يرجع إلى الله عز و جل و لذا قال : ﴿ إِنَّهُ رَبّي ﴾ أي سيدي . ﴿ أَحسَنَ مَثوايَ ﴾ لأنه لما اشتراه ﴿ و َقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ أَكرِمي مَثواهُ ﴾ ﴿ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ ﴾ بمعنى أني لو فعلتُ ذلك ففيه إساءة لحق من أحسن إليّ وأيضاً فيه ماذا ؟ اعتداء على حق الله.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(24)
﴿ وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّه ِ﴾ كلام ٌطويل حتى بعض الأقوال فيه تقديم الآية وفيه تأخير و الأمر يسير و من ثم فإن قوله : ﴿ وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَ هَمَّ بِها ﴾ الهمُّ نوعان: همٌ خاطر يخطر في القلب ثم يزول ، وهمٌ ثابتٌ مستقر.
فالهمُّ المستقر هو: هَمُّ امرأة العزيز، وأما الهم الخاطر الذي خطر على يوسف فهو لا عيبَ فيه.
و لذا قال : ﴿ وَ لَقَد هَمَّت بِهِ وَ هَمَّ بِها﴾ و لذلك الهم كما قال صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيحين : ( من همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) فقال هنا : ﴿ وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها ﴾ طبيعة البشر لكنه هم خاطر، يعني خطر في القلب لا عيب و لا لوم على يوسف لكن هم هذه المرأة هم عزم و إقبال . ﴿ وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَ هَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ ﴾
﴿ لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ ﴾ برهان ربه هو ما في قلبه من الإيمان و العلم و الخير فصرفه الله عز و جل عن هذا الأمر.
وأما ما يُذكر من أنه لما جَلَسَ وخَلَع سراويله و أنه لما جلس بين فخذيها ورأى أباه في حائط الجدار في صورته يعض على أصابعه أو ما شابه ذلك! فقد قال المحققون كشيخ الإسلام رحمه الله:
(كلُّ ذلك من الإسرائيليات التي بها أراد بنو إسرائيل أن يسيئوا إلى أنبياء الله عز و جل ليس يوسف فقط بل على الأنبياء الآخرين ) . قال : ( و نقله بعض العلماء من باب ماذا ؟ من باب حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج، و من باب ماذا ؟ حسن ظنهم ببعض من نقل هذا العلم ، فنقلوه من غير أن يتمعنوا فيه و إلا فهي لا تليقُ بيوسف عليه السلام ).
﴿ لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السّوءَ وَ الفَحشاءَ ﴾ ﴿ كذلك ﴾ يعني مثل ما أُرِيَ برهان ربه ، كذلك أيضاً في جميع أحواله نصرفه عن ماذا ؟ عن السوء و الفحشاء.
السوء: الذنب سواءً كان صغيراً أو كبيراً . الفحشاء: هو ما استُفحش قُبحه كالزنا.
﴿ كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السّوءَ وَ الفَحشاءَ إِنَّهُ مِن عِبادِنَا المُخلَصينَ ﴾ الذين أخلصناهم ، و في قراءة (المخلِصين) يعني: أخلصوا لله فأخلصهم الله . و هذا يدل على ماذا ؟
يدل على أنَّ التوحيد سبب بإذن الله عز و جل في نجاة العبد من الذنوب؛ فسبحان الله ما أعظم التوحيد نجاة في الدنيا و نجاة في القبر يُسئل عن ربه عن دينه عن نبيه هذه أسئلة إذا أجاب عنها تدل على التوحيد فيها نجاة في القبر، نجاة في الدنيا، نجاة في الآخرة.
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(25)
﴿ وَاستَبَقَا البابَ ﴾ ﴿ وَاستَبَقَا ﴾ هو أراد أن يخرج من هذا الباب كأنَّ الأبواب السابقة فُتِحت لم يبقَ إلا باب البيت الأخير.
﴿ وَاستَبَقَا البابَ ﴾ هو استبقا الباب يعني تسابق هو و هي، فهو يُريد أن يخرج وهي تُريد أن تمنَعه من الخروج.
﴿ وَاستَبَقَا البابَ وَقَدَّت ﴾ أي قطعت و شَقَّت ﴿ قَميصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ أي من الخَلْف ﴿ وَأَلفَيا سَيِّدَها ﴾ أي: وجدا سيدها يعني زوجَها، مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أنه وصف الزوج بأنه سيد مما يدل على أن الرجل قوَّامٌ على زوجته ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ وليس معنى السيادة من أنَّ الإنسان يتسلط على زوجته لا، و لذلك قال r كما ثبت عنه:( فإنما هن عوان عندكم ) يعني بمثابة الأسير، لكن بمعنى ماذا ؟ بمعنى أنك تحرص عليها فيما يتعلق بأمورها الدينية والدنيوية وليس معنى ذلك أن تتسلطَ عليها. و لذا ماذا قال تعالى : ﴿ وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾.
﴿ وَ أَلفَيا سَيِّدَها لَدَى البابِ قالَت ﴾ تحدثت هي أولًا ﴿ قالَت ما جَزاءُ مَن أَرادَ ﴾ تقول لزوجها ﴿ ما جَزاءُ مَن أَرادَ بِأَهلِكَ سوءًا ﴾ يدل على أنَّ الزوجةَ أهل ﴿ بِأَهلِكَ سوءًا ﴾ وأطلقت وعممت ذلك من أجل أن تبين أنه لم يحصل شيء مما قد يرتاب فيه. ﴿ قالَت ما جَزاءُ مَن أَرادَ بِأَهلِكَ سوءًا إِلّا أَن يُسجَنَ أَو عَذابٌ أَليمٌ ﴾ يعني: السجن أو عذاب أليم ، لأن السجن قريب أن يخرج يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو ما شابه ذلك. ﴿ أَو عَذابٌ أَليمٌ ﴾ أي مؤلم بضرب أو نحوه ، و لذلك ما أرادت أن يُقتل لِمَ ؟ لأنها تحبه و الحبيب لا يقدم على ماذا ؟ لا يقدم على قتل ماذا؟ على قتل حبيبه. ﴿ ما جَزاءُ مَن أَرادَ بِأَهلِكَ سوءًا إِلّا أَن يُسجَنَ أَو عَذابٌ أَليمٌ﴾.
﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾(26) ﴿ قالَ ﴾ هو أراد أن يُدافع عن نفسه و من ثم فإن الإنسان عليه أن يبتعد عن مواطن الشبه و التهم . و لذا قال r كما في الصحيحين : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه ) و لذلك قال r كما في الصحيحين : ( إنها صفية ) قال : (خَشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شرًا ).
و هنا يوسف u هو في بيتها و هو خادم لكن هنا و قع ما و قع في ماذا ؟ وقع من أن هذا أمرٌ حصل له من غير و جوده في مواطن الشبه لأنه أصلًا هو من ضمن ماذا؟ من ضمن غلمان لهذا السيد.
فالإنسان يبتعد عن مواطِنِ الشُّبَه، فإذا لا قدر الله و قع في مكان شبهة و هو لا يعلم فأُسيء إليه هنا عليه أن يُبرئ نفسَه.
ولذا ماذا قال؟ ﴿ قالَ هِيَ راوَدَتني عَن نَفسي ﴾ و المراودة الطلب بالتكرار و باستمرار ، و لذا ماذا قال ؟ ﴿ هِيَ راوَدَتني عَن نَفسي ﴾ يعني كررت معي ليس مرة ولا مرتين ولا ثلاث مرات.
﴿ قالَ هِيَ راوَدَتني عَن نَفسي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِن أَهلِها ﴾ الشاهد هنا هو الحاكم يعني و حكم حاكم ، وقال هنا عن الحاكم بأنه شاهد باعتبار أن الحكم يثبت بالشهادة. ﴿ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِن أَهلِها﴾ قال بعض العلماء من أهلها مبهم. وقال بعض العلماء إنما الشاهد هنا هو طفل صغير في المهد. و لذا جاء في حديث اختلف العلماء منهم من يُحسنه ومنهم من يُضعفه ( لم يتكلم في المهد إلا أربعة) -ذُكر منهم- (الطفلُ الذي كان في بيت العزيز ).
وعلى كل حال إن ثبت فهو الشاهد، إن لم يثبت هذا الحديث فهنا شهد شاهد من ماذ؟ من أهلها مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أنه هذا الشاهد وهذا الحاكم ليس قريبًا من يوسف و إنما هو قريبٌ منها و كفى بذلك شهادة على إثبات براءة يوسف.
فقال هنا: ﴿وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِن أَهلِها إِن كانَ قَميصُهُ ﴾ و هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الحاكم يعمل بالقرائن، ولذلك ماذا قال؟ ﴿ إِن كانَ قَميصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ يعني من قُدَّام ﴿ فَصَدَقَت وَ هُوَ مِنَ الكاذِبينَ ﴾ ﴿ فَصَدَقَت ﴾ يعني فيما قالته. ﴿ وَ هُوَ مِنَ الكاذِبينَ ﴾ دل على أنه ممن صفتهم الكذب.
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾(27)﴿ وَ إِن كانَ قَميصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾ يعني من الخلف ﴿ فَكَذَبَت وَهُوَ مِنَ الصّادِقينَ ﴾ يعني من أهل الصدق من أهل الصدق من جملة الصادقين .
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم(28)
﴿ فَلَمّا رَأى قَميصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ ﴾ ضعيف هذا الزوج ﴿ قالَ إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ ﴾ لم يقل إنه من كيدكِ وإنما قال من كيدكن يعني جميع النساء حتى لا يصفَها هي بالكيد وحدَها، و من ثَمَّ فإنَّ الكيدَ حاصلٌ من النساء و من امرأةِ العزيز في هذه السورة في أكثر من موطن؛ فدل على أن كيد النساء موجود . ﴿ قالَ إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظيمٌ ﴾ وقد جمعنا بين هذه الآية وبين قوله تعالى : ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ كما في سورة النساء.
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾(29)
﴿ يوسُفُ ﴾ هذا الذي اكتفى به هذا الزوج ﴿ يوسُفُ أَعرِض عَن هـذا ﴾ يعني لا تتحدث به حتى لا يظهر ﴿ يوسُفُ أَعرِض عَن هـذا وَ استَغفِري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطِئينَ ﴾ أي من المذنبين.
و هذا لا يدل على أنهم كانوا مسلمين لا، و لذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( قد يكون الاستغفار من المشركين وليسوا من أهل التوحيد كما يكون من الكفار إذا أصابهم الكرب فإنهم يدعون اللهَ عز و جل ). و لذا قال مما يدل على أنهم ليسوا بموحدين من أنه قال في السورة: ﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ أَمِ اللَّـهُ الواحِدُ القَهّارُ ﴾ مما يدل على أن البيئة بيئة كُفرية ، لكن قال هنا : ﴿ وَ استَغفِري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطِئينَ ﴾.
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(30)
﴿ وَ قالَ نِسوَةٌ فِي المَدينَةِ ﴾ لم يبقَ الأمر في البيت هنا انتشر الخبر ﴿ وَ قالَ نِسوَةٌ فِي المَدينَةِ امرَأَتُ العَزيزِ تُراوِدُ فَتاها عَن نَفسِهِ ﴾ هنا لم يُردنَ الإنكار و إنما أردنَ الكيد، لأنهن قُلنَ هذه الكلمات من أجل أن تُطلعهن امرأة العزيز على هذا الغلام الذي افتُتنت به امرأة العزيز. و لذلك ماذا قال؟ ﴿ وَ قالَ نِسوَةٌ فِي المَدينَةِ امرَأَتُ العَزيز ﴾
﴿ امرَأَتُ العَزيزِ ﴾ يعني كيف امرأة العزيز أنها تراود؟ {تراود}: ( طلب باستمرار ) ﴿ فَتاها ﴾ كيف تراود فتاها ﴿ عَن نَفسِهِ ﴾ ثم أكدوا ذلك من باب الكيد من النساء. ﴿ قَد شَغَفَها حُبًّا ﴾ الشغف هو: شدة الحب، بمعنى أن الحب وصل إلى أعماق القلب ﴿ قَد شَغَفَها حُبًّا ﴾ و أكَّدنَ ذلك الكيد ﴿ إِنّا لَنَراها في ضَلالٍ مُبينٍ ﴾ أي في خطأ واضح و مبين، و لذلك ماذا قال بعدها؟
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾(31)
﴿ فَلَمّا سَمِعَت بِمَكرِهِنَّ ﴾ علمت أن هذا مَكْرٌ منهن ﴿ فَلَمّا سَمِعَت بِمَكرِهِنَّ ﴾ كانت أمكر منهن ﴿ أَرسَلَت إِلَيهِنَّ ﴾ للدعوة ﴿ أَرسَلَت إِلَيهِنَّ وَ أَعتَدَت لَهُنَّ مُتَّكَأً ﴾ المتكأ :الذي يُتكأُ عليه عند الأكل
﴿وَآتَت كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكّينًا ﴾ بعض العلماء يقول : المتكأ هو الطعام. و لكن لو قُيل بهذا فإنه جُمع هنا بين الاتكاء وبين ماذا؟ وبين الطعام فهي قدمت لهن طعام، هذا الطعام الله أعلم لكنه يُقَطَّع بالسكاكين.
﴿ وَأَعتَدَت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَت كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكّينًا ﴾ وهذا الاتكاء يدل على الترف و تقطيعُ الطعام بالسكاكين يدل على الترف دل هذا على أن الزمن الذي كان فيه أهل مصر في تلك المرحلة فيه شيءٌ من الترف . ﴿ وَ آتَت كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكّينًا وَقالَتِ اخرُج عَلَيهِنَّ ﴾ أمرته أن يخرج عليهن باعتبار أنها سيدته.
﴿ وَ قالَتِ اخرُج عَلَيهِنَّ فَلَمّا رَأَينَهُ ﴾ بعض العلماء يقول أنها زينته أكثر لكن ليس هناك دليل على كل حال هو أعطي شطر الجمال نصف الجمال كما قال r كما في صحيح مسلم : ( رأيتُ يوسفَ قد أُعطيَ شطر الحُسن ).
﴿ وَ قالَتِ اخرُج عَلَيهِنَّ فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ ﴾ يعني: أَعظَمْنَهُ، قلنَ سبحان الله، أعظمنه صار عظيما عندهن لأنه جمال باهر ﴿ أَكبَرنَهُ ﴾ و بعضُ المفسرين يقول : ( إنهن أمنينَ و أمذينَ لما رأينه) و يقال : (إنهن حِضْنَ لما رأينه ) دهشةً من ذلك. لكن الذي يظهر من أنه أعظمنه.
﴿ فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ وَ قَطَّعنَ أَيدِيَهُنَّ ﴾ بمعنى أنهن شققن الأيدي بعض العلماء يقول: ( إنهن قطعن الأيدي إبانةً ) لكن الذي يظهر من أنه شق بمعنى التقطيع الذي لا إبانة به.
﴿ وَ قَطَّعنَ أَيدِيَهُنَّ وَ قُلنَ حاشَ لِلَّـهِ ﴾ ﴿ وَ قُلنَ حاشَ لِلَّـهِ ﴾ تنزهًا لله و استعاذةً بالله ﴿ ما هـذا بَشَرًا﴾ ﴿ وَ قُلنَ حاشَ لِلَّـهِ ما هـذا بَشَرًا إِن هـذا إِلّا مَلَكٌ كَريمٌ ﴾ أي: ما هذا إلا ملك، أي بهذه الصفات و هذا الجمال؛ و هذا يدل على ماذا؟ يقول ابنُ القيم رحمه الله يقول : ( إن امرأة العزيز أعظم منهن صبراً و إن كانت هي أعظم هؤلاء النسوة شوقاً و حباً ليوسف) لِمَ ؟ قال : ( لأن امرأة العزيز لم يذهب عقلُها لكن هؤلاء النسوة ذهبت عقولهن حتى قطعن أيديهن) قال : ( فإنها ثبتت لِمَ ؟ لأنها تريد أن تحقق ما تريد من يوسف ) ﴿ وَقَطَّعنَ أَيدِيَهُنَّ وَقُلنَ حاشَ لِلَّـهِ ما هـذا بَشَرًا إِن هـذا ﴾ يعنى: ما هذا ﴿إِلّا مَلَكٌ كَريمٌ ﴾.
﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾(32)
﴿قالَت﴾ صرَّحَت ﴿ قالَت فَذلِكُنَّ الَّذي لُمتُنَّني فيهِ وَ لَقَد راوَدتُهُ عَن نَفسِهِ ﴾ مراودة طلب بعد الطلب وباحتيال ﴿ فَاستَعصَمَ ﴾ أي: امتنع، و هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن يوسفَ u شهدت له امرأة العزيز بماذا؟ بأنه طاهر القلب وطاهر البدن.
فَاستَعصَمَ وَ لَئِن لَم يَفعَل ما آمُرُهُ ﴾ أتى التهديد ﴿ وَ لَئِن لَم يَفعَل ﴾ سبحان الله انظُر ، نعوذ بالله من هذه الحال ، يعني إلى درجة أنها تهدد على ملأ من النساء .
﴿وَ لَئِن لَم يَفعَل ما آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ و َلَيَكونًا مِنَ الصّاغِرينَ﴾ إما السجن أو أنه يكونُ من الصاغرين الأذلاء و أكَّد السجن بنون التوكيد الثقيلة و أكَّد ما يتعلق بالصاغرين الفعل ﴿ وَلَيَكونًا ﴾ بنون التوكيد الخفيفة.
قال بعض العلماء ( لأن السجنَ إذا سُجن يحصلُ به الصَّغار والهَوان ) و لكن عندي في هذا: أنَّ هنا فيما قالوه فيه نظر لما ؟ لإنَّ الإنسان قد يُسجن و لا يكونُ به صَغار و لا ذُل ، لا يَستذِل لغيرِه، و إنما الذي يظهر من أن قوله ﴿ لَيُسجَنَنَّ ﴾ بمعنى: أنه في نون التوكيد الثقيلة بمعنى أنَّ القدرةَ على سَجنه متحققة. نحن قادرون على سِجنه لكن كون أن نذله و نجعله من الصاغرين هذا ليس بأيدينا يعني مُحتمل ليس أكيد. قالت ﴿فَاستَعصَمَ ﴾ مما يدل على أنه لن يذل لهن .
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(33)
﴿ قالَ رَبِّ السِّجنُ ﴾ لجأ إلى الله لما رأى اجتماع هؤلاء النسوة و ما جرى منهن ما حصل له هنا لجأ إلى الله ﴿ قالَ رَبِّ السِّجنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدعونَني إِلَيهِ ﴾ أتى بالجمع لمَ؟ لأنَّ هؤلاء النسوة وافقن ماذا؟ امرأةَ العزيز على هذا الأمر.
و لذلك بعض العلماء قال: (إن كل امرأة أتت به و انفردت به من أجل أن ينفذ أمرَ امرأة العزيز و إذا بها تراودها عن نفسه) لكن الذي يظهر من أن النسوة كُنَّ مع امرأة العزيز في هذا الأمر، بمعنى يقلن له: استجب لسيدتك.
﴿قالَ رَبِّ السِّجنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ أحب ليست على صيغة أفعل التفضيل على بابها لا، لأنه لا يُريد السجن لكن يقول : ﴿ السِّجنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ يعني إن كان و لابد ﴿ السِّجنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدعونَني إِلَيهِ وَ إِلّا تَصرِف عَنّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ ﴾ الصَّبابة ﴿ أَصبُ إِلَيهِنَّ ﴾ هو المَيل ميلُ الحب. ﴿ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَ أَكُن مِنَ الجاهِلينَ﴾ أي: مِمَّن جَهِلَ هذا الأمر فوقع فيما وقع فيه الجُهال. و هذا يدل على ماذا؟ يدل على أنه بشر فخشي على نفسه ﴿ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَ أَكُن مِنَ الجاهِلينَ ﴾ .
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(34)
ثم ماذا ﴿فَاستَجابَ ﴾ أتى بفاء التعقيب ﴿ فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ ﴾ قال ﴿ رَبُّهُ ﴾ لأنه ربه و حافِظُهُ ومُتوليه ومُعطيه فقال : ﴿ فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ ﴾ انظر ﴿ فَصَرَفَ عَنهُ كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ ﴾ سميعٌ لدعائه، عليمٌ بحاله و بأحوالِ هؤلاء النسوة، و أيضًا سميع لما قالته هؤلاء النسوة.
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾(35)
﴿ ثُمَّ بَدا لَهُم مِن بَعدِ ما رَأَوُا الآياتِ ﴾ أي ظَهَر لهم واتفقوا ﴿ مِن بَعدِ ما رَأَوُا الآياتِ ﴾ على براءة يوسف u ﴿ ثُمَّ بَدا لَهُم مِن بَعدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسجُنُنَّهُ حَتّى حينٍ ﴾ يعني إلى زمن حتى يختفيَ هذا الخبر و حتى ينطفيَ هذا الأمر.
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ )36)
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجنَ فَتَيانِ ﴾ قال : ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجنَ فَتَيانِ ﴾ كلمة معه تدل على ماذا ؟ تدل على أنه من حين ما دخل فإنَّ هذين الرجلين قد سبرا حياةَ و حالَ يوسف u فحَكَم عليه بأنه من المحسنين.
و لذا قال: ﴿دَخَلَ مَعَهُ السِّجنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنّي أَراني ﴾ يعني في المنام ﴿ إِنّي أَراني أَعصِرُ خَمرًا ﴾ هو يعصر العنب لكن قال خمرًا باعتبار ما سيؤول لأنه بعد عَصرِه للعنب سيكون خمرًا ﴿إِنّي أَراني أَعصِرُ خَمرًا وَ قالَ الآخَرُ إِنّي أَراني أَحمِلُ فَوقَ رَأسي خُبزًا تَأكُلُ الطَّيرُ مِنهُ نَبِّئنا بِتَأويلِهِ ﴾ يعني: بتفسير هذه الرؤيا ﴿ إِنّا نَراكَ مِنَ المُحسِنينَ ﴾ وصفوه بالإحسان لأنه من حين ما دخلوا معه إلى هذه الرؤيا لمَّا عَلِما حالَه و رأوا حالَ يوسف u علموا أنه من أهل الإحسان. ولذا ماذا قال عز و جل: ﴿ وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيناهُ حُكمًا وَ عِلمًا وَ كَذلِكَ نَجزِي المُحسِنينَ ﴾ ﴿ إِنّا نَراكَ مِنَ المُحسِنينَ ﴾.
﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ )37)
﴿ قالَ لا يَأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِهِ ﴾ ﴿ تُرزَقانِهِ ﴾ لأنَّ هذا رزقٌ من عند الله عز و جل ﴿ تُرزَقانِهِ إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأويلِهِ ﴾ يعني: بتفسيره ﴿ قَبلَ أَن يَأتِيَكُما ﴾ قال بعض المفسرين : (يعني من أنه ما يأتيكما طعامٌ في المنام إلا فَسَّرتُ لكم هذا الطعام)؛ و قال بعضُ العلماء: -و هو قول أيضاً قوي- و إن كان الأول كثير عليه من المفسرين من أنه ﴿ لا يَأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِهِ ﴾ يعني: قبل أن يأتيكما طعام في اليَقَظَة ﴿ قَبلَ أَن يَأتِيَكُما ﴾ أخبركما عن نوعية هذا الطعام و عن ماهية هذا الطعام و يكون حاله كحال عيسى u كما قال تعالى في سورة آل عمران ﴿ وَ أُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ فتكون هذه مُعجزة.
﴿ذلِكُما مِمّا عَلَّمَني رَبّي ﴾ حتى لا يظنا أنه ماذا ؟ أنه كِهانة أو سحر أو ما شابه ذلك من باب ماذا؟ أن يقربَ لهما أمر التوحيد ﴿ ذلِكُما مِمّا عَلَّمَني رَبّي ﴾ ولذلك ماذا قال؟
﴿ إِنّي تَرَكتُ مِلَّةَ﴾ الترك لا يدل على أنه كان واقعًا فيها لا، الترك يدل على ماذا ؟ يدل على أنه لم يقع في ذلك، لا يلزم من الترك وقوعه في هذه الملة.
﴿إِنّي تَرَكتُ مِلَّةَ﴾ أي دين ﴿ مِلَّةَ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَ هُم بِالآخِرَةِ هُم كافِرونَ ﴾ مما يدل على ماذا ؟ على أن الإيمان باليوم الآخر موجود في كتب الأنبياء السابقين خلافاً للفلاسفة الذين يقولون ما أتى ذكر اليوم الآخر إلا في دين محمد r .
﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾(38)
﴿وَاتَّبَعتُ مِلَّةَ آبائي إِبراهيمَ﴾ مع أنهم أجدادُه ﴿إِبراهيمَ وَإِسحاقَ ﴾ جده ﴿ وَيَعقوبَ ﴾ أبوه ﴿ وَاتَّبَعتُ مِلَّةَ﴾ أي دين ﴿ آبائي إِبراهيمَ وَ إِسحاقَ وَ يَعقوبَ ما كانَ لَنا أَن نُشرِكَ بِاللَّـهِ مِن شَيءٍ ﴾.
﴿ما كانَ لَنا ﴾ ما ينبغي لنا و ما يكون لنا أن يقعَ منَّا شرك فإننا أهلُ بيت النبوة، و لذلك ماذا قال عز و جل في السورة السابقة ﴿ رَحمَتُ اللَّـهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ﴾.
﴿ما كانَ لَنا أَن نُشرِكَ بِاللَّـهِ مِن شَيءٍ ذلِكَ مِن فَضلِ اللَّـهِ عَلَينا ﴾ دل هذا على أن أعظم الفضل هو نعمة الدين. ﴿ ذلِكَ مِن فَضلِ اللَّـهِ عَلَينا وَ عَلَى النّاسِ﴾ أي على الناس الذين آمنوا بالدين هذا فضل من الله عليهم ﴿ وَ لـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَشكُرونَ ﴾ يعني مع هذا كله فالناس لما أتاهم الدين الكثيرُ منهم لم يشكر و لم يعبد الله عز و جل .
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾(39)
﴿يا صاحِبَيِ السِّجنِ ﴾ هنا ناداهما بماذا ؟ بصاحبي السجن ﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ ﴾ من باب ماذا ؟ من باب أنهما دخلا السجن معه فهُم صاحباه في السجن.
﴿يا صاحِبَيِ السِّجنِ ﴾ و أيضًا إضافة الصاحب إلى السجن يدل على ماذا؟ يدل على أنهما كانا في مدة ليست بالقصيرة، و لذلك ماذا قال عز و جل: ﴿ فَلَبِثَ فِي السِّجنِ بِضعَ سِنينَ﴾ مما يدل على أن بقاء هؤلاء في السجن ليست مدة قصيرة.
﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ ﴾ لم يُفسر لهما الرؤيا في أول الأمر لا ، أخَّرَها لأن أول ما تدعو إليه الأنبياء هو التوحيد و أعظم ما تُبذل فيه الأموال والأنفاس هو نشر التوحيد .
﴿يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ ﴾ أي: مختلفون من حيث النوع من حيث الصفات أحجار، أشجار أُُناس. ﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ﴾ خير ليست على بابها لأن تلك الأصنام ليست بها خير ﴿ أَمِ اللَّـهُ الواحِدُ ﴾ قال ﴿ الواحِدُ ﴾ لأنه هو الواحد الذي يستحق العبودية و حده عز و جل، و لذا قال ﴿ القَهّارُ ﴾ الذي هو له علو القهر و قهر عباده ، إذن هو واحد قهار فالقهار الواحد هو الله و الواحد القهار هو الله.
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(40)
﴿ما تَعبُدونَ مِن دونِهِ إِلّا أَسماءً ﴾ يعني مجرد أسماء أنتم الذين و ضعتم لهذه الأصنام أسماء. ﴿سَمَّيتُموها أَنتُم وَ آباؤُكُم ما أَنزَلَ اللَّـهُ بِها مِن سُلطانٍ ﴾ أي من حجة ﴿ إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّـهِ ﴾ أي ما الحكم إلا لله الحكم الشرعي لله، الحكم القدري الكوني لله الحكم الجزائي لله ﴿ إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّـهِ ﴾ و من حُكمه الديني ﴿ أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ ﴾ هو التوحيد ﴿ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ ﴾ المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. ﴿ قُل إِنَّني هَداني رَبّي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ دينًا قِيَمًا ﴾ فقال ﴿ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَ لـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ ﴾ لجهلهم بعظم هذا الدين وبعظم التوحيد . ولذلك لم يؤمنوا.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾(41)
﴿يا صاحِبَيِ السِّجنِ ﴾ هنا سيفسر لهما الرؤيا ﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسقي رَبَّهُ ﴾ ولم يُصَرِّح بأحدهما عند الآخر و إنما أطلق ذلك، ﴿ يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسقي رَبَّهُ خَمرًا ﴾ يعني سيخرج وهو الذي يعصِرُ العنب كما قال: ﴿ إِنّي أَراني أَعصِرُ خَمرًا ﴾ ﴿ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسقي رَبَّهُ خَمرًا وَ أَمَّا الآخَرُ فَيُصلَبُ فَتَأكُلُ الطَّيرُ مِن رَأسِهِ ﴾ لماذا قال فيصلب طبعاً قبله القتل، لأن أكل الطير من رأسه يستلزم أنه سيبقى في الخلاء و في الفضاء فقال : ﴿ وَ أَمَّا الآخَرُ فَيُصلَبُ فَتَأكُلُ الطَّيرُ مِن رَأسِهِ قُضِيَ الأَمرُ الَّذي فيهِ تَستَفتِيانِ ﴾ أي قُضِيَ ونَفَذَ الأمر الذي فيه تستخبران عن هذه الرؤيا. وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن الرؤيا لا يجوزُ أن يُعبث بها، فلا يجوز لأي أحد أن يفسرها فلها قواعدها ولها أصولها خلافاً لمن أقحَمَ نفسَه فيها.
ولذلك جعلها فُتْيَا ولذلك ماذا قال عز و جل في هذه السورة عن ذلك الملك ﴿ أَفتوني في رُؤيايَ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ﴾
﴿ يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ أَفتِنا ﴾ قال ﴿ أَفتِنا ﴾ . ولذلك الإمام مالك رحمه الله لأنها جزء من أجزاء النبوة كما ثبت في ذلك الأحاديث قال: ( أبالنبوة يُلعب ) لما سئل عن تفسير الرؤى .
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾(42)
﴿وَ قالَ لِلَّذي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ﴾ ناجٍ يعني من القتل و هو الذي يعصر خمرًا ، قاله ليس عند ذلك الرجل لأنه قال : ﴿ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسقي رَبَّهُ خَمرًا ﴾ ﴿ وَ قالَ لِلَّذي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ ﴾ الظن هنا يمكن أن يكون على اليقين باعتبار أنه نبي u ،و أيضًا يمكن مجيئه على باب الظن حتى يكونَ فيه تنبيه للمُعبر المفسر و لمن عُبِّر له من أنه ليست الرؤيا أنها تكون حقيقة و تقع حقيقة لا، و لذلك النبي r لما فسر كما عند البخاري فَسَّر أبو بكر t رؤيا ماذا قال؟
( أصبتَ بعضاً و أخطأت بعضًا ) أما حديث: ( الرؤيا على رجل طائر متى ما عُبرت وقعت ) فهذا حديث مختلف فيه بين أهل العلم حتى لو ثبت فإن العلماء كابن حجر رحمه الله يقول : ( فإن من عُبرت له رؤيا و كانت على تعبيرٍ غير مناسب له فليبحث عن مُعَبِّرٍ أخر لِيُعبرها له).
فقال هنا : ﴿ وَ قالَ لِلَّذي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنهُمَا اذكُرني عِندَ رَبِّكَ ﴾ يعني عند سيدك. ﴿ اذكُرني عِندَ رَبِّكَ ﴾ و حالتي و ما جرى لي . ﴿ فَأَنساهُ الشَّيطانُ ذِكرَ رَبِّهِ﴾ فأنسى الشيطانُ ذلك الرجل أن يذكر يوسف عند سيده . ﴿ فَأَنساهُ الشَّيطانُ ﴾ و لذلك لم يقل فأنساه الله تأدباً مع الله. و لذلك قال عز و جل في سورة الكهف عن ذلك الفتى : ﴿ وَ ما أَنسانيهُ إِلَّا الشَّيطانُ أَن أَذكُرَهُ ﴾.
قال هنا : ﴿ فَأَنساهُ الشَّيطانُ ذِكرَ رَبِّهِ ﴾ بعض العلماء يقول : ( فأنسى الشيطانُ يوسف أن يذكرَ ربه ) لماذا يتعلق بهذا و لكن الصحيح أن ما ذُكر من أن الشيطان أنسى ذلك الرجل، ﴿ فَأَنساهُ الشَّيطانُ ذِكرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجنِ ﴾ يعني يوسف ﴿ بِضعَ سِنينَ ﴾ و البِضع هو :ما بين الثلاثة إلى التسعة كما جاء بذلك الحديث.
وهنا كثير من المفسرين يقولون سبع سنوات، يعني جلس يوسف في السجن سبعَ سنين.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾(43)
﴿ وَقالَ المَلِكُ ﴾ سبحان الله أتى الفرج أتى الفرج يوسف u وذلك عن طريق رؤيا بأمر الله عز و جل لا عن طريق ذلك الذي خرج من السجن و لا عن طريق غيره، فأرى اللهُ عز و جل هذا الملِك هذه الرؤيا.
﴿ وَقالَ المَلِكُ ﴾ جمع حشودَه وحاشيته ﴿ وَقالَ المَلِكُ إِنّي أَرى سَبعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجافٌ ﴾ يعني هزيلات ﴿ وَسَبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ﴾ معناها: يعني رأيت سبع بقرات سِمان، إذا بسبع عجاف تأكل هذه السبع البقرات السمان، و إذا بسبع سنبلات يابسات تلتف على السبع السنابل الخُضُر.
﴿ يا أَيُّهَا المَلَأُ أَفتوني في رُؤيايَ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ ﴾ ﴿ إِن ﴾ قال إن لأن إن تدل على الاحتمال يدل على أنه كأنه يرى أن الأمرَ صعبٌ عليهم ﴿ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ ﴾ أي تفسرون.
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾(44)
﴿قالوا أَضغاثُ أَحلامٍ ﴾ هذه أضغاث أحلام ﴿ وَ ما نَحنُ بِتَأويلِ الأَحلامِ بِعالِمينَ ﴾ زَكَّوا أنفسَهم بمعنى أنهم يقولون هذه أضغاث أحلام لكن لو كانت أحلاماً حقيقية لعبرناها لك، و أما أضغاث أحلام ﴿ وَ ما نَحنُ بِتَأويلِ الأَحلامِ بِعالِمينَ ﴾.
ولذلك النبي r ذكر في الحديث الصحيح : ( الرؤيا ثلاثة أقسام : الرؤيا الصالحة -و هي الرؤيا الحسنة-، الحُلُم -و هو المُزعج- ، و أضغاثُ أحلام) هو الذي يهتم الإنسان بما يكونُ في يَقَظته فَيَرِد عليه في منامه هذا لا حُكْمَ له.
لكنَّ الرؤيا الصالحة إذا رآها الإنسان إذا قام قال r: ( فليبشر ) يعني يستبشر خيرًا وليحمَد الله.
و أما إذا رأى الحُلُم المزعج كما قال r لذلك الرجل كما عند مسلم قال: ( إني رأيت أنَّ رأسي قطع و يتدهده -يعني يتدحرج- و أنا أتبعه، قال: لا تُخبر بتلاعب الشيطان بك) .
إذا رأيت حلمًا مزعجًا: فانفُث عن يسارك ثلاثَ مرات ،و استعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات و استعذ بالله من شرها مرة، و تحوَّل من الجنبِ الذي كنت نائمًا عليه إلى الجنبِ الآخر ،و إن قمتَ فصليت ركعتين فهذا حسن، و لا تُخبر بها أحدا.
﴿ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ ﴿ ٤٣ ﴾ قالوا أَضغاثُ أَحلامٍ وَ ما نَحنُ بِتَأويلِ الأَحلامِ بِعالِمينَ ﴾ سبحان الله عرضها عليهم، لو عرضها على يوسف مباشرة ما ظهر له فضل، بل عرضها عليهم فعجزوا عنها، فماذا قال عز و جل ؟ ﴿ إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعبُرونَ ﴿ ٤٣ ﴾ قالوا أَضغاثُ أَحلامٍ وَ ما نَحنُ بِتَأويلِ الأَحلامِ بِعالِمينَ ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾(45)
﴿ وَ قالَ الَّذي نَجا مِنهُما ﴾ أي من السجن ﴿ وَادَّكَرَ ﴾ أي تذكر ﴿ بَعدَ أُمَّةٍ ﴾ أمة هنا: زمن كما قال عز وجل كما مر معنا في سورة هود ﴿ وَلَئِن أَخَّرنا عَنهُمُ العَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعدودَةٍ ﴾ يعني إلى وقت محدود. ﴿ وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ﴾ يعني بعد زمن ﴿ وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ أَنا أُنَبِّئُكُم بِتَأويلِهِ ﴾ ﴿ أَنا أُنَبِّئُكُم بِتَأويلِهِ فَأَرسِلونِ ﴾ يعني أرسلوني إلى يوسف .
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(46)
﴿ يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ ﴾ هناك جُمل لم تُذكر ،هذا إيجاز الحذف، ذهب بعدما خرج منهم وأتى إلى يوسف.
﴿ يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ ﴾ وصفه بأنه صِدِّيق لأنه عاصَرَهُ في السجن فعرف أنه صاحبُ صدق و بَلَغَ من الصدق مَبلَغَه ولم يُجرب عليه الكذب، كما أنه علم أنه من المحسنين ﴿ إِنّا نَراكَ مِنَ المُحسِنينَ ﴾
﴿ يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ ﴾ و هذا يدل على ماذا ؟ على أن من أحسن و صدق فالله يُنجيه، و لذلك نجّى الله الثلاثة الذي تخلفوا في غزوة تبوك. فقال هنا: ﴿يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ أَفتِنا في سَبعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجافٌ وَ سَبعِ ﴾ و سبعِ هنا مجرور لأنها معطوفه على مجرور هناك نصبت ﴿ سَبعَ ﴾ لأنها معطوفة على منصوب ﴿ وَ سَبعِ سُنبُلاتٍ خُضرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلّي أَرجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلَّهُم يَعلَمونَ﴾ يعلمون حقيقة هذه الرؤيا و يعلمون حالَك.
﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾(47)
﴿قالَ تَزرَعونَ ﴾ سبحان الله مع أنه ظُلم مع ذلك كله فسرها لهم، و لم يُفسرها لهم فقط بل نَصَحَ لهم و هذا يدل على أنَّ صاحب الخيرِ لا ينتظر من الناس لا جزاءً و لا شكوراً فإنما مبتغاه و أجره على الله.
﴿قالَ تَزرَعونَ﴾ هنا خبر بمعنى الأمر ﴿ قالَ تَزرَعونَ سَبعَ سِنينَ دَأَبًا ﴾ دأبًا يعني على عادتكم و باستمرار. ﴿ تَزرَعونَ سَبعَ سِنينَ دَأَبًا ﴾ لِمَ ؟ لأنه الرؤيا تدل على أنه سيصيبهم قَحط فأمرهم أن يزرعوا سبع سنين بحيث يدَّخرون لتلك السبع .
﴿ قالَ تَزرَعونَ سَبعَ سِنينَ دَأَبًا فَما حَصَدتُم فَذَروهُ في سُنبُلِهِ ﴾ لا تُخرجوا الحبَّ من سُنبله حتى لا تُصيبَهُ آفة و لا يُصيبَه سوس .
﴿ إِلّا قَليلًا مِمّا تَأكُلونَ ﴾ مما تأكلونه فأخرِجوه للأكل، لكن اتركوه على حاله.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾(48)
﴿ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذلِكَ سَبعٌ شِدادٌ ﴾ ﴿ سَبعٌ شِدادٌ ﴾ يعني فيها قَحط و هنا يدل على ماذا ؟ يدل على أن وصف السنين بالشِداد على سبيل الخبر جائز و هذا فصلناه عند قوله تعالى عن لوط : ﴿ وَقالَ هـذا يَومٌ عَصيبٌ ﴾ .
﴿ سَبعٌ شِدادٌ يَأكُلنَ ما قَدَّمتُم لَهُنَّ ﴾ أي من سبعِ السنوات التي زرعتموها يأكلن في تلك السبع السنوات التي بها ما بها من القحط يأكلن كلَّ ما زرعتموه ﴿ يَأكُلنَ ما قَدَّمتُم لَهُنَّ إِلّا قَليلًا مِمّا تُحصِنونَ ﴾ أي مما تُبقونه للبذر.
﴿ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذلِكَ ﴾ من بعد السبع الشداد ﴿ عامٌ فيهِ يُغاثُ النّاسُ ﴾ ﴿ يُغاثُ النّاسُ ﴾ بعد القحط يعني ينزل مطر ﴿ وَفيهِ يَعصِرونَ ﴾ يعني من كَثرة الأشجار أنهم فقط لا يُغاثون و إنما من زيادةِ النعمة ماذا ؟ أنهم يَعصرون الثمار وهذا يدل على ماذا؟
لما قال ﴿ وَفيهِ يَعصِرونَ ﴾ دل على أنها سنة بها مطر غزير نافع مبارك مع أنه سبقهم سبع سنوات شِداد إلا أنَّ ذلكم العام به الخير العظيم و البركة إلى أن لم يُغاثوا فقط و إنما عصروا فيه الثمار.
﴿ ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذلِكَ عامٌ فيهِ يُغاثُ النّاسُ وَ فيهِ يَعصِرونَ ﴾ و مع ذلك لم يأخذ عليه السلام لا ثمناً و لا جزاءً من هؤلاء.
وقصته عليه السلام قصة بها الخير والنفع.