التفسير الشامل
تفسير الجزء الأول
من سورة الفاتحة حتى الآية ( 141 ) من سورة البقرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين ، وأصلّي وأسلّم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين
أمّا بعد :
فنَشرَعُ بِعَونٍ من الله عزّ وجلّ في تفسير القرآن العظيم
وأسمَيتُه بِـ ( التفسير المختصَر الشامل )
[ المختصر ] :
من حيث سهولتُه وسلاستُه فيفهمُه بإذن الله العامّيّ ويستفيدُ منه طالب العِلم
وهو [ شامل ] :
لأنّه إذا ذُكِر تفسيرُ الآية فإنّ هذا التفسير قد يظنّ السامع مِن أنّه قولٌ واحد ، مع أنّه يشمل أقوالًا كثيرة للمفسِّرين ؛ لأنّ معظم اختلاف المفسِّرين كما قال شيخ الإسلام اختلاف تَنَوُّعٍ لا تضادّ بينها
ثمّ هو [ شامل ] من حيث ما يُذكَر فيه من الفرائد اللُّغٓويّة والقواعد العَقَديّة والتفسيريّة والفِقهيّة بإذن الله عزّ وجلّ
▪ نبدأ في شرح الاستعاذة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنّ الله عزّ وجلّ قال :
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
– أَعُوذُ بِاللّهِ : أعتصم بالله .
– مِنَ الشَّيْطَانِ :
سُمِّيَ بهذا الاسم لأنّه مِن ( شَطُنَ ) إذا بَعُدَ عن رحمة الله عزّوجلّ وهذا قولٌ لبعض المحقّقين ، أو مِن ( شاطَ ) أي مِن الغضب لأنّه غَضِب لمّا أُمِرَ بالسجود لِآدم .
– الرَّجِيمِ :
بمعنى مرجوم ، أي مُبعَد عن رحمة الله وعن الخير ، وبمعنى راجِم لأنّه يَرجُم غَيرَه بِالوسوسةِ وبالإغواء .
▪ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– بِسْمِ اللَّهِ :
( الباءُ ) لِلاستعانة ، أي أستعينُ بِكُلِّ اسمٍ مِن أسمائه عزّوجلّ لأنّ
( اسم ) مفرد أُضيفَ إلى الله فَيَعُمّ
– اللَّه :
هو المَأْلُوه المعبود مَحبّةً وتعظيمًا وخَوفًا ورجاءً
– الرَّحْمَن :
اسمٌ مِن أسمائه عزّوجلّ يتضمّن صِفَة الرحمة
– الرَّحِيم :
اسمٌ مِن أسمائه عزّوجلّ يتضمّن صِفَة الرحمة .
لَكِن إذا اجتمعا : فـ ( الرَّحْمَنِ ) تَضمّن صِفَة الله عزّ وجلّ الواسعة ، و ( الرَّحِيمِ ) يَتضمّن صِفَة الله عزّ وجلّ الواصِلة ، يعني يَرحمُ بها عِبَادَه عزّ وجلّ.
▪ تفسيرُ سورةِ الفاتحة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– { الْحَمْدُ لِلَّهِ } :
أي المحمود مَحبّةً وتعظيمًا وخَوفًا ورجاءً لِما له مِن الأسماء الحُسنى والصفات العُلَى
{ لِلَّهِ } :
المألوه المعبود محبّةً وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً ، فالذي يستحقّ الحمد هو الله ، والمخلوق يُحمَد لَكِنْ باعتبار نِسبيّ ، كما سيأتي مَعَنا إن شاء الله تعالى في قوله تعالى :{ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا }
– { رَبِّ الْعَالَمِينَ } :
العالَم :
هو كلّ ما سِوى الله عزّ وجلّ ، فكُلّ ما سِوى الله فهو عالَم ، وهذا عليه عامّة المفسِّرين . قال عزّ وجلّ :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } .
وسيأتي في تفسير سورَتَي الأعراف والشعراء الردّ على مَن لَمْ يَرْضَ بهذا التعريف . بإذن الله تعالى .
وهذه الآية :
حَمِدَ فيها عزّ وجلّ فيها نفسَه لِكَي يُعلِّمَ عِبَادَه كيف يَحمدونه ، ولأنّ الخَلق كُلَّهم لايستطيعون أن يُحصُوا حَمدًا عليه
ولذلك في صحيح مسلم :
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (( لا أُحصي ثناءً عليك ))
وهذه الآية تَضمّنَت أقسام التوحيد الثلاثة :
– { الْحَمْدُ } : يدلّ على توحيد الأسماء والصِّفات
– { لِلَّهِ } : توحيد الألوهيّة
– { رَبِّ الْعَالَمِينَ } : توحيد الرُّبوبيَّة
– { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ الرَّحْمَن } :
كما سلف يتضمّن صِفَة الرحمة ، و { الرَّحِيم } يتضمّن صِفَة الرحمة . لكن إذا اجتمع هذان الاسمان فـ ( الرحمن ) يَتضمّن الرحمة الواسعة ، و ( الرحيم ) يَتضمّن صِفَة الرحمة الواصلة .
وأَتَتْ هذه الآية { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } من باب الترغيب لأنّ ما قَبلَها كأنّ به ترهيبًا ، وهذه هي طريقة القرآن ( الجمع بين الترغيب والترهيب )
– { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي مالك يوم الجزاء والحساب ، وهو المَلِك والمالك ، لكن لماذا خُصَّ يومُ الدِّين ؟ لأنّ الأملاك كلَّها تزول .
– وكما أنّ المُلك له كذلك الأمر كلُّه له :
قال تعالى : { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّله }
وقال تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّله }
وقال تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }
وقال تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }
إلى غير ذلك من هذه الآيات.
وفي هذا إثبات اليوم الآخِر ، فيجب الإيمانُ به .
– { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } :
أي لا نَعْبُد إلَّا أنت
{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } :
أي لا نستعين إلّا بك.
ولذلك :
قَدَّم ( إِيَّاكَ ) على الفعل ( نَعْبُد ) وعلى الفعل ( نَسْتَعِين ) .
وتَغيَّرَ الأسلوب ، هنا أسلوب خطاب :
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
فإنّه لمّا كان الثناء على الله عزّ وجلّ استحضَرَ أنّه يخاطِب اللّهَ عزّ وجلّ :
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
والاستعانة مِن العبادة ، لكنّه أُفرِدَت لِأهمّيّتها .
لِمَ ؟
لأنّه لا يمكن لِلعبد أن يقوم بالعبادة إلّا إذا أعانه الله عزّ وجلّ ، وإلّا فالاستعانة مِن ضمن العبادة .
فقَوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تَبَرُّؤٌ مِن الشرك
{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تَبَرُّؤٌ مِن الحَول والقوّة ، ليس لك حَول ولا قوّة إلّا بالله عزّ وجلّ .
– { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ اهْدِنَا } أي علِّمنا وأرشِدنا ( هداية البيان ) ، وكذلك وفِّقنا وألهِمنا الخير ( هداية التوفيق والإلهام ) وهو هنا دعاء
ولذلك مِن آداب الدعاء :
قَبْلَ أن يَدْعُوَ المسلم يقدِّم الثناء على الله عزّ وجلّ ، وهذه الآية تدلّ على ذلك
فإنّه لمّا أُثنِيَ على الله عزّ وجلّ أُمِرَ العبدُ بالدعاء :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
والصراط المستقيم :
هو الذي لا اعوجاج فيه ، فيشمَل كُلّ ما قاله المفسِّرون مِن أنّه هو الإسلام أو طريقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو طريقة أبي بكر وعُمَر أو طريقة أهل السُّنَّة والجماعة
وهذه الآية تَتضمّن الإيمان بِوجود الرُّسُل والكُتُب ، لأنّه لا هداية للناس إلّا عن طريق الرُّسُل وإنزال الكُتُب .
– { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضاف الصراط إليهم لأنّهم هُم الذين سَلَكوه ، وفِي آيةٍ أخرى أضاف الصراط إليه جلّ وعلا { صِرَاطِ اللَّهِ } لأنّه هو الذي أَمَر الناس بأن يَسلُكوه { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
مَن هُم ؟
هُم المذكورون في سورة النساء :
{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) }
{ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } : تدلّ على أنّ أعظَم النِّعَم نعمةُ الدِّين
– { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } : يعني غير صراط المغضوب عليهم
– { وَلَا الضَّالِّينَ } : غير صراط الضالِّين .
و( المغضوب عليهم ) هُم اليهود ، و ( الضالّون ) هُم النصارى
كما ثَبَتَ بذلك الحديث عند الترمذيّ مِن قَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
ويَتضمّن أنّ اليهود ضالّون وأنّ النصارى مغضوبٌ عليهم ، فمن ضَلّ فاللهُ قد غَضِب عليه ، ومَن غَضِب الله عليه فهو ضالّ .
وهذه الآية فيها التحذير مِن البِدَع :
لأنّ مَن خرجَ عن الصراط المستقيم إمّا أن يَقَعَ في الكفر وإمَّا أن يَقَعَ في البِدَع .
وصَرَّحَ بِقَوله { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وَلَمْ يُصَرِّح بِاسمِه جلّ وعلا في ( المغضوب عليهم ) وذلك لأنّه ما أحد يُنعِم إِلَّا الله عزّ وجلّ .
قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } حتّى لَو أعطاك المخلوق فإنّما أعطاك بِأَمْرٍ مِن الله عزّ وجلّ .
أمّا ( المغضوب عليهم ) فهناك مَن يَغضَب مِن المخلوقين كالملائكة والبشر ، ولِأنّ رحمة الله عزّوجلّ سَبَقَت غضَبَه ، وأفاد ذلك ابن القيّم رحمه الله .
( آمين ) :
ـــــــــــــــــــــــــــ
ليست آية مِن الفاتحة ، وإنّما معناها : اللهمّ استَجِب ، اللهمّ استَجِب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفسير المختصر الشامل ـ تفسير سورة البقرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة البقرة
{ الم } :
هذه تُسَمَّىٰ عند العلماء بالحروف المقطّعة ، واختُلِفَ فيها اختلافًا كثيرًا .
بعض العلماء قال :
الله أعلم بِمُرادِه بها ، فهي من المُتَشابِه
وبعضهم قال :
لها معنى ، واختلفوا في ذلك . هل هي أسماء للسُّوَر ؟ هل هي تدلّ على اسم الله الأعظم ؟ هل هي تدلّ بكلّ حرف من حروفها على اسمٍ مِن أسمائه عزّ وجلّ ؟ هل هي قَسَم ؟ أقوال .
والذي عليه المحقّقون :
كشيخ الإسلام رحمه الله ( مِن أنّها حروف هجاء ) أتى بها الله عزّ وجلّ لِيتحدّى الكفّار الذين يقولون إنّ القرآن اختلَقَه محمّد ، فيقول لهم هذا القرآن مِن مِثل هذه الحروف ، فَأْتوا بِمِثله . ولذلك إذا ذُكِرَت هذه الحروف المقطّعة ، ذُكِرَ بعدها القرآن :
{ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ }
{ الـمص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ }
{ الـمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ }
وهكذا .
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ } :
أي القرآن . وليس التوراة ولا الإنجيل كما قيل . السياق يدلّ على أنّ الكتاب هو القرآن .
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ } :
أشار إِلَيْهِ بِالبُعد ؛ لِعُلُوّ منزلته ، ولذا قال تعالى :
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }
ويشير به أحيانًا إلى القُرب ؛ باعتبار أنّه قريبٌ وسَهْلٌ ومُيسّر :
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }
{ لَا رَيْبَ فِيهِ } :
أي لا شكّ فيه ولا تُهمة ولا اعْوِجاج ، ولذا قال تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا ..}
وقال تعالى :
{ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
ويَتضمّن النَّهي عن الرَّيب فيه ، أي لا ترتابوا ولا تشُكّوا فيه . وهذا يدلّ على كمال هذا القرآن ؛ فإنّه مِن لَدُن حكيم عليم .
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } :
وهو هُدًى للناس ، أُنزِل هدايةً للناس كلّهم . قال تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ }
لكن لمّا كان المُنتَفِع به ، لمّا كان المُتَّقون هم الذين انتفعوا به خُصُّوا بالذِّكر { هُدًى للمتّقين } خبر ثاني أو حال ، يعني حالةَ كَونه هُدًى للمتّقين .
ثمّ وصف هؤلاء ( المُتَّقِين ) :
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } :
بكلّ ما غاب عنهم فيشمل كلّ ما قاله المفسِّرون ممّا غاب عنهم ( الله ، وما يكون في يوم القيامة ، وما يكون في القبر )
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } :
وَلَمْ يَقُل يُصَلُّون ، يقيمون الصلاة بأركانها وواجباتها وشروطها ، ويشمل الصلاة المفروضة والنوافل .
{ وَمِمَّا } :
( مِن ) للتبعيض ، مِن بعض ما { رَزَقْنَاهُمْ } ، فَالرِّزق منه جلّ وعلا ، لَم يَرزُقوا أنفسهم ، قال تعالى :
{ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }
{ يُنفِقُونَ } :
يبذُلون ويشمل هذا الزكاة الواجبة ، وصدقة التطوّع . ينفقون في ماذا؟ ، ينفقون ويبذلون في جميع وجوه الخير .
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } :
أتى بالواو ، مع أنّ الصفات كلّها في حقّ صنف واحد ، مِن باب تِعداد مَحاسِن ومَناقِب هؤلاء .
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } :
وهو القرآن ، ودلّ هذا على أنّ القرآن مُنزَّل غيرُ مخلوق .
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } :
أي ويؤمنون بما أُنزِل مِن قبلك مِن الكُتُب السابقة ، وهذا يدلّ على أنّ الكُتُب السابقة مُنَزَّلة مِن عند الله عزّ وجلّ ، وليست مَخلوقة .
{ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }:
يُوقِنُون بِيوم القيامة . وسُمِّي بالآخرة أو بالآخِر لأنّه لا يومَ بعده . فهُم يوقِنون بهذا اليوم . واليقين هو العِلْم التامّ الذي لا شكّ فيه ، ويَستَلزِم العمل . وهذا هو اليقين الذي يُفيد ، لأنّ الكفّار إذا أتَوا يوم القيامة ، فعندهم يقين ، لكنّه يقين بعد ما انكشفت الحُجُب ، فلا يُفيد .
قال تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }
لكنّه لا فائدةَ مِن هذا .
ما الثمرة لهؤلاء ؟
{ أُولَئِكَ } :
أشار بِالبُعد لِعُلُوّ مكانتهم ومنزلتهم
{ عَلَى هُدًى } : فهُم مُهتدون .
وانظر إلى أوّل السورة : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } فإنّهم لمّا أخَذوا بهذا القرآن وتَمَسّكوا به وصلوا إلى الْهُدَى . بَل قال : { عَلَى هُدًى } بحرف ( على ) لأنّهم عَلَوا بالهدى . ولا عُلُوَّ للإنسان ولا للأُمّة إلّا بالتمسُّك بهذا القرآن ، وبهداية من الله عزّ وجلّ .
{ مِّن رَّبِّهِمْ } :
هذا الْهُدَى مِن رَبِّهِم الذي أكرمهم بهذا الهُدى ، لا مِن حَولهم ولا مِن قوَّتِهم .
وفي هذا رَدٌّ على القَدَريَّة ، الذين يقولون إنّ العبد يخلُق فِعل نفسِه ، فيَخلُق الطاعة لِنَفسِه مِن نفسه ، وهذا ضلال مبين .
{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }:
أتى بحرف العطف ، و كرّر ( أولئك ) لِتعداد مَحاسنهم ومناقبهم ،
{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } :
الذين حصل لهم المطلوب ونَجَو مِن المكروب . وهذا هو حقيقة الفلاح .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :
لمّا ذَكَرَ صِنف أهل الإيمان والتُّقى سَيَتَبادَر إلى الذِّهن أنّ ما يُقابِلُهم مَنْ ؟ الكُفّار . ولذلك لَمْ يأتِ بحرف الواو
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :
سواء كان كفر شكّ أو عِناد أو نِفاق أو إعراض
{ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ }
يستوي أنَّكَ أنذرتهم وخوّفتهم أو لَم تخوّفهم { لَا يُؤْمِنُونَ } حَكَم الله عليهم بِعَدَم الإيمان .
كثيرٌ من المفسِّرين يقول : هؤلاء في قومٍ مخصوصين عَلِمَ اللهُ أنّهم لن يؤمنوا .
ولكنَّ الأظهر هو قول شيخ الإسلام رحمه الله قال : هي في حقّ كلّ مَن عاندَ لمّا أتاه الحقّ ، فإنّه يُخشى عليه أن تُسَدّ عنه أبواب الإيمان .
ولذلك قال بعدها ، لمّا قال : { لَا يُؤْمِنُونَ }
ما السّبب ؟
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } :
والختم :
هو الاستيثاق مِن الشيء بِحيث لا يَدخل إِلَيْهِ شيء ولا يَخرج منه شيء .
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } :
والقلب محلّ الهُدى والنور ، فقلوبهم لا تَفْقَه مع أنّ قلوبهم موجودة .
{ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } :
أي وخَتَمَ على سمعهم . وأفرَدَ السمع هنا ، بينما القلوب جَمَعَها ؛ لأنّ السمع مصدر، يستوي فيه المفرد والجَمع .
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } :
إذَن الختمُ على القلب وعلى السمع ، وَأَمَّا الغشاوة وهي الغطاء فعلى الأبصار . وهذا يُناسِب . وذلك لأنّ الختم إنّما يكون على الوِعاء ، فالقلب وِعاء ، والسمع وِعاء ، لكنّ البصر ليس وعاءً .
وهذا هو القول الذي تدلّ عليه الأدلّة مِن أنّ الختمَ على القلب وعلى السمع ، والغِشاوة على الأبصار .
قال عزّ وجلّ :
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً }
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } :
عذاب عظيم لمّا عَظُمَ كُفرُهم وإعراضُهم ناسبَ أن يكون هذا العذاب عَذَابًا عظيمًا ، عظيم من حيث النوع ، ومن حيث الكثرة ، ويشمل العذاب الذي يوقِعُه الله عزّ وجلّ بأعدائه في الدنيا وفي الآخرة .
وفي هذه الآية :
دليل على إثبات القَدَر ، فالله عزّ وجلّ قدّر على هؤلاء أنّهم لا يؤمنون ، بسبب إعراضهم ، وما ظلَمَهم الله عزّ وجلّ ، ولذلك قال تعالى :
{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
{ وَمِنَ النَّاسِ } :
هذا صنف ، وهو صنف أهل النِّفاق ، ولذلك لمّا لَم يكونوا صُرَحاء وصَرِيحِي المنهج كالكفّار أتى بحرف الواو { وَمِنَ النَّاسِ } وأكْثَرَ من ذِكْر صفات هؤلاء المنافقين ؛ لأنّ أمثال هؤلاء قد يَلْتَبِس أمرُهم على أهل الخير.
وهذا هو الشأن في كلّ زمن .
فعَلى أهل السنّة أن يَحذَروا مِن أهل النِّفاق ، وأن يَحذَروا مِن أصحاب المناهج الفاسدة ، ولو أظهروا الصلاح والخير .
فأمثال هؤلاء لا يُؤتَمَنون ؛ لأنّ الشُّبهةَ بِهم تَعْظُم
{ وَمِنَ النَّاسِ } :
وهو صنف النِّفاق وأهلِ النِّفاق : { مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ } مُجرّد قَول يقولونه
قال عزّ وجلّ :
{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } :
وأكّدَ ذلك بحرف الباء الزائد الذي يدلّ على التوكيد .
{ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } :
أتى بالباء { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وهذا يدلّ على فساد عقيدة الكرّاميّة ( الذين يقولون إن الإيمان قول باللسان ) وهذا ضلال مبين ، بل هو بريد النِّفاق والشِّقاق . فالإيمان ليس قولًا فقط
الإيمان :
( قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ) ولذلك لمّا قالوا :
{ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ } كذّبهم الله عزّ وجلّ .
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } :
خِداع هؤلاء يدلّ على أنّهم أصحاب جُبن ، وأنّه لا ثقةَ عندهم في نفوسهم ، وأنّهم أصحاب رأي مُتَذِبذِب ، لأنّ هذا هو وَصْف أهل الخِداع .
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ } :
فَوَبال خداعهم يَعُود إليهم . لِمَ ؟ لأنّ الله عزّ وجلّ مُطّلع على خداعهم ، فَيُعاملهم جلّ وعلا على هذا الخِداع ، ويُطلِع اللهُ جلّ وعلا رسولَه صلّى الله عليه وآله وسلّم على خِداعهم .
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ } :
صاحب الخِداع إمّا أن يوقِعَ الخِداع بِمَن يريد أن يوقِع به أو أنّه يَسلَم ، لكن هُنا الخِداع يعود عليه .
لِمَ ؟
لأنّه يُخادع الله ويخادع أولياءه .
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } :
وما يَعلمون أنّهم يَخدعون أنفُسَهم ، وأنّ خداعَهم راجعٌ إليهم .
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } :
هذا هو السّبب { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } مرض ماذا ؟ ( النِّفاق )
لأنّ المرض في كتاب الله عزّ وجلّ نوعان :
( مرض شُبهة ) كما هنا
و ( مرض شهوة ) :
{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } يعني شهوة
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } : مرض النِّفاق الشَّكّ والشِّقاق .
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } : فزادهم الله مرضًا .
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ الشرّ يُوَلِّدُ شُرُورًا . فالله عزّ وجلّ يزيدهم على مرضهم مَرَضًا ونِفاقًا وشَكًّا .
وهذا يدلّ عليه سِياق الآيات ، خِلافًا لِمَنْ قال إنّه دُعاءٌ عليهم .
وَمِمَّا يدلّ على ذلك قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } :
وَصَفَ العذاب هنا بأنّه أليم ، أي مُؤْلِم وأيضًا مُؤْلَم ، يعني مَن يَقَعُ عليه يتعذَّبُ به . مُؤْلِم لأنّهم يتلذّذون بأفعالهم هذه ، إذ يُخادعون الله والذين آمنوا فعاقبهم جلّ وعلا مِن جِنس ما في قلوبهم ، فقال :{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
السبب :
{ بِمَا } :
( الباء ) سببيّة و ( ما ) مصدريّة
{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } :
أي بِكَذبِهم . وهذه صفة أخرى مِن صفات المنافقين ، فهم أهل خِداع وأهل كذب .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } :
بِشَتّى أنواع الفساد ( الحِسّيّ والمعنويّ ) وأعظم الفساد ، أن يُفْسَدَ في الأرض بالكفر والبدع والمعاصي .
ولذلك قال :{ فِي الْأَرْضِ } لأنّ هذه الأرض ما خَلَقَها جلّ وعلا إلّا مِن أجل أن يُعبَدَ الله عزّ وجلّ فيها، لا أن يُفسَدَ فيها .
{ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } :
مع فسادهم وإفسادهم يُزَكّون أنفسهم ، وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ القلوب طُبِعت وخُتِمَ عليها ، ولذلك قالوا :{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فَقَلَبوا الحقائق ، فجعلوا الفسادَ والإفسادَ إصلاحًا ، بل إنّهم أبلَغوا أنفسهم مرتبةً أعلى .
لَمْ يقولوا ( إنّما نحن صالحون في أنفسنا ) بل قالوا : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فردّ الله عزّ وجلّ عليهم .
{ أَلَا } :
مِن باب التنبيه والتأكيد { إِنَّهُمْ } وأكّدَ ذلك أيضًا بـ( إنَّه )
{ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ } :
لا يشعرون : أي لا يَعلمون بِالأمور الخفيّة ، لا يشعرون بمعنى لا يَعلمون لكنّه أخصّ . كما يُقال للشاعر مِن أنّه شاعر ، لأنّه يَعلم بِخفايا أوزان الشعر ما لا يَعلمُها غيره .
ولذلك قال هنا : { وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ } بإنّ ما هُم عليه فساد وإفساد .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ } :
أي مَن آمَن مِن الصحابة رضي الله عنهم ، وليس الْمَعْنَىٰ كلّ الناس . فَتُطلَق كلمة الناس على طائفة مُعيَّنة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } :
فيجعلون الإيمان سَفَهًا – نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ – وهذا مِن فساد القلوب .
ومَن بَعُدَ عن دين الله عزّ وجلّ فَهُوَ سَفِيه ، قال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }
فرَدّ الله عزّ وجلّ عليهم فقال:
{ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } هُم { وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ } ختمَ الآية هنا بجملة :{ لَّا يَعْلَمُونَ } ، بينما الآية السابقة :
{ لَّا يَشْعُرُونَ }
لأنّ السَّفَه واضح وظاهر لا يَخفى على مَن لَدَيهِ أدنى عِلم . وهذا القول منهم إنّما هو بينهم ؛ لأنّهم يُخفون الكُفر ، وليس معنى ذلك أنّهم أظهروه لِأهْل الإيمان ، وإنّما فيما بينهم .
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا } : لِنِفاقِهم
{ قَالُوا آمَنَّا } : وهذا نوع مِن أنواع المُخادَعة منهم . مُخادعة مَن ؟ المؤمنين .
{ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } :
{ خَلَوْا إِلَى } : { إِلَى } بمعنى ( مَعَ ) عند بعض المفسِّرين ، والصواب : أنّ ( إلى ) تَبقى على حالها ، ويُضَمَّن الفعل ( خَلَوا ) فعلًا آخر . وفي هذا إكثار مِن معاني القرآن { وَإِذَا خَلَوْا } يَتضمّن :
( انطلقوا )
كما قال عزّ وجلّ :
{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } عَينًا يشرب بها . هل العين يُشرَبُ بها ؟ فَـ { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا } الشُّرب يَتضمّن فعلًا ( أي يرتوي بها )
{ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } :
أي إلى رؤسائهم ، وهذا يدلّ على أنّ في الإنس شياطين كما إنّ في الجنّ شياطين . قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
{ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } :
أكّدوا ذلك لرؤسائهم { إِنَّا مَعَكُمْ } ثمّ أكّدوا ذلك { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } بالمؤمنين .
بينما لمّا قالوا لأهل الإيمان ، { قَالُوا آمَنَّا } فقط ، ولم يؤكّدوا ذلك ، حَتَّىٰ لا ينفضحَ أمرُهم إذا أكّدوا ، ولأنّ أهل الإيمان يأخذون بالظاهر . بينما أكّدوا معَ رؤسائهم مِن باب التوثيق ( مِن أنّهم على دين رؤسائهم وشياطينهم )
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } :
والاستهزاء بِمَن هُوَ أهلٌ لِأَن يُستَهزَأ به ( عَدْلٌ وليـسَ ظلمًا ) بل هو مَدح . ولذلك من صفاته عزّ وجلّ ( صفة الاستهزاء ) بِمَن يستهزئ بِدِينه أو بِشَرعه ، ولا يُطلَق فيُقال مِن صفات الله ( الاستهزاء ) هذا خطأ .
هذه مِن ( الصفات المُقَيَّدة )
الله يستهزئ بِمَن يستهزئ بِشرعه . مِثل المكر :{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ }
ومِثل الخِداع :
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
فهذه الصفات لا تُطلَق على الله وإنّما تُقَيَّد .
{ وَيَمُدُّهُمْ } : أي يزيدهم .
سبحان الله !! ولذلك على الإنسان أن يتعاهدَ قلبَه ؛ فأنّه إذا استَمْرَأ الشرّ ، زاد معه الشرّ { وَيَمُدُّهُمْ } يزيدهم .
{ فِي طُغْيَانِهِمْ } : ( في ) ، بينما أهل الإيمان : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى } فهُم عَلَوا بِهُدى الله . هؤلاء انغمسوا في السُّفُل { فِي طُغْيَانِهِمْ } وَلَمْ يَقُل في الطغيان { فِي طُغْيَانِهِمْ } فدلّ على أنّ عندهم طغيانًا قد ارْتَسَمَ فيهم . وهذا يدلّ على أنّ النِّفاق طُغْيان ؛ لأنّه قال :
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ }
فالنِّفاق طُغْيان وتَركُ الاستقامة طغيان . قال تعالى : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا }
{ يَعْمَهُونَ } :
أي يتردّدون حائرين ، فقلوبهم حَيارَى ؛ لأنّ العَمَه ( العَمَه ) للقلب و( العَمَىٰ ) للبصر . وقد يُطلق على القلب كما يُطلق عليه عَمَه ، يُطلق عليه عمى ، قال تعالى :
{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا } :
ومَن يشتري لديه رغبة في السلعة التي يشتريها ، فهؤلاء اشتروا
{ الضَّلَالَةَ } ، والثمن الهُدَى { بِالْهُدَى } وهذا يدلّ على خُبث نواياهم وقلوبهم
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } :
نفَى الرِّبح عن التجارة كلِّها ؛ لأنّ الإنسان قد يُتاجر ، ويذهب الرِّبح ويَبقى أصلُه ورأس المال . ولكن هؤلاء ، لا أصل ولا رأس مال ولا رِبح .
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } والنهاية : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
{ مَثَلُهُمْ } : لمّا ذَكَرَ حالَهم مثّلَهم بِمثالين :
{ مَثَلُهُمْ } : أي صِفَتُهم
{ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } : في صحراء
{ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } أضاءت هذه النار ما حوله ،
و { حَوْلَهُ } تدلّ على القُرب ، على قُرْب المكان
{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } :
ولم يقل أذهب الله نورَهم . لأنّ ( ذهب الله بنورهم ) أعظم تأكيدًا { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل ( بِنارِهم ) ؛ لأنّ النار تشتمل على الإضاءة وعلى الإحراق ، فذهبت الإضاءة ، وبقي الإحراق .
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } :
بعد أن أطفأ الله عزّ وجلّ نورهم . ومَنِ انطفأ منه النور ، وكان في ظلمات ربّما أنّه يُبصر يتلمّس . ولذلك قال :
{ لَّا يُبْصِرُونَ } :
وهذا هو شأن أهل النِّفاق . حالُهم كَحال هذا الذي في الصحراء ، انطفأ منه النور . حالُهم مع أهل الإسلام في الدنيا أنّهم على نور ، باعتبار أنّهم قالوا كلمة الإسلام ، فأمِنوا على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى أولادهم . فإذا ماتوا حَلّ محلّ هذا النور الذي أمنوا به خِداعًا ، حلّ محلّه الظلام .
ولذلك :
يوم القيامة ، ماذا قال عزّ وجلّ :
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا }
{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } :
وأيضًا بَقِيَت الشُّبُهات والشكوك في الدُّنيا تُحرِق قلوبَهم .
{ صُمٌّ } :
أي هؤلاء صُمّ ، هُم صمّ ، فلا يسمعون الحقّ
{ بُكْمٌ } :
فلا ينطقون بِالْحَقِّ
{ عُمْيٌ } :
فلا يَنظرون ولا يُبصرون إلى الحقّ .
أسماعُهم معهم ، أبصارُهم معهم ، جوارحُهم معهم .
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ }
العِلّة: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ }
{ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } :
لأنّهم في ظاهرهم أنّهم دخلوا في الدِّين ،
{ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } : لا يرجعون مِن هذه الضلالة وهذا النِّفاق إلى الْهُدَى، لأنّهم لم ينتفعوا بِجوارحهم ، وأعرَضوا وزاغوا ، فأزاغ الله قلوبهم .
{ أَوْ كَصَيِّبٍ } : هذا مَثَل ثاني .
المَثَل الأوّل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } مَثَل ناريّ .
هنا مَثَل مائيّ :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ } :
{ أو } : يعني إن شئتَ فَمَثِّلْهم بِمَن كان في صحراء فأشعل نارًا فانطفأتْ ، أو مَثِّلْهم بهذا المثال . فيَصدُقُ عليهم هذا المَثَل وهذا المَثَل .
أو كما قال بعض العلماء كابن كثير ( المَثَل الناريّ ) لصنف منهم ، وهذا صنف آخر ، وعلى كلّ حال ، هم أهل نِفاق { أَوْ كَصَيِّبٍ } الصيّب : المطر. صِفَتُهم كأصحاب مطر ، كانوا في صحراء .
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ } : مطر من السماء
{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } : ظلمات السحاب وظُلمة الليل وما شابه ذلك
{ وَرَعْدٌ } : والرعد كما جاءت بذلك الأحاديث مَلَك ، والصوت هو صوت المَلَك .
{ وَبَرْقٌ } : مِن شِدّة هذه الظلمات والرعد والبرق
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } حَذَرَ الموت ، خِيفةً مِن أن يموتوا بهذه الصواعق
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } :
{ مِّنَ }: بسبب، بسبب الصواعق ، ولِأجْلِ الصواعق
{ حَذَرَ الْمَوْتِ } : هذا هو حالهم كَحال هؤلاء .
كذلك هؤلاء المنافقون ، حالُهم مع القرآن الذي مُثِّل بالمطر ، لأنّ المطر حياة الأرض ، والقرآن حياة القلوب مَثَلُهم مع القرآن إذا نزل كَمَثَل هؤلاء . كيف؟ القرآن فيه ذِكرٌ لظلمات الكفر ، وفيه آيات الوعيد والتهديد ( رعد وبرق ) يدلّ على البراهين في هذا القرآن .
فهؤلاء إذا سمِعوا القرآن ، جعلوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، يعني أنّهم لم يَسمعوا ما يُتْلَى مِن هذا القرآن ؛ لأنّهم يظنُّون أنّهم لو آمنوا ، فالإيمان عندهم موت وهلاك .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ }
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } :
والأصابع لا تكون في الآذان ، وإنّما تكون الأنامل . وهذا من باب ذِكْر الكُلّ ، ويُقصَد به الجُزء . وهذا أسلوب مِن أساليب اللغة العربيّة . وليس مجازًا . كما ذهب إِلَيْهِ مَن ذهب إلى المجاز في القرآن ، وليس في القرآن مَجاز . [ وسيأتي له حديث إن شاء الله تعالى ]
{ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } :
يظُنُّون أنّهم خارجون عن قُدرة الله ، وَاللهُ أحاط بهم ، وقال هنا { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } ولمْ يقُل ( محيط بالمنافقين ) لِمَ ؟
لأنّ النِّفاق كُفر ، ولكي يَدخُلَ معهم أصحاب الصنف الثاني :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } :
دلائل القرآن تُزعجُهم ، ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ }
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } :
يعني وَقَفوا . فهذا هو حالهم مع هذا المطر ومع هذا البرق . إذا أضاء مَشَوا فيه، { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } : يعني وقفوا، وهذا هو حالهم مع القرآن . إن أتى القرآن بِمَا يوافق أهواءهم قَبِلوه ، وإن أتى بما يُعارِض أهواءهم رفضوه.
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }:
الحِسّيّة ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ أذهبَ حواسّهم المعنويّة
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وهنا قال: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ } يعني كما أذهبَ انتفاعهم بهذه الجوارح وهذه الحواسّ: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} الحِسّيّة
ولذلك قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ }
ثمّ خَتَمَ الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وفي هذا إثبات القَدَر، فهو جلّ وعلا على كلّ شيء قدير . وفيه ردّ على القدَريّة الذين يقولون إنّ العبد يخلق فعل نفسه ، فلا يُمْكِنُ أن يقعَ شَيْءٌ في الكون إلّا بِقَدَرٍ مِنْهُ عَزَّ وجَلَّ.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ } : لمّا ذَكَر الأصناف الثلاثة ، والناس يكونون هكذا إمّا أن يكونوا مؤمنين أو كفّارًا أو أنّهم أصحاب نفاقٍ لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، أَمَرَ الجميع بِعبادته { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } والسورة، سورة البقرة مَدَنيّة ، وفي هذه الآية ردٌّ لِقَولِ مَن يقول إنّ مِن علامات السورة المكّيّة أن يكون فيها النداء بـ( يا أيّها الناس ) ، فيُقال : هذه الآية يُرَدّ بها عليكم لأنّها مدنيّة .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا }: أُمِروا بِالعبادة، يعبدون مَن؟ { رَبَّكُمُ } فالذي يستحقّ العبادة هو الربّ وليست هذه الأصنام والمعبودات.
ثمّ بيّنَ أفعالَه جلّ وعلا المتعلّقة بِرُبوبيّته لأنّهم يؤمنون بِالرُّبوبيّة لكنّهم لا يؤمنون بتوحيد الأُلوهيّة ، ولذلك أَلزَمَهم الله عزّ وجلّ -كما أَقَرّوا بتوحيد الربوبيّة- ألزَمَهم بأن يُقِرّوا بتوحيد الألوهيّة { الَّذِي خَلَقَكُمْ }
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } يُقِرّون .
{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني وخَلَقَ الذين مِن قبلكم، وذَكَر خَلْقَ مَن قَبلَهم لِكَي يَرُدّ على مَن يقول بأنّ الدهر هو الذي يُهلِك ، فَمَن خَلَق مَن قبلَكم هو الذي خَلَق مَن قَبلَهم ، فَدلّ على أنّ لِهؤلاء المخلوقين أنّ لهم خالِقًا وهو الله عزّ وجلّ
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: فإذا عَبَدتم الله عزّ وجلّ حَصَلَت لكم التقوى ، وهذا يدلّ على أنّ مَن أكثرَ مِن العبادة زادَتهُ تلك العبادةُ تُقًى وهُدى
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا }: بمثابة الفِراش، سهلة ليست صَلبةً وليست رُخوَة ، ولذلك قال تعالى:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا }
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }
{ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً }: أي بناها بِقوّة وسوّاها وجعلَها سَقفًا لِلأرض ، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } وقال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } يعني بِقوّة، إلى غير ذلك من الآيات .
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }: من السماء، المطر لا يَنزل من السماء المَبنيّة وإنّما من السحاب، ولذلك قال تعالى: { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }
{ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } : تَفَضُّلًا منه عزّ وجلّ
{ رِزْقًا لَّكُم } : لكم أنتم ولِدوابِّكم. ما النتيجة ؟ { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا }: أي نُظَراء وأشباه ، فيَلزَمُكم فأنتم تُقِرّون بأنّ هذه أفعال الله عزّ وجلّ وتُقِرّون بتوحيد الربوبيّة { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } مِن أنّه لا شريك له ولا شبيه.
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ }: لمّا قرّرَ التوحيد قرّرَ الرسالة رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كنتم في شَكٍّ، في شَكّ، وهؤلاء هُم أهل الكفر . بينما أهل الإيمان في مقدّمة السورة: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } .هؤلاء الكفّار: وإن كنتم في شكٍّ { مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وهو النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، نَزّل عليه القرآن وَصَفَه بالعبوديّة في مقام التنزيل لأنّ أعظم وَصْف للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يوصَف بالعبوديّة
{ فَأْتُوا بِسُورَة } : فأتوا بِسورة سواءٌ كانت سورةً طويلة أو سورةً قصيرة ، وهذا هو القول المُتعيِّن والقول الصحيح لأنّ كلمة ( سورة ) نَكِرَة في سياق الشَّرْط : فَتَعُمّ أيّ سورة ، فلن يستطيعوا أن يأتوا ولو بِسورةٍ قصيرة
{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }: ( مِنْ ) هُنا : إمّا بيانيّة تُبَيِّن ما يُؤمَرون بالإتيان به ، وإمّا أن تكون زائدة للتأكيد وهذا هو الأقرب . كما قال تعالى في سورة يونس { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ }
{ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم }: أي ادعوا مَن تعبدونهم؛ لأنّ الشهود بمعنى الحُضور، أي أحضِروا هؤلاء. بل قال عزّ وجلّ في سورة يونس: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إن كنتم صادقين في أنّ هذا القرآن اختَلَقَهُ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا } : هذا في الماضي { وَلَن تَفْعَلُوا } هذا في المستقبَل ، تَحَدّي لهم .
ما الواجب عليكم ؟ الإذعان والإيمان { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } وَقودها الناس؛ لأنّ الله عزّ وجلّ وَعَدَ الجنّة بِأن يملأَها والنار بأن يملأَها، ولذلك قال عزّ وجلّ: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} فمَن يوقِد النار الحطب، حطبُها: الناس الذين هُم فيها، كما قال تعالى: { ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ }
وأيضًا وَقودُها الحجارة ، والحجارة : كثير مِن المفسّرين يقولون هي حجارة الكبريت لأنّها نَتِنة ولأنّها سريعة الاشتعال ، ويَدخل في ذلك الأصنام
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي حطب جهنّم { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي داخلون
{ أُعِدَّتْ } : أي هُيِّئَت { لِلْكَافِرِينَ } ولَم يَقُل أُعِدّت لكم لِيَحكم عليهم بأنّهم كفّار ولأنّ النار أُعِدّت لِكُلّ كافر ، بِقَطع النظر عن نوعيّة كُفره
و { أُعِدَّتْ } : يعني هُيِّئَت ، وهذا يدلّ على ما ذهب إليه أهلُ السُّنَّة والجماعة خلافًا لِلجَهميّة والمُعتزِلة مِن أنّ ( النار موجودة مخلوقة الآن )
خلافًا لِمَن نَفَى ذلك مِن أهل الضلال ، وممّا يؤكّد ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم رآها في صلاة الكسوف.
{ أُعِدَّتْ } : أي النار ، وقيل أُعِدّت الحجارة ، ولا تنافي بينهما
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } : لمّا ذَكَر ما أُعِدّ للكفّار من العذاب
( وهذا ترهيب ) ذَكَرَ ما أعدّه عزّ وجلّ لِأهل الإيمان (وهذا ترغيب ) .
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } : العمل الصالح من الإيمان لكنّه أُفرِد لِأهمّيّته وللتأكيد عليه
{ أَنَّ لَهُمْ } أي بأنّ لهم { جَنَّاتٍ } أي بساتين
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } : أي من تحت هذه البساتين ومن تحت القصور
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } : الأنهار لا تجري، إنّما الذي يجري الماء، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربيّة وليس مَجازًا.
{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا }: ما وصلوا إلى هذه الجنّة إلّا بِفضل من الله عزّ وجلّ وبرِزقٍ منه ، وما أعَدَّهُ من النعيم بِرِزقٍ منه عزّ وجلّ
{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْل } :
أي قبل قليل، فَثِمار الجنّة تتشابه لكنّها من حيث الطعم تختلف،
وكذلك قولهم: { رُزِقْنَا مِن قَبْل } أي تَشابُه الأسماء التي في الدنيا ، مثلًا التفّاح الذي في الدنيا ليس كالذي في الجنّة ، الاسم واحد ولكنّ الطعم يختلف.
{ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }: يُشبِه بعضُه بعضًا لكنّه يختلف في الطعم، وأيضًا {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يُشبِه بعضُه بعضًا في الخِيار وفي الكمال فلا عيب في ثمارها ولا فساد في ثمارها.
ولمّا ذكر ما يكون لهم من البساتين التي تُسعِد الأبصار والقلوب وكذلك المياه ، بَيَّن أنّ لهم أزواجًا حتّى تكتمل النعمة
{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ }: جَمْع زَوج . والزوج يُطلَق على الذكر والأنثى ، فتقول هذه زوجي . تقول لزوجتك ( هذه زَوجي ) وهذا هو الأشهر، ويصحّ كما هو المتعارف عندنا ( زوجتي ) ، لكِن لِيُعلَم أنّ الأشهر ( هذه زَوجي )
ولذلك : وَرَدَ بالتَّاء كما قال عمّار عند البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها، قال إنّها زوجته في الدنيا وفي الآخرة.
{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } : مطهّرة معنويًّا وحِسِّيًّا ، مطهّرة من الأخلاق الرذيلة ، ومطهّرة من الرذائل الحِسِّيّة من المُخاط والحَيض وما شابه ذلك .
ثمّ خَتَمَ الآية بِقَوله: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: مِن باب الاستقرار النفسيّ والأمنيّ ، وذلك لأنّ الإنسان قد تتوفّر عنده النِّعَم لكن يخشى من زوالها
فهنا قال: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني أنّهم ماكِثون ، كما قال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } : الكفّار لمّا عَجَزوا عن أن يأتوا بِسورة من القرآن طعنوا في القرآن ، قالوا لماذا يَذكُر التمثيل بالبعوضة وبالذباب وبالعنكبوت في القرآن ؟ يقولون هذا تمثيلٌ غيرُ لائق .
فَرَدّ الله عزّ وجلّ عليهم : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي } أي لا يمنعُه الحياء ، وكَونُه { لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا } دلّ على صفة الحياء له عزّ وجلّ ، فإنّه لمّا نفَى هنا دلّ على أنّها مُثبَتة في غير هذا السياق، وقد ثبت بذلك الحديث ، قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (( إنّ اللهَ حَيِيٌّ كريمٌ يستحي مِن أحدكم إذا رفع يديه أن يَرُدَّهُما صِفرًا ))
{ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا }: ( ما ) هنا للتأكيد ، وهي زائدة للتأكيد
{ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا } : أي : أن يضرب أيّ مَثَل
{ بَعُوضَةً } : أن يضرب مَثَلًا بالبعوضة
{ فَمَا فَوْقَهَا } : فما فوقها في الحجم أو فما فوقها في الصِّغَر ، فإنّ الفَوقيّة تدلّ على الصِّغَر، كما لو قيل عن شخص : فلانٌ بخيل ، فيُقال: وفوق ذلك . يعني أنّه أعظم بُخلًا
فَـ { فَمَا فَوْقَهَا } وسواءً هذا أو هذا، وممّا يدلّ على الفَوقِيّة { فَمَا فَوْقَهَا } يعني ما هو أعظم ، قَولُه صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه (( ما يُصيب المسلم مِن نَصَب ولا وَصَب حتّى الشوكة فما فوقها )) فما فوقها ، هل ما يصيب الإنسان ممّا هو أعظم من الشوكة أو أقل ؟
مُحتمَل هذا ومُحتمَل هذا.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا } : عندهم عِلْم { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } أي هذا المَثَل { الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } عندهم عِلْم ، وصاحب العِلْم ليس كصاحب الجهل والشكّ
عندهم عِلْم ، عِلْم يقينيّ ولذلك ماذا قال تعالى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ } .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } : لِجهلِهم { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } لماذا ضرب هذا المثال ؟ فقال عزّ وجلّ مبيّنًا أنّه بهذا المَثَل : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } : مَن أعرضَ وكفر {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } مَن آمن
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ } : أي بهذا المثل { إِلَّا الْفَاسِقِينَ } والفِسق هو الخروج عن دين الله، إمّا خروجًا كُلِّيَّةً بأن يكفر ، أو أنّه يكون فاسقًا عاصيًا لله في دائرة الإسلام وهنا الفِسق ( كفر ) ، الفِسق هنا الفسق الأكبر .
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } :
ما صِفَة هؤلاء ؟ { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } :
المواثيق التي أخَذها الله عزّ وجلّ على جميع الناس مِن الإيمان وخصوصًا ما فَطَرَهم الله عزّ وجلّ عليه مِن التوحيد ، وما أُمِرَت به الأديان الأخرى مِن اليهود والنصارى
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } : هؤلاء ، صِفَة هؤلاء الفاسقين { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } : فكُلّ ما أَمَرَ الله عزّ وجلّ به يَدخل هنا .
الله عزّ وجلّ أَمَرَ أن يوصِل العبد قَوله بِفعلِه ، وأَمَرَ عزّ وجلّ بِصِلة الأرحام ، وأَمَرَ عزّ وجلّ أن يُوصَل بين الأنبياء فلا يُفَرَّق في الإيمان
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } فهو شامل
{ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } :
ما سَبَقَ ( فسادٌ ) وهنا عموم ، فَهُم أصحاب فسادٍ في الأرض .
والعاقبة : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسِروا الدنيا وخسِروا أنفسهم وخسِروا الآخرة
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } : استفهام للتعجّب ، عجب مِن حال هؤلاء
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } : أَمَرَهم أن ينظروا إلى أنفسهم
مِن الدلائل على عظمة الله وعلى وجوب إفراده بالألوهيّة أن ينظر الإنسان إلى نفسه { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } عجب { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا } كنتم في العَدَم ، كنتم نُطَفَة { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ }
{ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يوم القيامة
{ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تُرجَعون فيُحاسبُكم الله عزّ وجلّ .
وهذه الآية تفسِّر قَولَه عزّ وجلّ في سورة غافر :
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } فهُنا ذَكَرَ مَوتَتَين وَحَيَّتَين { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } :
جُملةٌ من أهل العلم يَرَوْن أنّ هذه الآيةَ دليلٌ على أنّ الأصلَ في الأشياء الإباحة ، وخَلَقَ الله عزّ وجلّ لنا ما في الأرض جميعًا ، لكي نستعين بما خَلَقهُ عزّ وجلّ لنا على عبادته لا أن يُشْغلنا ذلك. وما في الأرض فيه ما هو ضارّ كالعقارب والحيّات
فما الفائدة منها ؟ الفائدة منها للاعتبار ، أمّا ما سِواها ، فإنّه للانتفاع .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } :
أي ارتفع على السماء استواءً يليقُ بِجلالِه وبِعظَمته . وهذا ما عليه أكثرُ السَّلف. وبعض المفسِّرين كابن كثير رحمه الله يرى أنّ استوى بمعنى قَصَدَ. وليس هذا تحريفًا ؛ وذلك لأنّ الحرف ( إلى ) بَيَّنَ معنى كلمة استوى، فيقول رحمه الله : { اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي قَصَدَ السماء .
{ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } : أي جَعَلَهنّ مُستَوِيات كاملات لا عيبَ فيهنّ ولا شُقوق .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } : خَلَقَ الأرض وخَلَقَ السماوات وما بينهما وما تحت الثرى ولا يَخفى عليه شيء ممّا خلقه عزّ وجلّ فيهما .
وهذه الآيةُ بِذِكر الأرض يدلّ على أنّ الأرضَ خُلِقَت قَبل السماء . وهذا ما عليه الغالبيّةُ العُظمى مِن المفسِّرين ، خِلافًا لـِمـَن قال إنّ السماوات خُلِقت قَبل الأرض .
وبعضُهم توقّف .
والصواب :
الذي تدلّ عليه الأدلّة أنّ الأرض خُلِقَت قبل السماء .
قال تعالى :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (10) }
ثمّ قال :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ..}
فدلّ هذا على أنّ الأرض خُلِقت قبل السماء .
لكنّ الجواب عن قوله تعالى :
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ }
ثمّ ذَكَرَ بعد ذلك :
{ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
فالمقصود مِن ذلك :
أنّ الله عزّ وجلّ خَلَقَ الأرضَ أوّلًا في يومين ، ثمّ خلق السماء في يومين ، ثمّ بعد ذلك دَحَى الأرض { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
تفسيرُه :
{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) }
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } :
أي واذكر قول ربِّك للملائكة ، وفي هذا إثبات أنّ الله عزّ وجلّ يتكلّم كلامًا يليق بجلاله وبِعظَمته .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } :
مَن هُوَ هذا الخليفة ؟
كثيرٌ مِن المفسِّرين يقول هو آدم .
ولكنّ ابن كثير رحمه الله يرى أنّه ليس المقصود آدم ، وإنّما المقصود الذُّرّيّة .
كما قال عزّ وجلّ :
{ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ }
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ }
قَالَ :
لو كان المقصود آدم لما قالت الملائكة :
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وعلى كلّ حال، سواءٌ قيل بهذا أو بهذا ، فإنّ الله عزّ وجلّ شرَّف بني آدم بأن جعلَهم خُلفاء في الأرض إن هُم أحسنوا وأطاعوا الله عزّ وجلّ واتَّقَوْه .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } :
لَمْ يَقُل خليفةً لي ، لأنّ الخليفةَ إنّما يَكُونُ لِــمَـنْ يغيب ، وَاللهُ عزّ وجلّ هُوَ العالِم بكلّ شيء ، الذي أحاطَ بكلّ شيء .
ولِذا :
وردَ [ حديث صحيح ] لكن مِن بَيْنِهِ جُملة [ حديث المهدي ] قال :
( خليفة الله المهدي ) هذه لفظةٌ ضعيفة أنكرها شيخ الإسلام رحمه الله وغيرُه.
إذَن جعلَه عزّ وجلّ خليفةً أي خليفةً في الأرض لِعِمارتِها وإصلاحها .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا } :
ليسَ اعتراضًا على حُكمِ الله عزّ وجلّ ، لأنّ الله عزّ وجلّ وَصَفَ الملائكة { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }
وإنّما هُنا استفهام ، للاستعلام ، يستعلِمون .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } :
وسفكُ الدِّماء مِن الإفساد في الأرض ، لكنّه ذكره مِن بابِ بيان عِظَمِ سَفْكِ الدِّماء ، وإلّا فهو داخل ضمن الإفساد . ولِعِلمهم بأنّ الله عزّ وجلّ لا يُحِبُّ الفسادَ ، ولا يُصلِحُ عملَ المفسدين .
لكن :
لو قيل كيف عرفوا ذلك ؟
كثيرٌ مِن المفسِّرين يقول إنّما هذا بِنَاءً على ما كان في الأرض مِن وجود الجنّ ، فإنّ الجنّ كانوا قبل آدم أفسدوا في الأرض ، فأرسل الله عليهم إبليس، فَنَفاهُم في الجبال وما شابه ذلك . وهذا ذَكَرَهُ كثيرٌ مِن المفسِّرين .
ولكن لا أَعْلَمُ فيه حديثًا صحيحًا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
وإنّما لَعلّهم عَلِموا ذلك بِتعليم الله عزّ وجلّ لهم أَوْ باعتبار ما تَوَسّموا مِن بيان أصل خِلقة آدم ، خُلِق مِن صلصال من حمأ مسنون ، فكأنّهم استَشَفُّوا مِن أنّ هذا الأمر وهذا المقصود منه أصل خِلقة آدم تدلّ على هذا الأمر .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }
{ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } :
أي نُنَزِّهُكَ عمّا لا يليق بك . ثمّ قالوا و ( بِحَمْدِكَ ) إثبات الصِّفات العظيمة له عزّ وجلّ . فنَفَوا عنه جلّ وعلا ما لا يليقُ به وأثبَتوا له ما يَستحقّه مِن الصِّفات العظيمة
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } :
أي نُثني عليكَ بالطهارة ، ويَتضمّن ذلك ، نُصَلّي لكَ .
فدلّ هذا على أنّهم جَمَعوا بين العِبادة القوليّة :
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }
وبين العبادة العَمَليّة :
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
ويَدخلُ في ذلك ضِمنًا أنّنا نُطَهِّر أنفسَنا لك .
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } :
أَعْلَمُ مِن أنّ المصالحَ في هذا الخليفة بِوجوده في الأرض أعظم مِن المفاسِد التي ذكرتموها ، باعتبار أنّ هذا الخليفة يَكُونُ – مِن هؤلاء – يَكُونُ مِنْهُم الأنبياء والرُّسُل والصالحون .
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } :
وهذا يدلّ على إحاطة عِلم الله عزّ وجلّ بِكلّ شيء .
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
آدم :
هو نَبيّ ، وسُمّي بهذا الاسم على الصحيح مِن الأقوال ، مِن أنّه خُلِقَ مِن أديم الأرض فَجُمِعت تُربة مِن جميع الأرض ، فَخُلِقَ منها آدم ، فصار مِن ذرّيّته الأبيضُ والأحمر والأسود ، والسَّهل والصَّعب وبين ذلك كما ثبت في ذلك الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
أي عَلَّمَه اسم كلّ شيء وعلّمه منافعه ، وهذا يَتضمّن أنّه عزّ وجلّ عَلَّمَه المُصَغَّر والمُكَبّر مِنْهَا ( القَصعة والقُصَيعة ) ويَتضمّن أنّه جلّ وعلا عَلَّمَ آدَمَ جميعَ اللغات .
فَفِيه إثبات أنّ آدَمَ عليه السلام ، قد عُلِّمَ جميعُ اللغات .
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ}:
أي هذه المُسَمّيات ، وَلَمْ يَقُل عَرَضَها ؛ لأنّه إذا جُمِعَ ما يَعْقِل ومالا يَعْقِل مِن الأساليب في اللغة العربيّة أنّه يُغَلَّب جانب مَن يَعْقِل .
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } :
{ فَقَالَ أَنبِئُونِي } :
أي أخبِروني { بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ }
{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } :
فيما قُلْتُم مِن أنّ هذا الخليفة يُفسد ويسفك الدماء وأثنَيتم على أنفسكم
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } :
نزّهوا الله عزّ وجلّ عمّا لا يليق به .
{ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } :
وهذا إن دلّ يدلّ على تَواضُع الملائكة . ومِن ثَمَّ فإنّ على طلّاب العلم والعلماء إن سُئِلوا عن شَيْءٍ لَمْ يَعرفوه أن يقولوا : ( لا نعلم ) أو ( الله أعلم ) .
ولذلك :
في الصحيح ، ابن مسعود رضي الله عنه قال :
( إنّ مِن العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم )
{ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } :
فأنتَ العليم والحكيم ، فَعِلْمُكَ أحاط بكلّ شيء ، وحِكمَتك اقتَضَت أن يكون هذا خليفةً في الأرض ، فلَكَ الحكمة التامّة ، وأنتَ العالِم بكلّ شيء .
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ : أي أخبِرهم بأسمائهم
{ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
أي ما غاب في السماوات وما في الأرض
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } :
أي تُظهِرون مِن الأقوال والأفعال .
{ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } :
أي تُسِرِّون . والإسرار يدلّ على أنّ الملائكة لهم قُلوب . والإبداء والإظهار ، { تُبْدُونَ } يدلّ على أنّهم يتكلّمون .
وقد جاءت بذلك الأدلّة:
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
فَلَهُم قُلوب.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } :
هؤلاء الملائكة ( الصحيح أنّهم جميع الملائكة ) وليسوا طائفة مِن الملائكة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء والدليل في الآيات الأُخَر { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } أكّدَ بكلمة ( كلّهم ) و بِـ ( أجمعون )
[ طبعًا قلتُ بِـ ( أجمعون ) والباء جارّة مِن باب الحِكاية ]
ثمّ استثنى { إِلَّا إِبْلِيسَ } :
فدلّ على أنّ جميع الملائكة أُمِروا بالسجود لآدم فسجدوا .
{ اسْجُدُوا لِآدَمَ } :
وَلَمْ يَقُل إلى آدم ، فدلّ هذا على أنّ القول الصحيح أنّ السجود كان لآدم ، وليس كما قيل إنّ آدم هو قِبلة والسجود لله ؛ لأنّه قال : { اسْجُدُوا لِآدَمَ } وهذا السجود ليس سجود عِبادة وإنّما هو سجود تحيّة كما سَجَدَ أَبَوا يوسف وإخوتُه { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا }
وهذا جائز في الأديان السابقة ، أمّا في ديننا فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا سجد له مُعاذ لمّا أتى إلى الشام ، نهاهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال ( لَوْ كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجدَ لأحد ، لأمرتُ الزوجة أن تسجُدَ لزوجِها)
{ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ } :
سُمّي بهذا الاسم لأنّه أُبْلِسَ وأُبْعِدَ ويَئِسَ مِن رحمةِ الله . والصحيح أنّه ليس مِن الملائكة ، فالاستثناء هنا استثناء مُنقطِع ، بدليل أنّه جلّ وعلا قال عن إبليس:
{ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } كما في سورة الكهف { كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
ولأنّ الملائكة لا يَعصُون الله عزّ وجلّ ، ولأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بَيَّنَ كما في صحيح مسلم ، مِن أنّ الملائكة خُلِقَت مِن نور ، والجانّ خُلِق مِن نار .
{ أَبَى } أي امتنعَ { وَاسْتَكْبَرَ } أي تكبّر .
فدلّ هذا على أنّه مع هذا الامتناع ، لأنّ مَن امتنع ربّما يعود ، لكنّه لَمْ يَعُدْ بِاعتبار أنّه مُستكبِر ، وهذا يدلّ على خُطورةِ الْكِبْر ، وأنّ الكِبْر كانَ سببًا في إبعاد إبليس مِن الخير ، كما أنّ الحسد ، إذ حسد إبليس آدم ، هو سببٌ لحرمانه من الخير .
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } :
كان في عِلم الله عزّ وجلّ من الكافرين ، فإنّ قلبه ، ليس بقلبٍ صالح ، ولذلك لَمْ يَنْصَعْ ، وَلَمْ يستجِبْ لأمرِ الله عزّ وجلّ .
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } :
{ اسْكُنْ } فِعل أَمْر يَتضمّن الفاعل الضمير المستَتِر ( أنتَ ) ، لكنّه أتى بِالضمير { أنتَ } مرّةً أُخرى لِكَي يعطِفَ عليه ما بَعدهُ
{ اسْكُنْ أَنتَ } لِكَي يعطف { وَزَوْجُكَ } كما في آياتٍ أُخَر
{ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ونظائرُ هذا كثيرة .
{ وَزَوْجُكَ } :
هي حوّاء ، كما دلّ على ذلك الحديث في الصحيح ( ولولا حوّاء لَمْ تخُن أُنثَى زوجها الدّهر ) وخيانتها ليست خيانة زنى أو كفر . لا ، وإنّما لأنّها كما قال الشُّرّاح زَيَّنَتْ لآدم ، أو حبّبَتْ لآدمَ أن يأكلَ من الشجرة فوقعَ ما وقع .
{ وَزَوْجُكَ } :
فالزوجة يُطْلَقُ عليها زوج ، وهذا هو الأكثر ، ويصحّ ، وإن كان مشهورًا لدينا مع أنّ هو الأقلّ ، يصحّ أن تقول زوجتي . كما قال عمَّار بن ياسر رضي الله عنه في صحيح البخاريّ قال عن عائشة رضي الله عنها :
( إنّي لأعلم أنّها زوجته في الدنيا وفي الآخرة ، لكنّ الله عزّ وجلّ أراد أن يَبتَلِيَكم بها )
لمّا حصل ما حصل مِن تلك الفتن .
{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } :
{ الْجَنَّةَ } :
هي الجنّة التي في السماء ، وليست في الأرض على الصحيح ، خِلافًا لمن قال ذلك ؛ لأنّه قال بعد ذلك { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } فدلّ على أنّ هذه الجنّة في السماء وليست في الأرض ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء .
وهل هي جنّة الخُلد أم لا ؟
خلافٌ .
والصحيح :
أنّها جنّةُ الخُلد ، أُخرِجَ منها .
والدليل على ذلك :
كما جاء في الصحيحين :
(( أنّ موسى قال لآدم أخرَجْتَنا ونفسَكَ مِن الجنّة ))
وكذلك في حديث الشفاعة : إذا أتَوا إلى آدم ، قال : وهلْ أَخرَجَكم من الجنّة إلّا خطيئةُ أبيكم . فدلّ هذا على أنّ الجنّة التي أُخرِجَ منها آدم هي جنّة الخُلد على الصحيح .
[ ولنا كلامٌ مُوَسّع أكثر في موطِنٍ آخَر ]
{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا}:
{ وَكُلَا مِنْهَا } : أي من الجنّة .
{ رَغَدًا } : هذا صفة لمصدر محذوف ، يعني ( وكُلُوا منها أكلًا رَغَدًا ) أي واسعًا ، لا حَجْرَ عليكم في الأكلِ منها .
{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } :
النَّهي هنا يدلّ على أنّ بقاءهم في هذه الجنّة ليس بمُستمرّ ؛ لأنّ الجنّة لا يُمنع فيها داخِلُها مِن أن يتلذّذ بما شاء منها دون أن يكون عليه حَجْر أو مَنْع
{ وَلَا تَقْرَبَا } :
وَلَمْ يَقُل ولا تأكُلا ، وهذا مِن أدلّة قاعدة ( سدّ الذرائع )
كما قال عزّ وجلّ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } وَلَمْ يَقُل : ولا تَزنوا .
{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } :
كثُر الخِلاف بينَ المفسِّرين عن نوعيّة هذه الشجرة .
وكُلّ ذلك لا أَعْلَمُ له دليلًا صحيحًا مِن سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحديدها وفي تعيينها، ولذلك لو كان بِذِكرِها فائدة لَوَضّحَها عزّ وجلّ ، ولذلك نُبهِم ما أبهمَهُ القرآن ، ونأخذ العِبرة .
كما قال تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ }
{ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } :
فدلّ هذا على أنّ النَّهي يقتضي التحريم ، لأنّه لمّا نَهاهُما ، بيّن أنّهما لو أكَلا منها فَسَيكونان مِن الظالمين .
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ } :
أي أوْقَعَهما في الزلّة ، ونحّاهما عنها . أي عن الجنة ، أو كما قيل – ولا تَعارُض بينهما – { عَنْهَا } عنها ( هُنا ) للسببيّة : يعني بسبب هذه الشجرة ، وقع في الزلّة ، فكان أكلُهُما منها سببًا لِإخراجهما مِن الجنّة .
{ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } :
أي ممّا كانا فيه في الجنّة .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا } :
أي مِن الجنّة ، ومِن السماء .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } :
أنتم أعداء : آدم مع الشيطان ، وكذلك ذرّيّة آدَمَ الشيطانُ عدوّ لهم ،
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا }
وكذلك ما يجري مِن عداوة بين ذرّيّة آدم .
{ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ } :
هذا يدلّ على أنّ الجنّة التي كانا فيها ليست في الأرض وإنّما هي في السماء على الصحيح .
{ مُسْتَقَرٌّ } : أي موضع قرار
{ وَمَتَاعٌ } : يُستمتَع بما في هذه الدنيا .
{ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } : أي إلى أن تنقضيَ آجالُكم . وفي هذا إشارة إلى أنّ آدَمَ سيعودُ إلى الجنّة ، لأن بقاءه في الأرض مُحدّد بِأجَل .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } : أي آدم أَلْهَمَهُ الله عزّ وجلّ ، وعلّمه كلمات .
ما هي تلك الكلمات ؟ خِلاف .
والصحيح : أنّ أفضل ما يُفسَّر به القرآن أن يُفسَّرَ بالقرآن .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } :
تلك الكلمات هي التي في سورة الأعراف :
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
{ فَتَابَ عَلَيْهِ } :
بَعد أن وقع في الزلّة تاب الله عزّ وجلّ عليه ، ولذا كان حالُه عليه السلام بعد فِعل الزلّة في أعلى المقامات مِن العبوديّة لله عزّ وجلّ . ولِذا قال عزّ وجلّ عنه في سورة طٰهٰ :
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :
{ التَّوَّابُ } :
اسم مِن أسمائه عزّ وجلّ بِصيغة المبالغة ؛ لأنّه كثير ما يتوب على عباده ، وكثيرًا ما يُذْنِب عباده ، فيتوب عليهم
{ الرَّحِيمُ } :
أتى بعد التوّاب مِن باب بيان أنّ توبة الله عزّ وجلّ على عِبادِه مِن رحمته ، وأنّ مِن رحمته عزّ وجلّ ، أنّه يتوب على عباده .
{ قُلْنَا اهْبِطُوا } :
كرّرَ الفعل ( اهبطوا ) مِن باب أن يبنيَ عليه حُكمًا آخر غير الحُكم السابق
الحكم السابق :
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }
هنا :
{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا }
لِيَبنيَ عليها الحُكم ، وهو مَجيء { هُدًى }.
{ فَإِمَّا } :
كلمة ( إمّا ) مكوّنة مِن أمرَين ( إن ) الشرطيّة مع ( ما ) الزائدة ، وتحتاج إلى جواب .
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } :
رسول وكتاب . الجواب ، جواب الشرط ( إِنْ )
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } :
وأضاف الْهُدَى إِلَيْهِ ؛ لأنّه لا هِداية لِلبشريّة إلّا مِن طريق الله عزّ وجلّ ، ومِن شرع الله عزّ وجلّ .
وقوله { فَمَن تَبِعَ } :
( مَن ) أيضًا هذه شرطيّة ، جوابُها : { فَلَا خَوْفٌ } الثمرة في مَن اتّبَع الْهُدَى { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يَستقبلونه ، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فيما مضى .
وهذا شامل لِنَفي الخوف والحزن في الدُّنيا وفي الآخرة .
وفي سورة [ طه ] مِن ثمرات اتّباع هذا الهُدى :
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) }
ولِذا :
قال بعدها فيمن ترك الْهُدَى في هذه السورة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا } جَمَعوا مع الكفر التكذيبَ
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } :
التي أنزلها الله عزّ وجلّ على رُسُله ، وجعلَها في كُتُبه .
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } :
فهم مصاحبون للنار
{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } :
أي ماكِثون .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
لمّا ذَكَرَ شأن آدم وإبليس ذَكَرَ ضلال هؤلاء اليهود ؛ لأنّ الآيات السابقات بيّنَت :
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) }
ومِن صِنف مَن كذّب ، مَن ؟
بنو إسرائيل .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
إسرائيل :
هو يعقوب عليه السلام ، وأضافهم إليه ، تذكيرًا بِحالِه ، مِن أنّ جَدّهم كان صَالِحًا قانتًا مُطيعًا لله عزّ وجلّ . فيُذكَّر الإنسان بالخِصال الطيّبة التي كان عليها أجداده .
كما قال عزّ وجلّ :
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }
يعني يا ذرّيّة مَن حملنا مع نوح
ما الثمرة ؟
{ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }
فلِماذا لا تكونون عبيدًا لله عزّ وجلّ شاكرين له .
كذلك هنا :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ }
{ اذْكُرُوا } :
يَتضمّن الذكر بالقلب وباللسان وبالجوارح . فعَلَيهم أن يَذْكُروا نِعَم الله عزّ وجلّ عليهم ؛ لِكَي تمتلئ قلوبهم بالإيمان ، وتذكر ألسنتهم نِعمةَ الله وفضْلَه ، وتَعمل جوارحُهم لله عزّ وجلّ .
{ نِعْمَتِيَ } :
نِعمة : مفرد ، أُضيفت إِلَيْهِ عزّ وجلّ فَتَعُمّ ، كما قال عزّ وجلّ :
{ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }
فهي ليست نعمة واحدة ، وإنّما هي نِعَم كثيرة .
وهو يُخاطِب جلّ وعلا مَن في عصره ، مَن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لِيُذكّرهم بِحال أجدادهم ، لأنّ الله عزّ وجلّ أنعَم على بني إسرائيل ، كما سيأتي إذ نجّاهم الله عزّ وجلّ مِن فِرعون ، وأنقذهم الله عزّ وجلّ ، وجعَلَهم مُلُوكًا في الأرض :
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }
{ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } : فالمنعِم هو الله عزّ وجلّ .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } :
ما هو عهد الله الذي أمَرَهم به ؟
وما هو عهده عزّ وجلّ الذي سيُوَفّيه لَهُم تفضُّلًا منه وكرَمًا ؟
مُفسَّر في سورة المائدة :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }
أُوفِي بِعهدكم :
{ لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }
{ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } :
أي خافونِ . وقَدَّمَ ( إيّاي ) : مِن باب الحَصر ، فلا يُخاف ولا يُرهَب إلّا مِن الله عزّ وجلّ .
ثمّ لمّا ذَكَرَ عزّ وجلّ ما ذَكّرَهم به مِن نِعمته أمَرَهم أن يؤمنوا بهذا الكتاب ، وهو القرآن .
{ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ } : وهو القرآن
{ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ }: فهو يصدِّق ما معكم. ولذلك كان مِن المُفترَض أن يؤمنوا بهذا القرآن ، وأن يحرِصوا عليه ؛ لأنّه يُصَدِّقُ ما بأيديهم مِن التوراة.
{ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }
{ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } :
وقد كَفَر به قَبلَهم قريش ، لكن لماذا قال لهؤلاء مع أنّ قريشًا كفرتْ قبلهم ؟ لأنّ لهؤلاء أتباعًا ، وهم أصحاب كتاب ، فسَيَتبعُهم غيرُهم ، وهذا يدلّ على أنّ مَن كان له قَدَمٌ في العلم الشرعيّ ، وله أتباع ، عليه أن يتّقيَ الله عزّ وجلّ ؛ لأنّه قُدوة ، إمّا أن يكون قدوة خير أو قدوة شرّ .
{ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } :
وَلَمْ يَقُل ( ولا تكونوا أوّل الكافرين )
بمعنى :
ولا تكونوا أوّل فريقٍ كافرٍ به { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } :
{ وَلَا تَشْتَرُوا } :
ومَن يشتري ، إنّما يشتري عن رغبة ، فاشترى الضلالة والدنيا ، والثمن آياتُ الله عزّ وجلّ ، وشرعُ الله عزّ وجلّ .
{ ثَمَنًا قَلِيلًا } :
أي لا تُقَدِّموا الدنيا ، لأنّ الثمن القليل كما قال بعض المفسِّرين ، وهو الصواب ( الدنيا كُلّها ثمنٌ قليلٌ بالنسبة إلى شرع الله عزّ وجلّ ، وبالنسبة إلى ما أُعِدَّ لِلإنسان في الآخرة )
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } :
وهذا إن دلّ ، يدلّ على خطورة العالِم الذي يَكتمُ شرعَ الله أو يُلبِس الحقّ بالباطل ، ولذا سَيَذكُر عزّ وجلّ بعد ذلك أنّ هذه الصفات السيّئة هي صفات اليهود .
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } :
قَدّمَ إيّاي ، مِن باب الحَصر ، ومِن باب أنّ الإنسان يجعل نُصبَ عَينَيه تقوى الله عزّ وجلّ ، ولا يَلتفت إلى الدنيا ويَحرص على الدنيا في سبيل تضييعه لِتقوى الله عزّ وجلّ { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } وهذا هو حال اليهود . والسبب في كَونِهم ألبَسوا الحقّ بالباطل ؛ لأنّهم يريدون الدنيا ، كما في الآية التي قَبلها { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا }
{ وَلَا تَلْبِسُوا } :
أي ولا تَخلِطوا الحقّ بالباطل
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } :
فهاتان جِنايتان . فعالِم السُّوء إمّا – وذلك مِن أجل أن يحققّ رَغَباته الدّنيئة لِتحصيل هذه الدنيا على حِـساب الدِّين – إمّا أن يُلبِس الحقّ بالباطل ، حتى يَروج هذا الباطل في هذا الحقّ الذي أتى به ، لأنّه إذا أتى بِالْحَقِّ يَنخدع الناس كحال السَّحَرَة الذين تأتيَهم الشياطين بالكلمة فَـيكذِب معها مئة كذبة ، فَيُصَدَّق بتلك الكلمة التي ألقاها الشيطانُ في أُذُنه لمّا استرقها مِن الملائكة .
{ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } :
هذا صِنف . ولذلك في هذا نَهيٌ للعالِم ولِطالب العلم وللمسلم عمومًا ، نهيٌ عن أن يُلبِسَ الحقّ بالباطل ، وَلَوْ لَمْ يَكُن مُريدًا لثمن الدنيا . فكيف إذا كان المقصود أن يتحصّلَ على الدنيا .
وفي هذا خطورة أهل البدع وأهل الأهواء الذين يُلبِسون الحقّ بالباطل .
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } :
يكتمونه ، مِن غير أن يُلبِسوا الحقّ بالباطل . وهذا صِنف آخر . وكتمان الحقّ مِن أعظم الظلم . فكيف إذا كان المقصود مِن كِتمانه أن يتحصّل الإنسان على غرضٍ مِن أغراض الدنيا ، قال عزّ وجلّ :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } :
وأنتم تعلمون أنّ ما تَذْكرونه يُغضب الله ، وتعلمون عاقبة مَن كَتَمَ العلم وألبَسَ الحقّ بالباطل ، فَلَستُم جُهّالًا ، بل أنتم على عِلم . والحُجّة على العالِم أقوى مِنه على غَيره .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
أمَرَهم بإقامة الصلاة .
وفي هذا دلالة على أنّ مِن السُّبُل التي تُبعِد الإنسان عن أن يُسيء إلى شرع الله ، أو أن يقعَ في الذنوب الصلاة .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ }
قال : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
أي بأركانها وبواجباتها وبشروطها ، وَلَمْ يَقُل صَلُّوا .
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } :
لأنّ في إتيان الزكاة تطهيرًا للنفس مِن الشُّحّ ، وأنتم جُبِلَت قلوبُكم لِـما فيها مِن حُبّ الدنيا جُبِلَت على الشُّحّ ، كما سيأتي في قوله عزّ وجلّ :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ }
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } :
أي صَلُّوا مَـعَ المصلِّين ، وأتى بالركوع مع أنّ المقصود الصلاة .
إذا أُتِيَ بجزءٍ مِن الصلاة ، والمُراد منه الصلاة ، فيكون هذا الجزء رُكنًا ، وأيضًا فيه دليل على وجوب صلاة الجماعة .
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } :
مَن هُم الراكعون ؟
أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن الصحابة الذين كانوا في عصرهم ، ولَعَلّه نَصّ على الركوع أيضًا ، كما قال بعض العلماء : لأنّ صلاة اليهود لَمْ يَكُن فيها ركوع .
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } :
استفهام إنكاريّ . أنتم أيّها اليهود { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ }
{ النَّاسَ } :
( هُنا ) هُم الأقرباء لهم إذا أتَوْهُم في السرّ وسألوهم عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قالوا هو نبيّ فاتّبعوه
{ بِالْبِرِّ } :
البِرّ هو اسمٌ جامعٌ لخِصال الخير ، ومِن أعظم ما يكون ما يتعلّق بالعقيدة ، مِن الإيمان بالله وبالقرآن وبالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } :
أي تَترُكون أنفسكم ؟
وأعظم ما يكون للإنسان أن يُقَدِّمَ الخير إنّما يُقَدِّمُ لِنَفسِه ، فهؤلاء نَسُوا أنفسهم، والحال { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } وهذا القَيد فيه تقبيح لشأن هؤلاء اليهود
فهُم أصحاب كتاب { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } وتعرِفون أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّ وأنّ القرآن هو كتاب الله ، كما قال عزّ وجلّ { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ } في صفات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } :
استفهام إنكاريّ ، يُنكِر عليهم ، أين عقولكم التي ذهبَتْ وضَلّت وتاهت فلَم تأمروا أنفسكم بالخير ، وفي هذا خطورة مَن ينهى الناس عن الذّنب ويقع فيه ، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الإنسان إذا واقعًا في ذنب أنّه لا ينهى غَيره عن هذا الذنب الذي هو واقع فيه ، فلا تدلّ الآية على هذا أبدًا ، إنّما تدلّ الآية على سُوء مَن نهى شخصًا عن ذنب هو واقعٌ فيه ، ولا تدلّ على أنّ الإنسان لا يأمُر غَيره بِتَرك الذنب الذي وقع هو فيه ،
فلو كان مثلًا :
إنسان مثلًا – مِن باب الأمثلة المشهورة – لو كان يُدَخّن ، ورأى إنسانًا يُدَخّن ، فالواجب عليه – ماذا ؟ – أن ينهاه ، والواجب عليه أيضًا أن يَترك هو الدخّان ، وذلك لأنّه إذا نهاه ، وذلك لأنّه إذا نهاه وهو واقعٌ في الذنب ، هذا ذنب واحد ، لكن لو تَرَكَ النَّهي عن المنكر وقع في ذنبٍ آخر .
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } :
{ وَاسْتَعِينُوا } :
أنتم وغَيرُكم محتاجون إلى أن يستعين بالصبر ، فالصبر فيما لو دَعَتكُم نفوسكم إلى أن تكتموا الحقّ وأن تَقَعوا في الـذَّنب فَصَبِّروا أنفسكم . فإذا أراد الإنسان وَأَمَرَتهُ نفسه بأن يقع في الذنب يُصابِر نفسه يجاهدُها ، ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } :
أُمِروا بالاستعانة بالصلاة كما أُمِروا بالاستعانة بالصبر ،
ولذلك :
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ كما ثبت عنه قال :
(( أَرِحنا بها يا بلال ، أَرِحنا بها يا بلال ))
وجمع بين الصبر والصلاة ، لأنّ الصبر تتعلّق بالقَدَر ، والصلاة تتعلّق بالشَّرع ، ولا تَنافي بين الشَّرع وبين القَدَر ، خِلافًا للقَدَرِيّة ومَن ضَلّ واتَّبَعَ سبيلهم .
فالإنسان مأمور بعبادة الله عزّ وجلّ ، وبِطاعة الله ، ولا يَقُل ربّما قدّر الله عليّ أن أكون مِن أهل النار ، فلا تَعارُضَ بَين الشرع وبَين القَدَر .
[ وسيأتي لهذا مزيدُ حديثٍ بإذن الله تعالى ]
{ وَإِنَّهَا } :
{ وَإِنَّهَا } : الضمير – لم يَقُل وإنّهما – قال :
{ وَإِنَّهَا } :
{ وَإِنَّهَا } : الضمير إمّا أن يعود إلى كلّ خَصلة { وَإِنَّهَا } أي خَصلة الصبر وخَصلة الصلاة .
أو { وَإِنَّهَا } تعود إلى الصلاة ؛ لأنّ الصبر موجود في الصلاة
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } :
أي الصلاة ، أو على القول الآخر الصلاة والصبر ( خصلة كبيرة عظيمة)
وإن كان الأظهر : أنّ الضمير يَعود إلى الصلاة ؛ لأنّها أقرب مذكور .
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } :
أي لَعَظيمة
{ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } :
فَمَنْ خَشَعَ في صلاته سَهُلت عليه وأحبّها وأقبَلَ عليها ، لكن مَن يَدخل إلى الصلاة ولا يخشع فيها ، فتكون شاقّةً عليه .
ثمّ وصف الخاشعين :
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } :
أي يُوقِنُون ، فالظنّ يأتي بمعنى اليقين ، وبمعنى غَلَبَة الظنّ ، وبمعنى الشكّ وَهُنا { الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي يُوقِنُون ،
ولذا قال بعض العلماء :
إذا أتَتْ الأدلِّة والبراهين واجتمعت على أمْر فهو اليقين ، وإن كان هذا الأمر تتجاذبه براهين وغير ذلك فيكون ظنًّا ، وإن غَلَبَت الشكوك على البراهين كان شكًّا .
فالظنّ هُنا هو اليقين .
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ } :
لُقْيا خاصّة فيها تكريم وتشريف ، وإلّا فَكُلّ عَبدٍ سَيَلقى الله عزّ وجلّ
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ }
كلّ إنسان سيُلاقي الله عزّ وجلّ ، لكن لُقْيا ( هُنا ) لُقْيا خاصّة بالمؤمن الخاشع ، وتَتضمّن هذه اللُّقيا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، تَتضمّن رؤية الله عزّ وجلّ ، فهم يَرَوْن الله
{ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } :
فيَرجعون إِلَيْهِ عزّ وجلّ ، فيحاسِب كلّ إنسان بِحَسَب ما عَمِلهُ .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
كرَّرَ نِداء بني إسرائيل ، مِن باب التذكير بِمَا أنعم الله على أسلافهم ، مع أَنَّ المخاطَبين مَن ؟ هُم مَن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وخُوطِبوا لأنّ المِنّةَ على الآباء والأجداد هي مِنّة على الأبناء ، ولأنّ هؤلاء اليهود رَضُوا بما فَعَلَهُ أسلافهم مِن الشرّ ، ومَن رَضِيَ فكأنّه فَعَل .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
ذَكّرَهم بإسرائيل ، مِن أنّهم أبناء إسرائيل الذي هو يعقوب عليه السلام
{ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } :
اذكروها بقلوبكم وبألسنتكم وبجوارحكم { الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } .
أنعم الله عليهم بِنِعَم عظيمة
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ }
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) }
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
{ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
قُلْنَا في قوله تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } :
العالَمون : كلّ ما سوى الله فهو عالَم .
قال هُنا :
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
هل هُم فُضِّلوا على العالَمين السابقين والمتأخّرين حتّى مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟
قيل بهذا ، بِاعتبار أنّ الأنبياء فيهم كُثُر ، ولذلك قال الله عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ }
لكنّ هذا القول فيه ما فيه ، بِاعتبار أنّ قَبل بني إسرائيل فيهم أنبياء ، وقَبلهم مَن ؟ إبراهيم عليه السلام خليل الله ، وبعدَهم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خليل الله ، وإنّما المقصود أنّهم فُضِّلوا على العالَمين بِاعتبار زمانهم ، لكنّهم ليسوا بأفضل مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والتي قال الله عزّ وجلّ عنها :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :
أمَرَهم بِأن يتّقوا هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، ونُكِّرَ لِلتعظيم . وإذا اتَّقَى العبدُ هذا اليوم ، فقد اتَّقَى الله عزّ وجلّ ، فلا تنافيَ بينه وبين قوله تعالى :
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :
احذروا مِن ذلك اليوم ، يوم القيامة
{ لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } :
أي لا تُغني نفسٌ عن نَّفْسٍ شيئًا ، يعني أيَّ شيء ، كما قال عزّ وجلّ :
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }
وكما قال تعالى :
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) }
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } :
إلّا بِشَرطَين :
بإذن الله عزّ وجلّ الشافع أن يَشفع ورضاه عن المشفوع له .
كما قال تعالى :
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } :
الفِعل مُذَكَّر ، وَلَمْ يَقُل ( ولا تُقبَل منها شفاعة ) وذلك لأنّ الشفاعة تَتضمّن الشفيع { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } أي شفيع .
كما قال تعالى :
{ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ }
أي وَعظٌ مِن ربِّه . ولهذا نظائر .
{ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } :
لا يؤخذ منها فداء ومال لكي يُنقذَ الإنسانُ نفسه .
{ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } :
ليس هناك مَن ينصرهم ، وذَكَرَ الشفاعة والعدل وهو الفِداء والنُّصرة ، لأنّ الإنسان إنّما يتحصّن ويحمي نفسه ، أو يدفع عن نفسه المضارّ في هذه الدنيا بهذه الأسباب :
إمّا شفاعة وساطة ، أو أن يدفعَ مالًا أو أن يكون له أعوان ينصرونه ويُعِينونه . فنفى الله عزّ وجلّ عنهم [ هذه الأشياء ] في الآخرة [ التي كانوا يَركَنون إليها في الدنيا ].
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ } :
خاطَبَهم وَهُم في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } :
لأنّ المنّة على الأجداد كما سبق هي مِنّة على الأبناء ، ولأنّهم رَضُوا بما فعله أسلافهم ، فكان حُكمُهم كَحُكمِهم .
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ } :
مأخوذٌ مِن النجوى وهو الارتفاع ، يعني ارتفعتم بهذا الإنجاء .
{ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } :
يشمل فرعون وآلَه ، بدليل أنّ مَن يعذّبهم فرعون ومَن معه ( الآل ) يُطلَق على الأتباع ، ويُطلَق على الشخص نفسِه ، إلّا إذا دلّ دليل يَخُصُّ أحدَهما .
{ يَسُومُونَكُمْ } : أي يُذيقونكم .
{ سُوءَ الْعَذَابِ } : أي أشدّ العذاب .
ما هو هذا العذاب ؟
تفسيره ما بعده ، كما قال بعض المفسِّرين :
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }
لكن في سورة إبراهيم قال :
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ }
أتى بالواو التي تجعل التذبيح والاستحياء خِلاف سَوم العذاب . فقال هؤلاء إنّ الواو زائدة .
والذي يَظهر أنّ قوله تعالى :
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ }
أي أشدّ العذاب المتنوّع ، مأخوذ مِن السَّوْم وهو التَّنَقُّل ، كما يَنقُلُ الإنسان بَهائمه السائمة التي تَرعى في الصحراء مِن مَوطنٍ إلى موطنٍ آخر . ويكون مِن ضِمن هذا العذاب بِدلالة سورة إبراهيم :
{ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
وهذا التذبيح سببُه كما ذكر كثيرٌ مِن المفسِّرين مِن أنّ فرعون خَشِيَ على مُلكِهِ أن يزول على يد غُلاَمٍ مِن بني إسرائيل ، فأَمَرَ بِذبح الأبناء ، واستِبقاء النساء ، وهذا يُسمّى بحديث الفُتُون ، رواه النسائيّ في السُّنن الكُبرى وهو حديثٌ طويلٌ ، حديثُ ابن عبّاس رضي الله عنهما ، لكن ليس هناك – كما سيأتي في سورة طه – ليس هناك دليلٌ صحيحٌ على هذا .
وعلى كلّ حال يُستأنَس بذلك ، فيكون هذا مِن قَبيل الإسرائيليّات التي يُستأنَس بها ، والتي لا تُصَدَّق ولا تُكذَّب وقد ذَكَرَ ذلك جُملةٌ مِن أهل العلم ، ولعلّ الحديث يَستفيض بِنَا إن شاء الله في بيان هذا الحديث ( حديث الفُتون ) وما شابه ذلك في سورة طه
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } :
الذّبح المعروف ، في سورة الأعراف { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ } فإمَّا أن يكون الذّبح المقصود منه القتل ، أو أنّهم يفعلون ذلك تارة ، يذبّحون البعض ، ويَقتُلون البعض بِغَير آلة الذّبح .
{ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
أي يَستَبْقون النساء ، واستِبقاء النساء في ظاهرها نعمة ، لأنّهم لَم يعتدوا على نسائهم ، لكن لمّا قُرِنَ بِتذبيح الأبناء ، دلّ على أنّه ليس بِنعمة وإنّما هو عقوبة ، أن يرى الإنسان أبناءه يُذبَّحون ، وأن نساءه يُستَبقَون مِن أجل الخدمة .
{ وَفِي ذَلِكُمْ } : أي ما سبق .
ما الذي سبق ؟
{ وَفِي ذَلِكُمْ } :
الضمير : إمّا أن يعود إلى النجاة ، وإمّا أن يعود إلى العذاب .
ولذلك قال :
{ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ } :
أي امتحان
{ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } :
ولا شيء أعظم مِن أن يُذبَح أبناء الإنسان ، وأن تُستَبقى نساءه وبناته للخدمة .
{ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } :
{ بَلَاءٌ }
{ وَفِي ذَلِكُمْ } :
إن كان الضمير يعود إلى النجاة ، فيكون بَلوى نِعمة : أتَشكرون أم لا ؟ وإن كان الضمير يعود إلى { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } فهو ابتلاء مِحنة ؛ لِيَنظر : هل يَصبِر الإنسان أم لا ؟ والابتلاء كما يكون بِما يَسُوء الإنسان ، أيضًا بما يُفرح الإنسان .
فالنِّعمة ابتلاء وامتحان .
قال تعالى :
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
{ وَإِذْ فَرَقْنَا } :
يُعَدِّد عليهم النِّعَم التي كانت على أسلافهم
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } :
أي بِسببكم انفلقَ البحر ، أو لأجلكم انفلقَ البحر ، لمّا تَبِعهم فرعون ومَن معه مِن جُنوده ، كما ذَكَرَ عزّ وجلّ في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) }
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } :
فَأَنْجَيْنَاكُمْ لمّا دَخَلتم في البحر . وهذه نِعمة .
نِعمةٌ أُخرى : أن تَرَوا أعداءكم قد هَلَكوا ، هذه نِعمة أخرى
{ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } :
أي أتباع فرعون . هل يدخل فرعون معهم ؟ نعم ، يدخل معهم ؛ لأنّ الآل كما سبق يدخل فيها الإنسان نفسه وأتباعه .
{ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } :
وأنتم تُبصِرون أعداءكم – بِأُمّ أعينكم – وهم يهلكون ؛ مِن باب أن تتشفَّى صدوركم وأن تعلموا عِلم اليقين أنّ أعداءكم قد هلكوا ، يقينًا ترونهم . كما أخبر عزّ وجلّ عن رئيسهم فرعون في سورة يونس
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } :
ولِيطمئنّ بنو إسرائيل مِن أنّ فرعون قد هلك ، وأنّ جنود فرعون قد هلكوا .
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } :
واعَدَ الله عزّ وجلّ موسى أربعين ليلة ، هي ثلاثون ليلة ثمّ أتمَمَها بعشر ، كما في سورة الأعراف :
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ }
واعَدَه مِن أجل أن يُعطِيَه التوراة ، فالتوراة إنّما أُنزِلت على موسى بعد أن أهلك الله عزّ وجلّ فرعون .
قال تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ }
فبعدَ أن نجّى الله عزّ وجلّ موسى وقومَه مِن البحر ، وأهلكَ عزّ وجلّ فرعون وقومَه واعَدَه عزّ وجلّ أربعين ليلة ، تحديدُها والمقصودُ منها الله أعلم بذلك .
[ وسيأتي بيان لها في سورة الأعراف بإذن الله عزّ وجلّ أكثر ؛ لأنّها في سورة الأعراف فُصِّل عنها بأكثر ممّا في سورة البقرة ]
{ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } :
لَم يَقُل يومًا ؛ لأنّ الليلة هي التي يدخل بها اليوم عند العرب . كما نقول مثلًا – وهذا هو المعمول به – مثلًا ( ليلة العيد ) يعني دَخَل العيد ، فلا صلاة تراويح ، وهذا كَمثال . وقيل إنّ ذِكْر ليلة مِن باب أَنَّ موسى عليه السلام أُمِر بِصيام ثلاثين يومًا مع الليل ، فيكون صيامه متواصلًا ، فبعد الثلاثين استاكَ ، فتغيّرَت رائحةُ فَمِه ، فأنكَرَ الله عزّ وجلّ عليه ، وأمَرَه بِعشر ليالٍ أُخَر أن يصومها . لكن هذا لا نَعلَمُ له دليلًا صحيحًا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
فيكون ذِكر الليلة باعتبار أنّ اليوم عند العرب ، وحتّى في الشرع يدخل بالليل.
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } :
اتّخذتم العجل إلٰهًا .
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } ماذا ؟ هناك شيء محذوف بدلالة الآيات في سُوَر أُخرى (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلٰهًا )
{ مِن بَعْدِهِ } :
مِن بعد موسى عليه السلام ، لأنّ موسى لمّا نَجَّى الله عزّ وجلّ قومه وأهلك فرعون ، أمَرَه عزّ وجلّ أن يأْتِيَ إِلَيْهِ بعد أربعين ليلة لكي يأخذَ التوراة ، فاستَبطَأَت – مِن بعد ما ذهب موسى – استبطأت بنو إسرائيل قدوم ( ماذا ؟) موسى ، فجرى ما جرى مِن فِعل السامرِيّ في سورة طٰهٰ :
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) }
[ وسيأتي له تفصيل بإذن الله تعالى ]
{ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } :
ظالمون إذ اتّخذتم هذا العجل إلٰهًا مِن دون الله . وأيَّ ظُلم أعظم مِن الشرك بالله عزّ وجلّ ؟ فَفِعلكم هذا أعظم الظلم ، الذي هو الشرك بالله عزّ وجلّ . ولذلك قال عزّ وجلّ عن لُقمان :{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } :
عفا الله عزّ وجلّ عنهم مِن ما اتَّخَذُوا العجلَ إلٰهًا ، وذلك أنّ موسى كما قال عزّ وجلّ :
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا }
لكي يعتذروا مِن عبادة العجل .
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } :
لأنّ عفوَ الله عزّ وجلّ لِلعبد يَستوجِب الشكر ؛ لأنّ أعظم ، ومِن أعظم النِّعَم أن يتوب الله عزّ وجلّ عليه ، ثمّ أيضًا قال :
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كما قال في آيات أُخَر { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي رجاءَ أن تَشكروا الله ، فلا تتّكِلوا على أنفسِكم ، عليكم بِشُكر الله عزّ وجلّ ، ولا تتّكلوا على أنفسكم وإنّما عليكم أن تَرجو الله عزّ وجلّ أن يوفّقكم لِشُكره.
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
وهذه الآية أتَتْ بعد أن عَبَدَ قَوْمُ موسى العِجلَ
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } :
{ الْكِتَابَ } التوراة ، { وَالْفُرْقَانَ } هو ما يُفَرَّقُ به بين الحقّ والباطل ، فيَدخل في ذلك ما فَرَقَ الله عزّ وجلّ به البحر ، إذ أنجى الله عزّ وجلّ موسى وقومَه ، ويَدخل في ذلك التوراة ، فإنّها وإن عُطِفَت ، عُطِفَت مِن باب بيانِ صِفَةٍ مِن صفات التوراة ، وهي فُرقان .
{ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } :
أي رجاءَ أن تهتدوا .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ } :
وكرّر لفظ القوم مِن باب الترَقُّق والترَفُّق معهم ؛ لكي يَقبلوا حُكم الله عزّ وجلّ
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }
{ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } إلٰهًا { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ }
{ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } فَتَوبتُهم في ذلك { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } :
وذِكر اسم الله تعالى البارئ ، لأنّه هو الذي أوجَدَهم مِن العَدَم وليس هذا العِجل ، فَفيه تنبيهٌ لَهُم أنّ الذي يُعبَد هو البارئ عزّ وجلّ .
{ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } :
أي لِيَقتُل بعضُكم بعضًا { ذَلِكُمْ } أي هذا الحُكم { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } كرَّرَه مرّةً أخرى ليُبيّن لهم أنّ الذي يُعبَد هو البارئ عزّ وجلّ وليس هذا العِجل
{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } :
هُنا حذفٌ كما قال جُملةٌ مِن المفسِّرين :
أي فَفَعلْتُم ، فتابَ عليكم ، وتوبة الله عزّ وجلّ لَهُم ، إذ وفّقَهم لهذا الأمر ، وقَبِل منهم التوبة ،
فتَوبة الله عزّ وجلّ على عبده تشتمل على نَوعَين :
أن يوفّقَه للتوبة ، وأن يَقبلها منه . قال تعالى :
{ لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :
ختَمَ الآيةَ بِاسْمَين مِن أسمائه عزّ وجلّ { التَّوَّابُ } على صيغة ( فَعَّال ) للمبالغة ؛ لأنّه كثيرًا ما يتوب على عباده ، ولأنّ عِبَادَه تَكثُر منهم الذُّنوب ، فيتوبُ عليهم عزّ وجلّ .
وأتى اسم { الرَّحِيمُ } بعد { التَّوَّابُ } :
لِبيان أنّ التوبةَ مِن رحمة الله عزّ وجلّ ، ومِن رحمة الله عزّ وجلّ أنّه عزّ وجلّ شَرَعَ التوبةَ لِعِبادِه .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } :
هل هؤلاء هُم السبعون الذين اختارَهم موسى في قوله تعالى :
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا }
قيل بهذا ، وقيل إنّهم طائفة أخرى
[ وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالى عن ذلك في سورة الأعراف ]
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } :
وهذا مِن باب التعنُّت مِن هؤلاء ؛ لأنّ قلوبهم قاسية ، إذ رَبَطوا إيمانهم بأن يَرَوْا الله عزّ وجلّ جَهْرَةً { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } قال { جَهْرَةً} مع أنّ الرؤية السابقة قد يُظنّ أنّها تكفي ، لكن أتى بكلمة
{ جَهْرَةً } ؛ لِيُبيّن أنّ تلك الرؤية رؤيةً بصريّةً ؛ لأنّ مِن أنواع الرؤية ، الرؤية القلبيّة العِلميّة ، مِن باب التأكيد على أنّهم طلبوا أن يَرَوْا الله عزّ وجلّ جَهْرَةً يعني عَيَانًا .
{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } :
بسبب هذا الطلب المتعنِّت
{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } :
تنظرون إلى هذه الصاعقة ، وينظر بعضكم إلى بعض إذ أخذته هذه الصاعقة .
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم } : دلّ على أنّهم ماتوا
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } :
وهذا يدلّ على أنّ هذا مِن القِسم ، أو مِن أصناف البشر الذين أماتهم الله عزّ وجلّ في الحياة الدنيا ثُمَّ أحياهم فيها .
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } :
فمِن شُكره ، وواجب عليكم ، واجب عليكم أن تشكروا الله عزّ وجلّ إذ أحياكم بعد هذه المَوتة . والأمر بالشكر هُنا ، وذكر الشكر هُنا يدلّ على أنّ التكليف لم يسقط عنهم ، خِلافًا لمن ذهب إلى ذلك ، إذ قال : هُم رَأَوْا الموتَ عَيانًا ، بل حَصَل لهم الموت ، ثمّ رَجَعوا مرّةً أخرى ، فيَسقُط عنهم التكليف، وهذا قولٌ لا دليل عليه ، بل تَرُدّه الأدلّة ، فهم مكلَّفون بعد أن أحياهم الله عزّ وجلّ .
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } :
هذا كما قال المفسِّرون حَصَل في التِّيه ، وذلك لمّا أُمِروا أن يَدخلوا الأرضَ المقدَّسةَ :
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ }
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } :
هو السَّحاب الأبيض .
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } :
{ الْمَنَّ } :
هُوَ كُلّ ما مَنّ الله عزّ وجلّ به عليهم مِن غَير تعب ولا نَصَب ، فيدخلُ في ذلك ما ذَكَرَه المفسِّرون مِن الصمغ الذي يُشبِه العسل ، وهو له حلاوة ، ويَدخلُ في ذلك الخُبز ، ويدخلُ في ذلك حَتَّى الكمأة المسمّى عند الناس بالفَقْع ( والفقع نوع مِن أنواع الكمأة ) ولذلك في الصحيح قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
( الكمَأة مِن المَنّ الذي أنزله الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل )
{ وَالسَّلْوَى } :
طير ، واختُلِف فيه ، والشاهدُ مِن هذا أنّه طيرٌ لذيذٌ يأكلونه مع هذا المَنّ
{ كُلُوا } :
أي قُلْنَا كُلُوا
{ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } :
فهذه طيّباتٌ رَزَقَكم الله عزّ وجلّ إيّاها .
{ وَمَا ظَلَمُونَا } :
فَمَن فَعَل الذّنب فإنّما يظلِمُ نفسَه ، والله عزّ وجلّ لا تضُرّه معصية العاصي ، ولا تنفعه طاعة المطيع
{ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } :
فالظلمُ عائدٌ عليهم .
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } :
وهي المذكورة في سورة المائدة
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ }
[ كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله عزّ وجلّ في سورة المائدة ]
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } :
وهذه القرية هي بيت المقدس على الصحيح ، وليست بِـ ( أريحاء ) كما قاله بعض المفسِّرين لأنّها ليست في طريقهم لمّا خَرجوا مِن مصر إلى الشام ، ليست في طريقهم .
وأَبعَد مِن ذلك مَن قال ( إنّ هذه القرية هي مصر ) فهذه القرية هي بيت المقدس
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } :
يعني أكلًا رَغَدًا واسعًا لا حَجْرَ لكم في الأَكل منها ، حيثما تشتهون ، وحيثما تشاؤون .
{ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } :
أي ادخلوا باب هذه القرية وأنتم في حالة سجود
قال جملة مِن المفسِّرين : المقصود مِن ذلك أنّهم يمشون وهم في حالة انحناء ؛ لأنّ السجود متعذِّرٌ أثناء الدخول .
{ وَقُولُوا حِطَّةٌ } :
يعني احطُط عنّا ذُنوبَنا ، فهُم أُمِروا بِعبادةٍ فِعليّة ، وبِعبادةٍ قَوليّة .
{ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } أي الذنوب
{ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }:
فهذا هو المتعيِّن عليكم ، ومَن أحسن ، فالله عزّ وجلّ محسنٌ ، وسيزيده على إحسانه
{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }
{ فَبَدَّلَ } :
أي غيَّر
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } في سورة الأعراف
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } : أي بدَّل البعض وليس الكلّ
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } :
وُصِفوا بالظلم ، فإنّهم ظَلَمة ؛ لأنّهم بَدَّلُوا دين الله ، وابتدَعوا في شرع الله عزّ وجلّ ، وهذا يدلّ على خطورة الابتداع في شَرع الله عزّ وجلّ . ومن ابتدع شيئًا فإنّ له – نسأل الله السلامة والعافية – فإنّ له سَلَفًا ذميمًا وَهُم اليهود ،ابتَدَعوا .
ماذا صنعوا ؟
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } :
قيل لهم : قُولُوا حِطَّةٌ ( احطُط عنّا ذُنوبنا ) .
فماذا قالوا ؟ قالوا : ( حَبّةٌ في شَعَرة )
وفي رواية : ( حبّةٌ في شَعيرة )
وفي رواية : ( حِنطة ) زادوا على كلمة { حِطَّةٌ } النُّون ، وهذا هو شأن المُبتدِعة ، فإنّهم يحرّفون الكَلِم عن مواضعه ، كما فعلت المُعَطِّلة لمّا قالوا إنّ معنى قول الله عزّ وجلّ { ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ } قالوا ( استولى ) زادوا حرفًا كما زادت اليهود هذا الحرف ( هذا هو التبديل القوليّ مِن هؤلاء )
وحصل منهم تبديل للفعل { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا }
في الحديث الصحيح :
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم:
( فدخلوا على أستائهم – أي على أوراكهم – يزحفون )
وهذا مِن العَنَت والمشقّة ، فإنّ الدخول حال الانحناء وحال السجود أيسَر ، لكنّ هؤلاء..
أيسَر مِن ماذا ؟ أيسَر مِن أن يزحفوا على أستائهم . فدلّ هذا على أنّ مَن خالف شَرع الله عزّ وجلّ فإنّه يقع في العَنَت وفي المشقّة.
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } :
ما العقوبة ؟
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } كرَّرَ كلمة ( ظَلَمُوا ) مِن بَيان أنّ هؤلاء ظَلَمة ، ويُستَفاد مِن ذلك أنّ مَن يَبتَدِع ظالِم ، وأنّ المُبتدِعة ظَلَمة .
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا } :
أي أنزلَ عليهم عَذَابًا ، لعلّ هذا العذاب هو الطاعون كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة .
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
( الطاعون رِجزٌ ، أرسله الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل )
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا بِمَا } :
( بِسَبَب ) بِسَبَب ذنوبهم .
{ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
وفي سورة الأعراف :
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ }
مِن باب بيان أنّ هؤلاء كما أنّهم ظَلَمة فهُم أيضًا فَسَقة .
وَهُنا مِن باب التنبيه ، بعد أن أعطى الله عزّ وجلّ موسى التوراة انتهى الحديث عن فِرعون وعن آل فِرعون . ولذلك بعض الناس لمّا يقرأ في قصّة موسى يظنّ أنّ مثل هذه التّعَنُّتات إنّما هي في شأن آل فِرعون .
آل فِرعون انتَهَوا .
والقِصّة إنّما هي مِن بَعْدِ قوله تعالى :
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
إنّما هو في شأن بني إسرائيل .
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } أين ؟
قال المفسِّرون في التِّيه { وَإِذِ اسْتَسْقَى } أي طلبَ السُّقيا مِن الله عزّ وجلّ لِقَوْمِهِ
{ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } :
هذه العصا وهذا الحَجَر ، كَثُر الكلام مِن المفسِّرين في بيان أوصافهما وفي تَعيينِهما . وليس هناك دليل ، فَنُبْهِم ما أبْهَمَه القرآن . فهي عصا وكذلك هذا حجر
{ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ } :
أي سالَت . في سورة الأعراف { فَانبَجَسَتْ } قيل هُما بمعنى واحد ، وقيل ( فانبجست ) يعني في بداية السَّيَلان ، ثمّ بعد ذلك حصل الانفجار .
{ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ } مِن ماذا ؟ مِن الحَجَر { اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } على عدد أسباط بني إسرائيل ، أي على عدد قبائل بني إسرائيل { قَدْ عَلِمَ } عِلمًا واضِحًا يقينيًّا ، لا لَبسَ في رؤيته
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } يعني كلّ قبيلة وكلّ سِبْط مِن أسباط بني إسرائيل
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } :
وهذا إن دلّ يدلّ على عظيم المِنّة منه عزّ وجلّ على هؤلاء إذ جَعَلَ لكلّ قبيلة ما يَخُصّها مِن هذا الماء . والحَجَرُ تَفَجّر منه الماء . لِـمَن ؟ لِموسى عليه السلام .
والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أُعطِيَ معجزة أعظم مِن هذه المعجزة لموسى ( إذ نبع الماء مِن بين أصابعه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّه على غير المُعتاد أن يَنبَع وأن يَنصَبّ ويَتَصَبَّب الماء مِن لحمٍ ودمٍ وعظم . لكن نبعُه مِن الحَجَر ، هذا ليس بِمُستغرَب . ومع ذلك رأى الصحابة رضي الله عنهم – وهذا يدلّ على فضل صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم – رَأَوْا الماء يتفجّر مِن بينِ أصابعه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، زادَهم ذلك إِيمَانًا وقُربةً مِن الله عزّ وجلّ .
{ كُلُوا } أي قُلْنَا لهؤلاء { كُلُوا } مِن ماذا ؟ مِن المنّ والسَّلوى .
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا } مِن هذا الماء . فهو رزقٌ مِن الله
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
نهاهم عن أن يعثَوا في الأرض مفسدين .
{ لَا تَعْثَوْا } أي لا تُفسِدوا ، وهوَ أشدّ الإفساد .
كرَّرَه مرّتين ، باختلاف اللفظ ، مع أنّ قوله { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أشدّ ؛ مِن باب نهي هؤلاء مِن أن يُفسِدوا في الأرض التي أَمَرَ الله عزّ وجلّ بإصلاحها . ومِن أعظم الفساد أن يُخالِفوا شرع الله عزّ وجلّ .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ }
هو أكثر مِن طعام ( مَنّ ، وسَلوى ) لكن لمّا كانوا يأكلونه على وجه الدوام والاستمرار صار كأنّه طعامٌ واحد
{ لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ }
( يُخرِجْ ) مجزومة بفعل الأمر ( فَادْعُ )
{ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ } :
{ تُنبِتُ الْأَرْضُ } :
( والذي يُنبِتُ هو الله عزّ وجلّ ) وهذا أسلوبٌ مِن أساليب اللغة العربيّة وليس مجازًا ، وذلك باعتبار أنّ الأرض مَحَلّ النبات
{ مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ } :
( مِن ) بيانيّة : ( بَيان ) بَيان ما تُنبِتُه الأرض { مِن بَقْلِهَا } البقول معروفة { وَقِثَّائِهَا } وهو الخِيار أو نوعٌ مِن الخِيار أو شَيْءٌ يُشبِه الخِيار { وَفُومِهَا } قيل هو الثوم ؛ لأنّه يُبْدَل بين الفاء والثاء
وقيل ( الفوم ) الحِنطة ، باعتبار أنّهم يَصنعون مِن هذه الحِنطة الخُبز الذي يأكلون به هذه المأكولات .
ولا تَعارُض بينها فهو ( ثوم ) باعتبار أنّه مجموع مع البصل والبقول ، وأيضًا باعتبار أنّ هذه الأشياء تُؤكل ويُستَلَذّ أكلُها بالخبز { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }
{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }
سبحان الله ! عادوا إلى طبائعهم الدّنيئة التي اعتادوا عليها في مِصر ( مِن البصل والثوم والبقول والقِثّاء )
{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي } : استفهام ، يُنكِرُ عليهم ، ويُعظِّم هذا الأمر الذي طلبوه .
{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }
ما هو الذي هو خير ؟
( المنّ والسَّلوى ) وهو خير باعتبار أنّه مِنّة مِن الله عزّ وجلّ عليهم ، وهو خير باعتبار أنّه سَالِم مِن الذُّنوب والشُّبُهات ؛ لأنّ مِثل ما يخرج مِن الأرض قد يعتريه ما يعتَريه مِن الكذب وما يعتريه من الغِشّ ممّا هو معلوم بين الناس ، لكنّ هذا مِن الله عزّ وجلّ ، وهذا يدلّ على أنّ بعض الأطعمة فيها دُنُوّ، وبعضها فيها خير.
{ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا }
{ اهْبِطُوا مِصْرًا }:
يعني أيّ مِصْر مِن الأمصار وأيّ بلد مِن البلدان تجدون . ماذا ؟ تجدون هذه الأطعمة فهي مُتيسِّرة وسهلة ؛ ولذلك قال { اهْبِطُوا مِصْرًا } نَوَّنَها : تَصدُق على أيّ مِصر ، لكن لو أنّه لَم يُنَوِّنْها ، فإنّها تصدُق على مِصر المعروفة .
مع أنّ بعض المفسِّرين قال ولو نُوِّنَتْ فالمقصود مِن ذلك ( مِصْر ) وهذا بعيد باعتبار أنّ اللفظ مُنَوَّن ، وباعتبار أنّهم بعيدون عن مصر .
{ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } :
ما سألتموه سهلٌ موجود في أيّ مصر وفي أيّ مكان .
{ وَضُرِبَتْ } :
ضُرِبتْ : مِن الضرب الذي يكون على العُمْلات ، يُضرَب عليها ويُنقَشُ عليها ، فهذا الضرب لا يزول . ضُرِبَتْ
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } الذُّلّ والهوان { وَالْمَسْكَنَةُ } الفقر . فهؤلاء بِهم مِن الذِّلَّة وبِهم مِن الفقر ، حتّى ولو كانوا أكثرَ الناس عدَدًا وقوّةً ، حتّى لو كانوا
مع أنّ اليهود مِن أغنى الناس مِن حيث وَفرة الأموال لكنّهم مع ذلك هُم فقراء . أذَلّهم الله عزّ وجلّ بهذا الذلّ وبهذا الفقر .
( المسكنة ) الفقر ، وسُمِّيَ الفقر بالمسكنة ، لأنّ الفقير يُسكِنُه الفقر ويجعله ضَعِيفًا مُستكينًا .
{ وَبَاءُوا } :
أي رَجَعوا { بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } هذه هي نهاية مَن خالفَ أَمْر الله عزّ وجلّ ، فإنّ الله يَغضب عليه . وهذه صفة مِن صفاته عزّ وجلّ ( صفة الغضب ) كما تليق بجلاله وبِعظَمته ، ليست كما تُحرَّف ، ليس معناها أنّه يَنتقم أو أنّه مِن آثار الانتقام ، أو سُرعة الانتقام ، وإنّما صفة تليق بِجلالِه وبِعظَمَته .
{ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ .. }
السَّبب ؟
{ ذَلِكَ } :
أي ما جرى لهم وما حَكَم به عليهم عزّ وجلّ ، { بِأَنَّهُمْ } بِسبب أنّهم
{ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } يتعدَّون على حقّ الله عزّ وجلّ
{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ } تعدّي على حقّ الأنبياء .
{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أصلًا قَتْل الأنبياء هُوَ بغير حقّ مُطلَقًا ، هو بغير حقّ ، ولكن أُتِيَ بكلمة { بِغَيْرِ الْحَقِّ } مِن باب تشنيع فِعل هؤلاء : كيف يُقدِمون على قَتْل رُسُل الله .
وقَتْل هؤلاء الرُّسُل مِن هؤلاء اليهود ، إنّما هُوَ ابتلاء وامتِحان لهؤلاء الأنبياء ورِفعة لدرجاتهم .
{ ذَلِكَ } الحُكْمُ عليهم السابِق { بِمَا عَصَوا } بِسَبَب العِصيان ، وهوَ الوُقوع في الذَّنـب.
{ وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي يتجاوزون ، وجمع بين قوْلِه { بِمَا عَصَوا } وقوله { يَعْتَدُونَ } مِن باب أنّ العِصيان ( هو الوقوع في الذَّنـب ) والاعتداء ( التفريط في الْوَاجِب ) فهؤلاء جمعوا بين هاتين الخَصلتَين الذّميمَتَين ، لَمْ يَترُكوا ما نهى الله عزّ وجلّ عنه ، وَلَمْ يَمْتَثِلوا ما أمَرَ الله به عزّ وجلّ
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } لمّا ذَكَرَ هؤلاء ، قد يُظَنّ مِن أنّ هؤلاء اليهود ، مِن أنّهم كُلَّهم بهذه الصفات ، فقال عزّ وجلّ مُبيّنًا حالَهم وحال الطوائف الأخرى
والصحيح أنّهم لَيسُوا على دِين مِن هذه الأديان ، وإنّما هؤلاء صابِئة حُنَفاء، وهناك صابِئة مشركون كما قال ابن القيّم رحمه الله .
( صابئة حُنفاء ) بمعنى أنّهم يأخذون مِن كلّ دِين ما هو حَسَن ، ولذلك يقول الكفّار لِـمَنْ أسلمَ ( هذا صابِئ ، أَصَبِئتَ ) فهؤلاء خرجوا مِن جميع الأديان ، وأخذوا مِن كلّ دِين ما هُوَ خَيْر
{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } كرَّرَ الإيمان . لِمَ ؟
لأنّ هؤلاء مَن أدركَ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فَلَمْ يؤمن لن ينفعَه إيمانَه، قَيّدَ هُنا ( أنّ مَن أدركَ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيَجِبُ عليه أن يؤمن به ، وإلّا فإنّ إيمانه السابق لا ينفَعُه ، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في صحيح مسلم ( والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه ، لا يسمَعُ بي مِن هذه الأُمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ لَمْ يؤمِن بي إلّا كان مِن أهل النار )
{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } والإيمان يَتضمّن العمل الصالح ، فَأُفْرِد لأهمّيّته .
{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ } وأعظِمْ بِه مِن أجر ؛ لأنّه مِن عند الله .
{ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } :
فيما يَستقبِلونه في دُنياهم وفي أُخراهم { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فيما مَضى ، فَنَفى عنهم الْخَوْف ، ونفى عنهم الحُزن . وَهُنا حصل لهم المَرغوب المَحبوب { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وزال عنهم المَخُوف المكروه فَلَا خوفٌ علَيهم ولا هُمْ يحزنون.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } :
المَواثيق التي أخذَها الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل ، وهي مَواثيق كثيرة مَرّ بعضُها ، وسيأتي بعضُها .
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } :
أي الجبل وذلك لأنّه لمّا أتى موسى بالتوراة رفضوا أن يَقبلوها ، فَرَفَعَ الله عزّ وجلّ عليهم الجَبَل ، ولذلك كما سيأتي في سورة الأعراف
{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا }
أي قُلْنَا خُذُوا { مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم } أي قُلْنَا خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم {بِقُوَّةٍ} بِجِدّ وَبِعَزيمة. بِحَيث تعملون بهذا الْكِتَاب.
{ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } اذكروا ما فيه ممّا أَوْجَبَه الله عزّ وجلّ عليكم ، ولِتَعمَلوا به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فَمَن أخذ بِشَرع الله عزّ وجلّ وعَمِل به اتَّقَى الله عزّ وجلّ ، وأتى بكلمة
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رجاءَ أن تَتَّقُوا الله عزّ وجلّ ، فالإنسان ضعيف على رجاءٍ مِن الله عزّ وجلّ لكي يُعينه على أن يأخذ بِشَرع الله عزّ وجلّ
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي أعرضتم وانصرفتم مِن بعد ذلك { فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } إذ أخَّرَ عنكم العذاب ، وإلّا ما العاقبة ؟ {لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ } الذي وقع في الخسران وفي المهانة .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ }
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا } أي تجاوَزَوا
{ فِي السَّبْتِ } :
وهي قرية قُرْب البحر . نهاهم الله عزّ وجلّ عن أن يصيدوا في يوم السبت ، فابتلاهم الله عزّ وجلّ ، فأصبحت الحيتان لا تأتي إلّا يوم السبت ، لكنّهم تَحايَلوا ، فكانوا في يوم الجمعة يضعون الشباك ويحفُرون الحُفَر ، ثمّ بعد ذلك إذا أتى يوم الأحد أخذوها
{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } :
هذا تذكير لِمَن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بِحال أسلافهم ، وَنَسَبَ الفِعل إليهم لأنّ هؤلاء رَضُوا بما رَضِيَ به وفَعَلَهُ أسلافُهم ، فكان الحُكم كَحُكمِهم .
{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } :
مَسَخَهم الله عزّ وجلّ ، فجعلهم قِرَدَة ، وأيّ قِرَدة بأنّهم خَسِئوا ، أصبحوا خاسئين ذَليلِين .
وهذه القِرَدة الموجودة ليست مِن نَسْل أولئك الذين مُسِخوا . لا ، خَلْقٌ آخر، ولذلك – وهذا على الصحيح مِن أقوال العلماء – قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما عند مسلم ( إنّ الله لَمْ يَجعل لِـمَسخٍ نَسلًا )
{ فَجَعَلْنَاهَا } :
أي هذه العقوبة { نَكَالًا } نكالًا : أي مانِعة وعِبرة { نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي مِمّن حَضَر في زمانهم { وَمَا خَلْفَهَا } لِمـَن يأتي بعد زمانهم .
وكذلك : جعلناها { نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي في المكان { وَمَا خَلْفَهَا } يعني ما بين أمامَها ، ما بين الأمام مِن الْقُرَى وخَلْف هذه القرية . كما قال تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى }
{ وَمَوْعِظَةً } أي عِظة { لِّلْمُتَّقِينَ } خُصُّوا بذلك ؛ لأنّ المُتَّقِين هُمُ الذين ينتفعون بِالعِظَة.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }
هذه لها سبب سيأتي في الآيات التي بعدها { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } حصل عندهم قتيل ، ذلكم القتيل ما سببه ؟ روايات ، وليس عليها فيما نَعلم ، ليس عليها دليل صحيح في تعيينها ، لكن حَصَلَ قتيلٌ عندهم ولم يعرِفوا قاتِلَه، ولم يعرفوا قاتله . نعم
فأَتَوا إلى موسى ، فأمَرَهم موسى بأن يذبحوا بقرة :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }
هذا يدلّ على أنّ الأفضل في البَقَر أن تُذبَح ولا تُنحر كالإبل ، وفرقٌ بين الذّبح وبين النّحر.
{ بَقَرَةً } : في سياق الإطلاق ( يعني أيّ بقرة اذبحوها ) أمَرَهم أن يذبحوا أيّ بقرة .
{ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } ما علاقة ذبح البقرة بِقصّة هذا القتيل ؟
{ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ } أعتصمُ بالله
{ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ومِن الجهل أن يُجيبَ الإنسان جوابًا بعيدًا عن السؤال .
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن } :
{ يُبَيِّن } فِعل مضارع مجزوم بالأمر { ادْعُ }
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } :
{ مَا هِيَ } أي ما سِنُّها ؟ بِدليل ما بَعدَها .
{ قَالَ إِنَّهُ } أي: الله { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ } لا كبيرة في السِّنّ {وَلَا بِكْرٌ } ولا صغيرة في السِّنّ { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } وَسَط ، نَصَف {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } عَلِمَ مِن حالِ سؤالهم أنّهم سيَتَعَنّتونَ في الأسئلة فقال { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } وهذا مِن حِرص الأنبياء عليهم السلام على قومِهم{ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } لكنّهم لم يَكْتَفوا بهذا
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا }
{ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } أي شديدة الصُّفرة ، وليست شديدة السَّواد ، كما ذهبَ إلى ذلك البعض ؛ لأنّه لا يُقال عن الأسود فاقِع ، وإنّما يُقال أسودٌ حالِك ، وإنّما يُقال عن الأصفر شديد الصُّفرة ( فاقِع )
{ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } مَن نظرَ إليها أسَرّتْهُ ، وليس معنى ذلك على وَجْه الإطلاق كما قيل مِن أنّ الإنسان إذا أرادَ أن تُسَرَّ عينُه ونَفْسُه أنّه ينظرُ إلى شيء أصفر شديد الصُّفرة . هذا ليس على وجه الإطلاق .
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } السؤال هُنا عن حال هذه البقرة ، هل هي عامِلة أَمْ أنّها غير عاملة ، هل تعمل أَوْ لا ؟ هَلْ دُرِّبَت على العمل أم لا ؟
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } لَمْ يَقُل (تشابهتْ ) لأنّ الفِعل ذُكِّرَ باعتبار الجَمْع في البقر
{ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } التَّشابُه مِن حيث الوُجُوه ،
ولذلك في حديث حُذَيفة رضي الله عنه لَوْ صحّ عن الْفِتَن ، ومعناه صحيح، قال ( فِتَن كَوُجُوه البَقَر ) لأنّه في الْفِتَن – إذا توالت – لا يُميَّز بين هذه وبين هذه ، ولذلك في صحيح مسلم ( فِتَن يُرَقِّقُ بعضُها بعضًا
{ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } استثْنَوا
{ لَمُهْتَدُونَ } إلى هذه البقرة .
في حديث ( لَوْ لَمْ يَستَثنُوا لَمَا اهتَدَوا إليها ) والصحيح أنّه موقوف على أبي هُريرة وليس مِن قَول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } :
وصَرَّح بكلمة ( بقرة ) مِن باب التوضيح لهؤلاء
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ } :
أي ليست مُذلَّلَة لِلعَمَل
{ تُثِيرُ الْأَرْضَ } داخِلة في ضِمن جُملة النَّفي ( أي لا تُثيرُ الأرض للزِّراعة) { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } وهو سُقْيا الماء عَن طريق البقر . وهذا هو معنى الآية .
أمّا مَن قال : نَقِف عند قوله { لَّا ذَلُولٌ } ثمّ { تُثِيرُ الْأَرْضَ } أي أنّها تُثير الأرض ، وهي لا تسقي الحَرْث ، فهذا خِلاف السِّياق ؛ لأنّه كيف يُثْبَت لها أنّها تُثير الأرض ولا تَسقي الحَرْث ؟
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ } :
أي هي لا تُثير الأرض ، ليست مُذلَّلة للزِّراعة ولا لِلسَّقْي { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } يعني الزَّرع .
{ مُسَلَّمَةٌ } أي سالمة مِن العُيوب { لَّا شِيَةَ فِيهَا } أي لا لَوْنَ فيها آخر غَيْر الصُّفرة { لَّا شِيَةَ فِيهَا } مأخوذٌ مِن وَشْيِ الثوب أي مِن زَخارِف الثوب .
ولذلك :
في الحديث الحَسَن الصحيح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ( يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشْيُ الثوب ) يعني يختفي أو تختفي معالِم الإسلام كما تختفي مَعالِم وزَخارِف الثوب { لَّا شِيَةَ فِيهَا } أي لا لَوْنَ فيها .
{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } وهو قَدْ جاء بِالْحَقِّ مِن أوّل الأمْر ( اذْبَحوا بَقَرة)
{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } :
أي جئتَ بالبَيان الوافي عن هذه البقرة وعن أوصافها { فَذَبَحُوهَا } امْتَثَلوا ، لكن بعد تَعَنُّت { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } وما كادوا يفعلون مِن شدّةِ تَعَنُّتهم وأسئلتهم ، وقيل ( مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) لِغَلاءِ ثمَنِها باعتِبار أنّهم لم يجدوا إلّا هذه البقرة عند يتيم ، وطلَبَ ذَهبًا كثيرًا . لكن هذه لا يُعلَمُ لها سنَدٌ صحيحٌ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل جاءَ ما يُخالِفُها مِن الآثار مِن أنّها اشْتُرِيَت بِدنانير قليلة .
فدلّ هذا على أنّ هذه القصّة ( مِن أنّهم لَمْ يَجِدوها إلّا عند فقير واختَلفت الرِّوايات في ذلك ) ليست عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيكون معنى { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } مِن شدّة تَعَنُّتهم وأسئلتهم ، لا مِن أجل كثرةِ ثَمَنها ، لِعدَم الدّليل الصحيح في ذلك .
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } :
هذا هُوَ السبب . أُخِّر ؛ لأنّه إذا قَرأ القارئ وسَمِعَ القارئ { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً } سَيَستَحْضِرُ ذِهنَهُ ، يقول : لماذا أمَرَهم ؟ مِن باب إحضار القلوب إلى أن تَستَمِعَ إلى هذه القِصّة ، فأتى السبب بَعْدَها { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } القَصَص والآثار في سبب القتل (هل هُوَ مِن شخصٍ اسْتَبْطَأَ مَوتَ عمِّه وَكَانَ عمُّه ثريًّا، فَقَتَلهُ إلى غير ذلك) هذه ليس لها ، وليس عليها دليلٌ صحيحٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . لكن وُجِد القتلُ في بني إسرائيل
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } : يعني اختَلَفتم فيها.
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } :
سيُظهِرُ اللهُ عزّ وجلّ ما في صدوركم ، ومِن ذلك حال مَن قَتَل هذا القتيل وهذه الآية { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } تدلّ على أنّ مَن أضمَرَ في نفسِه شيئًا ، فَسَيُظْهِرُه الله عزّ وجلّ على لِسانه . وفيهِ إشارة إلى ما يقوله الناس يقولون ( إنّ الدَّم لا يذهب سُدى ) سيُعْثَر على القاتِل وَلَوْ بعد حين . لعلّ هذه الآية تدلّ على ذلك { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
ولعلّ الآية في سورة الإسراء تُشير إلى ذلك أيضًا { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } يعني على القاتل
{ فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ }
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } اضرِبوا هذا الميّت بِبِعضها .
هل يضربون أو ضَرَبوا ذلك بِلِسانِها أو بِذَنَبِها أو ما شابه ذلك ؟ أقوال ، ولا دليل على ذلك ، ولا دليل صحيح على ذلك ، إنّما أُمِرُوا بأن يضرِبوا هذا القتيل بِبَعْضِ أعضاء هذه البقرة .
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } :
أحياهُ الله عزّ وجلّ . هذا هُوَ النوع الثاني ، أو القسم الثاني أو الصِّنف الثاني الذي أحياهُ الله عزّ وجلّ في الدُّنيا ، أماتَه في الدُّنيا وأحْياه .
والنوع الأوّل مرّ معَنا { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } :
لَوْ قال قائل : ما الذي أدراكم أنّه لمّا ضُرِب أحياهُ الله ؟
الآية { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } فإحياء المَوْتى سهلٌ يسيرٌ على الله ، كما أحيا هذه النَّفْس كَذَلِكَ إحياء جميع المَوْتى يسيرٌ وسهلٌ على الله عزّ وجلّ.
قال تعالى :
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يُريكم آيَاتِه مِن أجلِ أن تعقِلوا .
وهذا يدلّ على ماذا ؟ على أنّ مَن تأمَّل وتدبّر آيات الله عزّ وجلّ ، الآيات الشرعيّة والآيات الكونيّة مِن سموات وأرض وما شابه ذلك ، فإنّ عَقلَه يزداد ، ولذلك خِطاب الله عزّ وجلّ لِأُولي الألباب :
{ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ }
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }
والنُّصوص في هذا كثيرة .
قُتِلَ هذا القَتيل ، وأمَرَهم موسى بأن يذبحوا بقرة ، لكن لو جَرَت هذه الحادثَةُ في الإسلام ، بِمَعْنَىٰ أنّه قُتِل قَتيلٌ ، ولا يُعلَمُ قاتِلُه ، هُناك ما يُسمّى بِالقَسَامَة في الإسلام ، بِمَعْنَىٰ أنّه لو أتى أناسٌ فادّعوا على شخصٍ أنّه قَتَلَ صاحِبَهم ، وليست هُناك بَيِّنة ، هُنا يُقال أين اللَّوَث أين القرائن ؟ هل هُناك عَدَاوَة بَيْنَه وبَيْنَه ؟ هل تَفَرّقَ هؤلاء ، أَوْ هذا الرَّجُل خرجَ مِن بَيْتِه بعد أن قُتِل .. وما شابهَ ذلك مِن القرائن .
فَهُنا إذا أتى أهلُ القَتيل ، فإنّهم يَحلِفونَ خَمسينَ يَمينًا على أنّ هذا هُوَ القاتِل ، إن كانوا حَلَفوا على أنّه قَتَلَه خطأً ، فَلَهُم الدِّيَة ، وإن حَلَفوا على أنّه قَتَلَه عمدًا فالقِصاص . على خِلافٍ بينَ أهلِ الْعِلْمِ .
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } :
{ قَسَتْ } يَبِسَت وجَفَّت ، وهذا يدلّ على خُلُوّ القلب مِن الخُشوع
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } مِن بعد ما رأيتُم هذه الآيات العِظام . ولذلك حذّر ، ولذلك الله جلّ وعلا قال في سورة الحديد :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } :
{ ثُمَّ } أُتِيَ بِـ { ثُمَّ } لِلتَّراخي ، هُناك زَمن لكي تتأمَّلوا في هذه الآيات ، تأمّلوا فيها ، أتى زمن بعد هذه الآيات ، وهذا الزّمن حَرِيٌّ بأن يتأَمّلوا ، وهُناك فُسحَةٌ مِن الوقت ، ومع ذلك ما الذي جرى لِقُلوبِهم ؟ قَسَتْ { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } وهذا يدلّ على أنّ المُسلم عليه أن يَتعاهدَ قَلْبَه ؛ لأنّه مَحَلّ ووِعاء الْخَيْر ، ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه قال : ( التَّقوى هَا هُنا . وأشارَ إلى صَدرِه ) لأنّ القلبَ إذا صَلُح ، ظهَرَ الصلاح على الجَوارِح .
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :
{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } وَلَمْ يَقُل ( فَهِيَ كالحديد ) مع أنّ الحديد أقسى وأشدّ ؛ لأنّ الحديد إذا وُضِعَ في النار ذابَ ، بيْنما الحِجارة لا تذوب . فدلّ على أنّ قلوبَهم قد قَسَت قَساوةً عظيمة، { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :
{ أَوْ } ليست للشكّ
وإنّما هل هِيَ بِمَعْنَىٰ ( بَل ) : أي بَل أشدّ قسوة ؟
أو بِمَعْنَىٰ { أَوْ } ( للتنويع ) ، يعني ( مِنكُم مَن قَلْبُه كالحِجارة في القسوة ، ومنكم مَن هو أشدّ مِن ذلك )؟
أَوْ أنّها بِمَعْنَىٰ ( أنّها لا تخلُو مِن القسوة فإن لَمْ تَكُن قاسية ، فَهِيَ شديدة القسوة ) . وهذا هو الأقرب .
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :
أي لا تَقصُر قلوبكم عن هذا ، فَهِيَ إمّا كالحِجارة في القَسْوة أو أشدّ قسوة .
ثمّ بيّن :
هذه الحِجَارَة القاسية تَلين وتَخضَع ، وقلوبُكم لا تَلين ولا تَخْضع . فأيُّ قساوة أعظم مِن هذه القساوة ؟!
{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } :
أي العُيون أقلّ مِن الأنهار.
كما جرى لمّا ضرب موسى بِعصاه الحَجَر
{ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا }
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } :
وقلوبكم لا تَخْشَع، وهذا إن دلّ يدلّ -وهو القول الصحيح – أنّ اللهَ عزّ وجلّ جعل في الجمادات إدراكًا . لكن لا يَعرِفُ كُنْهَ ذلك وحقيقتَه إلّا الله عزّ وجلّ ، قال تعالى :
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}
وقال تعالى :
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }:
قال بعض العلماء إذا رأيتَ الحجر يَتَدَهْدَه مِن عُلُوّ إلى سُفُل ، فَاعْلَم بأنّه ما تَدَهْدَه إلّا مِن خَشيةِ الله . وهذا ليس عليه دليل مَرفوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . وإن كانت الآية تشير إلى ذلك ، لكن ليس على كلّ حال . وَاللهُ أعلم بحقيقة الحال.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } :
نَفى أن يَحْصُل مِنه غَفلة ؛ وذلك لِكمال عِلْمِه وإحاطَتِه بِكُلِّ أعمالكم .
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ } : الباء ( هُنا ) زائدة للتأكيد { بِغَافِلٍ }
وهذا الجُزء مِن الآية { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يُرَدّ به على مَن قال مِن المعاصرين مِن أنّ النَّفيَ في أسماء الله عزّ وجلّ يكون مِن حيث الْمَعْنَىٰ لا مِن حيث المَبنى.
مثلًا :
هو يقول مِن أسمائه عزّ وجلّ ( السلام ) يَتضمّن مِن حيث الْمَعْنَىٰ : نفي النّقائص عنه عزّ وجلّ ، وَلَمْ يأتِ في الاسم نفي .
ولكن نقول { بِغَافِلٍ } هُنا اسم فاعِل .
فكما قال عزّ وجلّ : { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } أتى النفي في الفعل مِن حيث المَبنى ومِن حيث الْمَعْنَىٰ ، كذلك في الاسم .
ومِن ذلك ما ثَبَتَ عند أحمد وأصله في صحيح البخاريّ ( حديث أنس ) قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة – وهو في سَكَرات الْمَوْت – قال :
( لقد حَضَر لأبيكِ [ما هو] ما اللهُ بِتاركٍ أحدًا لِمُوافاته يومَ القيامة )
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } :
وهذا في بيان حال الصحابة رضي الله عنهم ، فإنّه لمّا ذكر قساوة اليهود، فالصحابة رضي الله عنهم طَمِعوا في إيمان هؤلاء
{ أَفَتَطْمَعُونَ } :
طَمَع مِن الصحابة رضي الله عنهم ، طَمع به خير لعموم الناس ، وهذا يدلّ على أنّ المؤمن يحبُّ ويَطمع أن يَصِلَ الخيرُ إلى النَّاسِ كافّة
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } :
فهؤلاء لَدَيْهِمْ أسباب تمنعهم مِن الإيمان { أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ }
{ يَسْمَعُونَ } : مجرّد سماع ، وليس سَماعًا بِقَبُول
{ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ } :
يعني التوراة . وهذا يدلّ على أنّ التوراة كلام الله عزّ وجلّ
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } بعد هذا السماع ( سماع كلام الله عزّ وجلّ ) يقْدِمون على على التحريف معَ أنّ هُناك زَمَنًا لِلتدبّر والتأمّل ، لأنّه أتى بكلمة { ثُمَّ} { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } وهذا مِن باب بَيان خُبث هؤلاء اليهود ، فإنّهم عَقَلوا كلام الله عزّ وجلّ وَمَعَ ذلك حرّفوه . وهذا يدلّ على طُغيان هؤلاء . أَفَيُطْمَعُ في إيمان هؤلاء ؟
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } :
هل هذا التحريف للتوراة هل هُوَ تحريفٌ لألفاظها أو تحريفٌ لِمعانيها ؟ التحريف الذي وقعَ في التوراة هل هُوَ تحريفٌ لِألفاظها أم أنّ ألفاظَها باقية، وَحُرِّفَ الْمَعْنَىٰ ؟
بعضُ العُلماء يقول : هي حُرِّفَت ألفاظُها، حَتَّىٰ إنّ بعضهم غَلا ، قال : إنّ هذه التوراة المَوجودة لَوْ أنّ الإنسان اسْتَجْمَر بها وأزال بها الأذى فإنّه يجوزُ له ذلك ، ولا شكّ أنّ هذا قَوْلٌ مَردود
القول الثاني : ليست محرَّفة مِن حيث الألفاظ ، وإنّما حرّفوا معانيها ، وهذا ما ذهبَ إِلَيْهِ البخاريّ رحمه الله في صحيحه ( يُحَرِّفون ) قال هُم يُبقُونَ اللفظ ولكن الْمَعْنَىٰ يحرِّفونه .
والصواب :
الذي تدلّ عليه الأدلّة وهو رأي شيخ الإسلام -رحمه الله- مِن أنّ اليهود مُعظم ما حرّفوه هو الْمَعْنَىٰ ، لكنّهم حرّفوا بعض الألفاظ .
نَعَم [ مِن بيْنِها ] : في التوراة موجود قَول الله عزّ وجلّ لإبراهيم ( اذْبَحْ ابنَكَ البِكر ) فأضافوا إسحاق . ومعلومٌ أنّ الذّبيح مَن ؟ هو إسماعيل .
فيقول رحمه الله : التحريف وَقَعَ في الْمَعْنَىٰ ، لكنّهم لَمْ يَسلَموا مِن تحريف بعض الألفاظ
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ }
وحقيقة هؤلاء : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يَعلَمون عِظَم ما أقدَموا عليه ، ويَعلمون أَنَّ مَا أقدَموا عليه يُغضب الله عزّ وجلّ
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا } هذا صِنف آخَر مِن صِنف اليهود . فالنِّفاق كما وَقَعَ في غيرهم وقعَ أيضًا في اليهود
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ }
يقول بعضهم لِبَعْض ، يقول لهؤلاء الذين إذا لَقُوا المؤمنين قالوا آمَنَّا
{ أَتُحَدِّثُونَهُم } بأنّ في التوراة ، بأنّ فيها صفة محمّد ، وأنّ هذا الدِّين دينٌ صحيح ! كيف تُحدِّثونهم بهذا ؟!
{ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي مِن هذا العِلم . ودلّ هذا على أنّ العِلم الشرعيّ فَتحٌ مِن الله عزّ وجلّ إذا قام به العبد
{ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } غدًا {عِندَ رَبِّكُمْ } يُحاجِجكم هؤلاء المؤمنون فيقولون في التوراة صِفَة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } فيقول هؤلاء لهؤلاء { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } كيف تُقدِمون على ذلك ؟
فماذا قال عزّ وجلّ ؟
وهذا يدلّ على أنّ قَدْرَ الله عزّ وجلّ ليس عظيمًا عند هؤلاء فقال :
{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ } يعني حَتَّىٰ لَوْ لَمْ يَقُل هؤلاء للمؤمنين إنّ في التوراة صِفَة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لمّا قالوا { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } نَسَبوا الجهلَ إلى الله عزّ وجلّ .
فماذا قال عزّ وجلّ
{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }
{ مَا يُسِرُّونَ } أي ما يُخفون { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني ما يُظهِرون . سواءٌ أظْهَرتم هذا لِلصحابة أو لَمْ تُظهِروا ، فَاللهُ مُطَّلِعٌ على ذلك ، وسيُجازيكم على سوء أفعالكم.
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } هذا صِنف آخر (منهم أُمِّيُّون ) عَوامّ
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } وهذا ذَمّ أم مَدح ؟ ذَمَّ.
لكن لَوْ قال قائل : النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه في الصّحيحَين قال ( إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لا نَحسُب ولا نَكْتُب ) أهذا ذمّ لهذه الأُمّة؟ لا، هو في سِياق المدح، بل هو صلّى الله عليه وآله وسلّم وُصِفَ بالأُميّة {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } وإنّما المقصود بالأُمِّيَّة المحمودة هُنا : أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ كثيرًا مِن الصحابة كانوا لا يقرؤون ، وكانوا لا يكتبون ، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يقرأ ولا يكتب ، ولكن كان إذا سَمِع الشيء حَفِظَه ، كان إذا سَمِع الشيء حَفِظَه . ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله : لمْ يَقُل صلّى الله عليه وآله وسلّم ( إنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لا نقرأ ولا نَحفَظ ، قال ( إنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لا نَحسُب ولا نَكْتُب )
قال : وذلكَ لأنّ الإنسان لَوْ تَلَقّى العِلم مِن غير أدوات التعليم مِن كِتابة وقِراءة كانَ أفضَل إذا ضَبَطه ؛ إذ إنّه بذلكَ يقتصِر عليه الوقت ، ويقتصر عَلَيْهِ الزّمن ، وأيضًا أسلَم مِن الخَطأ ممّن يكتُب وَمِمَّن يقرأ . فَلِذلك مُدِح صلّى الله عليه وآله وسلّم بالأُمِّيَّة ، ومُدِحَت هذه الأُمَّة بالأُمِّيَّة باعتِبار أنّهم يَتَلَقَّون العِلم ويحفَظونه مِن غير تَعبٍ ( قِراءة وكِتابة )
لكنْ هُنا ذمّ لهؤلاء { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ }
{ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } الذي هُوَ التوراة { إِلَّا أَمَانِيَّ } مُجرَّد تِلاوة للألفاظ مِن غير مَعرِفة المَعاني إضافةً إلى أنّهم يُضيفون إلى ذَلِكَ أنّهم يَتَمنَّون على الله الأمانِيّ، مِن بيْنِها:
{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
ومِن بَيْن هذه الأمانيّ أنّهم يفتَرون على الله عزّ وجلّ الكَذِب
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } هذا ظنّ ، والحقّ لا يَكُونُ بِالظُّنون { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا }
{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } :
( إِنْ ) بمعنى ( ما ) أي ( ما هُم إلّا يَظُنُّونَ ) ، ومِن علامات ( إِنْ ) التي بمعنى ( ما النافية ) أن يأتي الاستِثناء بَعْدَها . ولذلك قال هُنا :
{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }
{ فَوَيْلٌ } أتى بِالفاء ، لأنّها مُرتَّبة على ما سَبَقَ ، فِــعْــلُ هؤلاء حُكِمَ عليه بِالوَيْل { فَوَيْلٌ } وهي كلمة وعيد وتهديد ، وتَتَضمّن العُقوبة والعذاب من الله عزّ وجلّ . وَوَرَد حديثٌ عند التِّرمذيّ مِن أنّه : أي
( وَيْل وادٍ في جَهَنَّم ) لكنّه لا يصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ فَوَيْلٌ } وابْتُدِئ بِـ ( وَيْل ) معَ أنّه في اللغة العربيّة لا يُبْتدأ بالنَّكِرة ، لكن ابْتُدِئ بالنَّكِرة هُنا ( وَيْل ) لأنّها تَضمّنت معنى . ما هو الْمَعْنَىٰ ؟ العَذاب والعُقوبة
{ فَوَيْلٌ } هذا صِنف آخر مِن اليهود { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} انْظُر ، قال { بِأَيْدِيهِمْ } يَعْنِي : لَمْ يأمُروا أحدًا ، وإنّما لِخُبثِ هؤلاء – مِن تحريفهم للتوراة – يكتُبون الكتاب بِأيْديهم { ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ } انْظُرْ إلى الطُّغيان والاعتِداء على شرع الله عزّ وجلّ
{ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ } ما الدَّاعي؟
{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } غَرَضٌ مِن أغراض الدُّنيا ، لَو اشتَروا الدُّنيا كلَّها ، لَوْ أخذوا الدُّنيا كُلَّها ، فالدُّنيا كلُّها ثَمنٌ قليل.
{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } كما قال عزّ وجلّ في سورة آل عمران { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ }
{ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم } يحرِّفون ( بالقول وبالكِتابة )
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ }
{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم } :
كرَّرَ ( وَيْل) ؛ لِعِظَم ما وقَعُوا فيه { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } وكَرّر
( الوَيْل) مرّة أخرى { وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } أي مِن الأموال ، وما يَكسِبونَه مِن الذُّنوب والمعاصي
{ وَقَالُوا } انْظُرْ إلى القَول على الله عزّ وجلّ بِلا عِلْم !
فَـهُــمْ لَمْ يَقِفوا على التَّحريف فقط ! لا ، ادَّعَوا لِأنفُسِهم : أنّ لَهُم نَجاةً مِن النار، وأنّ النار – بسبب أنّهم عَبَدوا العِجلَ – أنّ النار لن تَمَسَّهم إلّا أيّامًا مَعدُودة ، بعضهم قال : سبعة أيّام ، بعضهم قال : أربعين يَوْمًا ، وبَعضهم قالَ : هِيَ أيّام قليلة مِن غير تَحديد .
{ وَقَالُوا } مُجَرَّد قَوْل ( وكُلٌّ يَقول ) { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }
في سورة آل عِمْران : { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ }
فَلِماذا قال هنا { مَّعْدُودَةً } وهناك { مَّعْدُودَاتٍ } ؟
الجَمْع إذا كان مُؤنّثًا (جَمْع التكسير) يَجُوز؛ لأنّ أيّامًا (جَمْع تَكْسِير لِلمُؤنّث) فيَصحّ أن تَقُولَ (أيّام مَعْدودة ، وأيّام مَعدودات) كَمَا تقُول (جِبالٌ شاهِقة ، وجِبال شاهِقات) ( أنْهارٌ جارِية وأنْهارٌ جَارِيَات) مِن حيث اللفظ،
ومِن حيثُ الْمَعْنَىٰ:
{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } يعني قليلة .
فَقَال هُنا { مَّعْدُودَةً } باعْتِبار مَن قال مِنهم ( مِن أنّ النارَ لَنْ تَمَسَّنا إلّا سبعةَ أيّام أو أربعين يَوْمًا)
لكِن قال في سورة آل عِمْران { مَّعْدُودَاتٍ } باعتِبار ما قالَه أُولَئِك الَّذِينَ يقولون ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا سبعة أيّام أو أربعين يومًا)
لكن قال هُنا { إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } لِمَن قال ( لَنْ تَمَسَّنا النار إلّا أيّامًا معدودة لكنَّها قليلة )
{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } أَلَكُم عَهْدٌ عِنْدَ الله ؟
بَعْضُهُمْ قال : أَلَكُم عهد ( وهو التمسُّك بالتوحيد ) ؟
وبعضهم قال : أَتّخذتم عهدًا ؟
{ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } يعني ألَكُم عهد من الله أنّ النار لن تمسّكم إلّا أيّامًا قليلة؟ { فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ } لكنّ الحقيقة أنّكم كَذَبة
{ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
{ بَلَى } نفي ما ذَكَروه مِن الحُكم لهم { بَلَى } ثمّ استأنف { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً }
{ مَن كَسَبَ } دلّ على سهولة وقوع هؤلاء وأمثالهم في السيّئة ، ولذلك قَول بعض العلماء في قوله تعالى { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مِن الخير { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } يعني مِن الشرّ باعتبار أنّ الكسب للخير سهل ميسّر والاكتساب للشّرّ هو صعب. نعم، لكن ليس على إطلاقه.
فإنّ بعضًا ممّن استقرّ السُّوء في قلبه يفعل الخطايا تِلْوَ الخطايا بسهولة
{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } كَسَبَها هُوَ بِفِعله
الله عزّ وجلّ جعَلَ له إرادة { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الحُكم : { فَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وليـسَ في هذه الآية حُجّة لِلخوارج الذين يقولون إنّ هذه الآية دليل على أنّ مَن ارتكَبَ الكبيرة فهو كافر ، فيُقال لهم : الآية ما هِيَ ؟ { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } فكَون الخطيئة أحاطت به دلّ على أنّه لَمْ يأتِ اللهَ عزّوجلّ إلّا بالسيّئات.
ثمّ كما هو شأن القرآن باعتبار أنّه مَثاني إذا ذَكَر حال أهل النار ذَكَر حال أهل الجنّة، قال { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ماكِثون.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا } السياق عاد مرّة أخرى إلى بني إسرائيل { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } الميثاق مذكور في نفس الآية ، أَخَذَ عليهم كم ميثاق ؟
ثمانية في الآية :
{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }
{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّهَ } :
{ لَا } نافية تَتضمّن النهي ، وهذا أبلغ . وقيل بأنّ الأصل ( ألّا تعبدوا إلّا الله ) فحُذِفَت ( أنْ ) فرُفِعَ الفِعل
{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّهَ } :
فالعبادة لا تكون إلّا لله عزّ وجلّ ، حَصَر العبادة هُنا لله ، كما قال تعالى في سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } :
دلّ هذا على أنّ البِرّ والإحسان إلى الوالدين في الأمم السابقة ، والإحسان إلى الوالدين يَشمَل الإحسان القَولِيّ والفِعلِيّ بِشَتّى أنواعه ولذلك أطلَقَ هنا ، والإطلاق يدلّ على أنّ الإنسان مأمورٌ بِكُلّ نوعٍ مِن أنواع الإحسان
{ وَذِي الْقُرْبَى } أي قَرابة الإنسان ، فهُم أحقّ الناس بَعْد الوالدين بالإحسان إليه حتّى ولو كان مُبغِضًا لك ، ولذلك صحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قَولُه ( أفضل الصَّدَقة الصَّدَقة على ذي الرَّحِم الكاشِح ) أي المُبغِض ، تعرِف أنّه يُبغِضُك ، فالصدقة عليه والإحسان إليه أفضل
{ وَالْيَتَامَى } اليتيم في البَشَر مَن مات أبوه قَبل أن يَبلُغَ ، أمّا بَعْدَ البُلوغ فلا يُتْمَ
ولذلك ثَبَتَ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قَولُه ( لا يُتْمَ بَعْدَ احتِلام )
أمّا اليُتْم في البهائم فهو الحيوان الذي ماتت أُمُّه
أمّا في البَشَر : الذي مات أبوه، وقيل الذي ماتت أمُّه لكنّ الأصحّ : في البَشَر مَن مات أبوه، وهنا يدلّ على أنّ الإحسان إلى اليتامى مأمورٌ به في دِين بَني إسرائيل{ وَالْمَسَاكِينِ } ( المساكين ) : الفقراء ، أُمِروا بِالإحسان إلى المساكين { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } لِجميع الناس ( المؤمن والكافر ) ، فَعَلى المسلم وعلى العَبد أن يُحسِن في قَوله
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي أَدُّوها بِأركانها وبِواجباتها وبِشروطها
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ }
ما الذي حَصَلَ مِن هؤلاء ؟ { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي انصَرَفتُم عن هذا الميثاق { إِلَّا قَلِيلاً مِّنكُمْ } إلّا القِلّة ، كعبدالله بن سَلام
وإعراضُكم وتَوَلِّيكُم { وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ } فمَن تَوَلّى ربّما أنّه يعود ، لكن مَن تولّى مع إعراض دلّ هذا على أنّه بعيد عن الخير
ولقد أُمِرَت أُمّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأُمِرَ صحابتُه رضي الله عنهم بِأعظم مِمّا أُخِذَ على بني إسرائيل ، ومع ذلك وَفَّى الصحابة رضي الله عنهم بِالميثاق أعظم مِن هؤلاء
في سورة النساء خِطاب لِلصحابة رضي الله عنهم ولِلأُمّة :
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
وهذا يدلّ على فَضْل أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ قلوبَهم ليّنة ،
ومع ذلك هذه الأُمّة أُمِرَت ألّا تتّخذ سبيل هؤلاء اليهود.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } هذا المِيثاق من بَيْن المَواثيق التي أخَذَها الله عزّ وجلّ على بَني اسرائيل في التَّوراة
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } :
ما هُوَ هذا المِيثاق ؟ { لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا تُرِيقُون دِماءَكم
وقَوْلُه { لَا تَسْفِكُونَ } { لا } نافية بِمَعنى النَّهي
وَقِيل كما سَبَق في قَوْلِه تَعالى { لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } الأصْل بِألّا تَسْفِكوا دِماءَكم فَحُذِفَت ( أن ) فَارتَفَعَ الفِعلُ
والأوّل هُوَ الأقْرب، بِاعتِبار مَجيء النَّهي في صُورَة الخَبَر ، يَكُون أبْلَغ
{ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } :
{ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم } :
{ وَلَا تُخْرِجُونَ } معطوفة على { لَا تَسْفِكُونَ } والإنسانُ لا يُخرِجُ نفسَه وإنّما لمّا كان الأخ مع الأخ بِمَثابةِ النَّفْس نُهِيَ الإنسان عن أن يُريقَ دمَ أَخِيه و أن يُخرِجَه مِن أرضِه ومِن دارِه
{ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } :
أي أَقْرَرتُم على أنفُسِكم واعتَرَفتم بِذَلك ، والإقرار هو مِن أعْظَمِ الأدلّة التي يُحْتَجُّ بها على الإنسان ؛ ولِذا يُقال ( الإقرارُ سيِّد الأدِلَّة )
{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } :
تَشهدون على أنفسِكم بِهذا الإقرار ، فَالحُجَّة قائمةٌ عليكم .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ } :
قِيل { ثُمَّ أَنْتُمْ } معناها : ثُمَّ أَنتُم يا هؤلاء { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني : خالَفتُم ما أُخِذَ عليكم مِن ذَلِكم المِيثاق
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ }
{ تَظَاهَرُونَ } أي تتعاوَنونَ { عَلَيْهِم }
{ بِالْإِثْمِ } وهوَ ما يفعلُه الإنسان في حقّ نفسه
{ وَالْعُدْوَانِ } هو التَّعَدِّي على الآخرين .
فهذه المظاهرة منكم ، إنّما هي بِسَبَب الإثْم والخَلَل الذي عندكم و كذلك الاعتِداء على حقّ الآخرين .
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى } :
أي : إذا حَصَل بينكم قِتَال ووَقَعَ أحدٌ مِن اليهود في الأَسْر ، فإنّ المُتَعَيِّن عليكم في التوراة أن تُفادُوه بِأَن تَدفَعوا المال ، لِكَي تَفُكُّوه مِن هذا الأسْر .
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } مِن حيث الأصْل في قَوْلِه تعالى { لَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ }
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } :
نعم ، هُـمْ آمنُوا بِبَعْض ما جاءَ في التوراة ، وَهُوَ أنّهم يَدفَعونَ الفِداء ، وذلك لأنّه أُخِذَ عليهم في التوراة ، أُخِذَ عليهم – ماذا ؟ – ألّا يَسفِكوا دِماءهم ، وألّا يُخرِجوا أنفسَهم مِن دِيارهم ، وألّا يتَعاونوا على بَعضهم بِالإِثم والعُدوان ، وأنّ مَن وَقَعَ في الأسْر أنّهم يُفدونَه بالمال حتّى يَفُكّوه مِن الأسْر ، فَهُمْ تَرَكوا الثلاثةَ الأشياء الأُولى ، وأخَذوا فقط بِفِكاك الأسير، وهذا هوْ شأنهم قَبْلَ مَجِيء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كانوا يَسكُنون مع الأوْس والخزرج . والأوْس والخزرج كان بينَهم عِداء وشِقاق قَبْلَ مَجيء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة آل عِمْران { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }
وكان طائفة مِن اليهود مع الأوْس حُلَفاء، وكانت طائفة مِن اليهود مع الخزرج حُلَفاء.
فإذا اقتَتلَ الأوس والخزرج، هؤلاء الطائفة مِن اليهود يُعاوِنون حُلَفاءَهم على الآخرين ، فيَحصُل بَيْن اليهود الذين هُم حُلفاء للأوس والذين هُم حُلفاء للخزرج ، يَحصل بينهم بأن يَقتُل بعضُهم بعضًا وأن يُخرج بعضُهم مِن دياره ، يُخرِجُ بعضُهم بعضًا. وإذا وقَعَ في الأسر، فإنّهم يَفُكّونه.
فإذا قيل لهم : لماذا تصنعون هذا ؟ قالوا : إنّنا نكرَه أن تُسْتَذلّ حُلفاؤنا. فقال الله عزّ وجلّ: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
والخِزي وَقَعَ بهم ، فإنّه لما أتى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بعضُهم نُفِيَ كَبَنِي النَّضير ، وبعضُهم قُتِل كَبَني قُريظة .
وهذا مِن الخِزْي الذي حلّ بِهم في هذه الدُّنيا :
{ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } فإنّ عذاب الآخرة أعظم مِن عذاب الدُّنيا
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } :
نَفى عن نفسه الغَفْلة ، لِكمال عِلْمِه وإحاطَتِه . وفي هذا تَهديدٌ لهؤلاء بأنّ الله عزّ وجلّ مُطّلعٌ عليهم وسُيحاسبُهم على أعمالِهم
{ أُولَئِكَ } حالُ هؤلاء في صَنيعِهم
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } :
فإنّما وَقَعُوا فِيهِ مِن مُخالَفة هذا المِيثاق إنّما هو بِرَغبةٍ وحَظوَةٍ في هذه الدُّنيا بِحَيث يفتَخِرون بأنّهم يُسانِدون حُلَفاءهم ، ومَن يشتري الشيء إنّما يشتريهِ مِن رغبةٍ في نفسِه، والثَّمن الذي دَفَعوه الآخرة :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ }
لا يُخَفَّف عنهم مِن حيثُ الــزَّمَــن ولا يَوْمًا واحِدًا ، ولا يُخَفَّف عنهم مِن حيثُ النَّوعِيَّة { فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } ليسَ هُناك أحدٌ يَنصُرهُم مِن عذاب الله عزّ وجلّ .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } :
أي التوراة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ } { وَقَفَّيْنَا } أي أتْبَعنا { مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } فالرُّسل أَتَوا تِباعًا تِباعًا بَــعْــدَ موسى عليه السلام ، ولذلك قال العُلماء : إنّ موسى في المَرتبة الثالثة في الأفضليَّة بَعْد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمّ في المرتبة الثانية إبراهيم ، ثُمَّ موسى . قَالُوا لَِأنَّهُ أوّل رسول لِبَني إسرائيل . ولذلك أتَت الرُّسل مِن بَعْدِهِ
{ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } كما قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
آتاه الله عزّ وجلّ الكتاب ، وهؤلاء الرُّسُل الذين أَتَوا مِن بَعْدِهِ يَحكُمون بالتوراة ، في سورة المائدة { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } :
ذَكَرَ عيسى عليه السلام ابنَ مريم ؛ لأنّه آخِرُ رسولٍ لِبَني إسرائيل ، وَبَعدَه أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } :
ونُسِبَ إلى أُمِّه لأنّه لا أبَ لَهُ ، وذِكْر مريم فيما يَتعلَّق بِعيسى ، ونِسبة عيسى إلى مريم مِن باب أن يُبِيِّنَ عزّ وجلّ أنّ عيسى ليس ابنًا له ، وإنّما هو ابنٌ لِمَريم
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } الدلائل الواضحة
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ }
إلى آخر ما ذَكَره عزّ وجلّ مِن هذه البَيِّنَات التي آتاها اللهُ عزّ وجلّ لِعيسى ابن مريم، ومِن بِيْن البَيِّنَات: الإنجيل
{ وَأَيَّدْنَاهُ }: أي عيسى، أي قَوَّيْناه { بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ بِرُوحِ الْقُدُسِ } : خِلافٌ بَيْن أهل العِلم .
مَن هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ ؟ الذي تدلّ عليه الأدلّة هو جِبْرِيل
ولذلك :
النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول لِحسّان كما ثبتَ عنه :
( اهْجُهُم ورُوح الْقُدُس معك ) فجِبْرِيل عليه السلام مُؤيّدٌ لعيسى ابن مريم عليه السلام .
ولذلك :
قال عزّ وجلّ : { قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } ممّا يدلّ على أنّ الأدلّة تضافَرَت على أنّ روحَ الْقُدُس هو جِبْرِيل عليه السلام
{ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى } :
الخِطاب لهؤلاء اليهود { جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى } الأصل ( لا تَهْواهُ ) لكِنْ حُذِفَت مِن باب التّخفيف ؛ لأنّ السِّياق فيه طُول مِن حيث الاسم
{ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } :
فهذا إن دلّ يدلّ على أنّهم قَدَّموا أهواءهم على شرع الله عزّ وجلّ ، وسبب ذلك الكِبْر ، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله : الصِّفَة الواضِحة العُظمى في اليهود هي الكِبْر
{ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } :
أي مِن هؤلاء الرُّسُل ، فَحالُكُم مع هؤلاء الرُّسل إمّا التكذيب وإمَّا القَتْل
{ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
وفرَّق بينهما قالَ في التكذيب { كَذَّبْتُمْ } وفي القَتْل { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } قال في القتل بِصيغة الفعل المُضارع { تَقْتُلُونَ } قال بعض المفسِّرين المقصود مِن ذلك ما وقعَ منهم فيما مضى ، لكنّه أتى بصيغة الفعل المُضارع بِناءً على ما جرى منهم في الماضي.
والذي يظهر مِن أنّ الفَرْقَ في هاتين أو بَيْن هاتَين الصِّيغَتَين:
في (التكذيب) بذكر الفعل الماضي
وفي (القتل) الفعل المضارع مِن أنّ دَيْدَنَهم القتل ، ولذلك لَمْ يَدَعُوا النبيّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم . فإنّه أتى بصيغة الفعل المضارع الذي يدلّ الاسْتِمْرار والتَّجدُّد ؛ لأنّ مِن طبيعتهم أنّهم يَقتلون ، ولذلك حاوَلوا قتْل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا وَضَعوا السُّمَّ في الطَّعام .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } :
إذا قيلَ لهم آمنوا ، احتجّوا { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } يعني مُغَلّفة ، لا تَفْهم ما تقولُه يا محمّد
وكذلك يَدخلُ في { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } : يعني أنّ قلوبَنا تَعِي العِلم لكِنْ ما أتيتَ بِه ، فإنّ قلوبنا لا تَعِيه.
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ } :
فقلوبهم ، هذا الذي حصل ما حصل مِن غِطاءٍ عليها إنّما سَبَبُه أنّ الله عزّ وجلّ { لَّعَنَهُمُ } وطَرَدَهم مِن رحمته وَلَمْ يُوفّقْهم إلى أن يُؤمنوا .
ولذلك مع لَعنة الله عزّ وجلّ لَهُم حَكَمَ عليهم بأنّهم لمّا قالوا هذا القَول كما في سورة النِّساء مِن أنّ قلوبهم طُبِعَ عليها { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
{ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }:
{ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } :
المفَسِّرون قالوا { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } هذا مِن باب قِلّة الإيمان بما في أيديهم
وقيل: لِقِلّة مَن يؤمن منهم ( فَلَمْ يؤمن منهم إلّا القِلّة )
وقيل: إنّ هذا مِن باب العَدَم { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } بِمَعْنَىٰ أنّهم لا يؤمنون أبدًا، لا بِقَليل ولا بِكثير
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } :
( الكِتاب ) هُنا هو القرآن الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } وما أتى مِن عند الله فَهُوَ خَير ، وَواجبٌ على مَن بَلَغَهُ هذا الذي أتى به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن قِبَل الله أنْ يُؤْمَن به، وأن يُصَدَّقَ به { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ }
{ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } وهذا الكتاب الذي هو القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} مِمّا جاء في كتابهم الذي هو التوراة
{ وَكَانُوا مِن قَبْلُ } :
قَبْل مَجيء النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني يَسْتَنصِرون بهذا النبيّ إذ يقولون للمشركين قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : سيأتي نبيّ وسنُقاتِلكم معه
{ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } :
كرَّرَ كلمة (لمّا)، وقال { فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا } لَمْ يَنُصَّ على شيء مُعيّن ، لِكَي يَشمَل أنّه جاءهم النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجاءهم هذا الكتاب { فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا } عرفوه حقّ المَعْرِفة بِمَا في كتبهم وبما قَرَؤوه في كتبهم { كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
{ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } :
لَمْ يَقُل ( فَلعنةُ الله عليهم ) وإنّما قال { فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } لِكَي تكون هذه اللعنةُ في حقّ كلّ مَن كَفَرَ بالله عزّ وجلّ ، سَواءٌ مِن صِنف هؤلاء اليهود أو مِن غيرهم
{ بِئْسَمَا } :
(بِئْسَ) صيغة ذمّ ، التَصَقَت بِها (مَا)، (ما) إمّا أن تكون مَوْصوفة، فيكون الْمَعْنَىٰ ( بِئْسَ شيئًا ) أَوْ بمعنى ( ما المَوصُوليّة ) بمعنى الذي 🙁 بئسَ الذي )
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا } :
الذَّمّ واقِع على الكُفر ، إذ إنّهم اشتَرَوا الكُفر عن رغبةٍ .
بعض العلماء يقول : اشتَروا هُنا بمعنى باعوا . وَلَكِنْ لِتَعلم أنّ الأصلَ في كلمة ( اشتَرَوا ) أي مِن الشِّراء ، أمّا إذا قال ( شَرَوْا ) أي باعُوا
{ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } :
اشتَروا الكُفر ، والثَّمَن أنّهم قدّموا أنفسَهم . قدّموا أنفسهم إلى ماذا ؟ إلى الهلاك وإلى العذاب { أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } الذي هو القرآن { بَغْيًا} السبب ؟ أنّهم بُغاة ، بِهم بَغْيٌ
{ بَغْيًا } :
مفعول لأجْله ، لِأجْل البَغي الذي هو وصف مِن أوصاف اليهود . ويتضمّن البغي الفساد ، ولذلك يُقال للزانية ( امرأةٌ بَغِيّ ) لأنّها بِفعلها فساد وإفساد
{ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ } :
أي لأجْلِ { أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فَهُمْ كانوا { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } فَلَمَّا جَاءَهُم هذا الرسول ، وكان مِن الْعَرَب وَلَمْ يَكُن منهم ، هُنا كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } :
العاقِبة ( بَاءُوا ) رَجَعوا { بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } غضبٌ سابق وغضبٌ حَاضِر. بسبب ماذا؟
بسبب أنّهم فيما مضى كَفَروا بالتوراة وبالإنجيل، والغضب الثاني أنّه لمّا أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كَفَروا به
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } قال { وَلِلْكَافِرِينَ } وَلَمْ يَقُل ( وَلَهُم ) لِكَي يَشْمل كُلَّ كافِر.
وإنّما أتى بِقَولِه في وصفِ العذاب أنّه { مُّهِينٌ } إهانةً لَهم ؛ لأنّهم ما آمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتَرَكوا الإيمان به إلّا عَن كِبْر ورِفعة، فَأرادَ الله عزّ وجلّ أن يُهينَهم .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } :
وهوَ القرآن { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } يَعْنِي نؤمِن بِمَا أُنزِل علينا (الذي هوْ التوراة) ، أمّا ما عَداه مِن الْكُتُب، فَلَا.
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي بِمَا سِواه ( وَهُو القرآن)
{ وَهُوَ الْحَقُّ } ليس بِباطل ، حقّ ، لا مِريةَ فيه ، ثُمَّ مع أنّه حقّ في ذاتِه، كذلك هُوَ { مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } .
ثُمَّ قال مُسْتَفْهِمًا { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ }
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ } :
يَعني إن كُنتُم تزعُمون أنّكم لا تؤمنون إلّا بِالتوراة ، فَلِماذا أقْدَمْتم على قَتْل أنبياء الله الذين جاؤوا بَعد موسى عليه السلام ، وحَكَموا بهذه التوراة
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لَكِنْ هذا ليسَ بطبيعة أهل الإيمان ، فدلّ على أنّكم لسْتُم بِمُؤمنين
{ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } :
أي بِالدّلائل الواضِحة على صِدقِه ، ومِن ذلك أنّه فَلَق البحر أمامكم ، وغير ذلك مِن البَيِّنَات .
وبعض المفسِّرين يقول : البَيِّنَات ( هُنا ) التوراة ، وَلَكِنْ في هذا بُعْدٌ . لِمَ ؟ لأنّ التوراة ما نَزَلَت على موسى إلّا بَـعْـدَ أنْ نُجِّيَ مِن البحر ، وَذَهَبَ ، وَعَبَدَ قَوْمُه العِجْل .
ولذلك ما الذي بَــعْــدَها ؟ { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } أي إلٰهًا (اتّخذتُم العِجْلَ إلٰهًا) {مِن بَعْدِهِ } أي مِن بَــعْــدِ ذَهابِه لِكَي يَأْخُذ التوراة { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } فيما فَعلتُم مِن اتِّخاذ العِجل ، وأعظمُ الظُّلم هُوَ الشِّرك بالله عزّ وجلّ. وفِعلُكُم هذا ظُلْم وشِركٌ به عزّ وجلّ.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } يَشمَل كلّ ميثاق ممّا مَرّ:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } كما مرّ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } فَهُوَ شامِل لِــــكُـــلِّ المواثيق التي أخذها الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } أي الجَبَل ، لمّا أَبَيْتُم أَخْذ التوراة والعَمَل بِها كما قال تعالى في سورة الأعراف:{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }
أي خُذُوا هذه التوراة بِقُوَّة بِجِدّ وعَزْم
وَهُــنــا قال : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا }
{ وَاسْمَعُوا } اسمعوا سَماعَ قَبول ، وليـسَ مُجرّد سماع . ولذلك ماذا قَالُوا؟ { قَالُوا سَمِعْنَا } سَمِعنا قولك { وَعَصَيْنَا } أي عَصَينا أَمْرَك
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } :
هُنا فيه حَذْفٌ ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ حُـــبّ الْعِجْلَ ) . ولذا – هذا مِن بَيْن الأمثلة التي يَحِلّ المضاف إِلَيْهِ مَحَلّ المُضاف ، فحُذِفَتْ كَلِمَة ( حُبّ ) لأنّه قال { الْعِجْلَ } .
{ وَأُشْرِبُوا } يَدُلّ على التَّمَكُّن ، وَلَمْ يأتِ بصيغة الأكل ؛ لأنّ الأكلَ لا يَتشرّب في الجِسم كَتَشَرُّب الماء في الجسم ، ممّا يدلّ على أنّ هؤلاء أحَبّوا هذا العجل وعبادتَه حُبًّا تَمَكَّنَ مِن قلوبهِم
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ }
القُلُوب التي هي مَحَلّ الإيمان والخير امتلأتْ بِحُبِّ عِبادة العِجل .
والسبب : لِكُفرِهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } بسبب كُفرِهم
{ قُلْ بِئْسَمَا } :
{ بِئْسَمَا } أي ( بِئْسَ شيئًا ) كما مرّ ، أَوْ ( بِئْسَ الذي )
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ } هذا إيمانُكم وليسَ إِيمَانًا شرْعيًّا . أَنتُم تَزعُمون أنّه إِيمَانٌ ، وَلَكِنْ ليسَ بإيمان ، ولذلك أضافَ الإيمان إليهم
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } :
فالتوراة وما فيها لا تأْمُرُ بِعِبادة العجل ، وإنّما تأمرُ بِعبادة الله . فَفِعلُكُم هذا ليسَ مِن الإيمان في شيء .
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } :
أي الجنّة { عِندَ اللّهِ }
{ خَالِصَةً } أي خاصّة { مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إن كُنتُم صادقين فيما تَزعُمون مِن أنّ الْجَنَّةَ لكُم ، وأنّكم سَتُعذَّبون في النار أيّامًا قَلائل ثُمَّ يَخلُفُكم بعد ذَلِكَ المسلمون { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فَمَـنْ عَلِمَ وأيْقَنَ أنّ الجنّة مَقَرُّهُ فإنّه يحرُصُ على أن يَصِلَ إلَيْها، وابن كثير – رحمه الله – يقول { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذا مِن باب المُباهَلة ، مِن باب المُباهَلة ، يعني أنّ هُناك مُباهلةً بينَ المسلمين وبين اليهود .
بمعنى أنّ اليهود سيقولونَ أنتم يا أهل الإسلام تقولون : نَحْنُ على الإيمان وَنَحْنُ لنا الجنّة . إذن { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيقول – رحمه الله – يقول هذا مِن باب المُباهَلة . يَعْنِي لِيَدْعُ كُلٌّ مِـنّــا بِالمَوت على نفسه إن لَمْ يَكُن صادِقًا .
والذي يظهر مِن السِّياق أنّ الآية لا تدلّ على المُباهَلة ، وإنّما قَوْلُه عزّ وجلّ { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي فيما تَزعُمون أنّ الجنّة لَكُم
ولا يَرِد قَول اليهود لِلمسلمين ( تمنّوا الموت لأنّكم تزعمون أنّ الجنّة لكم ) ، فنقول : المسلمون لَمْ يَدَّعوا أنّ الجنّة لهم خاصّة، وإنّما هُـمْ يَحكُمون بِالجنّة لِكُلّ مَن آمَنَ بالله عزّ وجلّ سواءٌ مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لَمْ يكونوا
{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا }
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا }
والسبب : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } مِن الأعمال الخبيثة { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } فَهُوَ مُحيطٌ وعالِمٌ بِحال هؤلاء الذين هُم ظَلَمة ، وعالِمٌ بِكُلِّ حالِ ظالِمٍ
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } قَسَمٌ هُنا ( اللام مُوَطِّئة لِلقَسَم ) وأُكِّدَت بِنون التوكيد
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } أي هؤلاء اليهود { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } أيّ حياةٍ ، أهمّ شيء عندهم أنّهم يَبقَون في هذه الحياة ، سواءٌ كانت حياة كرامة أو حياة ذُلّ ؛ لِحُبِّهم للدُّنيا فإنّهم { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ }
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } :
( هُنا ) اخْتُلِف :
يعني هُـمْ { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } وأحْرَص مِن الذين أشركوا ، لأنّ الذين أشركوا هُـمْ لا يؤمنون بِيَوم القيامة ، فيريدون البقاء أكثر ، لَكِنْ أنتم تَزعُمون أنّ الجنّة لكُم ، فهؤلاء مع هذا كُلِّه هُم أحرص الناس على حياة ، وأحرص مِن الذين أشركوا { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ }
{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } : الضمير قد يعود إلى اليهود ، وَلَكِنّ الأظهر أنّه يعود على الذين أشركوا ؛ لأنّهم أقرب مذكور ، لأنّهم أقرب مذكور .
فيكون الْمَعْنَى :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا }
يعني أحرص الناس على حياة وأحرص مِن الذين أشركوا { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي المُشرك { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } إذن يكون اليهوديّ يتمنّى أن يُعَمَّر أكثر ممّا تمنّاه المُشرك ، أكثر مِن ألف سَنَة { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ } { لَوْ } هُنا مَصدريَّة ، إذا أتَت بَــعْــدَ كَلِمَة الوُدّ ( لَوْ ) تكون مَصْدَرِيَّة ، بِمَعْنَىٰ أنّها وما بعدها تكون مَصْدرًا يعني { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } أي أن يكونَ تَعميرُه في الدُّنيا أَلْفَ سَنَة
{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } :
يَعْنِي أنّ تَعمِيره لَنْ يُزَحزِحهُ عن النار ، فإنّ مصيره إلى النار لا مَحالَة ولوْ طالَ عمُرُه
{ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } :
{ بَصِيرٌ } :
وفيهِ تَهديد لِهؤلاء الذين قَدَّموا الدُّنيا على الآخرة ، فالله بصيرٌ ومُحيطٌ بِكُلّ أعمالهم ، وليـسَ هذا الأمر ، بل مُحيطٌ بِكُلّ ما عَمِلُوه .
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ } :
قالوا يا محمّد إن كان الذي يَنْزِلُ عليك – وهذا مِن التَّعَنُّت ومِن الطُّغيان – قالوا إن كان الذي يَنْزِلُ عليك جِبْرِيل فلا نؤمن ، فَهُوَ يأتي بالعذاب ، وإن كان ميكائيل الذي يأتي بالخير ومُوَكَّل بالمطر فنؤمنُ به ، أمّا جِبْرِيل فَهُوَ عدوٌّ لنا
فقال الله عزّ وجلّ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } نزَّل ماذا ؟ ( القرآن )
{ عَلَى قَلْبِكَ }
ويَدخُل ضِمنًا – وإن كان الأظهر لِلآخَر – يَدخلُ ضِمنًا { فَإِنَّهُ } أي الله نَزَّل ( جِبْرِيل ) { عَلَى قَلْبِكَ } يا محمّد
لَكِنَّ السِّياق { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } أي القرآن { عَلَى قَلْبِكَ } لأنّ القَلْب مَحَلّ التَّلقّي، ولذلك النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول كما في الصّحِيحَين :
( إنّ في الجَسَدِ مُضْغَة إذا صَلَحَت صلَح الجَسَدُ كلُّه ، وإذا فسَدَت فَسَد الجسدُ كُلُّه ، أَلا وَهِــيَ القَلْب )
وليـسَ معنى ذلك أنّه يُنَزِّلُهُ على قلبِه مُباشرة ، وإنّما يَقْرَأ، ثُمَّ بعد ذلك يتلقَّى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولذلك قال تعالى:
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) }
قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ }
{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } :
بِأمْر الله ، ليسَ مِن أمْر جِبْرِيل ، ولا مِن رأي جِبْرِيل تِلقائيًّا ، لا .
وإنّما ما نزَل جِبْرِيل بهذا القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا بإذن الله عزّ وجلّ { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مُصَدِّقًا هذا القرآن لما بينَ يَدَيْه مِن الكُتُب السابقة { وَهُدًى } هِداية
{ وَبُشْرَى } بُشرى خِير . لِــمَـنْ ؟ { لِلْمُؤْمِنِينَ } لأنّهم هُــمُ المُنتَفِعون ، فَهُوَ هِداية لهُم ، في قلوبهم ، في جَوارِحهم { وَبُشْرَى } بُشرى لَهُمْ ، فالسعادة لهمْ ، والبُشرى لَهُمْ في الدنيا وفي الآخرة { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } كما قال عزّ وجلّ
{ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } :
نَصَّ على جِبْرِيل ومِيكال ، مع أنّهم مِن ضِمْن الملائكة ، كما في مُقَدِّمة الآية ، مِن باب بَيان شَرَف هَذَيْن المَلَكَين ، ومِن باب بَيان أنّ الاختِلاف لمّا قالوا: إن كان ميكائيل فَنحنُ نؤمن ، وإن كان جِبْرِيل ، فَلا ؛ فإنّه عدوّ لنا.
{ وَمِيكَالَ } :
جِبْرِيل فيه لُغات، مِن بيْنِها جَبرائيل، مِيكال، فيه لُغات، مِن بيْنِها مِيكائيل
{ فَإِنَّ اللَّهَ } الجواب؟
{ مَنْ } شَرْطِيّة { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ }
الجواب :
ثُمَّ قال { عَدُوٌّ } فَاللهُ عدوٌّ لِــمَـنْ عادى هؤلاء، وَلَمْ يَقُل( فإنّه عدوٌّ لَكُمْ أو لَهُمْ)
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا } :
تَسْلِية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا كَذّبَه هؤلاء { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } آيات واضِحات ( القُرْآن ) كما قال تعالى:
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
آيات واضِحات ، وهوَ أعظم المُعجِزات للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا } أي بِالآيات { إِلَّا الْفَاسِقُونَ } وَهُم أصحاب الفِسق الأكبر الذين خَرَجُوا عن مِلَّة الإسلام ، كما قال عزّ وجلّ عن إبليس {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
{ أَوَكُلَّمَا } همزة الاستفهام أتَتْ بعدَ الْوَاو، ويكون ما بينَ الهمزة وحرف العطف جُملة.
{ أَوَكُلَّمَا } أي التقدير: أَكَذّبوا ( وكُلّما عاهدوا أكذّبوا )
وَكُلَّمَا { عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ } أي طرَحَهُ { فَرِيقٌ مِّنْهُم } فَـهُــمْ أصحاب غدْر وخِيانة وعَدَم وَفاء، فالعُهود والمَواثيق عليهم كثيرة، ولكنهم أخلَفوها، ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة الأنفال:
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}
{ نَّبَذَهُ } طَرَحَه ، طَرَحوا عهدَ الله عزّ وجلّ ، والطَّرح الذي هُوَ النَّبذ ، يدلّ على أنّهم يَستَخِفّون بهذه العهود ، ولا يَرَوْن لها قَدْرًا { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وهذا حال مَن لا يؤمن ، وذلك لأنّ العَبْدَ كُلَّمَا عصى الله ، وتكبّرَ على شرع الله كُلَّمَا زادَ معه الطُّغيان ، فَتَنْسَدُّ عنه أبوابُ الخير وأبواب الإيمان { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وقد آمَنَ بعضُهم كَعبد الله بن سلام رضي الله عنه.
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ } :
وهوَ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { مِّنْ عِندِ الله } ليسَ مِن مَخْلوق ، أتى مِن عند الله ، وَلَمْ يأتِ مِن تِلْقاء نَفْسِه
{ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } :
أتَى بهذا القرآن، الذي هُوَ مُصَدِّق لِـمـا معهم ممّا يقرؤونه في التوراة ، وأيضًا يقرؤون صِفات هذا النبيّ:
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ }
{ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } :
أي التوراة { نَبَذَ } أي طَرَحَ { فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} طَرَحوا كِتَاب الله ونَبَذوه
( كِتَابُ اللَّهِ ) :
هل هُوَ التوراة أو القرآن ؟
قولان، ولا تَعارُض بينهما؛ لأنّهم إذا لَمْ يؤمنوا بالقرآن لَمْ يؤمنوا بالتوراة، وَلَوْ آمنوا بالتوراة لآمنوا بالقرآن
{ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } :
والذي يُلقَى وراء الظَّهْر لا يَهتمّ به صاحبه { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } حالهم كَحال مَن لا يَعْلَم ، وَهُمْ يَعْلَمُون أنّهم كَذَبَة ، ويَعلمون أنّهم خَوَنَة ، ويَعْلَمون أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولٌ مِن عند الله ، ويَعلمون العاقِبةَ السَّيّئة لِــمَـنْ لَمْ يؤمن بهذا النبيّ ، ولذلك أخذ الله عزّ وجلّ – كما سيأتي في سورة آل عمران – أخذ الله عزّ وجلّ المِيثاق على كلّ نبيّ إذا أتى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يَتَّبِعَهُ وأن تَتَّبِعَهُ أقوامُهم
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :
جَرَت سُنَّة الله عزّ وجلّ أنّ مَن اشتغلَ بالباطِل أعرَضَ عن الحقّ ، وأنّ مَن أعرَضَ عن شرع الله وقعَ في الــبِـــدَع والشِّرك والمُخالفات ، فإنّهم لمّا نبَذوا كِتَاب الله ما مَصيرهم ؟ اتَّبَعوا الشياطين وما تَتْلوه الشياطين
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } :
أي ما تَقرأ { تَتْلُو } أي تَقْرَأ { تَتْلُو } أيضًا تَتَّبِع ؛ لأنّ التِلاوة تكون بِمَعْنَىٰ الاتِّباع ، كما قال تعالى : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } أي إذا تَبِعَ الشمس
{ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } :
أي ما تَلَتْ { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :
{ عَلَى } : قِيل بِمَعْنَىٰ ( في ) أي ( في مُلْك سليمان ) والصَّحيح إبقاؤها على ظاهرها ، فالحروف – على القول الصحيح – لا يَنوب بعضُها عَن بعض ، وإنّما يُضَمَّن الفِعْل فِعلًا آخر ، مِن باب الإتيان بِمَعاني أكثر في كتاب الله عزّ وجلّ
{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :
تَضمَّن ذلك الكَذِب ، أي ممّا تَتْلوه أي ( تَكذِب الشياطين على مُلْك سليمان) وذلك بأنّ الشياطين لمّا مات سُليمان ، قالوا : إنّ سليمان ما مَلَكَكُم إلّا عن طريق السِّحر.
فقال الله عزّ وجلّ: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأنّ اليهود لمّا سَمِعوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يذكُر سُليمان ، قالوا : كيف يذكُرُ ساحِرًا ؟ فقال الله عزّ وجلّ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأنّ السِّحر كُفر { وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}
ما الـسّــبـب أو الإيضاح لهذا الكُفر؟
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } : أي ويُعَلِّمون (الذي) أُنزِل.
( ما ) هُنا ( مَوْصوليّة ) على الصحيح { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } أي هؤلاء الشياطين يُعلِّمون الذي أُنزِل على المَلَكين .
أين ؟
{ بِـبَابِلَ } [ ببابل في العراق على الصحيح ] ، بابل : المقصود التي في العِراق
{ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } :
هاروت وماروت : مَلَكان أنزَلَهما الله عزّ وجلّ ابتِلاءً وامتِحانًا للناس .
ولذلك :
القرطبيّ – رحمه الله – يقول { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }
(ما) نافية ليست موصوليّة ، فيقول { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } نَفَى أن يكون هناك إنزالٌ للسِّحر على هاروت وماروت . وقال يكون معنى الآية :
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }
لَمْ يُنزَل على المَلَكين شيء .
فيكون ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) فهَارُوتَ وَمَارُوتَ يَعود إلى الشياطين ، فيكون هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِن الشياطين .
وهذا ليسَ بِصحيح .
فهَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكان أنزلهما الله عزّ وجلّ ابتِلاءً وامتِحانًا .
ولذلك :
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا } أي هَارُوتَ وَمَارُوتَ
{ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } أي اختبار وابتِلاء { فَلَا تَكْفُرْ } فَيُحذِّرونه مِن تَعَلُّم السِّحر .
وهذه الآية في قصّة هاروت وماروت فيها روايات مُتَعدِّدة ، يمكن خمس أو ستّ روايات ،وأحاديث عن هاروت وماروت ،
ومِن بِيْنها :
أنّ الملائكة لمّا قالوا :
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
قال اختاروا اثنين مِن الملائكة فَنَزَلا ، ومِن ضِمْن ذلك مِن أنّ امرأةً أتَتْهما ، وأرادا أن يفعلا بِها الفاحِشة ، فَرفَضَت ، وقالت : حَتَّىٰ تُشرِكا بالله ، وتَقتُلا هذا الطِّفل إلى آخر ما ذُكِر ، حَتَّىٰ هِيَ لمّا مَكَّنَتْهُما مِن نَفسِها مَسَخَها الله، فكانت نَجم الزُّهرة . وهذه مِن حيثُ أسانيدُها باطِلة ولا تصحّ ، ولا تصحّ
حَتَّىٰ ما جاء مِن حديث ( اتّقوا الدُّنيا فإنّها أسحَر مِن هاروت وماروت ) هذه أحاديث لا تصحّ .
إذَن القصِّةُ لها رِوايات كثيرة لا أُريد الدُّخول فيها ، لَكِنْ الخُلاصة : أنّ الله عزّ وجلّ أَنزَلَ هذَين المَلَكين لِكَي يُعَلِّما الناس السحر ابتِلاءً وامتِحانًا :
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا }
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } :
أي مِن هاروت وماروت { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } يَعْنِي إذا نَصَحاه وَلَمْ يَنتَصِح ، فَتَعلَّم :
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }
{ الْمَرْءِ } الرَّجُل ، { وَزَوْجِهِ } يعني الزَّوجة . ولذلك مرّ مَعَنا الأشْهَر في الإطلاق على المرأة ، أن يُقال ( زَوْج ) ويَصِحّ ( زوجة ) كما في قوْلِه تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } كما مرّ مَعَنا
{ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } هذا يدلّ على الصَّرف ( الصَّرفُ بِيْنَ الزَّوجَين ) بِحَيث يُصْرَف أحدُهُما عن الآخر ، بِحِيْث يتَمثّل له مِن أنّه بهِ صِفَةٌ قَبيحةٌ أَوْ أنّه يَتَخيّلُه على صورةٍ لَـيْـسَتْ بِحَسَنةٍ . أو ما شابه ذلك .
وهذا يدلّ على خُــطـــورة السِّحْر ، فإنّ السِّحرَ إلى درجة أنّ الوِفاق الذي يكون بينَ الزَّوجين مِن المودّة والمحبّة يَحصُل الفِراق لَكِنْ مع ذلك
{ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ }
{ وَمَا هُم } :
الشياطين والسَّحَرة { وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } ما يَقَع شيء إلّا بِأمْر الله عزّ وجلّ ، ولا يستطيع الساحر ولا الشيطان أن يفعل شيئًا إلّا إذا أمَرَه الله عزّ وجلّ .
ومِن ثَمَّ أنّ اللهَ عزّ وجلّ أمرَ النَّاسَ بأن يتَّخِذوا الأسبابَ الشرعيّّة مِن قراءة القرآن والأَوْراد في دَفْعِ السِّحرِ قَبْلَ وُقوعِه حتّى بَعْد وُقوعِه
{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } :
مِن هذا السِّحر ، السِّحر ضَرَر { وَلَا يَنفَعُهُمْ } أتى بكلمة { وَلَا يَنفَعُهُمْ } مِن أجلِ أن ينْفِيَ وجود أيّ نَفعٍ في السِّحر ، فإنّه لَوْ قال
{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } لَرُبَّما انْقَدَحَ في الذِّهن أنّ هُناك نَوْعًا مِن الـنَّـفـع فَقَال { وَلَا يَنفَعُهُمْ }
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } :
أي اليهود ومَن سارَ على طريقتهم { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي السِّحر
{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } :
{ مَا لَهُ } أي ليسَ لهُ مِن نَصِيب { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي مِن نصيب . وهذا يدلّ على أنّ السِّحر كُفر بالله عزّ وجلّ إذا كان استِعانةً بالشياطين ، أمّا إذا كان عزائم ورُقَى ، ويَنْفخ الإنسان فيها ويَنْفُثُ فيها دُون استعانةً بالشياطين ، فهناك خِلاف بَيْنَ أهل الْعِلْمِ .
الشاهِد مِن هذا :
أنّ السِّحرَ به خطرٌ عظيم على عَقيدة المُسلم
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ } :
{ شَرَوْا } قُلْنَا ماذا ؟ باعُوا { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوا أنفُسَهم { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لَوْ كانوا يعلمون خُطورة السِّحر وما يؤدّي إِلَيْهِ ما باعوا أنفُسَهم وعَرَّضوها لِسَخَطِ الله ولِعِقابِ الله .
ثُمَّ قال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا } دَلَّهُم على الطريق الصحيح الذي به الرِّفعة والفلاح والخير في الدُّنيا والآخرة :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا }
{ آمَنُوا } بِقُلوبهم وبِأَلْسِنَتهم وعَمِلوا بِجَوارِحهم { وَاتَّقَوْا } سخَط الله
{ لَمَثُوبَةٌ }
جَوَاب (لَوْ): { لَمَثُوبَةٌ }
أَوْ الجـَـوابُ: يَتضمّنه كلمة { لَمَثُوبَةٌ } أي لَأُثِيبُوا
{ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ } :
وأَعْظِمْ بِثَواب يكون مِن عند الله ، فَهُوَ خَيْرٌ كلُّه في نوعِه وفي قَدْرِه وفي كَيْفيّتهِ
{ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } :
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنّ هذا الإيمان وهذه التَّقوى بها الثواب العظيم لَما أقدَموا على تَرْك الإيمان والتقوى ، ولمَا أقدَموا على فِعْلِ ما يُغضِب الله عزّ وجلّ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } : نِداء لأهل الإيمان .
ولذلك :
ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا سَمِعْتَ اللهَ يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَارْعِ لها سمعَك ؛ فإمَّا أمرٌ تُؤْمَر به ، أَوْ نَهْيٌ تُنهى عنه
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } :
{ رَاعِنَا } :
أي مِن التَّرَفُّق ، وتَمَهّل بِنا وتَرَفَّق بِنَا ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون هذا الْقَوْل للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لَكِنَّ معناه عند اليهود يُريدون بهِ مَعنًى خبيثًا سَيّئًا
ولذلك لمّا حذَّرَ عزّ وجلّ الأُمّة مِن صَنيع اليهود مِن فِــعْــل اليهود عن طريق السِّحر حذَّرهُم أيضًا ممّا يكون مِن قَوْلٍ يقولُه اليهود { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا }
ما البَديل ؟
{ وَقُولُوا انظُرْنَا } بَدَل أن تقولوا ( رَاعِنَا ) قولوا ( انظُرْنَا )
فَكَان في قولِهم { رَاعِنَا } كان فيه قَوْلٌ يُسيئون فيه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ انظُرْنَا }
{ وَاسْمَعُوا } أي اسْمَعوا سَماعَ قَبول ، فإذا أُمِرتُم بِأَمْر فَاسْمَعوا ، ليسَ سماعًا مُجرّدًا ، وإنّما سَماع قَبول .
قالَ عزّ وجلّ- كما سيأتي معنا إن شاء الله في سورة النِّساء –
{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
فَنُهِيَ الصحابة رضي الله عنهم عن قَوْل { رَاعِنَا }
ولِذا على الْمُسْلِم أن يَحذَرَ وأن يَجْتَنِبَ قَوْلَ -كما يحصل مِن البعض يقول للبائع- راعِنا ( يَعْنِي راعِنا في السِّلعة ) فَيَحذر مِن هذا القول ؛ لأنّ فيه مِن حيث الصورة مُشابهة لِهؤلاء اليهود
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } :
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } :
أي مُؤْلِم، وَوُصِفَ العذابُ أنّه أليم ؛ لأنّهم إذا قالوا { رَاعِنَا } فإنّهم يتلذّذون بِـهــذا القَول، يَفرحون بهِ، فيأتيهم مِن العذاب ما يؤلِمُهم ويُزعِجُهم
وصرَّح هُنا، قال: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بِاعتِبار أنّ الحُكم يَشمَل كلّ كافِر، وأنّ هؤلاء في قَولِهم وفي فِعلهم وفي مَوقِفهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هُـمْ كَفَرة .
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :
انْظُرْ ، لمّا حذَّرَ مِن فِعلِهم السَّيِّئ وهوَ السِّحر ، ومِن قِولهم البذيء وهوَ قَوْل ( رَاعِنَا ) بيّن أنّ قلوبهم فاسدة قد امتلأت بِالحَسَد لهذه الأُمّة
ولذلك كما سيأتي مَعَنا في سورة آل عِمْران يقولون { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } يَعْنِي أموال الْعَرَب حِلٌّ لَـنـا ، ولا إثمَ عَلَيْنا في الأَخذِ منها
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } :
بَيَّنَ هؤلاء الذين كَفَروا { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } فأهلُ الْكِتَاب بهذه الصورة كَفَروا ، ثُمَّ لمّا كان السِّياق في شأن الكفّار بَيَّنَ أنّ الحسدَ أيضًا لَمْ يُقْتَصَر فيه على هؤلاء ( أهل الْكِتَاب ) بل حَتَّى إنّ المشركين لا يريدون أن يَنزِل هذا القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ }
ويَظنّون أنّ الخيرَ بأيديهم ، يُعطونه مَن يشاؤون ، ولذلك قال بعدها :
{ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ } :
{ يَخْتَصُّ } ويَخصّ ويمنح مَن يشاء
{ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } :
{ ذُو الْفَضْلِ } والجُود والكَرَم { الْعَظِيمِ } الذي لا يستطيع أحد مَهْما كانت له مِن القوّة أن يَرُدّ فضل الله عزّ وجلّ ، ولذلك في آخر سورة الحديد ، ماذا قال عزّ وجلّ :
{ لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ }
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } :
لمّا نُسِخَ حُـكْــم التَّوَجُّه مِن بيت المَقدِس في الصلاة إلى الكعبة ، شَكّكَ وأنكرَ اليهود النَّسْخ ، وقد أنكرَ النَّسخَ اليهود وبعض أهل الكلام
ولذلك قالت اليهود مُمَوِّهَةً ، يقولون : لَوْ ثَبَتَ النَّسْخ ، بمعنَى نَسْخ حُكم شرعيّ إلى حُكم آخر يقولون ( إنّ في هذا فيه البَداءة ) يُوصَف الله ( بِالبَداءة ) يعني أنّه يبدو له الشيء ثُمَّ يعود مرّة أخرى فيُغيّر الحُكْم. ولا شكّ أنّ مثل هذا تمويه وضلال وكُفرٌ بالله عزّ وجلّ
{ مَا نَنسَخْ } أي نُغيِّر ونبدِّل
و{ مَا } شَرْطيّة ، ولذلك جُزِمَ الفِعل { نَنْسَخْ }
{ مَا نَنسَخْ } أي نُبدِّل حُكْمًا إلى حُكْمٍ آخر . والنسخ ( هُنا ) معناه التبديل، وقد يأتي بمعنى النَّقل، ( قد يأتي بمعنى النَّقل )
ولذلك القرآن أُخِذَ مِن اللوح المَحفوظ ، فيكون القرآن باعتِبار معنى النّقل ، يكون كلّه منسوخًا .
ولكن المقصود هُنا هُوَ التّغيير والتبديل لِحُكم دون حُكم مِثل ما حصل في القِبلة كما سيأتي .
{ أَوْ نُنسِهَا } :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا }
{ نُنسِهَا } النّسيان ( هُنا ) قِيل : أي نؤخِّرُها ؛ لأنّ مِن معاني النِّسيان التأخير .
أي { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي نُبدِّل حُكم آية : سواء التَّبديل رَفْع اللفظ ، أو رَفْع اللفظ مع الحُكْم . كما سيأتي معَنا إن شاء الله
{ أَوْ نُنسِهَا } أي نؤخّرُها ، فلا نَنسخُها ، تبقى على حالِها
لَكِنْ قَوله عزّ وجلّ { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } أثبت النسيان ( هُنا )
{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } المقصود مِن ذلك : إلّا إذا شاء الله . وَلَمْ يَشأ الله أن يُنْسِها ، هذا على القَول .
قَوْل آخر :
{ أَوْ نُنسِهَا } أي أنّ النِّسيان نَوْع مِن أنواع النَّسخ ، بِمَعْنَىٰ نأمُرُك يا محمّد أن تَدَع قراءة هذه الآية ، وأن تأمُر أصحابك بِتَرْكِها ، وَمَعَ الأيّام تُنسى . فيكون النسيان نوعًا مِن أنواع النَّسخ . ويكون معنى { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } أي ممّا أمَرَ الله عزّ وجلّ بِنَسخِهِ .
جَواب :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا }
{ نَأْتِ } : الجواب ( هُنا ) مجزوم ، وعلامة جَزمه حذف حرف العلّة (نأتِ)، لأنّه جواب الشرط ( ما )
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } :
{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } :
إمّا أن يكون الحُكم نفس الحُكم السابق مِن حيث اليُسْر والسُّهولة ، أو
{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } بِمَعْنَىٰ أنّ الحُكْم الذي هُوَ الأشدّ يَكُونُ أخفّ ، أَوْ أنْ يكون تغيير الحكم مِن الأخفّ إلى الأشدّ ، لَكِنْ كيف يَكُونُ خيرًا ، يَكُونُ خيرًا باعتبار زيادة الأجر.
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ } :
الاستِفهام للإقرار، والخِطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكُلّ مَن يَصِحُّ الخطابُ إِلَيْهِ
{ أَلَمْ تَعْلَمْ } :
إقرار، استِفهام للتقرير ( فَهُوَ يُقِرّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكلّ مُخاطَب مؤمن يُقِرّ )
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } :
الله عزّ وجلّ على كلّ شيء قدير ، فَلَهُ الحِكمةُ البالغة ، ولهُ القُدرةُ الكامِلة
وَهُــنــا لَمْ يُصَرِّح باليهود ، قال :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قديرٌ على أن ينتَقمَ مِن هؤلاء اليهود ، وقدير عزّ وجلّ على أنّ هؤلاء اليهود ، على أنّهم يؤمنون ، وَلَمْ يأتِ ذِكرٌ لهؤلاء اليهود .
ويُستفاد مِن هذا فائدة : أنّ تَبْيين منهَج أهل السنّة والجَماعة بإيضاحِه وتَبْيينه وبِنَشره مِن غير أن يُذْكَر المُخالِف .
وقد يُذكر المُخالِف – أيضًا – مِن باب بَيان شرِّه والتصريح باسمه مِن باب دَفْعِ ضلاله عن الناس ، لَكِنْ مِن بَيْنِ الأنواع : أنّ النَّاسَ إذا تعلّموا الْعِلْم الشرعيّ الصحيح ، فإنّه يَكُونُ في تَعلُّمهم لهذا العلم الصحيح ، يَكُونُ ردًّا على كُلّ ضالّ ، وعلى كلّ مُبْتَدِع ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَر ، وهذا يدلّ على وجوب تَعَلُّم الْعِلْمِ الشرعيّ ، فإنّ بِتَعَلُّمِه بإذن الله عزّ وجلّ تَندَفِع الشرور عن الأُمّة
{ أَلَمْ تَعْلَمْ } : كَرَّرَ ذلك للتأكيد أو لِبيان العلّة والسبب
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
يَتَصرّف بِما شاء ، وهو عزّ وجلّ لهُ الحِكمةُ البالغة في نَسخِ حُكْمٍ إلى حُكْمٍ آخَر { وَمَا لَكُم } وَلَمْ يَقُل ( وما لكَ )
{ وَمَا لَكُم } { أَلَمْ تَعْلَمْ } وإن كان خِطابًا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّه خِطابٌ يَصِحّ لكلّ مَن يَصِحّ الخِطاب له ، ولِذَلِك أتى بالجَمِع
{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } :
{ مِن } : هُنا زائدة
( مَا لَكُمْ ) الأصل : ( ما لكم وليّ ولا نصير )
و( مِن ) تُزاد عِنْدَ البَصْرِيّين في سِياق النّفي [ كما هو هُنا ]
{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } : أي وليّ يتولّى أُموركم ويأتِيكم بالخير { وَلَا نَصِيرٍ } أي يِدفع عنكم الشرّ .
فإذا اجتمعت كلمة ( الوليّ والنّصير ) ما لَكُمْ مِن دون الله مِن ( وليّ ) ينفعكم ، ولا ( نصير ) يَدفع عنكم الضُّرّ
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ } :
وهو محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } أَتريدون أنتم أيّها العَرَب ، وقد يدخل فيه كما قيل أيضًا اليهود الذين في عصره صلّى الله عليه وآله وسلّم [ ويدخل في ذلك ]
{ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } :
وموسى سُئل ، أسئلة فيها تَعنُّت ، وفي هذا تحذير للأمّة ، وتحذير للصحابة رضي الله عنهم . في ذلك تحذير للصحابة وفي ذلك تحذير للعَرَب الذين أتى إليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يسألوا الأسئلة المتعنِّتة .
ولذلك :
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه :
( إنَّمَا أَهْلَكَ مَن كان قَبلَكم كثرةُ سؤالهم ، واختلافُهم على أنبيائهم)
{ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } :
دائمًا إذا أتَتْ الباء في قضيّة البيع والشُّراء ، الباء هُوَ الثّمن ، فيكون الثّمن هنا الذي دفعوه ( هُوَ الإيمان ) والسِّلعة التي أخذوها ( الكُفر )
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } :
والتبديل هنا معناه ( البيع ) وفي هذا دليل لِـمـا ذَكَره الفقهاء مِن تعريف البيع إذ قالوا ( مُبادلةُ مالٍ بِمالٍ )
وَهُــنــا بَيع { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ }
النتيجة :
{ فَقَدْ ضَلَّ } أي تاهَ وضاعَ { سَوَاءَ السَّبِيلِ } يعني عن
{ سَوَاءَ } وسَط { السَّبِيلِ } الطريق ، الذي جعله الله عزّ وجلّ لِعِباده .
ومَن ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ! فإنّه هالكٌ لا مَحالة .
و( السَّواء ) هُوَ الوسط ، ولذلك قال بعضُ العُلماء ( كتَبْتُ كِتابًا كادَ سَوائي أن يَنْقَطِع ) يعني وسَطِي أن ينقطع
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } :
{ وَدَّ } أي أَحَبَّ محبّةً عُظْمَى { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } { كَثِيرٌ } : هُنا
في الآيات التي قَبْلَها (العُموم) { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ }
هُنا قال : { وَدَّ كَثِيرٌ } إمّا أن تكونَ كلمة { كَثِيرٌ } بمعنى الكلّ كما سَبَقَ، أَوْ أَنَّ قِلّة منهم لمّا أتى هذا الدِّين ودخَلَ فِيهِ مَن دَخَل وعَرَفوا أنّه دين حقّ سَكَتوا ، لَكِنَّ الكثرة تمَنَّوا وأَحَبُّوا
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ } :
وفي هذا تَــحْـــذيــــرٌ للمسلمين مِن أن يسيروا حيثُ سارت اليهود والنصارى
[ ولذلك قال عزّ وجلّ كما سيأتي معَنا ] { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }
ولا تظنّ أنَّك إذا داهَنتَ معهم أو أنَّك إذا اتّبعتَهم في تَرْك شيء مِن أُمور الشرع أنّهم سيَرضَون عنك ، لن يرضَوا عنك حَتَّىٰ تَخْرُجَ مِن الدِّين كُلِّيًّةً
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } يُريدون أن تَكفروا. السَّبَب { حَسَدًا }
مفعول لأجلِه أو مَصْدَر ( يَحسُدونكم حَسَدًا ) { حَسَدًا } والأوّل أظهر
{ حَسَدًا } مفعول لأجلِه. لِسَبَب الحَسَد
{ حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } تَمَكَّنَ هذا الحسَد مِن أَنْفُسِهِمْ . وإذا تَمَكَّنَ الحسد مِن النّفس أَضَرَّ بصاحِبه ، وأساءَ إلى غَيرِه .
ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة النساء :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا }
وهذه المحبّة والمودّة الناتِجة عن الحَسَد { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }
وهذا مِن أعظم الطُّغيان والضلال أن الحقَّ يَتَبيَّن للإنسان بَيانًا واضِحًا ، وَمَعَ ذلك يُعارِضُهُ وَيُرِيد الشرّ .
فَالحُجَّة قائمةٌ عَلَيْهِمْ { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } أَنتُم أيّها المسلمون معَ هؤلاء
{ فَاعْفُوا } العَفْو إذا أتى معَ الصَّفح : فالعَفو ( تَرْك المؤاخَذَة على الــذَّنـب)، والصَّفح ( الإعراض عنه حَتَّىٰ لا يبقى في النّفْس )
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } :
وَلَوْ قيل : لَوْ قال ( واصفَحوا ) لَدَخَل العفو معهُ ، لَكِنْ أتى بهِ للتّدرّج ؛ لأنّ النُّفُوس ( نفوس المؤمنين ) تحتاج لأن يُتَدرّج بها مِن العَفو إلى الأعلى
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } أي حتّى يَأذن الله عزّ وجلّ لَكُم بِمُقاتلة هؤلاء أو بِالجِهاد .
ولذلك بعضُ المُفسِّرين يقول هذه الآية مَنْسوخة بِآية السَّيف أَوْ بِآيات الجِهاد أَوْ بِآيات القِتال .
والذي أراه وهو قَوْل لبعضِ أهل الْعِلْمِ أنّ هذه الآية وغيرَها مِن الآيات لَيْسَتْ مَنسوخة ، وإنّما تُنَزَّل على حال دون حال ، فَــمَـــنْ حالُه في هذا الزّمن أَوْ في غَيرِه ، فَــمَـــنْ حــالُـــه كَحال الصّحابة رضي الله عنهم في أوّل الأمر ، فَلْيَفْعَل هذا الْأَمْـــر ؛ حَتَّىٰ يَتَقَوّى ، ولذلك قال { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قادِر على أن يُهلِكَهم ، وقادِر على أنّهم يؤمنون
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } :
أرْشَدَهم إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ( إقامة الصلاة ) حقّ لله ، (إيتاء الزَّكاة ) حقّ للغَيْر .
{ فَاعْفُوا } أَمَرَهم بالعفْو والصَّفح في مِثْل هذه الحالة ، حتى يأتي الله عزّ وجلّ بأمره بالجِهاد أَمَرَهم بِأَمْرٍ آخر وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
ولذلك المسلمون في مِثْل هذا الزّمن ، إذا لَمْ يَكُنْ هناك جِهاد ، ويَرَوْن أعداء الدِّين وما شابه ذلك ، لأنّ الجِهاد له شروطُه : إِذْن وَليّ أمر المسلمين … المهمّ الجِهاد الشرعيّ . ومِن ثَمّ فإنّ على المسلم أن تكون حالُه كَحال هؤلاء الصحابة ، لَكِنْ لا يأتي كما يفعل البعض في المَجالِس ويتحدّث ويفعل ويفعل ويتكلّم ، أو أنّه يتصرّف بتصرُّفات ما تُفيده ، تَجِدْ أنّه يَضيع مِنهُ الزّمن ، وهوَ لَمْ يَتعلّم العِلم الشرعيّ ، وَلَمْ يَعبُد الله حقّ عِبادته .
إِذَن الإرشاد هُنا في أي حال مِن أحوال المسلمين ؟
في حال الضَّعْف هُنا . هُنا عليهم أن يَنتَظروا حتّى يَأذَن الله عزّ وجلّ بِأمرِه عزّ وجلّ ، فيَحصُل الجِهاد الشرعيّ ، ويكون الإنسان يُجاهِد نفسَه . في مِثْل هذه المَرحلَة يُجاهِد نفسَه { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }
ثُمَّ قال { وَمَا تُقَدِّمُوا } :
{ ما } هُنا شرطيّة ، { تُقَدِّمُوا } جُزِم فِعلُ الشَّرط { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } لَمْ يَقُل تَجِدونه ؛ لأنّه جواب الشرط
{ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } ما يَضيعُ شيء { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تَضَمّنَت أمرًا ونَهْيًا وَوَعدًا وَوَعيدًا
{ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } :
إِذَن ما الذي يَلْزَمُكم ؟ أن تَأْتَمِروا بِأمْرِ الله عزّ وجلّ ، وإذا فَعَلتُم حَصَلَ لَكُم الوَعد والنّعيم ، وتَضَمّنَت النَّهْي عن فِعل ما يُسخِط الله عزّ وجلّ ، فإن اقْتَرفَ الإنسان ، فإنّ هُناك وعيدًا شديدًا له .
{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }
{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا } :
( هُنا ) في قَولهم { لَن يَدْخُلَ } نَفْي { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }
{ أَوْ } : للتَقسيم ، بِمَعْنَىٰ أنّ اليهود قالوا : لن يدخل الجنّة إلّا مَن كان يهوديًّا، والنّصارى قالت : لن يدخل الجنّة إلّا مَن كان نصرانيًّا
{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } :
أي هذه أماني تَمَنَّوها ، وهي باطلة ، وذلك كما قال عزّ وجلّ على أَحَد وُجوه التفسير كما مرّ معنا :
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } مُجرّد أمانيّ .
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } :
هَاتُوا البُرهان والدّليل والحُجّة على ما ذكرتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما زعمتم .
ومِن ثَمَّ فإنّه كما يَلزَم مَن أثبَتَ حُكْمًا أن يَـــأْتِـــيَ بالدّليل ، كذلك مَن نَفَى حُكمًا فإنّه يُـلْــزَم بالدّليل لهذه الآية . ولِذا لَوْ قال شخـصٌ عن شخص إنّه ليس مِن أهل السنّة ، أو هذا الشخص ليس بِسَلَفيّ ، فَيُقال : أنتَ نَفيْتَ فَأْتِ بِالبُرهان ، ثُمَّ إذا أَتَيْتَ بهذا البرهان ، هل هُوَ بُرهانٌ قوِيّ أم أنّه غيرُ قويّ ؟
{ بَلَى } :
أي ليس الْأَمْـرُ كما زَعَمَتْهُ اليهود ، ولا كما زَعَمَتْهُ النصارى { مَنْ أَسْلَمَ} وَصْفٌ عامّ { مَنْ أَسْلَمَ } أي أخْلصَ { وَجْهَهُ لِلَّهِ } وذَكَرَ الْــوَجْــه هُنا ؛ لأنّه أشرف أعضاء الإنسان
{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } :
{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } :
هذه تدلّ على وجوب الإخلاص لله عزّ وجلّ { وَهُوَ مُحْسِنٌ } تدلّ على وجوب اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
وَهُــنــا فيه الــتَّــحْــذِيــــر مِن الْــبِـــــدَعِ . وأنّ مَن عَمِل عَمَلًا يرجو به ثواب الله لكنّه ليس بِمُحسِن ، ليس على طريقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنّ عبادته وفِعلَه مَردود ، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في الصّحيحيْن :
( مَن أحدثَ في أُمرنا هذا ما ليسَ مِنهُ فَهُوَ ردّ )
{ فَلَهُ أَجْرُهُ } :
أي مَن أخلصَ لله واتَّبَع في هذا العمل طريقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { فَلَهُ أَجْرُهُ } أي ثوابُه { عِندَ رَبِّهِ } وما كان مِن عند الله عزّ وجلّ فَهُوَ ثواب عظيم ، وقال { فَلَهُ أَجْرُهُ } بِصيغة الإفراد ، باعتِبار لفظة
{ مَن }
ثُمَّ قال بعد ذلك { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } وَلَمْ يَقُل ( ولا خوفٌ عليه ) باعتبار معنَى { مَنْ } لأنّ ( مَن ) مِن صِيَغ العُموم ، فقوله { فَلَهُ أَجْرُهُ } رَدٌّ على لفظة { مَنْ } ، ( فلا خَوْفٌ عليهم ) باعتبار مَعْنى ( مَنْ )
{ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } :
وفي هذا نَفْيٌ لِلخَوف عنهم في جميع الأزمان { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي على ما مَضى مِنْهُم ، لأنّ ( الخَوف ) نَفيٌ لما يَخشاهُ الإنسان ممّا يُستقبَل ، و( الحُزن ) شَيْءٌ مرّ بالإنسان فيَتذكّرُه .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } :
اليهود حَكَمَتْ على النصارى بأنّها ليست على طريقةٍ حَسَنَة ، ومِن ثَمَّ فإنّهم لمّا قالوا ( ليسوا على شيء ) فَفِي هذا تكفيرٌ لَهُم ، فدلّ هذا على أنّ التَّكْفير مَوجود حَتَّىٰ في الأُمَم السَّابِقة
{ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } :
وهذا على وَجْه العُموم ، ويَدخُل فيه ما قيل مِن أنّ نصارى نَجران لمّا أَتَوا إلى المدينة والتَقَوا بِيَهود المدينة ، قالت اليهودُ هذا القَول ، وقالت النصارى هذا القَول .
قال الله عزّ وجلّ :{ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يَعْني أنّ هذا الحُكْم حَكَموا به مِن تِلقاء أنفسهم ، وإلّا فَفِي كُتُبِهم ليسَ هذا الحُكْم ، وإنّما الحُكْمُ عِنْدَ الله عزّ وجلّ كما مرّ في الآية السَّابِقة :
{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } :
أي مِثْل هذا القَول : { قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } أي كُفَّار قُرَيْش ، ويَدخُل في ذلك أيضًا قَوْل مَن يقول بأنّ ( مَن لا يَعْلَم ) هُــمُ الأُمَم السابقة
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } :
ثُمَّ قال { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } : مِن باب التأكيد ، لأنّه لو اقتَصَر فقال :
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } لَكَانَ الوصفُ صادِقًا عليهم في المِثْليّة ، فَلَمَّا قال { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } دلّ على التأكيد
{ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } :
هؤلاء النَّصَارَى قالت : { لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } واليهود قالت كذلك لِلنصارى ، فَاللهُ عزّ وجلّ يَحْكُمُ بَيْنَهم يوم القيامة حُكْمًا مِن عندِه عزّ وجلّ ، وهوَ حُكمُه الجَزائيّ جلّ وعلا في يوم القيامة
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ } : استِفهام بِمَعنى النّفْي ، أي لا أحد أظلم { مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } فدلّ هذا على أنّ المساجِد إنّما بُنِيَت لِما بُنِيَت لهُ مِن ذِكْر الله عزّ وجلّ ، ولِذا قال عزّ وجلّ في سورة النور { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }
وقولُه هُنا مَسَاجِد { مَسَاجِدَ اللَّهِ } :
وهذه الآيةُ اخْتلَف المفسِّرون :
{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) }
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ولذلك قال هُنا :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } بِصيغة الجمع
{ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } :
يعني مَنَع أن يُذكَرَ اسمُ الله عزّ وجلّ في ذلك ، أي في هذه المساجد
{ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } لأنّ المساجد إنّما أُريدَ منها أن تُعْمَر ، تُعْمَر حِسِّيًّا ، وتُعْمَر مَعْنَوِيًّا بِالطاعة :
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
{ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } :
إمّا بِهَدمِها ، وإمَّا بِمَنعِ المسلمين مِن إقامة شعائر الله عزّ وجلّ فيها :
{ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ }
ثُمَّ لِيُعلَم أنّه لَوْ أُغْلِقت المساجِدُ مِن باب المُحافظة عليها بعد الفراغ مِن الصلوات ، وذلك حَسَب اختِلاف الأزمان فإنّه لا يَدْخُل ضِمن هذه الآية ؛ لأنّ المَقْصودَ مِن إغلاقِها إنّما المقصود لِمَصلحتها ، وهذا يَختَلِف باختلاف الأحوال وباختِلاف الأماكن وباختِلاف الأزمان .
{ أُولَئِكَ } :
أي الذين مَنَعوا مساجد الله وسَعَوا في الخراب :
{ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ } :
أي قَدَرًا لَوْلا ظُلْم الظَّلَمة الذين لَمْ يُمَكُّنوا أَهْلَ الْخَيْر مِنْهَا ، ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في السنة التاسعة مِن الهجرة بَعَثَ ألّا يَحُجّ بعد هذا العام مُشْرِك وألّا يطوف بِالبيت عُرْيان ، ويَدخلُ أيضًا :{ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ } يَعْنِي خَوِّفوا مَن أرادَ أن يدخلَ فِيها .
{ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } :
عِقابهم في الدنيا الخِزي ، فَوَقَعَ ما وقعَ للنّصارى ، كما قال العُلماء : مِن أنّهم بعد معاونتهم لِبُختنصَّر البابِليّ مِن أنّهم لا يدخلون بيت المقدِس إلّا والخوفُ قَدْ ملَأ قلوبَهم ، وَأَمَّا بالنِّسبة إلى كُفَّار قريش فَهُوَ ما وقعَ لِكفّار قريش مِن الْخِزْي في فتح مكّة ، فإنّهم بَعد ما فتحَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّة أصبَحوا بِمثابة .. بل إنّهم خائفون مِن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حَتَّىٰ مَنَّ عليهم.
{ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } :
وَصَفَ العذابَ هُنا بأنّه عظيم ، وذلك لِعِظَم ما فَعَلُوه ، لِأَنَّ مِن أعظم الذُّنوب أن يُمنَعَ الناس مِن مساجد الله عزّ وجلّ أن يذكرَ فيها اسمه ، وأن تُخرَّب بيوتُ الله عزّ وجلّ .
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } :
لهُ مُلْك المَشْرِق والمَغْرب ، ويدلّ هذا على أنّه مالِكٌ جلّ وعلا لِجميع الْجِهَات
{ فَأَيْنَمَا } : وأوّل الآية يدلّ على العُموم
{ فَأَيْنَمَا } :
أينَ : اسم شرط يدلّ على العُموم : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } وفي هذا إثبات صفة الوَجْه لله عزّ وجلّ بِمَا يليق بِجَلاله وبِعظمته ، ودلّ على ذلك أَكْثَر مِن خمسةٍ وعشرين دليلًا لإثبات أنّ الوَجه صِفةٌ مِن صفاته عزّ وجلّ ، لَكِنَّ أهل السنّة اختلفوا في هذه الآية .
بعضُ أهل السنّة كَمُجاهِد والشافعيّ قال :{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } أي القِبْلَة ، مع أنّ مُجاهِد والشافعيّ يُثبِتون أنّ للهِ عزّ وجلّ وجهًا يليق بِجلاله وبِعَظَمته ، ومع ذلك فالآية لا تدلّ على ما ذهبوا إِلَيْهِ ؛ لأنّه ليس هُنا ذِكرٌ لِما يتعلّق بالقِبلة ، وإنّما الآية في أسلوبها تدلّ على العُموم :{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } وأتى باسم الشَّرْق الذي يدلّ على العُموم : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
وفي خِتام الآية :{ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } :
يدلّ على السَّعَة ، فَهُوَ جلّ وعلا { وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فعِلْمه وَسِع كُلّ شيء ، فَـمَنْ توجَّه إلى الله عزّ وجلّ في أيّ مكان وفي أيّ زمان فإنّ الله عزّ وجلّ عالِمٌ بِحاله ويَسمعُ قَولَه ، ولذلك كما قال عزّ وجلّ { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
وإذا عَلِمَ العَبْدُ أنّ الله سميعٌ عليمٌ اطمأنّت نفسُه وتفاءل وحَسُنَ ظنُّه بالله عزّ وجلّ
{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } :
حَتَّى لَوْ قيل على القول الآخر { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } مِن أنّه القِبلة ، فلا شكّ أنّ مَن صلّى وتوجَّه إلى القِبلة ، فإنّه يتوجَّه إلى الله ، ولذا في الحديث في الصحيح ، مِن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ( إذا صلّى أحدُكم فلا يَبْصُق تِلقاء وجْهِه ؛ فإنّ الله قِبَل وجْهه ) لَكِنَّ الآيةَ تدلّ على إثبات صِـفَـة الوجه لله عزّ وجلّ
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } مَن ؟
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ } :
تنزيه لله عزّ وجلّ عمّا لا يليق به ، وَمِمَّا لا يليق به أن يُنسَب إليه الولد
{ سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
وهو مالِكٌ لما في السموات والأرض .
والأُبُوّة تَتَنافى مع المِلكيّة ، ولذلك حَتَّىٰ أهل الْعِلْمِ استدلّ بعضُهم بهذه الآية مِن أنّ الأب لَو مَلَك ابنَه الرَّقيق فإنّه يعتُقُ عليه ، ولله المثل الأعلى ، وذلك لأنّ الأُبُوَّة لا تتوافق مع الملكيّة .
وقد دلّت الأحاديث الصحيحة على هذا الحُكْم الشرعيّ .
ولذلك إذا نفَى اللهُ عزّ وجلّ عن نفسه الولد وردّ على هؤلاء ، تَجِد أنّه يَذْكرُ عزّ وجلّ أنّ له مُلْك السموات والأرض . ولذلك قال بعدها : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } كُلّ الخَلْق { قَانِتُونَ } خاضِعون مُتَذلِّلون ( فالقُنوت ) هُنا هُو بمعنى التذلّل والخضوع .
وَأَمَّا ما جاء في مُسند الإمام أحمد مِن أنّ كُلّ حَرْفٍ في كتاب الله وهو القنوت يدلّ على الطاعة فإنّه حديثٌ لا يصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فالقُنوت له معانٍ متعدّدة في القرآن . ( هُنا ) القنوت العام . كُلّ الخَلْق المؤمن والكافر كُلٌّ له قانِتون ذليلون خاضِعون ، كما قال عزّ وجلّ :
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
أي مُنشِئُهُما على غَيرِ مِثال سابق ، وذلك لأنّ البديع في اللغة العربيّة هو المُنشئ لِشَيء على غَير مِثالٍ سابق.
ولذلك :
( البِدعة ) بِمَا أنّ مَن أتى بِها لَمْ يأتِ بها على أصلٍ ، وإنّما أَحدثَها في دِين الله عزّ وجلّ سُمِّي بأنّه مُبْتَدِع
ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال كما في الصحيحين ( مَن أحدثَ في أُمرنا هذا ما ليس منه فَهُوَ ردّ ) وَلـَمَّا قد يُتَوَهَّم مِنْ أنّ مَن عَمِل بِها لا يَدخلُ في الذَّم أتَتْ رِواية مسلم ( مَن عَمِل عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فَهُوَ ردّ )
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
أي مُنشئ السموات والأرض على غَير مِثالٍ سابق ، كيف يكون له ولد .
ولذلك في سورة الأَنْعَام :
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } أي زوجة: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فَهُوَ جلّ وعلا إذا أراد شيئًا قال له ( كُن ) فيكون ذلك الشيء .
ومِن ثَمَّ فإنّ في هذا رَدًّا على النصارى الذين قالوا – ورَدًّا على غيرهم – الذين قالوا مِن أنّ عيسى ابنُ الله
ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة آل عِمْران :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } النِّهاية ، نِهاية الآية { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فيتَوافق ما في سورة آل عمران مع هُنا .
{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } :
ومِن ثَمَّ فِإنّ بعضًا مِن الناس يقول ( يا مَن أَمرُه بين الكاف والنون ) وهذا خطأ ، وإنّما الصواب إذا أراد أن يقول هذا القَول ، إنّما يقول ( يا مَن أمره بعد الكاف والنون ) وليس بَين الكاف والنون ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
ثُمَّ إنّ قولَه ( بينَ الكاف والنون ) كنْ : الكاف حرفٌ ليسَ فِعلًا ، النُّون : حرف ليسَ فِعلًا . فكيف يكون هذا الشيء بَين الكاف وبَين النُّون؟
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } :
وَهُم كُفَّار قريش ، كما هو ظَاهِر السِّياق ، ويَدخلُ فيه ضِمنًا الأُمم السابقة ؛ لأنّهم لا يعلمون { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } هَلّا {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }
يعني يقولون : يا محمّد : هلّا يُكلّمُنا الله أو تأتينا بآية كما أتى بها الأنبياء السابقون ، كناقة صالح وما شابه ذلك ، حَتَّىٰ نؤمنَ بِـكَ ، وهذا مِن التعنّت . ولذلك :
قال عزّ وجلّ عن هؤلاء :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا }
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ }:
فالقَوْل حَصَلَ مِن هؤلاء ومِن هؤلاء .
ما العِلّة ؟ مع أنّهم لَمْ يجتمِعوا معهم في زمان !
{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } :
تشابهت قلوبُهم على الكُفر وعلى الطُّغيان، ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ } ما أوصى بعضُهم بعضًا به { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) } فالطُّغيان في قلوبهم
{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } :
فالآيات واضحة ، القرآن واضِح لِــمَـنْ في قلبه يقين ، لأنّ اليقين هو العِلْم التامّ الذي يَستَلزِم العمل ، ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ :
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } كِفاية ، يكفي : أنّ هذا آية { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
لكنّ هؤلاء اقترحوا الآيات لا مِن أجل أن يؤمِنوا وَلَكِنْ هُـمْ مُتَعَنِّتون
{ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } :
وهذا يَدُلّ على ماذا ؟ يدلّ على أنّ مَن تَمعَّنَ وتَدبّرَ في آيات الله عزّ وجلّ أَوْصَلَته بإذن الله عزّ وجلّ إلى اليقين وهو العِلم التامّ .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } :
تَسْلِيةً منه جلّ وعلا لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا اقترحوا هذه المُقترحات
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ } : ما أتيتَ به هو الحقّ وليس هو الباطل ، فأنتَ على حقّ { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ }
قال تعالى :
{ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } .
وهُنا { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ } ما واجبك ؟ { بَشِيرًا } لِمَنْ أقبَلَ على الله {وَنَذِيرًا } لِمَن أعرَضَ عن الله عزّ وجلّ :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ }
{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } :
لا تُسأل عمّا فَعَلَه هؤلاء الذين أرادوا بهذه المُقترَحات والتّعنُّتات أرادوا أن يكونوا مِن أهل النار ، فهُم أصحاب الجحيم .
وَأَمَّا ما وَرَد على قراءة { وَلَا تَسْأَلْ } لأنّ قولَه { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } نافية ، { وَلَا تَسْأَلْ } نَهْي . وذلك قيل : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : يا لَيتَ شِعري ، ما حالَ أَبَوَيّ ؟ ما حالُهما ؟ فَأنزلَ الله عزّ وجلّ هذه الآية { وَلَا تَسْأَلْ عَـنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } على تِلْك القراءة ، لكنّ الحديث ضعيف . ثُمَّ أيضًا مِن حيث الْمَعْنَىٰ ، لا يتوافق باعتبار ماذا ؟ هذه الآية أتَتْ تَسليةً للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } :
رِضا اليهود والنّصارى لَن يَتِمّ ، لن يتمّ منهم لكَ إلّا بأمرٍ واحد ، وهوَ أن تَتَّبِعَ مِلّتَهم ، لَوْ تنازلتَ وتنازلْتَ وتنازلَ المسلمون ، وتنازلوا لهـؤلاء الكفّار فإنّهم لن يَرضَوا عنهم .
قال عزّ وجلّ :
{ هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } : واتّباع مِلّتِهم ، الضلال .
وقوله هُنا { حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } : وَحَّدَها ، وَحَّدَ المِلّة ، مع أنّ الضمير عائدٌ على اليهود والنصارى . ولذلك قال مَن قال مِن العُلماء : بِمَا أنّهم مِلّةٌ واحدة ، فإنّ المسلم لا يَرِث مِن الكافِر ، ولا يَرِث الكافِر مِن المُسلم ، كما ثبتَ بذلك الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
وقال بعض العلماء : بِمَا أنّهم مِلَّة واحدة ، فإنّهم يتوارثون فيما بينهم : اليهوديّ يَرِث مِن النصرانيّ ، والنصرانيّ مِن اليهوديّ ، واليهوديّ مِن المَجوسيّ ، وهكذا .
لكنّ الصواب لا يَتوارثون . لا يَتَوارث – كما ثبتَ بذلك الحديث – ( لا يَتَوارَث أَهْلُ مِلَّتَيْن شتّى ) لكنّ اليهوديّ يَرِث مِن اليهوديّ ، نَعَمْ ، النصرانيّ يَرِث من النصرانيّ ، نَعَمْ .
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } :
هذا هو الهُدى . هُدى مَن ؟ هُدَى الله ، وأضافَهُ إلى نفسه ، فما سِواه ضلال، وما أنتم عليه ضلال . فكيف أتّبِعُكُم ؟!
ثُمَّ أيضًا { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } : فَالهِدايةُ لَيْسَتْ بِيَدي حَتَّىٰ أهْدِيَكم
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :
فَما هُم عليه مِن هذه المِلّة ليست مِلَّةً صحيحة ، وإنّما هي مُجرّد أهواء
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } دلّ على أنّ ما أنتَ عليه هو العِلْم ، وأنّ ما سِواه هَوى
قال تعالى :
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }
فَالهُدى هُوَ خِلاف ما هُوَ عليه هؤلاء مِن الضلال
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :
الخِطاب مُوَجَّه للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وحاشاه أن يَتَّبع هؤلاء ، لكنّه خِطابٌ لِغَيره ، فإذا كان هذا الخِطاب مُوَجَّهًا لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولن يَفْعَل حاشاه عليه الصلاة والسلام ، فما ظَنُّك بِمَن هُوَ دونَه مِن الأُمّة.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :
دَلّ على أنّ دِينَهُم هَوى { بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ } صرّح باسم المَوْصول ، وَلَمْ يَقُل ( بعدَ ما ) المَوصُوليّة ، أتى بِـ ( الّــذي ) الدّالة على التصريح
{ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } :
يحفظُك، ويأتي إليك بِالخير { وَلَا نَصِيرٍ } أي ينصرك ويدفع عنك الضُّرّ والشَّرّ
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :
لمّا ذَكَرَ حالَ هؤلاء وما زعموه أنّهم على هُدى بَيَّنَ عزّ وجلّ أنّ الذي على الهُدى هو الذي يتلو الكِتاب ، سواءٌ كان مِن الأُمم السابقة مِن اليهود والنّصارى أو مِن المسلمين
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } :
{ الْكِتَابَ } : شامل لِلتوراة والإنجيل والقرآن
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :
{ يَتْلُونَهُ } : يتلونَه : يعني يتّبعونه حقّ تِلاوتِه ، فالتِّلاوة هُنا : الاتِّباع . كما قال عزّ وجلّ { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } يعني إذا تَبِعَ الشمس
{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :
ويَتضمّن ذلك ما ذَكَرَه بعض المفسِّرين مِن أنّهم إذا مَرّوا بِآية سؤال سألوا ، وإذا مَرّوا باستِعاذة بآية استعادة استعاذوا
{ أُولَئِكَ } مَن يتلوهُ حقّ تِلاوتِه { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، ما سِوى هؤلاء فلَيْسوا بِمؤمنين ، ولذلك خَتَمَ الآية بِقَوله
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } والخُسران مصيره إلى النار .
ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة هود :
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا } :
رَجَعَ السِّياق إلى اليهود ، يُذَكّرُهم مِن أنّهم مِن صُلب إسرائيل ( الذي هو يعقوب ) الذي أطاع الله
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
مرّ معنا تفسيرها ، لكنّها كُرِّرَت مِن باب تذكير هؤلاء بِماذا ؟ بِعِظَم نِعَم الله عزّ وجلّ عليهم .
{ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
والعالمون: مرّ علينا مَن هُـم العالَمون بالنِّسبة إلى ما ذُكِر في هذه الآية .
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :
ذَكَّرَهم بأنّ هُناك يومًا سيُحاسِبُهم الله عزّ وجلّ { وَاتَّقُوا يَوْمًا } ومَرَّت هذه الآية
{ لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } :
مَرَّت هذه الآية ، لَكِنْ هذه الآية اختلفت عن الآية السابقة :
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ }
باعتِبار أنّ الناس يتَفاوَتون مِن حيث مايَنتَفِعون بهِ في هذه الدُّنيا مِن هذه الأمور الثلاثة : الشّفاعة (يعني الوساطة)، والفِداء (المال)، والنُّصرة
فَبعضُ الناس ربّما يُقدّم – باختِلاف حالِه، يُـقَـدِّم مِن أجْلِ أن يَدفعَ عنه الضُّرّ أو يَحصُل له الخير- يُـقـدِّم الشفاعة، وبعضهم قد يُـقـدِّم المال.
وبِذا أتى الاختلاف في سياق هذه الآية عن الآية السابقة .
ممّا يدلّ على أنّه في يوم القيامة ، ما تَنتَصِرون به في هذه الدنيا مِن الشفاعة وما تنتفعون به في هذه الدنيا مِن الشفاعة ومن المال وهو الفِداء ومِن الانتِصار لن يكونَ لكُم يوم القيامة
قال تعالى :
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } :
أتى ذِكْر إبراهيم هُنا مِن باب أن يُذكِّر الْعَرَب الذين لَمْ يؤمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنّهم كانوا يفتخِرون بِأَنَّهُمْ على عقيدة إبراهيم أو أنّ إبراهيم يجعلون له منزلةً عندهم ، وفيه أيضًا تذكيرٌ لليهود والنصارى الذين يعظِّمون إبراهيم ، فَذِكرُه مِن باب تذكير هؤلاء : إن كُنتُم تَتّبعون إبراهيم فَعَلَيكم أن تؤمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أُمِر باتّباع إبراهيم
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ولذلك ردّ الله عزّ وجلّ عليهم :
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
ولذلك :
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أُمِر كما في سورة الأَنْعَام :
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا }
وأنتم يا هؤلاء لستم مُتّبِعين لإبراهيم عليه السلام
{ وَإِذِ ابْتَلَى } أي اختَبَر { إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } المُبْتلِي هو الله عزّ وجلّ . ابتَلى مَن ؟ إبراهيم
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } :
{ بِكَلِمَاتٍ } :
ما هِيَ تلك الكلمات ؟ اختُلِف فيها اختِلافًا كثيرًا .
والصواب :
أنّ إبراهيم عليه السلام ابتُلِيَ بِكلمات الله القَدَرِيَّة وبِكلِمات الله الشرعيّة
ابتُلِيَ بِكلمات الله القَدَرِيَّة :
أُمِر بِذَبْحِ ابنه ، أُمِر بِالهِجرة ، وبِمُفارَقَةِ أبيه وَقَوْمه
ابْتُلِيَ بأمور شرعيّة :
وذلك بِبناء البيت ، وذلك بِخصال الفِطرة .
فكلمة ( كَلِمَات ) تشمل كلّ ما ابْتُـلِيَ به إبراهيم مِن الكلمات القدَرِيّة والشرعية .
{ فَأَتَمَّهُنَّ } قام بِهنّ ، قام بهذه الكلمات على أحسن ما يكون ، ومَن أحبَّ إبراهيم ، أَوْ قال إنّي مُتّبع لإبراهيم فَلْيَفعل ولْيَصنع كما صنعَ إبراهيم
قال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } : أي قُدوة .
{ إِمَامًا } :
قدوة ، يُقتَدى بِك في الخير . وهذا إن دلّ ، يدلّ على أنّ الإنسان يَصِل إلى الإمامة في الدِّين بعد الامتِحان والابتِلاء . قال عزّ وجلّ – لأنّ الإمامة في الدِّين لا تكون إلّا عن طريق الصَّبر واليقين ، الصبر واليقين –
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فابْتُلِي إبراهيم ، وأتمّ ما ابْتُلِي به فصارَ إمامًا
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } :
وهذا يدلّ على أنّ الأب يحبّ أن يَظفَرَ أبناؤُه بِمِثْلِ ما يَظفَرُ به مِن الخير والطاعة والعمل الصالح ، ولذلك في قوله عزّ وجلّ :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }
قال بعض المفسِّرين : المقصود مِن ذلك مِن أَنَّ الآباء يَرَوْن ما تَقِرُّ به أعيُنُهم إذ يَرَوْن أبناءهم وهم مُطيعون لله عزّ وجلّ
{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } :
{ لَا يَنَالُ عَهْدِي } :
يعني الإمامة ، لا ينالُها الظالمون . فالظَّالِم لا يكون إمامًا في الدِّين . وكذلك لا ينال عهد الله عزّ وجلّ في يوم القيامة ، إذ إنّ مصير هذا الظالم إن كان كافِرًا مصيرَه إلى النار ، لأنّ أعظمَ الظلم هو الشرك بالله عزّ وجلّ . ولا يكون إمامًا في الدنيا إذا كان كافرًا ، وكذلك إذا كان مسلمًا لَكِنّه ظالم .
وقد أَخذَ مِن هذه الآية { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أخَذَ مِن هذه الآية ، أخذ الخوارِج أنّه إذا كان الوالي ظالِمًا فاسقًا فإنّه يُخرَجُ عليه . وهذا لا دليل لهم فيه البتّة ، وذلك لأنّهم يقولون إذا فَسَق أو ظَلَم فإنّه يُخرَج عليه ويُعزَل .
ومُعتقد أهل الـسُّـنَّـة والجماعة مِن أنّ الوالي ولو فَسَق ولو ظَلَم ولو جارَ فإنّه لا يُخرَج عليه ؛ لأنّه لو خُرِج عليه لترتّبَت على ذلك مفاسِدُ عظيمة . والواقِع يَشهد بهذا .
فَالآية لا تُسعِفُهم أصلًا .
ثُمَّ إنّه في أصل الآية : { قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } وَلَمْ يَقُل إذا نالَ العهد ثُمَّ ظَلَم أنّه يُخرَج عليه ، أو أنّه لا عهد له
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } :
أي الكعبة . كما قال تعالى في سورة المائدة :
{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً } :
أي يثوبون ويرجِعون إِلَيْهِ ، فما مِن شخص يَخرُجُ مِنهُ إلّا ونفسُه تُريدُ أن تعودَ إِلَيْهِ
فَهُوَ { مَثَابَةً } أي يعود الناس إِلَيْهِ ويرجعون إِلَيْهِ ، وأيضًا هو مَجمَع للناس .
قال تعالى :
{ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }
{ وَأَمْنًا } : أي ذَا أمن .
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } :
أخَذَ مِن هذه الآية بعض العلماء مع فِــعْــل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقِراءته لهذه الآية ، قالوا : لمّا صلّى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خَلْف المقام ، قالوا إنّ رَكْعَتي الطواف واجبة ؛ لقوله : ( خُذُوا عنّي مناسِكَكم )
والذي يظهر هو قول الجُمهور :
مِن أنّها سُنّة ، وذلك للقراءة الأخرى التي ليس بِها أَمْـر { وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } إضافةً إلى أنّ اتِّخاذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لِمَقام إبراهيم مُصلَّى إنّما هو عن رأيٍ قاله عُمَر رضي الله عنه . فحصلَ أمرُ الله مُوافَقةً لعُمَر أو العَكس .
ولذلك :
قال عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه ، قال ( وافَقْتُ ربّي أو – الشكّ مِن الراوي ليس منّي – أَوْ وافَقَني ربّي )
( وافقْتُ ربّي أَوْ وافَقَني ربّي في ثلاث ) ثمّ ذَكَرَ ، قال :
( قلتُ يا رسولَ الله : لَوْ اتّخذتَ مَقام إبراهيم مُصلَّى ) .
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } :
وهذا المَقام كان قريبًا مِن الكعبة ، و ذلك لمّا ارتَفعَ البِناء ، أراد إبراهيم عليه السلام أن يكونَ على عُلُوّ ، فَأُتِيَ بهِ هذا المَقام ، أو هذا الحَجَر ، حتى جَعَلَ الله عزّ وجلّ فيه آية ، وهي مَوضع قَدَمَيه ، وهو موضع قدميه .
ولذلك كان يدور به كلّما أرادَ أن يرفع البناء . وهذا المقام أَخَّـرَهُ عمر رضي الله عنه ، وذلك بأنّ الصحابة لَمْ يُخالِفوه . ولَعلّ الأمر في ذلك ، لأنّه قال ( وافقتُ ربّي أو وافَقَني ربّي في ثلاث ، وذكر هذا الأمر : مِن أنّه لمّا حصلت الموافقة وأخَذَ المَقام قريبًا مِن الكعبة إلى هذا المكان ، دلّ هذا على أنّ الصحابة رضي الله عنهم ، رَأَوْا أنّه على حقّ وعلى صواب.
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } :
ولذلك صلّى خَلفَهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعتين
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } :
قالَ :{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وَلَمْ يَقُل تمسّحوا بِمقام إبراهيم كما يفعله بعض مِن الناس في هذا الزّمن ، لأنّ هذا التَّمسُّح وهذا التبرُّك وسيلة مِن وسائل الشرك ، ولا يجوز في شرع الله عزّ وجلّ
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } :
مَقَام إبراهيم ، أضافَ المَقام إلى إبراهيم تشريفًا لهذا المَقام الذي يكون أيضًا تشريفًا لِإبراهيمَ عليه السلام .
وقد قال بعض العلماء : إنّ المَقام هُنا لا يُحصَر على المَقام المعروف الآن ، وإنّما المقصود مِن مقام إبراهيم مَشاعِر ومَناسِك وأماكِن الحجّ كَعَرفات ومِنى وما شابهَ ذلك
هذا وإن قِيل به فَهُوَ قَوْل مُعْتَبَر ، ولكن الظاهِر مِن السِّياق أنّ المَقام هُوَ المَقام المعروف ، ويدخل هذا ضِمنًا .
لَكِنْ إذا قيل بهذا القول { وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ليس معنى ذلك أنّه يُؤتى إلى عرفة وإلى مِنى ويُصلّى فيها ، وإنّما المقصود { وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } معنى { مُصَلًّى } أي مُتَعبَّدًا ، أي تَتَعبّدون الله عزّ وجلّ بِمَا – بِشَرط – بِمَا شرعه عزّ وجلّ لكم في مناسك الحجّ
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } :
عَدَّ { عَهِدْنَا } بِـ { إِلَى } لِكَيْ يَتضمّن الوَحْي { وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } فيكون العَهد منه جلّ وعلا إلى إبراهيم بالوحْي وبِالأمر
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا } :
{ أَن } : تفسيريّة ، لأنّ ضابِط ( أن ) التفسيريّة أن يَـــأْتِـــيَ قَبلها ما يدلّ على معنى القول لا على حروفه ، لأنّ العهد يدلّ على معنى القول ، يَتضمّن القول ، وليس هو قولًا { أَن } ما هو هذا العهد ؟ مُفسّر ( كلمة أن ) تُفَسِّر هذا العهد الذي بَعدَه.
{ طَهِّرَا بَيْتِيَ } :
طَهِّراه مِن الأَنْجاس المعنَوِيّة كالشرك والبِدَع ، والأنجاس الحِسّيّة مِن القاذورات .
وأيضًا لِيَكُن فِعلُكما هذا على طهارةٍ منكما مِن الشرك ومِن ما يُـخــالِــفُ شرع الله عزّ وجلّ
{ بَيْتِيَ } أضاف ( البيت ) إِلَيْهِ جلّ وعلا تشريفًا لهذا البيت ، كما أضاف عزّ وجلّ ( الناقة ) { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } مِن باب إضافة المَخلوق إلى خالقِه تشريفًا لهذا المخلوق
{ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } :
الذين يطوفون حول البيت ، وقَدَّمَهم في الذِّكر ؛ لأنّ ألصَق ما يكون بالبيت مِن الْعِبَادَاتِ ( الطواف )
{ وَالْعَاكِفِينَ } : وهُو مَن يَعْتَكِف
{ وَالرُّكَّعِ } : مَن يَركَع ، والمَقصود الصلاة
{ السُّجُودِ } : هو السجود المعروف ، والمقصود مِن ذلك الصلاة .
وأتى بها مُرَتَّبة :
– { لِلطَّائِفِينَ } :
لأنّ الطواف لا يَصِحّ إلّا بالكَعبة ، ولذلك ليسَ هُناك شيء يُطاف به على وَجْه الأرض إلّا الكعبة ، ما عدا ذلك فَـلَـيْـسَ مِن شرع الله ، ومُخالِف للتوحيد .
– ثُمَّ ذَكَرَ { الْعَاكِفِينَ } لِمَ ؟ لأنّ الاعــتـِــكــاف يَصِحّ في كلّ مسجد ، ولا يَلزَم في المسجد الْحَرَام
– { الرُّكَّعِ السُّجُودِ } :
المقصود مِن ذلك الصلاة ، فالصلاة تَصِحّ في أي مكان . قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ( جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا )
وقال هُنا { لِلطَّائِفِينَ } عَطَفَ { وَالْعَاكِفِينَ }
{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } :
لَمْ يعطِف ؛ لأنّهما في عِبادة واحدة وهي الصلاة ، وخالَفَ بَين لفظ
{ الرُّكَّعِ السُّجُودِ } ولم يَقُل ( السُّجَّد ) لعلّ ذلك مِن باب تَنَوُّع الأسلوب .
وَلَمْ يَذكُر القِيام ، لأنّ الركوع والسجود لا يَتِمّ إلّا بِالقيام ، ولذلك ذَكَرَه عزّ وجلّ في سورة الحجّ :
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
وبعض المفسِّرين قال : { لِلطَّائِفِينَ } أي مَن أتى مِن الغُرَباء خارِج مكّة { وَالْعَاكِفِينَ } هُوَ مَن كان في أهل مكّة وكان ساكنًا في مكّة ، وهذا يَدخُلُ ضِمنًا .
وَمِمَّا يؤيّده قوله عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
( الْعَاكِفُ ) يعني المُقِيم
( الْبَادِ ) الغريب الذي يأتي إِلَيْهِ .
فلا تَعارُض بين القَوْلَين .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } :
هُنا دُعــاء مِن إبراهيم عليه السلام . لمّا بَيَّن عزّ وجلّ لإبراهيم عِظَم هذا البيت وأنّه مأمورٌ بِأن يُطَهَّر هذا البيت للطائفين والعاكفين والرّكّع السجود. هُنا دعا إبراهيم .
وَهُنا لَفْتَة :
في الآية السابقة :
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
فإنّه ما يَحدُث في هذا العصر مِن التصوير عند الكعبة ، وأَخْذ الصُّوَر على أنّها ذِكرى أو ما شابهَ ذلك ، هذا ليسَ مِن تطهير البيت الْحَرَام .
وينبغي للمسلمين ، بل يَجِب على هؤلاء الذين يُصَوِّرون أن يتّقوا الله عزّ وجلّ ، وألّا يفعلوا هذا الصَّنيع في بيت الله عزّ وجلّ .
والتصوير أقسامه وأنواعه بَيَّنتُها في غير هذا المَوطِن . ما يجوز منه ومالا يجوز .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } :
هُنا دَعا إبراهيم ، لمّا بَيَّنَ الله عزّ وجلّ لهُ فَضْـل هذا المكان ، وما يكون لهذا المكان مِن الفضل .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } دَعا هُنا
في سورة إبراهيم :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ }
أتى بكلمة { الْبَلَدَ } مُحَلّاة بالألِف واللّام .
هُنا قال { بَلَدًا }
فقال بعض العلماء : إنّ هذا مِن باب التِّكرار والإلحاح في الدّعاء مِن إبراهيم ، دعا الله مرّتين مِن باب التِّكرار .
وَلَكِنْ الذي يظهر أنّ الـدَّعـوة هُنا في سورة البقرة :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا }
قَبْلَ أن يَبنيَ هذا البيت ، دعا له قَبْلَ أن يبنيَ هذا البيت .
وذلك لأنّ هذا البيت كما جاء في الأحاديث الصحيحة كان ــ لمّا وَضَع إبراهيمُ عليه السلام وَضَعَ هاجرَ وابنَها إسماعيل- كان أَكمَة ، يعني رَبوة مُرتَفِعة
لمّا أرادَ أن يبنيَ هذا البيت -على ظاهر السِّياق- دعا قبل أن يَبنِيَه ، بِدَليل ما بَعده مِن آيات :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
بينما في سورة إبراهيم ، ماذا قال ؟
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ }
دلّ هذا على أنّها دعوَتان : قَبل البِناء وبَعد البِناء
{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ }
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ } : أي مَن يَسكنُ فيه .
{ مِنَ الثَّمَرَاتِ } لِمَ ؟
لأنّ هذا المكان ليسَ مكان يُزرَعُ فيه :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } :
قد قيل مِن أنّ الله عزّ وجلّ انتزَعَ الطائف مِن الشام لِبُرودتها وأتى بهذا المكان وطاف به في هذا المكان ، فَقيل الطائف باعتِبار أنّه طِيفَ به في مكّة، فأصبح هذا المكان مكانًا بارِدًا لِكَي تَرِد الثمار إلى هذا المكان
لكنّه حديثٌ لا يَثبُت ، ولا يَصِحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } :
{ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } :
هُنا قَيَّدَ إبراهيمُ ؛ لِأنّه لمّا قال في الإمامة { وَمِن ذُرِّيَّتِي }
قال عزّ وجلّ: { قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
هُنا إبراهيمُ عليه السلام قَيَّدَ ، قال :{ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
قَالَ عزّ وجلّ : { قَالَ وَمَن كَفَرَ } يعني سَأرْزُقُه ، سأرزقُه .
قال تعالى في سورة الإسراء :
{ كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }
وقيل { قَالَ وَمَن كَفَرَ } : القائل هُوَ إبراهيم ، لكنّه بعيد عن السِّياق ؛ لأنّه قال بعد ذلك { فَأُمَتِّعُهُ } { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا }
{ فَأُمَتِّعُهُ } :
الدنيا يستمتعُ بها الكافر ، ولو رُزِق { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } يعني أُلْجِئُهُ :{ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
{ بِئْسَ الْمَصِيرُ } :
النار ، قال تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ } :
الأُسُس ، قال بعض المفسِّرين : الجُدُر ، لكنّ القواعد هي الأُسُس ، ولا ينفي هذا القول ؛ لأنّه إذا بَنَى الأساس ظهرت الجُدران
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ }:
أي وإسماعيلُ يَرفعُ معه .
وكان هذا البِناء لمّا أتى إبراهيم ، قال : إنّ هُنا بَيتًا أمَرَني الله عزّ وجلّ أن أبْنِيَه ، فهل تُعينُني ؟ قال : نَعَمْ .
وهذا بَعدَ ما ماتَت أُمُّ إسماعيل -كما ثَبَتَ بذلك الخَبَرـ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
مع هذا البِناء { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } هُـمـا في عمَلٍ صَالِح وبأمْرٍ مِن الله عزّ وجلّ ، ومع ذلك لا يَركَنُ الإنسان إلى عَمَلِه وإنّما يسألُ اللهَ عزّ وجلّ القَبول
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } :
فَهُوَ السميع الذي يسمَعُ كلّ شيء ، والعالِم بكلّ شيء . ومِن ذلك تَعلَمُ حالَنا وتَسمَعُ دُعاءَنا ، فاسْتَجِب لنا
{ رَبَّنَا } :
كَرَّرَ كلِمة { رَبَّنَا } مِن باب الثناء على الله عزّ وجلّ ، وَلَمْ يَقُل ( وَاجْعَلْنَا مُسْلِميْنِ )
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } :
وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ الإنسان مهما عَظُمَت مَرتَبَتُه ، ومهما كان له مِن الفضل عند الله عزّ وجلّ -كَحال إبراهيم وإسماعيل- إلّا أنّه محتاجٌ إلى الله عزّ وجلّ
{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا } :
{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً } :
أي جَماعة { مُّسْلِمَةً لَّكَ } هذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ الآباء يُحِبُّون لأبنائهم ما يُحِبُّون لأنفسهم مِن الطاعة ومن الخير ، ولذلك في دُعائِهما { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا } أي مِن البعض ، وذلك لأنّ البعض كما في أوّل الآيات قال :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } :
{ أَرِنَا } : أَرِنا : رؤية عِلمِيّة كَعِلْم ، أو رؤية بَصَرِيّة ؟ قيل بهذا وقيل بهذا ، ولا تَناقض
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } : يعني علِّمْنا مَناسِكَنا ، أي أماكن العِبادة ، ومِن ذلك شعائر الحجّ ، وكذلك ما يتعلّق بالذّبح { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } علِّمْنا وأرِنا ، رؤية بَصَرِيّة أيضًا
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } :
فالتوبة يحتاجُها حَتَّىٰ الأنبياء ، ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه يقول : ( إنّي لأستغفر الله في اليوم مِئةَ مرّة )
{ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :
اسمان مِن أسمائه عزّ وجلّ { التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ومَضَى الحديث عن هذين الاسمين ، فَهُوَ يتوب عزّ وجلّ رحمةً بِعباده . ومِن رحمته بِعباده أن شرعَ لهم التوبة
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا } : كَرَّرَ أيضًا كلمة { رَبَّنَا } مِن باب تِكرار الثناء على الله عزّ وجلّ ، ولِذا على المسلم إذا دعا الله عزّ وجلّ أن يُثنِيَ عليه عزّ وجلّ
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } :
أي في هؤلاء الْعَرَب { رَسُولًا } نَكَّرَ الرسول ، ذَكَرهُ إبراهيم عليه السلام وإسماعيل ، ومضى ذِكْرُ هذا الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن يُعرَفَ اسمُه ، حَتَّىٰ أتى عيسى عليه السلام وصَرَّحَ به :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }
{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ } :
أي يقرأ ( التِّلاوة ) هُنا بمعنى الْقِرَاءَةِ ، لأنّه قال بعدها :{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } ورَتَّبَها هُنا ، لأنّه مِن باب أنّ البِداءة تكون بِالقِراءة ، ثُمَّ تَفهيم المعاني ، ثُمَّ التَّطبيق.
{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } :
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } :
{ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إذا اجتَمَعَتا :
فَالكِتاب : ( القرآن ) ، والحِكمة : ( السُّنَّة )
فإذا اجتَمَعا يَكونان بهذا الْمَعْنَىٰ
ولا تنافي لهذا القول مع مَن يقول إنّ الحِكمةَ هي الإصابة في القول وفي العمل ، ولا شكّ أنّ مَن أَخَذَ بِالكتاب وبِالسُّنَّة فإنّه سيُصيب في أقواله وفي أفعاله .
لَكِنْ إذا أُفرِدَت الحِكمة :
{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } :
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } :
{ وَيُزَكِّيهِمْ } :
يعني يُطَهِّرُهم بِمَا يتلو عليهم مِن هذه الآيات كما قال عزّ وجلّ :
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا }
وقال تعالى :
{ رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }
{ إِنَّكَ أَنتَ } : مِن باب التأكيد
{ الْعَزِيزُ } : يعني القويّ ، الغالب ، الذي لا يُنال بِسُوء
{ الْحَكِيمُ } : الذي يضع الأشياء في مَواضِعها اللائقة بِها . فهَو عزّ وجلّ عزيز وحكيم ، فَهُوَ قويّ وقادِر على أن يَبعثَ هذا الرسول ، وبِالفعل بَعَثَه
وهوَ حكيم إذِ اختارَ عزّ وجلّ مَن هو مُناسِب لِـهــذه الرسالة ، ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }
فَهُوَ الحكيم
{ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
ثُمَّ قال { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } :
{ وَمَن يَرْغَبُ } :
لمّا بيّن عزّ وجلّ فَضْلَ إبراهيم عليه السلام وما قامَ به ، أشار إلى أنّ أولئك اليهود والنصارى وكفّار قريش الذين يَرَوْن لِإبراهيم عندَهم مَنزلة مِن أنّهم إذا تَرَكُوا مِلَّة إبراهيم التي هي مِلَّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وسيأتي لهذا تفصيل [ هل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على مِلَّة إبراهيم مُطلقًا أو ماشابَهَ ذلك . سيأتي إن شاء الله تعالى ]
قال : { وَمَن يَرْغَبُ } :
ومَن يرغبُ : الاستفهام هُنا مُتضمِّن لِلنّفي { وَمَن يَرْغَبُ } أي لا يَرغبُ { عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } التي منها ما سَبَق { إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }
{ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } :
يعني خَسِرَ نفسَه وأهلَكَها وضَلّ . وَسَفِهَ ماذا ؟ النّفْس التي يَحرِصُ الإنسان على أن يُـقَـدِّم لِنَفسِه ما هُوَ أنفَع وأفضل
{ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }:
ونـُصِبَت { نَفْسَهُ } لِلتمييز . يعني : إلّا مَن سَفِهَت نفسُه ، تمييز مُحَوَّل مِن الفاعِل
{ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } هذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ مَن تَرَكَ الدِّين فَبِهِ حُمْق وَبِه سَفَه
{ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }
ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ كما سيأتي معَنا ؟
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
صاروا سُفهاء باعتِبار أنّهم خالفوا شرع الله عزّ وجلّ
{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } :
اخْتَرناه في الدنيا ( الاصطفاء ) يعني أنّه انْتُقِيَ إبراهيم عليه السلام ، فصار صَفِيًّا :
{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }
{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } :
هو مِن جُملة الصالحين ، بل هو مِن أعظم الناس مَنزلة بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } قال : { أَسْلِمْ } مُطلَقَة . دلّ هذا على أنّه إذا قيل لِشخص أَسْلِمْ ، فالمقصود الإسلام الحقيقيّ لِله عزّ وجلّ ، ولا يُسلِم لغَير الله .
ولذلك ماذا قال إبراهيم ؟
{ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) والعالَم : كلّ المخلوقات العُلْوِيّة والسُّفليّة ، فَكُلّ ما سِوى الله فَهُوَ عالَم . على ما قاله عامّة المفسِّرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في سورة الأعراف والشعراء
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ } :
هذه الآيات والتي قَبلها تدلّ على ماذا ؟
تدلّ على أنّ الأب حريص على أن ينفعَ أبناءه بالدِّين ، وأن يُطيعوا الله عزّ وجلّ
{ وَوَصَّى بِهَا } :
وصيّة إبراهيم لأبنائه { وَوَصَّى بِهَا } ماذا ؟
الكلمة السابقة { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
ولا تنافي بينها وبين مَن قال المِلّة { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
فِالمِلَّة هي الإسلام { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ }
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } تفسيرُها هُنا { َوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ }
{ وَيَعْقُوبُ } : يعني وصَّى أيضًا يعقوبُ أبناءه بهذه .
فهذه الكلمة ( كلمة التوحيد ) وهذا الدِّين العظيم وَرِثَه الأنبياء ، نبيّ عن نبيّ ، لأنّ يعقوب هو ابن إسحاق ، وإسحاق ابن إبراهيم . فَجَدُّ يعقوب إبراهيم عليه السلام. ويعقوب عليه السلام هل أدركَ إبراهيم أم لا ؟ الصحيح أنّه أدركَه .
ولذلك قال عزّ وجلّ عن يعقوب :
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }
[ وسيأتي لها حديث إن شاء الله تعالى ]
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى } أي اختار { لَكُمُ الدِّينَ }
كما قال عزّ وجلّ عن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم :
{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
{ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } :
يعني لِتَبْقَوا على هذا الدِّين حَتَّىٰ يَتَوفّاكم الله عزّ وجلّ ، فَتَموتوا على مِلَّة الإسلام . وفي هذه الجملة التذكير بالموت .
مِن أنّهم يُذَكِّرون أنفسَهم بالموت .
وأيضًا لا يَطمَئنّ الإنسان . وإذا كان لا يَطمَئنّ ؛ لأنّه لا يدري ماذا يُختَم له ، فعَليه بِكثرة الدعاء .
فهذه الآية تَتَضمَّن : التذكير بالموت ، والحِرص على لزوم الخير حَتَّى الممات ، ودعاء الله عزّ وجلّ بِالثبات على هذا الدِّين .
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } : هذا فيه ما يَتضمَّن الإنكار على اليهود
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } : { أَمْ } بمعنى ( بل )
هذه ( أَمْ ) المُنقطِعة ، تَتَضمَّن الاستفهام 🙁 بَلْ أَكُنتم شُهداء ) أي أَكُنتم حاضرين { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } لمّا أتى الموتُ لِيعقوب ؟
لَمْ تَحضروا ؛ وذلك لأنّ يعقوب قَبلَكم
ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ عن هؤلاء ؟
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } :
لأنّهم يقولون إنّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا على اليهوديّة والنصرانيّة .
لَكِنْ هذا القَول الذي قالوه سيأتي ذِكرُه :
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
هُنا قال { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } ردًّا على ما ذَكَروه { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ } يعني يعقوب
{ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي }
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }
هُـمْ أبناء مَن ؟ أبناء يعقوب . وإسماعيل ليسَ أبًا لَهُم ، وَ إنّما الأب لَهُم ، الذي هو الجدّ ( إسحاق ) وذلك لأنّ العمَّ والِد كما ثَبَتَ بذلك الحديثُ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
وذَكَرَهم مُرتَّبِين : إبراهيم ثُمَّ إسماعيل ثُمَّ إسحاق
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي }
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ } وأَتَوا بكلمة { نَعْبُدُ } مِن باب التنصيص على العِبادة وفضيلة العِبادة
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا
أَتَوا بكلمة { إِلَهًا وَاحِدًا } مِن باب بَيان هذا الأمر العظيم .
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } : يعني مُنقادون مُخلِصون . لأنّ الإنسان قد يقول القَوْل ، ويقول : أنا مُـســلـم ولا يفعل
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } :
وهؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام الذين جرى لهم ما جرى مع أخيهم يوسف كما سيأتي في سورة يوسف
وهؤلاء يدلّ على أنّهم أبناء يعقوب الذين فَعلوا ما فَعلوا مع يوسف ، يدلّ على أنّهم كانوا على مِلَّة التوحيد .
وهل هُـمْ أنبياء أم لا ؟ سيأتي بإذن الله عزّ وجلّ ما يدلّ على أنّهم على الصحيح ليْسوا بأنبياء ، وسيأتي بذلك أدلّة في الآيات القادمات بإذن الله عزّ وجلّ
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } : أي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . ولذلك يوسف عليه السلام في سورة يوسف لمّا لَقَّنَهم أبوهم هذه الدَّعَوات قال لِــمَـنْ كان في السِّجن ( لِلغُلامَيْن ) :
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } :
أي جماعة . مَن ؟ هؤلاء الأنبياء . ومِن بينِهم أبناء يعقوب على القول بأنّهم أنبياء ، وعلى عَــدَم القول بأنّهم ليسوا بِأنبياء ، أيضًا هُـمْ أُمَّة
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } : مَضَت
{ لَهَا مَا كَسَبَتْ } مِن الأعمال .
سبحان الله ! إذا كان هؤلاء ، وفيهِم مَن فيهِم مِن الأنبياء ، لَهُم ما كسبوا مِن الأعمال ، وسَيُجازَون على هذه الأعمال . فأنتم مِن بابِ أَولى .
ولذلك قال :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
كلٌّ له عَملُه ، فأنتم لن تُسألوا عن أعمال تلك الأُمّة التي قد خَلَت .
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } :
{ أَوْ } هُنا للتقسيم . يعني قالت اليهود : كونوا هودًا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى .
ثُمَّ أمر الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُبيِّن لهم الدِّين الصحيح
{ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } :
أي بل نَتّبِع مِلَّة إبراهيم حنيفًا . والحنيف هو الذي باعدَ وجانبَ الأديان كُلَّها ، يعني الأديان الشِّركيّة ، فالحَنيف هو المائل عن الشرك
{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } :
فَنَفى عن إبراهيم أن يكون مِن المشركين في أيّ زمن من الأزمان .
ولِذا :
قال عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }
{ مِن قَبْلُ } أيّام صِغَرِه عليه السلام
ومِن ثَمَّ :
فإنّ على المسلم إذا ناظرَ أَهْلَ الأديان الباطِلة أن يُبيِّن لهم الحقّ ، وألّا يخْنَع قال تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }
ما هِي هذه الكلمة ؟
{ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
وأنتم تكونون غير مسلمين ، يعني بأنّكم كُفّار
-{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } :
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } :
بَيَّنَ عزّ وجلّ هُنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعَه آمنوا بالله ، وقَدَّمَ الإيمان بالله ؛ لأنّه هو الأَوْلىٰ
{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو القرآن .
وقدّمَ القرآن ؛ لأنّ القرآن شاهِدٌ لِما في الْكُتُب السابقة ، وأيضًا هو ناسخٌ لِلكتب السابقة قال تعالى :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }
-{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } :
-{ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } :
وَهِيَ الصُّحُف ، كما بيّن عزّ وجلّ في سورة الأعلى :
{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }
-{ وَإِسْمَاعِيلَ } : أي ما أُنزِل على ابنه إسماعيل
-{ وَإِسْحَاقَ } : وهو نبيّ وهو ابْنُ إبراهيم عليه السلام
-{ وَيَعْقُوبَ } : وهوَ حفيد لِإبراهيم
-{ وَالْأَسْبَاطِ } :
بعضُ العلماء ظنّ أنّ الأسباط – هُنا – هُـمْ أبناء يعقوب ، وَهُمْ إخوة يوسف ، فقال إنّهم بهذه الآية هُـمْ أنبياء .
والصحيح :
أنّ مَن نَظَرَ إلى الأدلّة وما صنَعَه هؤلاء الأخوة بِيوسف لا يدلّ على أنّهم أنبياء ، وإنّما جعل بعض العلماء يقول إنّ الأسباط – هُنا – هُـمْ أبناء يعقوب وَهُمْ إخوة يوسف ، قال إنّهم أنبياء باعتبار أنّ الله عزّ وجلّ قال مُبيّنًا أنّه أَنزَلَ عزّ وجلّ على الأسباط .
وإنّما الأسباط ، وقد أشار البخاريّ إلى ذلك في صحيحِه إشارةً ، قال : هُم كالقبائل في العرب. ولذلك يَرى شيخ الإسلام رحمه الله أنّهم لَيْسوا بِأنبياء ؛ فما فعلوه بِيوسف عليه السلام ، لا يكون هذا الفِعل مِن قَبيل فِعل الأنبياء .
وإنّما الأسباط هُـمْ في قَوْم موسى ، قال عزّ وجلّ :
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وَمِمَّا يدلّ على أنّهم لَيْسوا بأنبياء مع الْعِلْمِ أنّ لفظة الأسباط قد تُطلَق عليهم باعتِبارٍ آخر ، لَكِن لَيْسوا هُم المعنيِّين في هذه الآية .
وَمِمَّا يدلّ على أنّهم ليْسوا بِأنبياء قَوْل الله عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ }
وَاللهُ عزّ وجلّ قال :
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا }
وَلَمْ يَقُل ( وبَنِيه ) فدلّ هذا على أنّ هؤلاء الأسباط لَيْسوا أبناءَ يعقوب ولَيْسوا إخوة يوسف ، وقد فَصَّلتُ في غير هذا الموطن تفصيلًا دقيقًا حَوْلَ عدَم نُبُوّة إخوة يوسف عليه السلام .
{ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } :
وَلَمْ يَقُل ( وما أُنزِل على موسى وعيسى ) مِن باب التنويع في الأسلوب ، ومِن باب أنّ موسى وأنّ عيسى قد أُوتِيا أشياءَ أُخَر عظيمة ، مِن البَيِّنَات والدّلائل غير التوراة على موسى عليه السلام ، والإنجيل على عيسى عليه السلام
فقد أُوتيَ موسى عليه السلام ما أُوتِي مِن فَلْق البحر ومِن تفجير الحَجَر بِعَصاه وما شابَهَ ذلك ، وأُعطيَ عيسى عليه السلام مِن الآيات والدلائل مِن إنّه يُبرِئُ الأكْمَهَ والأبرص وما إلى ذلك ..
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
هُنا إجمال ، وذلك لأنّ الأنبياء كُثُر :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
فدلّ هذا على أنّ لَفْظَة ( التنزيل ) المذكورة في هذه الآيات تدلّ على أنّ الكتب السابقة مُنَزّلة مِن عند الله عزّ وجلّ ولَيْست مخلوقة
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } :
كَحالِكُم أنتم أيّها اليهود وَأَنتُم أيّها النصارى . فدلّ هذا على عِظَم مكانة أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } :
وكلمة ( أَحَد ) تُطلَق على الجَمْع كما هُنا ، وتُطلَق على الفَرد كما قال عزّ وجلّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ }
أو ما شابَهَ ذلك في سياق نَفيٍ أو نَهيٍ أو شَرطٍ أو ما شابه ذلك ، فإنّه يجوز.
أو إذا أُضيفت كما في بعض الأحاديث ( إذا جاء أحَدُكم ) أو ( إذا حضر أحدكم ) وما شابه ذلك ، فإنّه يجوز .
أمّا في سياق -كما سيأتي معنا في سورة الإخلاص بإذن الله عزّ وجلّ- في سياق الإثبات فلا يجوز أن تقول لِشَخصٍ ( أنتَ أَحَد ) أو ( هذا أَحَد ) فإنّ مِثل هذا لا يُطلَق إلّا على الله عزّ وجلّ
ويجوز أن يُطلَق أيضًا ( أَحَد ) على جِنس النساء ، قال عزّ وجلّ عن نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال :
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) }
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } :
أي مُخلِصون مُنقادون لله عزّ وجلّ .
فإنّهم في صَدر الآية قالوا آمَنَّا بالله { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } ، ثمّ في خِتام الآية -ممّا يدلّ على عَظيمِ الإيمان بالله عزّ وجلّ مِن أنّهم آمنوا وعَمِلُوا- قالوا { وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ }
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على ما سبق في أوّل السورة مِن أنّهم آمنوا بما أُنزِل في هذا القرآن وبما أُنزِل في الكُتُب السابقة .
قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }
بل بَيَّنَ عزّ وجلّ في خِتام هذه السورة مِن أنّهم لمّا قالوا هذا القَول أثبتَ الله عزّ
وجلّ أنّهم صَدَقوا فيما قالوه .
قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على التَّنْدِيد بِحال أهل الكتاب الذين فَرَّقُوا ، قال عزّ وجلّ :
{ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151) }
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } :
{ فَإِنْ آمَنُوا } أي هؤلاء أهلُ الكتاب إن آمنوا بِمِثْل ما آمَنتُم بهِ .
وَلَوْ قال قائل :
أليس الإيمانُ إِيمَانًا واحدًا ؟ أَهُناك مَثيلٌ لِلإيمان ؟!
فالجواب عن هذا :
أنّ الإيمان وَاحِد
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي نَفْس الإيمان الذي آمَنتُم به
ولا حاجةَ إلى ما قَالَه بعضُ المفسِّرين مِن أنّ الباء زائدة ( فإن آمنوا مثل ) أو أنّ كلمة ( مِثْل ) زائدة ( فإن آمنوا بِمَا آمَنتُم بهِ ) فلا حاجة لهذا ، لا سيّما أنّ الزيادة في الكلمات أو في الأسماء قليلة في اللغة العربيّة إن لَمْ تَكُنْ معدومة عند بعض العُلماء ،
وإنّما { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي نَفْس وذات الإيمان الذي آمَنتُم بهِ
والدّليل : قال عزّ وجلّ { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا }
وقال عزّ وجلّ عن ذلكم الرَّجُل الذي آمَن بِالقرآن :
{ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ }
فدلّ هذا على أنّهم مأمورون بِنَفْسِ وذاتِ الإيمان { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } هذا هو الهداية .
فإن لم يؤمنوا فَهُم على ضَلال :
{ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا }
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا } أي أعرَضوا { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } في نِزاع وفي مُشاقّة معك
ويُريدون أن يَشُقّوا عليك ، وأن تكون معهم بفعلهم أن تكونَ في ضِيق
{ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } ما صَنَعوه وما فَعَلوه مِن هذه المُشاقّة ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله عزّ وجلّ .
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُؤيَّدٌ مِن الله عزّ وجلّ ، وكذلك أتباعُه إذا ساروا على ما ساروا عليه فإنّهم مؤيَّدون .
قال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }
{وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ }
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ }
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } السميع لِكلّ قول ، والعليم بِكلّ شيء . ومِن ذلك ما يقوله هؤلاء ، وما يفعلُه هؤلاء ، فإنّ الله عزّ وجلّ سميعٌ عليم وسيجازيهم على ما قالوه وعلى ما فعلوه
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } : نُصِبَت على سبيل الإغراء . يعني الزَموا صِبغةَ الله .
وصِبغةُ الله : فِطرة الله ودِينُ الله .
وسُمِّيَ أو وُصِفَ الدِّين بأنّه صِبْغَة ، باعتِبار الصِّبغ الذي يَظهر على الإنسان . فهذا الدِّين على المسلم أن يُظهِرَه على جوارحه ، وأيضًا أن يستمرَّ عليه ، لأنّ الصِّبغ يكون مُلازِمًا للثوب ، فكذلك أنتُمُ الزَموا صِبغة الله
{ صِبْغَةَ اللَّهِ }
ثُمَّ أتى الاستفهام الذي يدلّ على النَّفي { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }
الجواب : لا صِبْغَةَ أحْسَن مِن صِبْغَة الله . يعني مِن دِين الله عزّ وجلّ .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }
{ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } كلمة { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } يعني نَحْنُ عابدون لله عزّ وجلّ وَحدَه { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } يُبَيِّن معنى الصِّبغة ، مِن أنّ تِلْك الصِّبغة مِن أنّها دِينُ الله الذي يَجِب أن يَعبُدَ الإنسانُ رَبَّه عزّ وجلّ
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } قُلْ لهؤلاء أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ مِن أنّ لَكُم مَكانة وأنّ لَكُم قُربًا عند الله عزّ وجلّ وأنّ لَكُم مَنزِلة .
ولذلك قالوا في سورة المائدة :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } :
لَيْسَ لَكُم حُجّة وليست لَكُم مكانة . لِمَ ؟ { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } هو رَبُّنَا وربُّكم لا نفتَرِق ، هُوَ رَبُّنَا وربُّكم . إنّما الذي يَحصُل التمييز بَيْنَنا وبَيْنَكم الأعمال .
ولذا قال بعدها :
{ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } وَأَنتُم لَو عَمِلتُم ، العِبرة ليسَ بالعمل وإنّما العِبرَة بالعمل الذي يكون لله عزّ وجلّ .
ولذا خَتَمَ الآية { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } ممّا يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعَه هُــمُ المُخلصون ، وأنّ هؤلاء لَيْسوا على إخلاص . ويؤكّد أيضًا أنّ العمل لا يَكُونُ طيّبًا صَالِحًا إلّا إذا أخلصَ العبدُ في هذا العمل لله عزّ وجلّ
{ أَمْ تَقُولُونَ } { أَمْ } هُنا مُنقَطِعة ، بِمَعْنَىٰ ( بَل ) وتَتضمّن الاستفهام الإنكاريّ
{ أَمْ تَقُولُونَ } أي : بَلْ أتَقولون { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } ؟
ولذلك في أوّل الآيات فيما مضى ومرّ معنا { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ }
هل كُنتُم شهداء لمّا حضر يعقوبَ الموتُ ( أسباب الموت ) حَتَّىٰ قُلتم هذا القَول الذي معنا في هذه الآية { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } الجواب: لا ، لَمْ تكونوا ؛ لأنّ يعقوب عليه السلام كان قَبلَكم
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } :
كلُّ طائفة تَزْعُم : فالنصرانيّة تَزْعُم واليهوديّة تَزْعُم هذا الزَّعم . وهذا يؤكّد أنّ هؤلاء مع أنّهم فارقوا دِينَ الله عزّ وجلّ ، أيضًا هُم زَكَّوْا أنفسَهم وأثْنَوا على أَنْفُسِهِمْ
{ قُلْ أَأَنتُمْ } : قُلْ لِهؤلاء يامحمّد { أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } لا جواب ، لَمْ يُذْكَر الجواب ؛ لأنّ الجواب معروف ، الله هو الأعلم ،
ولَعَلّ هذه الآية ، ولَعَلَّها مُستَنَد الإمام الشافعيّ رحمه الله لمّا قال في حقّ القَدَريّة الذين أنكَروا عِلْمَ الله وقالوا : إنّ الله لا يَعلم بالشيء إلّا بَعْد وقوعه . إذ قال رحمه الله قال : ناظِروا القَدَريّة بالعِلْم ، فإن أقَرُّوا به خُصِموا ، وإن أنكَروهُ كَفَروا .
فلعلّ هذه الآية دليل لِما قاله رحمه الله
{ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ }
الجواب : لا أحد أظلَم
{ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ }
مَن يكتُم الشهادة التي بَيْن المخلوقين على إثمٍ عظيم ، فـكـيـفَ إذا كَتَم شهادةَ الله .
قال تعالى – كما سيأتي في آخر هذه السورة في حقّ شهادة المخلوقين –
{ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ }
فكَيف بِشهادةٍ ائْتَمَنَكُم الله عزّ وجلّ عليها ؟
{ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ } أي كائنة عنده مِن الله . لِمَ ؟
لِأنّكم أَهْلُ عِلم . قال عزّ وجلّ :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ }
لَكِنّكم أنتم لَمْ تكونوا أَهْلَ عِلمٍ وخالَفتم هذه الشهادة وضَيَّعتم هذه الشهادة
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } : يعني هذا العمل وهذا الصَّنيع منكم ، لا تَظنّوا أنّه سيذهب سُدى ، وأنّكم لن تُحاسَبوا ، بل الله عزّ وجلّ مُطَّلِعٌ على كلّ ما تقولون وعلى كلّ ما تعملون .
وفي هذا ، في خِتام هذه الآية تَهديدٌ لِهؤلاء لعلَّهم أن يَنْزَجِروا .
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } أي ما ذَكَرتُموه عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط { تِلْكَ أُمَّةٌ } جماعة خَلَت مَضَت سَيُحاسِبُها الله عزّ وجلّ .
وكُرِّرَ هُنا مرّةً أخرى . وقد مَرّتْ هذه الآية مِن باب التأكيد على أنّ هؤلاء الشُّـرَفاء إذا كانوا سَيُحاسَبون على أعمالهم ، فما ظَنّكم بِأنتم الذين أَعرَضتم عن دين الله عزّ وجلّ
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي مَضَت { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مِن الأعمال { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } { وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَلَهُم عملُهم ولَكُم عملُكم.