التفسير الشامل ـ تفسير جزء ( تبارك ) كاملا ـ الشيخ زيد البحري

التفسير الشامل ـ تفسير جزء ( تبارك ) كاملا ـ الشيخ زيد البحري

مشاهدات: 495

 

التفسير الشامل

لفضيلة الشيخ

 زيد بن مسفر البحري

تفسير جزء ” تبارك “

( الملك ـ القلم ـ الحاقة ـ المعارج ـ نوح ـ الجن ـ المزمل ـ المدثر ـ القيامة ـ الإنسان ـ المرسلات)

 

 تفسير سورة ( الملك )

الدرس (254 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الملك….. وهي من السور المكية…

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } { تَبَارَكَ } يعني كثر خير الله، وثبت ودام، ولا يفنى

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } واليد صفة من صفاته تليق بجلاله وبعظمته {بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وهذا فيه رد على من قال إن كلمة اليد كناية عن التصرف وسهولة التصرف، ومعتقد أهل السنة والجماعة من انه يثبت لله ما أثبته لنفسه بما يليق بجلاله وبعظمته..

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو عز وجل على كل شيء قدير، ومن ثم فإن الملك إذا كان بيده فإن العبد لا يسأله إلا من؟ الله، فهو على كل شيء قدير.

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } وقدم الموت على الحياة باعتبار ماذا؟ باعتبار أن الموت أسبق من الحياة، وأيضا لأن ذكر الموت يدل على ماذا؟

يدل على الخوف {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } من أجل ماذا؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لم يقل أكثر عملا، وإنما {أَحْسَنُ عَمَلًا } الذي  كان خالصا لله، وعلى وفق سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبينَّا ذلك أكثر في سورة الكهف.

{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } فهو القوي الغالب، وهو الذي يغفر الذنوب.

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} كل ذلك دلائل على عظمة الله، وأن الذي يجب أن يفرد، وأن يوحد هو الله، فقال {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} يعني سماء فوق سماء، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } كل خلق الله ليس فيه تفاوت، ولا تناقض، ولا اختلاف، ومن ذلك هذه السنوات {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } ولذا قال تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ }

فقال الله {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} { فَارْجِعِ الْبَصَرَ} يعني أعد البصر مرة أخرى {هَلْ تَرَى} فيما خلق الله في هذه السماء { مِنْ فُطُورٍ} يعني من تشقق، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} يعني كرر البصر كرتين، ليس المقصود اثنتين، بل كرة بعد كرة بعد كرة بعد كرة، وهكذا {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ} يعني يرجع إليك بصرك {خَاسِئًا } يعني ذليلا {وَهُوَ حَسِيرٌ} يعني أنه متعب ومنهك، فإنه حسير منقطع عن أن يجد عيبا في هذه السموات، ولو تكرر النظر مرات ومرات {يَنْقَلِبْ} يرجع {إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} يعني بالنجوم لأنها مصابيح {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} وذلك لمن أراد أن يسترق السمع كما بين الله في سور سابقة، ووضحنا ذلك أكثر {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} يعني هيأنا لهم عذاب السعير.

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} بئست النار المرجع. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} كما قال تعالى { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } يعني يدفعون فيها {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا} سمعوا لهذه النار {شَهِيقًا} وهو تردد النفس الذي يدل على الصوت الكريه {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} وهي تغلي، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} تكاد تتقطع {مِنَ الْغَيْظِ} على أهلها وعلى أصحابها {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} يعني جماعة من أهل النار {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} يعني ملائكة النار {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ينذركم هذه النار، {قَالُوا بَلَى} أقروا لكن من أجل أن ينتفعوا بهذا الإقرار لكن لا يفيد بعد أن عاينوا عذاب الله {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} ولذلك كرروا وصرحوا بالنذير مرة أخرى، لم يقولوا بلى قد جاءنا، بل إنهم {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} اعترفوا حيث لا ينفع الاعتراف، {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} يعني ما أنزل الله من قرآن، ومن كتاب على أي بشر {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} أي ما أنتم إلا في ضلال كبير، هل هذا القول من الملائكة لهؤلاء؟ محتمل كما قال بعض المفسرين، ويحتمل أنه من قول هؤلاء الكفار من أنهم قالوا للرسل وهم في الدينا إن أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير.

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} يعني قالوا وهم في النار {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} {نَسْمَعُ} يعني أن نسمع النصوص الشرعية، {أَوْ نَعْقِلُ} يعني لو كانت لدينا عقول  واعية وفاهمة لانتفعنا، ومن ثم فإن قوله فيما يتعلق بهؤلاء {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} هذا يدل على ماذا؟ يدل على أن العقل الصحيح السالم من الشبهات والشهوات لا يمكن أن يخالف شرع الله، ولما قدم السمع المتعلق بشرع الله، ثم ذكر العقل دل هذا على ماذا؟ على أن الذي يقدم ما هو الشرع والعقل يكون تابعا، لكن إذا رأيت أن عقلك أو أن أي عقل إنسان قال هذا الذي في الشرع يخالف النصوص الشرعية فاعلم بأن عقله به خلل إما شبهة، وإما شهوة، وإلا فالعقل السليم الصحيح لا يمكن أن يعارض الأدلة الشرعية بدلالة ما ذكر هنا لأنهم اعترفوا أن العقل السليم لا يمكن أن يناقض الشرع {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} يعني في هذه النار {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } لكن لا ينفع هذا الاعتراف، {فَسُحْقًا} يعني هلاكا وبعدا {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} فسحقا لمن دخل في هذه النار.

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لما ذكر أولئك الذين انصرفوا عن دين الله ذكر من يخشى الله {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني هم لم يروا الله عز وجل، ولكن لقوة إيمانهم فإنهم يخشون الله، وأيضا كما هم على هذه الحالة يخشون الله في غيبهم عن الناس كما يكون حالهم حال العلانية، فهم في السر أيضا حالهم كحال العلانية {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وكما مر معنا كثيرا قلت لكم إذا ذكرت المغفرة وذكر الأجر أو الثواب دلَّ هذا على أن المغفرة تزال بها المكروهات، وأن الأجر والثواب يكون به حصول المرغوب، ولذلك قال تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} فقال الله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}  وأعظم هذا الأجر الجنة.

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} لأن بعضا من هؤلاء الكفار يقولون لا تظهروا كلامكم فإن الله يعلم ما ظهر، أما السر فإنه لا يعلم به فقال الله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} يعني أخفيتموه أو جهرتم به {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يعلم ما هو أعظم مما تسرونه، وهو الذي يكون في صدوركم، ثم أتى بالاستفهام الذي ينكر على هؤلاء {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} بلى والله هو الذي خلق، ويعلم حال خلقه وما يكون من خلقه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي لطف بعباده عز وجل، فأوصل إليهم الخير من حيث لا يشعرون، وصرف عنهم الشر من حيث لا يحتسبون، ولذلك قد يصرف عن أنفسنا ما هو؟ شيء عظيم يقول سبحان الله كيف صرف عني أو يأتي إليه شيء يقول كيف أتاني هذا؟ من لطف الله اللطيف قال {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الخبير الذي هو عالم بخبايا وخفايا الأمور.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} آية وعبرة لكم تدل على ماذا؟ على عظمة الله، وأن الذي يجب أن يعبد هو الله، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} مذللة كفراش كمهاد، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} مع ذلك ماذا قال لكم؟ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} في جوانبها في طلب الرزق في أقطارها {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} ولكن لتعلموا {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} يعني المرجع والمرد إلى الله، فلا بقاء لكم في هذه الدنيا، وإنما هو وقت محدد فقال الله {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الذي هو الله، ومن ثم فإن بعض الطوائف الفاسدة تقول إن الله ليس في العلو، كيف يكون في السماء، والسماء تحيط به؟! فنقول لهم هذا من سوء فهمكم، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ” لما أتت تلك الجارية ـ كما في صحيح مسلم ـ قال لها أين الله؟ قالت في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة”

وليعلم: أن قوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} {فِي} بمعنى على يعني على السماء، فالله استوى على العرش، وهو في العلو، لا يحيط به شيء، ولا تقله السموات ولا الأرض، بل السموات والأرض محتاجة إليه {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } أو تكون {فِي السَّمَاءِ} على حالها، ويكون معنى السماء مطلق العلو، فكل ما علاك فهو سماء، فهذا دليل على ماذا؟ على معتقد أهل السنة والجماعة من أن الله في العلو، من أن الله في العلو، ومن ثم فإن هناك عشرين طريقا من الطرق التي تدل حسب الأدلة الشرعية على علو الله، هذه الطرق التي هي عشرون تتضمن ألف دليل، وقال بعض السلف تتضمن ثلاثة آلاف دليل من القرآن ومن السنة على أن الله في العلو، وليس حالا في كل مكان كما يقول الجهمية والمعتزلة وأشباه هؤلاء، فقال الله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي يا كفار قريش {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الذي هو في العلو {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} بمعنى أنه يدخلكم في الأرض فتنقلب بكم الأرض، وإذا بالأرض تكون أعلى منكم

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} يعني تتحرك بكم وبها كما حصل لقارون {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} يعني ريحا بها حصباء كما حصل لعاد {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} لو حصل {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وهذا تهديد من أنه سيقع بهم ما أنذر به الرسول عليه الصلاة والسلام وحينها إذا وقع دل هذا على عظم ماذا؟ على عظم العذاب {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}.

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كذب قبل كفار قريش { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الين هم أشد منهم قوة {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} كيف كان إنكاري على الأمم السابقة لما أنزل الله بهم العذاب كان إنكارا عظيما شديدا.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} دلائل على ماذا؟ على أن الذي  جعل هذه الطيور في السماءعلى هذه الصفة على أن هناك من أوجدها من خلقها الذي يستحق العبودية، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} يعني في جو السماء كما قال تعالى {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} {صَافَّاتٍ} بمعنى أنهن يبسطن أجنحتهن للطيران، تختلف أحوالهن وأشكالهن، قال {وَيَقْبِضْنَ} مع ذلك يقبضن ماذا؟ يقبضن أجنحتهن، ومع ذلك لا يسقطن، ولذلك لم يقل قابضات كما قال فيما يتعلق بالبسط {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} يعني باسطات، لم؟ لأن صف الطيور لأجنحتها أكثر وأغلب من القبض أغلب من قبض أجنحتها، ولذلك ماذا قال؟ {وَيَقْبِضْنَ}

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ولذلك قال {الرَّحْمَنُ} لأن هذا من رحمته عز وجل، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} فهو عز وجل بصير بكل شيء.

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} أنتم يا كفار قريش أين أولئك الجن الذين ترون أنهم ينصرونكم إذا أراد الله بكم شيئا؟ لا أحد ولا يوجد {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}  ولذلك قال {إِنِ الْكَافِرُونَ} يعني ما الكافرون {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} غرتهم الدنيا، وغرهم الشيطان.

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} لتأتوا بهذا الذي سيرزقكم إن أمسك الله رزقكم عنكم لن تجدوا أحدا {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} {بَلْ لَجُّوا} يعني تمادوا {فِي عُتُوٍّ} يعني في كبر واستكبار وطغيان {وَنُفُورٍ} يعني بعد عن الحق 

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} هذا مثل للمؤمن {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} هل هو أهدى من الذي يمشي سويا على صراط مستقيم يعني إنسان يمشي مكبا على وجهه هل هو أهدى؟ من يمشي مكبا على وجهه هذا قد يقع في حفر قد تصيبه مصيبة {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} يعني مستقيما حال مشيه {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هذا يدل على أن من اهتدى فإنه على صراط مستقيم، والسبيل له إلى النجاة، أما من يمشي مكبا على وجهه، وهذا يدل على مثل الكافر فإن عاقبته إلى هلاك؛ لأنه سيقع في مصائب

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هل يستويان؟ لا والله، لا يستويان، فالمؤمن على صراط مستقيم لا اعوجاج فيه.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} يعني قل يا محمد لهؤلاء {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} يعني خلقكم، {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يعني القلوب {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يعني أن شكركم قليل بل هو معدوم؛ لأنه يدل لو شكرتك شكرتم لمصلحة أو لحاجة لكم أحوالكم تعود إلى عدم الشرك، ولذلك أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة من أجل أن تنتفعوا بهذا القرآن.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} فقامت عليكم الحجة أعطاكم الله الحواس.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} يعني خلقكم في الأرض، وبثكم فيها، {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} المرجع إلى الله لو تفرقتم في الدنيا. {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} مع تلكم الدلائل {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يقولون هذا الوعد الذي  وعدتمونا من أن هناك عذابا سينزل بنا متى يكون؟ وهذا يدل على أنهم لجوا في عتو ونفور

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ} قل يا محمد لهؤلاء {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} علم العذاب عند الله ليس عندي شأنه كشأن الأنبياء السابقين، هود لما قال له قومه ذلك القول ماذا قال؟ { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال الله {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أنا مجرد نذير مبين يبلغكم رسالة ربي وينذركم.

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} يعني لما رأوا العذاب زلفة يعني قريبا منهم { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} السوء ظهر على وجوههم من السواد والقترة والغبرة، {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يعني تطلبون أو على القول الآخر يعني من أن ما تدعونه من أنه لا بعث، ولا نشور، ولاعذاب، {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ}

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} لأنهم يتمنون وينتظرون الموت به عليه الصلاة والسلام، ولذلك ماذا قال تعالى {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} نتربص حوادث الدهر والموت.

{قُلْ} لهؤلاء {أَرَأَيْتُمْ} يعني أخبروني {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} لكن حالكم أنتم كفار{فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}  من يجيركم من عذاب أليم، دعوا حالنا لكن انظروا إلى حالكم {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} ولذلك انظر إلى اسم الله الرحمن الذي تكرر في هذه السورة مما يدل على أن نزول هذا القرآن رحمة من الله بهؤلاء، وإرسال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالبشر، لكن بعض البشر لا يريد الهدى، ولا يريد الخير، فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فيما يتعلق بأمورنا الدينية والدنيوية، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يعني ستعلمون عاقبتكم من أنكم في ضلال مبين، ولسنا نحن على الضلال.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} يعني غائرا في الأرض { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} من يظهر لكم هذا الماء المعين على وجه الأرض، لن يستطيع أحد، ولذلك سبحان الله! والعلم عند الله ذكر الماء هنا في ختام السورة الذي يظهر لي من أنه لما ذكر الماء لأن الماء به حياة للأبدان؛ لأنه لو غار الماء لهلكوا، إذن لا حياة للقلوب ولا للأرواح إلا باتباع شرع الله عز وجل.

 

تفسير سورة ( القلم )

الدرس (255 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة القلم  وهي من السور المكية

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}

{ن} هذا من الحروف المقطعة، وقد مر معنا توضيحه في أول سورة البقرة، وأما ما يذكره بعض المفسرين من أن ” نون” باعتبار ما ذكروه من أنه حوت تحت الأرض،  وأن الأرض تحمل هذا الحوت إلى غير ذلك من هذه الآثار التي  تشبه هذا الأثر، فإنه لا دليل عليه، وإنما أخذت من بني إسرائيل، ولذا قال شيخ الإسلام: ” إن بعض السلف قد أخذ من بني إسرائيل من باب حسن الظن بهم، وذلك كحال كعب الأحبار، وما شابه هؤلاء، ومن باب حسن الظن بهم أخذوا ذلك استنادا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ” حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” ولكن يجب أن يتأمل فيما ذكره بنو إسرائيل هل يوافق شرعنا أم أنه يخالف؟ وهل دل عليه دليل؟ ولا سيما في مثل هذه المسائل. ومن ثم فإن هناك أثرا من أن ” نون ” أداوة، وهذا الأثر لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام.. خلاصة القول أن {ن} من الحروف المقطعة.

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أقسم بالقلم، وهل هذا القلم هو القلم الذي أمر الله لما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه:” أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال فماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء” قيل بهذا، والصواب أن المقصود من القلم هو جنس القلم، فكل قلم يكتب به سواء كان هذا القلم أو القلم الذي نكتب به، فإنه شامل، {وَمَا يَسْطُرُونَ} يعني وما يكتبون أي ما تكتبه الملائكة، وما يكتبه البشر.

{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أقسم بذلك من أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس بمجنون كما ادعته كفار قريش، ولذا قال { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} يعني لست مجنونا كما قالوا؛ لأن الله أنعم عليك بهذه النعم، فكيف تكون مجنونا، ولذا قال تعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ}

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} يعني ثوابا {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} يعني غير  منقطع، وغير منقوص. 

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} يعني أن النبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، ولذلك ” لما سئلت عائشة رضي الله عنها ـ كما ثبت ـ عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت أتقرا القرآن؟ قال نعم قالت كان خلقه القرآن”

ولذا قال {وَإِنَّكَ لَعَلى} أتى بكلمة على باعتبار ماذا؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ في كل خصلة من خصال الأخلاق أعظمها صلوات ربي وسلامه عليه، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فكيف تكون مجنونا كما زعم هؤلاء؟!

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} يعني فستنتظر وينتظرون عاقبتك وعاقبتهم، فقال الله بعد ذلك {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أي من هو أحد الفريقين الذي هو مفتون يعني أنه فتن فأصيب بالجنون.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وهذا فيه ماذا؟ بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى، وهم على الضلال، فالله عالم بحاله، وعالم بحالهم وعالم بكل أحوال الخلق من اهتدى، ممن ضل.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ثم قال عز وجل {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} يعني هؤلاء كذبة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} هم يتمنون أنك تعبد آلهتهم وأنهم يعبودون إلهك {وَدُّوا} يعني لو أنك تلين لهم فإنهم سيلينون معك {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وهنا { فَيُدْهِنُونَ} مرفوعة ولم تنصب قبل التمني باعتبار ماذا؟ أن الفاء هنا ليست للسببية، وإنما هي  عاطفة يعني فهم يدهنون كما مر معنا توضيح ذلك في سورة النساء { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً }

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} هنا ذكر صنفا من هؤلاء المكذبين، وقد ذكر من أنه هو الوليد بن المغيرة، وسواء قيل به أو بغيره فالآية عامة، فقال الله {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} بمعنى أنه كثير الحلف {مَهِينٍ} يعني أنه محتقر وذليل.

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ} يعني أنه يعيب الناس، ويطعن فيهم {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} يعني أنه يمشي بالنميمة ولاسيما فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يعيبه ويطعن فيه، وكان يفرق بينه وبين من أراد الإيمان به، فقال تعالى {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} يعني أنه يمنع الخير{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} يعني أنه تجاوز الحد على الغير {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} يعني أنه صاحب إثم عظيم يعمل الآثام، {عُتُلٍّ} يعني أنه غليظ وجاف، {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} {بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} يعني مع تلك الصفات فهو زنيم يعني أنه دعي انتسب والتصق بغير قبيلته مما يدل على عدم شرفه، وكذلك قال بعض المفسرين، ويدخل في ذلك من أن كلمة {زَنِيمٍ} مثل ما يكون من الزنمة في الشاة إذ إنها تخرج في الجلد، فهي  مميزة يعني أنها ظاهرة باعتبار أن هذا الرجل ظاهر في ماذا؟ في الكفر وفي العناد {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} يعني لا تطعه لأنه كان ذا مال وبنين، أو يحتمل وهو الاحتمال الآخر، وهو الأقرب عندي {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} يعني من أجل أن الله أعطاه المال والبنين ماذا صنع؟ كذب بآيات الله ، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا} يعني آيات القرآن، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعني أكاذيب وقصص الأولين، فدل هذا على ماذا؟ على أنه لما أنعم الله عليه كفر كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} إلى غير ذلك من الآيات، {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنجعل له علامة على أنفه، ولذلك وصف الأنف بأنه خرطوم من باب التشنيع به كخرطوم الفيل، وأيضا لأن الإنسان إذا وضعت عليه علامة في وجهه فإنها تكون عيبا، فكيف إذا كانت على أنفه، ولذلك قال المفسرون جعل الله له علامة في إحدى الغزوات ضرب على أنفه، فأصبحت علامة له {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} لأن كلمة {سَنَسِمُه} يعني من أننا نضع عليه علامة.

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يعني كفار قريش يعني اختبرناهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم فهل يشكرون أم يكفرون؟

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} {كَمَا بَلَوْنَا} يعني اختبرنا أصحاب الجنة، وهذه الجنة ذكر بعض المفسرين من أنهم أهل ضروان قريبة من صنعاء، وعلى كل حال هذا ما ذكروه، ولم أر دليل صحيحا على ذلك، وإنما هذه القرية معروفة عند كفار قريش، فقال الله {كَمَا بَلَوْنَا} يعني اختبرنا {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} يعني حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} يعني أنهم يأتون في الصباح، ويأخذون الصارم بمعنى أنهم يقطعون ثمارها، {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} يعني ولا يستثنون نصيب الفقراء، وقيل {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} يعني في حلفهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ } {طَائِفٌ} هنا نكرة باعتبار أنه عذاب عظيم نزل من الله على جنتهم {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} يعني  كالشيء المصروم الذي اسود كسواد الليل، {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} نادى بعضهم بعضا لما استيقظوا من النوم، {أَنِ اغْدُوا} يعني يقول بعضهم لبعض وهنا {أَنِ} تفسيرية لأن المناداة تتضمن معنى القول، ولا تتضمن حروفه، فقال الله عن هؤلاء {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} يعني على زرعكم {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} صارمين لتلك الثمار.

{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يعني أن بعضهم يسر الكلام للآخر، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتخافتون ويسرون بماذا؟ {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} يعني من أن المسكين سيمنع وقالوا {مِسْكِينٌ} باعتبار ماذا؟ أنهم سيمنعون من هو أكثر من المسكين، وإذا منعوهم في هذا اليوم فإنهم سيمنعونهم في مستقبل الأيام

{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} {وَغَدَوْا} يعني في أول الصباح { عَلَى حَرْدٍ} يعني على منعة وعلى غضب من الفقراء، {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} يعني على منعة وعلى قوة وعلى غضب {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني قادرين على أن يصرموا جنتهم، {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} يعني قد أضللنا الطريق، فهذه الجنة ليست جنتنا فقال الله عن هؤلاء {إِنَّا لَضَالُّونَ} ثم تبين لهم من أنها جنتهم، ولذلك قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا من خير هذه الجنة، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} يعني من هو خيرهم، وليس المقصود السن {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وهذا يدل على ماذا؟ على أن الكل لم يكونوا متفقين على ذلك، بل إن واحدا منهم كان يمانع ذلك {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} يعني أخيرهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} يعني لولا تسبحون الله وتنزهون الله، ويتضمن ذلك التوبة كما قال المفسرون، ويتمضن التوبة مما عزمتم عليه من منع الفقراء، وقال بعض المفسرين من أنه قال {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} يعني لولا تستثنون، وهذا وإن كان لا بأس بدخوله لكن ما ذكرناه في القول الأول  هو أظهر، فقال الله عن هذا الرجل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)} سبحوا الله {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ووصفوا أنفسهم بالظلم.

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} يعني يلوم بعضهم بعضا لماذا قلت لنا كذا وكذا، يقول الآخر له كذلك {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}.

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} نادوا بالويل يعني بالهلاك {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} تجاوزنا الحد، فمنعنا الفقراء {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)} سألوا الله أن يبدلهم خيرا من جنتهم، ولذلك ختموا الآية بقولهم {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} يعني نحن راغبون وراجعون إلى ما عند الله، ولا نرغب إلا إلى الله، فدل هذا على أن الرغبة لا تكون إلا لله، ولذلك ماذا قال الله {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وكما قال تعالى {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وهل أبدلهم الله شيئا من ذلك؟ بعض المفسرين توقف في ذلك، وبعضهم قال لعل كلامهم هذا قد أبدلهم الله بجنة غير هذه الجنة، والصحيح أننا نقف عند ما وقف عنده القرآن، ولا ندخل في ذلك إلا بدليل صحيح صريح.

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} يعني مثل هذا العذاب الذي نزل بتلك الجنة لهؤلاء  ننزله على كفار قريش ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لو رجعنا إلى أول السورة {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} وقال {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} فقال الله {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} هذا عذاب في الدينا، {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ} أكبر من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لو كانوا يعلمون ما كذبوا رسول الله، وكذلك أولئك لو كانوا يعلمون خطورة منع الفقراء ما منعوا الفقراء.

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} هذا هو ثواب المتقين إذا رجعوا إلى الله {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} يتنعمون فيها {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} لأن كفار قريش يقولون لو بعثنا على افتراض أننا نبعث فإننا إن لم نكن أفضل فإننا وأنتم سواء فقال الله {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} أي ما هذا الحكم؟ وهذا استفهام إنكاري ما هذا الحكم الذي لا حجة لكم به. ما لكم كيف  تحكمون {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} هل لكم كتاب درستم فيه، وقرأتم فيه أن لكم مثل ما للمتقين {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)} يعني تختارون ما تشاؤونه، ومن ذلك ما قلتم في هذا الكلام {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} هل لكم أيمان يعني هل أعطيناكم عهودا موثقة تلك العهود الموثقة بلغت أعلى توثيقها من أنها ممتدة إلى يوم القيامة من حيث التوثيق {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} من أن لكم ما تحكمون؟ الجواب لا، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} الذي يكون أحدهم من هو كفيل لهم بهذا الحكم يوم القيامة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} هل لهم شركاء يعبدونهم من دون الله فحكموا لهم بهذا الحكم {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } ومن ثم فإن الله نفى  أن يكون لهم ماذا؟ أن يكون لهم كتابا يشهد لهم بهذا، وأيضا نفى أن يكون لهم شركاء يحكمون بذلك إنما هي عادة آبائهم، وكذلك نفى أن يكون لهم أيمان وعهود موثقة لهم، وكذلك نفى أن يكون لهم من يتزعم لهم ذلك، ويكون كفيلا لهم بذلك.

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وذلك في يوم القيامة {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وهنا قال {عَنْ سَاقٍ} ولذا في صحيح البخاري قال النبي عليه الصلاة والسلام:” يوم يكشف الله عن ساقه فيسجد له المؤمنون، أما من كان يسجد رياء وسمعة فإن ظهره يكون صلبا فلا يستطيع أن يسجد” ، ومن ثم فإن هذه الآية تدل بدلالة الحديث  الذي في صحيح البخاري من أن لله ساقا يليق بجلاله وبعظمته، لكن لو قال قائل جاء عن بعض السلف من أنهم قالوا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يعني عن شدة وعن كرب؛ لأن يوم القيامة به الكرب والشدة، فنقول القول في هذا كالقول في قوله تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فإن الله لم يضف ذلك إلى نفسه، ولذلك لما قال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} لم يضف ذلك إليه، فدل هذا على أنه لا تعارض في ذلك يعني يوم القيامة به شدة، به كرب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أيضا لا ينفي ذلك أن لله ساقا يليق بجلاله وبعظمته كما جاء بذلك الحديث الذي ذكرناه آنفا في صحيح البخاري، فلا حجة لأهل التعطيل على أهل السنة والجماعة، فأصول أهل السنة والجماعة ثابتة وراسخة؛ لأنها مبنية على نصوص الكتاب والسنة.

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} يدعون إلى أن يسجدوا لله فلا يستطيعون، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } يعني أن أبصارهم خاشعة، وهذا يدل على ماذا؟ على ذلها، بل  على ذل أصحابها كما قال تعالى { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يعني تصيبهم ماذا؟ تصيبهم ذلة وهوان {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود ابتغاء ثواب الله، {وَهُمْ سَالِمُونَ } من حيث ماذا؟ من حيث الأعضاء، ومن حيث الأجسام لكنهم أعرضوا، فهنا في هذا اليوم لا يستطيعون السجود.

{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } فلا تهتم يا محمد بهؤلاء

{فَذَرْنِي } وهذا للتهديد {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني من يكذب بهذا القرآن {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } سنستدرجهم  بمعنى أننا نمهلهم درجة درجة {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } بمعنى أننا نمهلهم من حيث الوقت، نطيل لهم الأعمار، {وَأُمْلِي لَهُمْ } يعني أعطيهم من النعم {وَأُمْلِي لَهُمْ } حتى يظنوا أن هذه النعم ستكون باقية كما قال تعالى { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } شديد كيد الله شديد، وكيد الله كما مر معنا فيما يتعلق بالمكر إنما يوصف الله به على وجه التقييد كما قال تعالى {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) } وقد بينا ذلك مفصلا في أول سورة البقرة عند قوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}, أيضا في سورة آل عمران {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ } فقال الله {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }.

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }هل سألتهم يا محمد ثوابا على تبليغ الرسالة حتى إنهم أصبحوا من شدة ما زادت عليهم الديون أنهم غرمون، الجواب: لا، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} هل عندهم غيب الله فيكتبونه؟ الجواب: لا، ومر مثل ذلك معنا مفصلا في أواخر سورة الطور{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } اصبر يا محمد لحكم ربك الكوني والقدري والجزائي {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وهو يونس عليه السلام {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } إذ نادى وهو في بطن الحوت {وَهُوَ مَكْظُومٌ } من أسباب الغم كما قال تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ } يعني لطرح {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ } يعني في الصحراء، وهو مذموم يعني أنه آت بما يلام عليه، لكن نعمة الله تداركته فلم ينبذ مذموما فإن الله رفع منزلته كما ذكر الله في سورة الصافات، وأيضا في سورة الأنبياء فقال الله {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولذا ماذا قال بعدها مبينا فضله قال {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ولذلك اختاره الله، فجعله من الصالحين وقال تعالى {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } فقال تعالى {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: ” لا ينبغي ـ كما ثبت بذلك الحديث ـ لا ينبغي لعبد ـ وفي حديث آخر ـ لا يقولن أحدكم إني أنا أخير من يونس بن متى” فقال الله {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }.

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } يعني أن كفار قريش يزلقون ويحدقون النظر بالنبي عليه الصلاة والسلام من أجل ماذا؟ من أجل أن يصرعوه، ومن أجل أن يقتلوه هذا قول، والقول الآخر ولا تنافي بينهما من أن هذا فيه دليل على العين من أنهم يحدقون النظر بالنبي عليه الصلاة والسلام بل استأجروا من استأجروا من أجل أن يصيبه بعين، فقال تعالى {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } يعني لما سمعوا القرآن، فلم يتحملوه، فأرادوا أن يصيبوك بالعين فقال تعالى { لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ } يعني النبي عليه الصلاة والسلام {لَمَجْنُونٌ } كما مر في أول السورة { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }.

{ وَمَا هُوَ } يعني القرآن { إِلَّا ذِكْرٌ } تذكرة { لِلْعَالَمِينَ } لجميع العالمين لكن الموفق من وفقه الله، فهؤلاء من جملة العالمين، لكنهم لم يوفقوا، ولذلك ماذا قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ومن تذكر بهذا القرآن الذي هو ذكر فإن الشرف يكون له في الدنيا وفي الآخرة، وبهذا ينتهي تفسير سورة القلم….

 

 

تفسير سورة ( الحاقة )

الدرس (256 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سور الحاقة… وهي من السور المكية

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} وهذه هي يوم القيامة، وسميت بهذا الاسم؛ لأن ما أخبر به الشرع قد تحقق فيها، وظهر ما فيها، وأيضا حق الأمر وحق عذاب الله على هؤلاء {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} فقد تحققت، وتحقق ما أخبر الشرع عنها، وحقت الأمور على أهلها {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} واستفهم هنا من باب ماذا؟ من باب التهويل لهذه {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} ولذا قال بعض العلماء: إن الله إذا قال للنبي عليه الصلاة والسلام {وَمَا أَدْرَاكَ } فإنه سيدريه، أما إذا قال {وَمَا يُدْرِيكَ} فإنه لا يدريه، ولذا قال تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فلم يخبره عن هذه الساعة، فقال تعالى هنا {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ } يعني بيوم القيامة، سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها وبشدائدها، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ } وهذا يدل على أن ذكر الساعة موجود في الأمم السابقة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ }.

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ} فهنا تفصيل لعذاب هؤلاء {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } قيل يعني بسبب طغيانهم، وقيل بالطاغية التي هي الصيحة؛ لأنها صيحة تجاوزت الحد، ولا تعارض كما قال تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } والقول هنا كالقول هنا ولذا قال تعالى {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ }

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } قيل باردة، وقيل حارة، وقيل مزعجة لعظم صوتها، والذي عليه الأكثر من أن المقصود منها من أنها ريح باردة، ولذلك يسمونه بالريح العجوز؛ لأنها لا تأتي إلا في الشتاء فقال تعالى {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } يعني أنها قوية عاتية.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } يعني الله أمر هذه الريح وذللها {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } يعني هي متتابعة، وأيضا هي تقطع يعني تقطع دأب هؤلاء {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى } يعني هلكى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } يعني هامدة، كما قال تعالى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } يعني كالنخلة تؤخذ من أصولها ثم ترمى على الأرض، فأخذت هذه الريح رؤوسهم فقلعتها عن أجسادهم، فأصبحوا صرعى خامدين {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } يعني فهل ترى لهم من نفس باقية الجواب لا {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}

{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ } يعني من الأمم السابقة التي كذبت {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ } يعني قوم لوط وذلك كما قال تعالى {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } وبينَّا سبب تسميتهم بهذا الاسم كما في سورة النجم

فقال تعالى {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } يعني بالأفعال الخاطئة، وهو الكفر بالله، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ } تلك الأمم السابقة {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ } والعصيان هنا هو العصيان الأكبر وهو الشرك بالله، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } يعني عاقبهم عقوبة زائدة عن الحد، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ } يعني أن الماء ارتفع كما ذكر الله فيما يتعلق بنجاة نوح كما قال تعالى {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الآيات، فقال الله {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} يعني حملناكم يا كفار قريش {فِي الْجَارِيَةِ} يعني في السفينة، وذلك لأنكم من أصلاب أولئك، وأنتم في أصلابهم

{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} يعني تتذكرون بها، {وَتَعِيَهَا} يعني لتحفظها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} يعني أذن تعي، وتفهم، وتلقي بالسمع حتى تعقل، وهذا يدل على ماذا؟ على أن الضمير يعود على العقوبة التي نزلت بقوم نوح، وقيل إنه يعود على السفينة، لكن وإن كان ذلك داخلا إلا أن المقصود من ذلك العقوبة التي حلَّت بهؤلاء {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}.

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وهي النفخة الأولى على الصحيح؛ لأن ما ذكر بعدها يدل على أنها هي النفخة الأولى، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}  نفخ في ذلك إسرافيل، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ} هذا يدل على أنها هي  النفخة الأولى، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} الأرض والجبال جميعا {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَة} يعني دقتا وفتتا ورفعتا إلى أن ضربتا، فيومئذ حال ما يقع من تلك العلامات {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } وهي القيامة { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ }

{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } {وَانْشَقَّتِ} يعني تصدعت وتفطرت { السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ } قال {يَوْمَئِذٍ } لأنها قبل ذلك كانت قوية كما قال عز وجل {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} لكن في هذا اليوم تصبح {وَاهِيَةٌ } يعني ضعيفة.

{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يعني على جوانبها وعلى نواحيها {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} يعني يحمل عرش الرحمن ثمانية من الملائكة أو ثمانية صفوف من صفوف الملائكة كما قيل بذلك، وعلى كل حال مر هذا معنا في أواخر سورة الزمر، وفي أوائل سورة غافر فقال الله { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } والعرض هو الظهور، يعني أنكم تظهرون {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } فقال الله {يَوْمَئِذٍ } في يوم القيامة { تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} ثم بعد ذلك فصل حال الفريقين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ} يعني خذوا {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} من باب أنه فرح مستبشر {إِنِّي ظَنَنْتُ} يعني أيقنت {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) } قال {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } {رَاضِيَةٍ} على وزن فاعل، لكنها على اسم المفعول يعني مرضية، وهذا يدل على ماذا؟ على أن العيشة لو كانت ترضى لرضيت بحالها، فكيف لا يرضى بهذا النعيم. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) } { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } { لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ }

{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} يعني ثمار تلك الجنان { دَانِيَةٌ } يعني قريبة فلا يحتاجون في قطفها إلى تعب.

{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ويقال لهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا } يعني أن هذا الأكل والشرب هو هنيء سائغ لا مضرة بعده، وفصلنا ذلك أكثر في سورة الطور {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } يعني بما قدمتم { فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } يعني في أيام الدنيا من الأعمال الصالحة، وقال بعض المفسرين المقصود من ذلك أن الصائمين يجازون فيقال { فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } يعني في أيام الصيام، ونقول لا يحصر التفسير بهذا يدخل نعم يدخل، ولكن المقصود {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } في أيام الدنيا كلها  بما عملتم من الأعمال الصالحة.

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} يتمنى أنه لم يعط كتابه {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)}  يا ليتني لا أعرف ما سيكون من حساب لي {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أتى بالهاء وهي هاء السكت من أجل أن ينصب الياء الذي قبلها.

{يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } يعني يا ليتها كانت الموتة التي لا أحيا بعدها، وهذا يدل على ماذا؟ على أن شدة العذاب جعلت هؤلاء الذين كانوا يحرصون على الحياة يتمنون الموت لشدة ما يرونه.

{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ } يعني ما جمعته من مال لم يغنني ولم يفدني لأي يوم { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }

{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } زال عني سلطانيه يعني ملكي ويدخل في ذلك القول  الآخر {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } يعني زالت حججي عني، فلا حجة لي

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)} {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } يأمر الله الملائكة أن يأخذوه {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } وذلك بأن تؤخذ يده إلى عنقه فتغل

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)}  يعني ليقاسي حر الجحيم {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) } يعني أن سلسلة ذرعها سبعون ذراعا من أنها تلف به من جميع جسده من داخله ومن خارجه لم؟ {إِنّهُ كَانَ } هذه هي الأسباب أسباب هذا العذاب { إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } أشركوا مع الله {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } يعني أنه لا يحض غيره على إطعام المساكين, أيضا من باب أولى أنه لا يطعمهم {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ} في يوم القيامة {هَاهُنَا حَمِيمٌ } أي قريب أو صديق يدافع عنه {وَلَا طَعَامٌ } يعني ليس له طعام {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} وهو صديد أهل النار مما يكون من فضلاتهم { وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} يعني الذين وقعوا في الخطأ الأكبر وهو الكفر بالله.

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} ومر معنا في قوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ما سبب الإتيان بكلمة لا ، وهنا فيه قسم بما نبصره وبما لا نبصره { فَلَا أُقْسِمُ } فهنا قسم من الله بما نبصره وبما لا نبصره {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} جواب القسم من أجل ماذا؟ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني هذا القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني النبي محمدا عليه الصلاة والسلام فهو كريم من حيث صفاته، وأكرمه الله بالفضائل، ولا يدل هذا على ـ كما ذهبت المعطلة ـ من أن القرآن مخلوق؛ لأن الله أضاف القرآن إلى النبي عليه الصلاة والسلام فنقول لكم أين فهمكم للقرآن؟ وأين فهمكم للغة؟ ولذا لو قلت شيئا أمام الناس من كلام قاله بعض      الناس مثلا في مكان، وعرف أن القائل فلان، ثم أنت نقلته إلى مجلس آخر فهل هذا الكلام كلامك أم  كلام فلان؟ كلام فلان، إذن أنت فقط مبلغ، أيضا النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ، ولذلك مما يدل على التبليغ من أنه قال في سورة التكوير {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي جبريل، فدل هذا على أن جبريل عليه السلام، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام من أنهم مبلغون، لكن القائل من؟ هو الله، هو الله عز وجل.

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } كما تزعمون، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } أين إيمانكم؟ قليلا إيمانكم، إيمانكم منعدم، لا إيمان لكم؛ لأنكم تعرفون أن هذا الكلاىم ليس كلام الشعراء، وأنتم تعرفون الشعراء، {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ } يعني ليس بقول الكهنة، ولذلك غير الأسلوب قال {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } أين تذكركم، فإنما يقوله النبي  عليه الصلاة والسلام فيما يبلغ عن ربه ليس كقول الكهنة، فأين تذكركم {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } لكن التذكر عندكم معدوم.

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ولذلك من باب التأكيد أيضا من أنه لما قال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } بين هنا ماذا؟ أن الذي نزله من؟ رب العاليمن ليس قول محمد، وليس قول جبريل {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تنزيل من ربكم الذي هو رب العالمين.

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } أنتم تزعمون أن محمدا قد أتى بهذا القرآن من تلقاء نفسه فقال تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} لو افترى شيئا يسيرا على القرآن وافترى على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } مع شرفه عليه الصلاة والسلام وحاشاه فقال الله هنا {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) } { بِالْيَمِينِ } يعني بالقوة، وأيضا {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } بالحق لأن ما نوقعه به إنما هو حق، وقيل {بِالْيَمِينِ } كما يؤخذ الشخص بيده اليمين إذلالا له، ومن ثم قال تعالى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) } {الْوَتِينَ } يعني لقطعنا عرق الوتين الذي يكون عند القلب، وقيل عرق آخر متصل بالقلب المهم {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } يعني لن يمنعنا أحد إذا أردنا بمحمد عليه الصلاة والسلام شيئا فيما لو افتراه وحاشاه عليه الصلاة والسلام.

{ وَإِنَّهُ } يعني القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } لمن أراد التقوى، فإنه تذكرة تذكرة لأنهم المنتفعون به, وهذا فيه تعريض بأنهم ليسوا بأهل تقى وليسوا بأهل خير.

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ } فلا يخفى على الله حال هؤلاء فسيعاقبكم

{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } يوم يرون النعيم يكون لأهل الجنة يتحسرون يوم القيامة أنهم لم يؤمنوا بهذا القرآن، وقيل يتحسرون في الدنيا لأنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ } يعني هذا القرآن لحق اليقين فهو اليقين وهو الحق، وقد مر معنا توضيح لهذه الآية في آخر سورة الواقعة {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}.

إذن مع تلك الدلائل ما الذي يلزمك؟ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } نزه الله عما لا يليق بجلاله وبعظمته، ومن ذلك ما يقوله هؤلاء المفترون المكذبون

وبهذا ينتهي تفسير سورة الحاقة.

 

تفسير سورة ( المعارج )

الدرس (257 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة المعارج… وهي من السور المكية…

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} والسؤال يتضمن الدعاء يعني دعا داع بعذاب واقع، كما قال تعالى عن ذلكم الرجل الكافر قال الله عنه {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فقال تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أين عقل هؤلاء  كيف يسألون عذاب الله؟!

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ} إذا نزل {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} لن يدفعه أحد عنهم.

{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} هذا العذاب إذا نزل إنما ينزل من الله {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}  يعني ذي الدرجات فهو عز وجل له الصفات العليا، وأيضا يرفع درجات أوليائه، وأيضا هو صاجب النعم يعطيها عز وجل من يشاء.

{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} الملائكة والروح وهو جبريل {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ} يعني تصعد الملائكة {وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} يعني إلى الله {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} تعرج في أي يوم؟ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هل هذه في الدنيا أم في يوم القيامة؟ قيل المقصود من هذا اليوم هو يوم القيامة، وقيل هو ما يكون في الأرض باعتبار ماذا؟ ما يكون من أمره حينما تعرج الملائكة والروح من أطباق الأرض السفلى إلى ما يكون في منتهاها عند العرض، وقد مر معنا تفصيل لذلك، وتوضيح له أكثر في سورة السجدة. فقال تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.

{فَاصْبِرْ } يا محمد وهذا يدل على ماذا؟ على أنه لم يؤمر بالقتال، وقد مر معنا توضيح مثل هذا فيما يتعلق بالأمر بالصبر والأمر بالقتال متى يكون هذا؟ ومتى يكون هذا؟ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} الصبر الجميل هو الذي  لا شكوى معه، ولذلك ماذا قال يعقوب عليه السلام {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}

{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)} {يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} يعني بعيدا من حيث الوقوع يعني يرونه بعيدا من أنه مستحيل أن يقع، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} يعني هذا اليوم يوم القيامة {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}

{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} يعني ماذا؟ كالزيت في ذوبانها كما قال تعالى {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}

{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} يعني كالصوف المنفوش الذي يتطاير.

{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} يعني لا يسأل قريب قريبه.

{يُبَصَّرُونَهُمْ}  كل منهم يبصر الآخر من أنه يرى أن هذا هو أخوه، وأن هذا هو أبوه {يُبَصَّرُونَهُمْ}  ومع ذلك لا يسأل أحدهم أحدا باعتبار شدة الموقف، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} يتمنى المجرم {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}  وقد مر معنا في سورة هود في بعض الآيات “يومَئذ” و “يومِئذ” {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ} يعني زوجته {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ} يعني العشيرة يعني القبيلة {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} يعني تضمه {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} يعني يتمنى حتى من كان في الأرض أنه ينجيه من عذاب الله.

ولو قال قائل أين ذكر الأم، وأين ذكر الأب؟ وعلى كل حال هنا يقال في مثل هذه الأيام لم تذكر الأم والأب، لم؟ لأنه لو تمنى أن يقدم أباه وأمه فإنه يكون بذلك عاقا، وسيغضب الله عليه؛ لأن الوالدين لا يقدمان لهذا العذاب، ولكن في هذا القول ما يدل على أنه مخالف وتعارضه الأدلة، لم؟ لأن الإمام مالك لما سئل عن فصيلته قال رحمه الله: ” الفصيلة هي الأم” باعتبار ماذا؟ أنه انفصل منها، وإذا كانت الأم يدل هذا على ماذا؟ يدل على أن الأب داخل من حيث السياق، وإذا قيل إن الفصيلة هي العشيرة فإن الأب يدخل من ضمن العشيرة والقبيلة، ثم إنه على هذا الكلام ماذا قال تعالى في سورة عبس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)} إذا كان يفر من أمه وأبيه أليس عقوقا على حسب هذا الكلام الذي ينشر؟ الجواب: سيكون عقوقا، لكن في يوم القيامة تختلف الأمور، ليسوا في الدنيا حتى يكون هناك ما يتعلق بماذا؟ أن هذا حرام أو غير حرام، في يوم القيامة {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)} بل إن قوله {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} يدخل في ذلك الأم والأب.

{كَلَّا} كلمة ردع وزجر ليس كما تمنى، لا، {إِنَّهَا لَظَى}  يعني النار لظى يعني تتقد وتلتهب {إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)} يعني تنزع ماذا؟ جلدة الرأس، وقيل تنزع الجلود، وهذا أيضا صحيح، فإنها تنزع الجلود {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا} يوم القيامة {تَدْعُوا } النار {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ} في الدنيا {وَتَوَلَّى} أدبر عن الحق {وَتَوَلَّى}   يعني أعرض {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} تقول تعال تعال {وَجَمَعَ فَأَوْعَ } يعني جمع المال فأوعاه وحفظه ولم يخرج حقوق الله.

{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}

{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {هَلُوعًا} ما تفسيره؟ قيل بتفاسير كثيرة، لكن نحن نقول الهلوع مفسر بما بعده {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} أي شر يمسه فإنه يجزع ويتسخط {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ } يعني من الرزق {مَنُوعًا} يمنع الخير {إِلَّا الْمُصَلِّينَ } من هم محافظون على الصلاة، ولهم هذه الصفات ليسوا كهؤلاء {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} ومر معنا توضيح لهاتين الآيتين.

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يعني يصدقون بيوم الجزاء.

{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} يعني أنهم خائفون، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} يعني لا يأمن أحد عذاب الله عز وجل.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} يعني لا يلامون على هذا الفعل {فَمَنِ ابْتَغَى} يعني طلب {وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} الذين تجاوزوا حدود الله ومرت معنا هذه الآية مفسرة بأحكامها في أول سورة المؤمنون.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يعني أنهم يراعون ويحافظون الأمانة والعهود ومرتفسيرها في أول سورة المؤمنون.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} يعني يقيمون الشهادة له، ولا يخفونها، وإذا أقاموها يقيمونها لله, { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} مع أنهم يداومون عليها هم يحافظون عليها، وكرر ذلك للاهتمام بالصلاة.

{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} مكرمون في جنات النعيم لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}

{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} هنا استفهام إنكاري {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ} يعني اتجاهك {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} يعني أنهم يسرعون ويمدون أعناقهم إليك يا محمد استهزاء.

{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)} { عِزِينَ } يعني جماعات، وذكر الشمال واليمين لأن الغالب أن الإنسان يكون لمن أراد بأحد سوءا أن يكون عن يمينه وعن شماله، والمقصود من جميع الجهات{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } يعني يستهزئون بك وبما أتيت به.

{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا} حرف ردع وزجر يعني ليس كما يزعمون، {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} يعني خلقناهم من ماء مهين يعلمون أصلهم من ماء مهين، فكيف يتكبرون على الحق، وأيضا ليست العبرة بماذا؟ من أنهم خلق، وإنما المقصود من أنهم يستوون هم وغيرهم من أنهم خلقوا من ماء مهين، إذن الذي يرتفع درجات عند الله هو من أطاع الله، لا من حيث أصل الخلقة، ولذلك أبهمه هنا من باب التحقير.

{فَلَا أُقْسِمُ} يعني أقسم ومر معنا توضيح لكلمة “لا” في قوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ }

{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} وقد جمعنا بين المشارق والمغارب، والمشرق والمغرب في سورة الصافات. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} أقسم الله على أنه قادر، وعلى ماذا؟ {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} يعني لسنا بعاجزين من أننا نغير هؤلاء كما قال تعالى {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ }

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} وهذا للتهديد {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} والخوض إذا أتى مع اللعب الخوض يدل على ماذا؟ على تكذيبهم بالأخبار الشرعية، واللعب يدل على ماذا؟ يدل على تركهم للطاعة كما ذكر الله عن فرعون {فَكَذَّبَ وَأَبَى} كذب بالأخبار وأبى الطاعة.

فقال الله هنا {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا} يعني ليستمروا على هذه الصفات الذميمة إلى أن يلاقوا {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} الذي وعدهم الله. ما هذا اليوم؟ {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} يعني من القبور {سِرَاعًا} يعني مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} يعني إلى أشخاص بارزة كأصنامهم {يُوفِضُونَ}  يعني يسرعون كما كانوا يسرعون في الدنيا إلى أصنامهم، إذن يوم القيامة إذا دعا الداعي كل منهم كما قال تعالى يومئذ {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ } فقال تعالى {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}

{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } تغشاهم ذلة، وأبصارهم خاشعة من الذل {ذَلِكَ } يعني ما مضى من ذكره من ذلك اليوم {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } الذي وعدهم الله به وتحقق…

وبهذا ينتهي تفسير سورة المعارج….

 

تفسير سورة ( نوح )

الدرس (258 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة نوح…. وهي من السور المكية…. وقصة نوح عليه السلام مرت معنا في سور، وذكرها الله  وذكر ما يتعلق به وبقومه أكثر من هذا الموطن…

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ } يعني أرسلناه من أجل {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{قَالَ يَا قَوْمِ} من باب التلطف معهم {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } يعني بين النذارة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} يعني لتكن عبادتكم وتقواكم الله {وَأَطِيعُونِ} لأني أنا رسول منه عز وجل {وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} يعني إن تفعلوا {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل من أن {مِنْ} هنا زائدة، ولذا بعض أهل اللغة يقولون إن “من” لا تزاد في الإثبات، وإنما تزاد في النفي، وعلى كل حال إن قيل بهذا القول، وإلا فإن{مِنْ } التبعيضية هنا تدل على ماذا؟ تدل على أنه لا يغفر لهم الذنوب المتعلقة بحقوق الخلق فقال الله {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني إلى وقت مسمى يعني لا ينزل بكم العذاب {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} أجل الله، وما قدره الله لا يؤخر {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لو كنتم تعلمون ذلك فعليكم أن تتوبوا إلى الله حتى  لا ينزل بكم عذاب الله.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} نوَّع معهم أساليب الدعوة في الأوقات المختلفة {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} يعني أنهم هربوا ونفروا أكثر وأكثر، {وَإِنِّي كُلَّمَا} وكلما تفيد التكرار {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} لا أريد أجرا من عندهم {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} حتى لا يسمعوا الهدى، ولذلك قال {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ} مع أن الذي يوضع في الآذان هو الأنامل، وليست الأصابع، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية من باب الإتيان بالكل نيابة عن الجزء، والمعروف أن الأنامل هي التي تكون في الآذان، وليست الأصابع، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العريبة من أنه يذكر الكل، ويراد منه الجزء كأنهم يريدون أن يدخلوا أصابعهم كلها حتى لا يسمعوا كلامه، {وَاسْتَغْشَوْا} يعني غطوا {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} حتى لا يروني {وَأَصَرُّوا} على الكفر {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} يعني استكبارا عظيما، ولذلك أكده {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)} يعني على الملأ، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} يعني أتيت إلى أشخاص علانية, {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} يأتي إلى الشخص لوحده لعله أن يتوب {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} لأنكم إذا استغفرتم الله حصلت لكم هذه الأمور، ومن ثم قال بعض المفسرين أصابهم قحط، ولعل ما ذكروه يدل عليه سياق الآية، ولا يلزم من ذلك أيضا من أنه يصيبهم قحط فإن الاستغفار إذا كان من ثماره هذه الأشياء لا يلزم أن يكون هناك قحط، وعلى كل حال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} السماء هنا المطر{مِدْرَارًا} يعني متصببا كثيرا

{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} يعني بساتين، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} وهذه فوئد الاستغفار..

{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}

{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} يعني ما لكم لا تعظمون الله حق تعظيمه وأيضا ما لكم {لَا تَرْجُونَ} يعني لا تخافون من الله {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}  لماذا لا تعظمون الله حق تعظيمه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} يعني من خلقكم أطوارا من حيث ما كنتم نطفة في أرحام أمهاتكم وتطور بكم الخلق وهكذا بعد ما خرجتم من أرحام أمهاتكم {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وهذا يدل على أن الذي خلقكم هو الذي يستحق العبودية عز وجل.

{أَلَمْ تَرَوْا} لما ذكرهم بما يتعلق بالآيات التي تخص أنفسهم ذكرهم بما يتعلق بالآيات الأخرى {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} يعني أن بعضها فوق بعض تأملوا في السماء {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} يعني في مجموعهن كما قال بعض السلف من أن المقصود من هنا السماء الدنيا {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } ولذلك يقال في مثل هذا الزمن من أنهم وصلوا إلى سطح القمر، لكن لو قال قائل كيف يصلون إلى سطح القمر، والله قال عن الجن {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} قال تعالى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} إلى غير ذلك من الآيات، فالجواب عن هذا من أن هذه الأشياء لا يمكن أن يجزم بها، فيترك القرآن من أجل تلك النظريات التي لا تثبت يقينا مائة بالمائة، بل إن بعضهم في مثل هذه الأيام من الغرب أثبت من أن ما ذكروه من أنهم وصلوا إلى سطح القمر ليس بصحيح، وإنما صوروا تصاوير معينة، ونشرت من أجل أنهم وصلوا إلى سطح القمر، ولم يصلوا إلى سطح القمر، ومن ثم فإنه في مثل هذا الأمر  نقول: من أنه لا يترك دلالة القرآن لهذا الأمر؛ لأن دلالة القرآن دلالة قطعية، لكن لو مثلا لو ثبت مائة بالمائة أنهم وصلوا إلى سطح القمر، لأن الأدلة منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، الأدلة القطعية هي النصوص الشرعية، أيضا الحس الذي تشاهده مائة بالمائة هو دليل قطعي، فلو ثبت على افتراض مثل ذلك لو ثبت مائة بالمائة في المستقبل لو ثبت حسيا مائة بالمائة من دون ريب أو شك.

فهنا ما الذي جرى؟ تعارض دليل قطعي بدليل قطعي إذن ما الحل أو ما الجواب؟ الجواب أن الدليل القطعي الذي هو النص الشرعي باقي، والدليل الحسي الذي إن ثبت مائة بالمائة باقي.. إذن يكون الخلل عندنا نحن إذ فهمنا هذا النص الشرعي القطعي فهما غير الفهم الذي فهمناه سابقا، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتعارض النص الشرعي مع الحس القطعي، لا يمكن ذلك هذا على افتراض.

وبما أننا دخلنا في هذا الأمر بعض الناس الآن مما يقول أنا فيزيائي أو ما شابه هؤلاء ويفسرون القرآن، وكذلك ما يقال الإعجاز القرآني ليعلم أن النصوص الشرعية لا تنزل على هذه النظريات، ولا على ما يقال هذا إعجاز قرآني، لم؟ لأن هذه النظريات قد تتغير وتتبدل، نعم وقد تغيرت وتبدلت، ومن ثم فإنه لا يعسف القرآن ولا النصوص الشرعية من أجل أن توافق تلك النظريات أو ما يمسى بالإعجاز القرآني، وإنما على المسلم ماذا؟ أن يجعل القرآن مفهوما، وأيضا السنة مفهومة على فهم السلف، لكن إن أتت نظرية لا تعارض النص الشرعي فإننا نقبلها لكن بشرط ألا نجعلها هي الأساس، والأعظم من ذلك أن بعضهم يعسف النص الشرعي من أجل أن يوافق تلك النظرية، أو ذلكم الإعجاز، بل الأدهى والأدهى والأدهى أن هناك من دخل الآن فيما يسمى بهذه النظريات، وعنده معتقدات فاسدة فيما يتعلق بأسماء الله، وفيما يتعلق بصفات الله، وفيما يتعلق بالقبر، وفيما يتعلق باليوم الآخر، ولذلك أنكر بعضهم ممن هو الآن مشهور، وأنكر بفيزيائياته وبنظرياته ما يكون في القبر، وما يكون في يوم القيامة، فليتنبه لمثل هذا، وهذه إمرارة سريعة، وإلا فالمقام يحتاج إلى توضيح أكثر…

قال تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} يعني وهاجا مضيئة {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ} لما ذكر لهم الآية العلوية، هنا بين لهم الآية الأرضية قال {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} {نَبَاتًا} هذا اسم مصدر، وليس  مصدرا؛ لأن أنبت يكون مصدره إنباتا، لكن لماذا أتى ب {نَبَاتًا}  اسم مصدر؟ قال بعض المفسرين لأن ما قبله فعل يعني والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا فيتوافق هنا نباتا مع هذا الفعل المحذوف، وقيل إنه أتى باسم المصدر باعتبار التخفيف، ولذلك مر معنا في قوله تعالى في توضيح أكثر {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}

فقال الله هنا {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} هذا حيث ماذا؟ أصل أبينا آدم

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} يعني بعد أن تموتوا يعيدكم إلى الأرض، ثم {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} يعني من هذه الأرض.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} بمثابة البساط المذللة لكم، {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا} يعني طرقا {فِجَاجًا} يعني واسعة.

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) }

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ} وأيضا هذا فيه تعريض لكفار قريش لكي ينظروا إلى السماء وإلى الأرض وإلى خلقهم، {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}  مع تلك العلامات ومع ما بيّن ومع اجتهاده مع أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما {وَاتَّبَعُوا } يعني الأراذل اتبعوا العظماء، {وَاتَّبَعُوا }  أولئك العظماء {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} الأموال والأولاد زادت أولئك الكبراء والرؤساء زادتهم خسارا واتبعهم من؟ هؤلاء الأراذل والأسافل

{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} يعني مكروا مكرا عظيما من أجل الكيد والمكر بمن؟ بنوح عليه السلام، من هم؟ أولئك الزعماء.

{وَقَالُوا} يتواصون على الباطل {لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ} يعني لا تتركوا آلهتكم وما هي هذه الآلهة؟ آلهة كثيرة لكن من بين هذه الأشياء، {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } هذه أسماء رجال صالحين كما قال ابن عباس رضي الله عنهما  قال: أسماء رجال صالحين كانوا على عبادة صالحة، فلما ماتوا قال قومهم لنجعل لهم تصاوير في مجالسنا حتى نذكر الله، ونعبد الله إذا رأيناهم، ففعلوا ذلك، فلما مات هؤلاء، وأتى الجيل الذي بعده أوحى الشيطان إليهم من أن لهم مكانة، فأوحى إليهم أن اعبدوا هؤلاء، فعبدوهم من دون الله، {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} من؟ الكبراء، وقيل الأصنام، ولا تعارض بينهما، قال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}

فقال تعالى {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ} يعني دعا نوح عليه السلام عليهم {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} باعتبار أنهم كما قال تعالى {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ} فدعا عليهم بزيادة الضلال.

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} هي مركبة من كلمة ” من وما ”  “ما” زائدة {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}  يعني بسبب خطيئاتهم {أُغْرِقُوا } يعني في الطوفان {فَأُدْخِلُوا نَارًا} يعني بعد الإغراق، ما مصيرهم؟ النار

{فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} لم يجدوا أحدا ينصرهم من عذاب الله.

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ} يعني لا تترك {عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}

{دَيَّارًا} يعني يدور في الأرض، أو ممن يسكن الديار، دعا عليهم بالاستئصال، لم؟ لأن الله أعلمه أنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن، فدعا عليهم بهذا الدعاء.

{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} يصدون الناس عن دين الله، {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} يجمعون بين الفجور والكفر.

لكن لو قال قائل ما الذي أدراه من أن الذرية التي ستأتي من أنها ستكون فاجرة كافرة؟ فالجواب عن ذلك: إما بإخبار الله له، أو أنه كما قال بعض المفسرين علم من حال الأبناء والصغار من أنهم كانوا يتبعون آباءهم، ويؤذون نوحا، فقال {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}.

ثم قال {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} دلَّ هذا على أن أبوي يعني الأم والأب أن أبوي نوح عليه السلام كانا مؤمنين {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}  {مُؤْمِنًا } وهذا يخرج من؟ يخرج زوجته لأنها كافرة، ويخرج ابنه الذي أغرقه الله، وقال بعض المفسرين {بَيْتِيَ} يعني المسجد ولا مانع من دخوله، لكن قد يكون مكان العبادة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت عنه: ” المسجد بيت كل تقي بيت كل تقي”، وقال بعض المفسرين: المقصود من ذلك السفينة، وعلى كل حال الأظهر هو البيت، ولا مانع من دخول هذه الأشياء، {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دعا نوح عليه السلام لكل مؤمن ومؤمنة إلى قيام الساعة، وهذا فيه مزية لأهل الإيمان {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}  دعا عليهم {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} يعني هلاكا على هلاكهم….

وبهذا ينتهي تفسير سورة نوح عليه السلام….

 

تفسير سورة ( الجن )

الدرس (259 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الجن… وهي من السور المكية…

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا} وهؤلاء أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الجن قد استعموا إليه كما مر معنا في سورة الأحقاف، كما قال تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} فقال تعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا} فالجن أثنوا على القرآن بأنهم سمعوا هذا القرآن الذي هو عجببا باعتبار ألفاظه، وباعتبار معانيه وما فيه من الهدى والخير، ثم قالوا {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} فدل هذا على أن التوحيد هو الرشد، وأن من ترك الدين فهو سفيه، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} يعني تعالى عظمة ربنا {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} يعني زوجة {وَلَا وَلَدًا}.

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} يعني كبيرهم الشيطان، وهذا يدل على ماذا؟ على أنه سفيه لأنه أشرك، لكن من آمن {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} يعني ظلما وكذبا وجورا، وهو الشرك بالله، {وَأَنَّهُ كَانَ} ويدخل في ذلك كل سفيه اتبع الشيطان {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن قالوا ما ظننا أن الجن والإنس تقول على الله الكذب، فنحن اتبعناهم  بناء على أننا صدقناهم وبهذا يعتذرون لأنفسهم {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.

ثم قال الله {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} كانوا في الجاهلية إذا أتى أحدهم إلى الوادي قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه بمعنى أنه يستعيذ بالجن، وهذا شرك بالله، قال{فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} يعني زاد الإنس الجن لم استعاذوا بهم {رَهَقًا} يعني طغيانا وكفرا، وزاد الجن الإنس زادوا الإنس خوفا ورهقا وتعبا؛ لأن من لجأ إلى غير الله فإن حاله إلى عذاب، ولذلك ذكر الله حالهم، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}

{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}  قال تعالى {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}  يعني الجن {كَمَا ظَنَنْتُمْ} يعني يا كفار الإنس {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}.

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}

قالت الجن {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} يعني حرست بالملائكة، وبما قدره الله، وحرست بالشهب وهذا يدل على ماذا؟ على أن قوله تعالى {مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} من أنها قبل ذلك قبل بعثة النبي  عليه الصلاة والسلام لم تملأ، وقد مر معنا بيان ذلك مفصلا في أول سورة الصافات، {وَأَنَّا كُنَّا} تقول الجن {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} يعني نستمع ما تقوله الملائكة {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} شهابا يرصده حتى يحرقه وحتى يثقبه.

{وَأَنَّا لَا نَدْرِي} يعني تقول الجن لما منعنا من السماء {وَأَنَّا لَا نَدْرِي} ما سبب هذا الأمر؟ هل هو شر سيقع في الأرض، أم خير سيكون لأهل الأرض؟ ولذا قالوا {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ولذلك لم يقولوا أشر أراد الله بأهل الأرض من باب أنهم لا ينسبون الشر إلى الله تعظيما لله كما قال عليه الصلاة والسلام عند مسلم: ” والشر ليس إليك” لكن عند الخير ماذا قالوا لما قالوا {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} صرحوا باسمه عز وجل {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} يعني خيرا، وهذا قبل أن يعلموا بماذا؟ أن يعلموا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا واستمعوا إليه ورأوه هنا علموا أن منعهم من السماء هو بسبب بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} يعني تقول الجن {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} يعني من هو دون الصالحين، وأيضا هناك من هم دون دون وهم المشركون، {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} يعني كنا مذاهب متفرقة وأهواء وأحزاب، ولذا صح عن الأعمش رحمه الله كما قال ابن كثير رحمه الله عن شيخه المزي من أنه قال عرضت هذا الإسناد على شيخنا المزي من أن الأعمش قال:” تروح إلينا جني فقلنا له ما أحب الطعام إليكم؟ قال الأرز، فقدمنا له فلم يبق شيئا، ثم قلنا له هل فيكم هذه الأهواء مثل التي فينا؟ قال نعم فينا، فقلنا من شر الطوائف عندكم؟ قال: الرافضة”

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} أي في أي بقعة من بقع الأرض يعني هم أيقنوا بعد سماع القرآن {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} لن نستطيع أن نهرب من الله ولو كنا في السماء أو في أي مكان.

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ} الجن تقول {لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ} وهؤلاء الجن طائفة منهم كما قال تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} فقال تعالى عن هؤلاء {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} يعني نقصا في حسناته {فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} يعني أنه لا يزاد على سيئاته.

{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} {الْقَاسِطُونَ} يعني الجائرون الظلمة؛ لأنه من قسط بمعنى جار القاسط، لأن من أقسط يعني عدل فهو مقسط،

{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} بمعنى أنهم ساروا في الطريق الذي هو الرشد، وهو دين الحق،  {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} القاسطون وهم الكفرة، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} كما قال تعالى {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}

{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} يعني ماء متدفقا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم فيه، {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} معنى ذلك وأن لو استقاموا على طريقة الإسلام {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} من يشكر ممن لا يشكر، وقال بعض المفسرين {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يعني على طريقة الشرك {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} من باب أننا نمهلهم ونمتعهم كما قال تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}

{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} من أنه يدخل ماذا؟ يدخل في العذاب الصعد، والصعد هو الشاق الذي يشق على الإنسان {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}.

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وذلك لأن الأمم السابقة إذا أتوا إلى معابدهم فإنهم يشركون مع الله فقال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}  هذه المساجد هي لله، فلا يجوز أن يشرك مع الله، وكذلك المساجد كما قال بعض المفسرين، ولا تعارض بينها هي مواضع السجود، فلا تسجدوا بجوارحكم وبأعضائكم لغير الله.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {لِبَدًا } يعني مجتمعين بعضهم فوق بعض قد تزاحموا عليه، من؟ قيل هم الجن لما استمعوا إليه جلعوا يجتمعون إليه، وقيل من أن شياطين الإنس وشياطين الجن أرادوا أن يجتمعوا على النبي  صلى الله عليه وسلم حتى يهلكوا دعوته، وحتى ينفروا الناس من ذلك.

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} فكيف يدعى محمد من قبل أولئك الذين ضلوا وأضلوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ويستغيثون به وهذا من الشرك بالله. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}.

{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} لا أملك أن أدفع عنكم ضرا، ولا أستطيع أن آتي لكم بخير من رشد وغير ذلك، فكيف يدعى من دون الله؟!

هذا هو الشرك. فقال الله {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}.

{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} لن يمنعي من الله أحد {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} يعني ملجأ ألتجئ إليه {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} يعني من أنه لا مأمن لي إلا أن أبلغ رسالات ربي، أو لا أملك شيئا إلا أن أبلغ رسالات ربي {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والعصيان هنا هو الكفر بالله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وتغيرت بعض الكلمات من الجمع إلى الإفراد باعتبار كلمة “من” كما مر معنا في السور السابقة.

{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}

{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} يعني العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ} حينها {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} لأنهم يقولون للمسلمين أنتم ضعفاء، ولا ناصر لكم، وأنتم أقل عددا، {فَسَيَعْلَمُونَ}  حينها {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}.

{قُلْ} يا محمد {إِنْ أَدْرِي} يعني ما أدري {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني من العذاب {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} يعني زمنا علمه عند ربي.

{عَالِمُ الْغَيْبِ} يعني ما غاب عنكم {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فالغيب لا يعلمه إلا الله، لكن قد يخبر ببعض الغيب لبعض  الرسل، فقال الله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} {رَسُولٍ } يعني ممن اختاره وارتضاه {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} يعني فإن الله يسلك من بين يديه يعني من بين يدي هذا الرسول {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعني من جميع الجهات {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} يعني ملائكة يحفظونه ويرصدون ما يكون عليه من سوء، فيمنعونه عن السوء.

{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} يعني ليعلم الله عز وجل {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} يعني أن الرسل قد بلغوا {رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} وأحاط عز وجل بما لديهم، فلا يخفى عليه شيء، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} يعني بالعدد واحدا تلو الواحد، فإن الله قد أحصاه، {لِيَعْلَمَ} أي ليعلم الله علم ظهور يترتب عليه جزاء وحساب {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} هذا هو الأظهر، وقال بعض المفسرين {لِيَعْلَمَ}  الضمير يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل الذين سبقوه {قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} يعني أحاط الله بما لديهم وأحصى جل وعلا كل شيء عددا…

وبهذا ينتهي تفسير سورة الجن……

 

تفسير سورة ( المزمل )

الدرس (260 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة المزمل، وهي من السور المكية…

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} يعني المتلفف بثيابه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام أتى عليه الصلاة والسلام، وتلفف بثيابه، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}  قال {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، وهذا يدل على أنه أمر في أول الأمر بقيام الليل {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ، وهل هو واجب عليه أم لا؟ مر معنا في قوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}

{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ما هو هذا القليل؟ {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} يعني أنك تقوم نصف الليل، أو أنك تقوم أقل من نصف الليل إلى الثلث {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} يعني زد على النصف فتبلغ ثلثي الليل، ولذلك لما قال {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} لما قال {قَلِيلًا} دل هذا على أنه لما قال {نِصْفَهُ} النصف الثاني ماذا أطلق عليه؟ أطلق عليه بأنه قليل، لم؟ لأنه لما كان ذلك النصف في طاعة الله كان كثيرا من حيث الثواب.

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} يعني بينه، واقرأه على تمهل وعلى تؤدة وبينه أيضا.

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} يعني أمرناك بقيام الليل، لم؟ لأننا سنلقي عليك قولا ثقيلا، وهو هذا القرآن، فهو ثقيل من حيث ما يكون فيه من أحكام، أيضا هو ثقيل من حيث الأجور, أيضا {ثَقِيلًا} يعني ليس بسفساف، ولذلك قال تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}.

{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} يعني ساعات الليل {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} لأن الليل يسكن فيه الناس {أَشَدُّ وَطْئًا} يعني ماذا؟ يتواطئ القلب مع اللسان وإذا بالقلب يكون حاضرا، {وَأَقْوَمُ قِيلًا} يكون نطقك بالقرآن هو أقوم قيلا، وأصوب في القراءة.

{إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} هذا شأنك بالليل، شأنك بالنهار {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}  يعني أنك تذهب في النهار؛ لقضاء مصالحك وحوائجك، ولذلك سماه {سَبْحًا} باعتبار السابح، السابح هو الذي يسبح بقوة.

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} عظم الله، وذلك بتوحيده، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} يعني انقطع لعبادته عز وجل، واجعل جزءا من أوقاتك لماذا؟ لحاجاتك وأمورك الدنيوية.

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} هو الذي يستحق أن يعبد، وأن يتوكل عليه؛ لأنه هو رب المشرق والمغرب {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يعني جهة المشرق، وجهة المغرب، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا معبود بحق إلا هو، {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فهو الذي يتخذ وكيلا فتوكل على الله وفوض أمورك إلى الله.

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) }

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني ما يقولونه لك يا محمد {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} هجرا لا عتاب فيه، لأن لك شأنا في مستقبل الأيام من أن لك النصر، ولك الفتح، فقال الله {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}.

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ } هذا للوعيد الشديد يعني اتركني والمكذبين، {أُولِي النَّعْمَةِ} يعني أصحاب الترف {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} انتظرهم قليلا

{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} يعني عندنا أنكالا يعني قيودا { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} طعاما يقف في الحلق، فلا هو يدخل، ولا هو يخرج {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}

{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} يعني أنها تهتز وتتحرك {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} تكون الجبال مثل الرمل العالي من أنه يتساقط كثيبا مهيلا يعني أنه يكون هباء.

{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} يعني أنتم يا كفار قريش أرسلنا إليكم محمدا وسيكون شاهدا عليكم يوم القيامة إن كذبتم { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } يعني ليس ببدع من الرسل عليه الصلاة والسلام.

{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} {فَعَصَى} العصيان هنا هو الكفر بالله، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} من هو؟ موسى عليه السلام، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} يعني عاقبنا فرعون عقوبة شديدة بأن أغرقه الله في البحر.

{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} يعني كيف تتقون عذاب الله إذا كفرتم، ماذا يكون حالكم يوم القيامة؟ وأيضا يدخل فيه ما قاله بعض المفسرين كيف  تكون لكم التقوى يوم القيامة؟ لن تنفعكم التقوى، التقوى إنما تكون في الدنيا،

{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} يعني في ذلك اليوم الولدان يشيبون من شدة ما يكون، ولذلك الإنسان كلما تزداد عليه الهموم والأثقال يخرج شيبه، فقال هنا لعظم ما يكون من الأهوال {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}.

{السَّمَاءُ} مع عظمها {مُنْفَطِرٌ بِهِ} يعني تتشقق في يوم القيامة؛ لعظم ما يكون فيه من الأهوال، {السَّمَاءُ}  وكل ذلك بأمر الله {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} يعني ما وعد الله فإنه كائن لا محالة، ومنه هذا اليوم.

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يعني ما ذكر لك في هذه السورة تذكرة، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} يعني فمن شاء اتخذ إلى ربه طريقا ينجيه من عذاب الله.

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} هنا لما ذكر في آخر آية ذكر ما يبين ما يكون في أولها لما قال {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} هنا شق على الصحابة، لماذا؟ لأنهم لا يقدرون أن يضبطوا الليل من حيث النصف، من حيث الثلث، وأيضا عندهم أسفار للتجارة وللجهاد، وما شابه ذلك، فماذا قال تعالى{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} يعني علمه عز وجل قد أحاط بكل بكل شيء، ومن ذلك هو يعلم حالك، وحال أتباعك من أنكم على خير، وسيجزيكم الله هذا الخير، وسيخفف عنكم {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} يعني أقل {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} كل هذه معطوفة على {أَدْنَى} {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} من حيث الوقت، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يعني لن تطيقوا ذلك لأن معرفة الوقت صعب عليكم من حيث التحديد، وأيضا الاستمرار في مثل هذا القيام الذي أوجبه عليكم فيه صعوبة ومشقة عليكم. فخفف الله عنكم {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} خفف عنكم  فتاب عليكم، ومن توبته أنه خفف عليكم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} يعني صلوا واقرءوا ما تيسر لكم من القرآن في هذه الصلاة، وقال بعض  المفسرين {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} يعني أن قراءة القرآن تغني عن صلاة الليل، ولعل الأول هو الأظهر.

{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} رحمكم {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}  {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} هنا أن ليست المصدرية التي تنصب الفعل المضارع {أَنْ} هنا مخففة التي تنصب الاسم، وترفع الخبر، اسمها محذوف وهو ضمير الشأن يعني علم أنه سيكون، فكلمة {سَيَكُونُ} هي الجملة خبر؛ لأن {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}  فخفف عنكم {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} يعني يسافرون {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يعني من التجارة، و ما شابه ذلك، {وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا يشق عليكم هذا القيام {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ومن هذه الآية أخذ بعض العلماء من أن الإنسان لو قرأ في الصلاة بما تيسر من القرآن من غير الفاتحة تصح صلاته لكن الصحيح أنها لا تصح، لم؟ لأن الأدلة أتت من أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه قال :” لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب” فلابد من قراءة الفاتحة.

{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} المفروضة {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} المفروضة {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} يعني من التطوعات {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} من النفقة الحسنة، والتي لا منة فيها، وبانشراح  صدر، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} هنا “ما” شرطية {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} هذا هو جواب الشرط {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا}  ولذلك وقد نقع في هذا الأمر من باب انقطاع النفس، أو ما شابه ذلك هنا {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} لا تقف  عند { اللَّهِ } وإنما أكمل {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} لأن {خَيْرًا} هو المفعول الثاني لتجدوه، والمفعول الأول هو الضمير الهاء، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} وهنا هو من باب الفصل {هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أعظم أجرا لكم وأعظم لكم {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني عليكم بالاستغفار؛ لأن تلك العبادات لا تخلو من تفريط فعليكم بالاستغفار، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذان الاسمان يدلان على سعة مغفرته ورحمته عز وجل….

وبهذا ينتهي تفسير سورة المزمل….

 

تفسير سورة ( المدثر )

الدرس (261 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة المدثر، وهي من السور المكية..

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {الْمُدَّثِّرُ} يعني المتلفف بثيابه، وذلك كما مضت السورة السابقة، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} وقال هنا {قُمْ فَأَنْذِرْ} لأنه هو المناسب  من باب التحذير لهؤلاء، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} يعني وعظم ربك عز وجل، وأعظم ما يعظم الله به هو التوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} {وَثِيَابَكَ} يعني أن نفسك تطهرها من الذنوب، وأيضا يشمل ذلك أن تطهر ثيابك من النجاسات، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يعني اترك، {وَالرُّجْزَ} المقصود من ذلك الأوثان، وكذلك الذنوب، ولذلك قال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أكثر المفسرين {وَلَا تَمْنُنْ} يعني لا تعطي عطية من أجل أن يعطيك المهدى إليه أعظم منها، وقد مر معنا في قوله عز وجل {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} تفصيل لهذه المسألة، وقيل {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} بمعنى أنك لا تمن بعبادتك على غيرك، لكن المعول هو الأول، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} يعني أن ما أمرت به يحتاج إلى صبر، فاجعل صبرك ابتغاء وجه الله، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} يعني نفح في الصور، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} يعني أنه عسير على من؟ على هؤلاء الكفار، ولذلك قال بعدها {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يعني من باب التأكيد، وأنه لا يسر في هذا اليوم لهؤلاء.

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} يعني أنه أتى إلى هذه الدنيا، ولا مال له، ولا ولد، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وأيضا أنا الذي خلقته وحدي، ولم يخلقه معي غيري، فقال تعالى في شأن هذا الرجل، وهو الوليد بن المغيرة كما هو المشهور من قول المفسرين، ومن ثم فإن الله هدده بأمره للنبي صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} يعني أنه مال كثير حتى إن هذا مد ومد بمعنى الاتساع {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} وذلك أن أبناءه كثر يشهدون معه في المجالس، ومن هؤلاء عمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم أسلم هؤلاء الثلاثة، فقال الله {وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} يعني أنه مهد، وسهل له كل ما يتعلق بمتع الدنيا، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} يعني بعد ذلك كله يطمع أن أزيده، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا} لن يحصل له مبتغاه {كَلَّا}، لم؟ {إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا} فهو معاند للقرآن، {إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} يعني من أن الله سيكلفه مشقة وعذابا لأن الصعود يتضمن المشقة، وهذا عذاب مرصود له، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} وذلك لأنه لما اختلفت كفار قريش في الحكم على النبي عليه الصلاة والسلام هل هو شاعر أو كاهن أو ساحر هنا ماذا قال تعالى عن هذا الرجل؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} يعني{فَكَّرَ} فيما يقوله في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، {وَقَدَّرَ}  ما يقوله في شأنه عليه الصلاة والسلام، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)} أي لعن وعذب {كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} كرره مرة أخرى بمعنى أنه قتل على أي حال قدر هذا الرجل فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21)} يعني أنه نظر نظر تأمل وتفكير، وأيضا نظر إلى أصحابه الذين حوله {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ} يعني أنه قطب وجهه {وَبَسَرَ} يعني ازداد تقطيبا لوجهه {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ} أدبر عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} واستكبر عن الحق، {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} يعني ما هذا القرآن الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} عن السابقين فهو سحر مما أثره وأخذه عنهم، {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ثم أكد ذلك فقال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} يعني من قول البشر، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} من باب التأكيد على ما حكم به من أنه سحر، والسحر إنما يأتي به المخلوق، فقال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} يعني من أني سأدخله في سقر، وسيصلى نارها {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وسقر اسم من أسماء جهنم، ولذا قال معرفا لها لما استفهم عنها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} من باب التهويل والتعظيم {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} {لَا تُبْقِي} شيئا من اللحم والعظم والجسد، {وَلَا تَذَرُ} يعني ولا تترك من باب أن عذابها عذاب عظيم {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}، {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} بمعنى أنها محرقة ومسودة للبشر يعني للبشرة، وقال بعض المفسرين {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} يعني أنها ظاهرة للبشر {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} والقول الأول هو الأنسب للسياق، ولا مانع من دخول الآخر فقال الله {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} بمعنى أنها تلوح وتسفع وتؤثر على بشرة الإنسان.

{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا} يعني على النار{تِسْعَةَ عَشَرَ} يعني من الملائكة، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} لم يجعلهم خلقا آخر، وذلك لأن الله خلق هؤلاء الملائكة على ما أراده عز وجل، {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} يعني تسعة عشر {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يعني اختبارا للذين كفروا لأنهم كانوا يستهزئون ويقولون تسعة عشر، ولذلك قال بعضهم:” ليكفيني بعضكم بعضهم، وأنا أتكفل بالباقي” 

{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني ليتيقن الذين أوتو الكتاب لأن في كتبهم يعلمون أن عددهم تسعة عشر {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} يعني أن أهل الإيمان يزدادون إيمانا لما ذكر هذا العدد فإنه يوافق ما في كتبهم ممن آمن من أهل الكتاب، وأيضا يزداد أهل الإيمان من هذه الأمة، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وذلك حتى يعلموا أن هذا القرآن حق، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني لا يقع شك من حيث العدد فيما يتعلق بهؤلاء أهل الكتاب، وكذلك أهل الإيمان، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ممن في قلبه ضعف إيمان {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} يستغربون فيقولون لماذا يضرب الله هذا المثل فيذكر تسعة عشر من أنهم خزنة جهنم، فقال {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني جلع عددهم تسعة عشر من أجل ماذا؟ {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} كما أضل الله فيما يتعلق بهذا المثل من شاء وهدى من شاء {كَذَلِكَ} هو عز وجل {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يضله عن الحق، ويهديه إلى الحق {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} يعني أن جنود الله كثيرة، ولذلك ثبت في الحدث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام:” إن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة”

{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} {وَمَا هِيَ} يعني النار {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} من أجل أن يتذكروا أن هذه النار نار عظيمة حتى يدعوا ما هم عليه من الشرك، ومن الذنوب، {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.

{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}

{كَلَّا وَالْقَمَرِ} قال بعض المفسرين كلمة هنا {كَلَّا} للردع والزجر، وقيل بمعنى حق، وعلى كل حال كلمة {كَلَّا}  الأصل أنها تكون للزجر والردع، وقد تكون بمعنى حقا إذا كان هذا المقام يصلح لكلا ولكلمة حقا، وقد يصلح فقط لكلمة حقا، وعلى كل حال السياق هو الذي يقرر ذلك، وهذا هو القول الذي تجتمع به أقوال كثيرة من أهل اللغة {كَلَّا وَالْقَمَرِ} {كَلَّا}  يعني ردع وزجر لحال هؤلاء الذين ضلوا، وقالو ما قالوا، وكلمة حقا والقمر يعني أقسم الله بالقمر، {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)} يعني مضى {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} يعني أتى بضيائه، {إِنَّهَا} يعني النار {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} يعني لإحدى الدواهي العظام الكبيرة {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} يعني هي نذير للبشر {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة، أو أن يتأخر عن الطاعة، فهي نذير، فليحذر المسلم فليقدم على الطاعة، وليتأخر عن الذنوب..

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} يعني أن ما عملته فإنها مرهونة به لا تنفك عنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} يعني أصحاب اليمين، الله يكفر عنهم ذنوبهم {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)} يعني يسأل بعضهم بعضا {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} يعني ما حالهم ثم بعد ذلك ذكروا أن حالهم في الجحيم فقال تعالى عن هؤلاء أهل الجنة يسألون أهل لنار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} يعني ما أدخلكم في سقر {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} يعني ممن يخوض في آيات الله، {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} يعني بيوم الجزاء والحساب {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} يعني حتى أتانا الموت، وهذه الآيات السابقة {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فيها دليل على قول من يقول وقد مر معنا ذلك مفصلا من أن الكفار كما أنهم مخاطبون بأصول الشريعة، أيضا هم مخاطبون بفروع الشريعة، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بما أنهم كفار فلا يمكن أن تنفع فيهم شفاعة، فالله لا يأذن لأحد أن يشفع لهؤلاء؛ لأن الله لا يرضى عنهم {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} يعني أنهم لا شفاعة لهم أصلا، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}  كما قال تعالى {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، فقال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} هنا استفهام إنكاري { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } يعني لماذا هم أعرضوا عن التذكرة وعن هذا القرآن.

{كَأَنَّهُمْ} في إعراضهم {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} يعني جمع حمار ولذلك لبلادة الحمر فهم بلداء {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} يعني استنفرت وفرت وهربت {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وأعظم ما يكون في الحمر الوحشية فإنها تنفر من حين ما تسمع أي شيء {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}  قيل  من وحوش شديدة أو ممن يصيدها {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهذا يدل على عظيم إعراضهم عن هذا القرآن، كما أن الحمر الوحشية تنفر نفورا عظيما إما من وحش وإما من صائد، {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} يعني أن كل شخص منهم يريد ماذا؟ أن ينزل عليه كتاب من السماء، وهو هذا الكتاب  منشور بحيث يقرأ من أن محمدا صلى الله عليه وسلم على الحق حتى يؤمن، ولذلك قال الله عنهم {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}

{كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ} {كَلَّا} حرف ردع وزجر {كَلَّا}  يعني ردع وزجر لما طلبوا { بَلْ } حقيقة هؤلاء أنهم {لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ} {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {كَلَّا} حرف ردع وزجر آخر لهم {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} يعني هذا القرآن تذكرة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} يعني من شاء اتعظ به {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لا يمكن لأحد أن يتذكر وأن يهتدي إلا بمشيئة الله، فللعبد مشيئة واختيار لكن مشيئته لن تكون إلا بعد مشيئة الله {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يعني هو أهل عز وجل لأن يتقى، لا يتقى غيره، {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يعني هو أهل لأن يغفر عز وجل لمن تاب، وأناب إليه.

وبهذا ينتهي تفسير سورة المدثر….

تفسير سورة ( القيامة )

الدرس (262 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة القيامة…. وهي  من السور المكية..

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يعني أقسم بيوم القيامة، ومر معنا ما يتعلق بحرف {لَا} وما فائدته كما في قوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} أقسم بالقيامة وأقسم بالنفس اللوامة، وتلك النفس هي التي تلوم صاحبها إذا فعل ذنبا، بل قال بعض العلماء إن العبد المؤمن لا يخلو من أن يلوم نفسه، لماذا فعلت كذا؟ ولماذا صنعت كذا؟

{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} يعني أقسم الله بهذا اليوم، وبهذه النفس من أن الخلق سيبعثون {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {أَيَحْسَبُ} يعني أيظن {الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} لكن لماذا ذكر العظام؟ لأنهم يقولون {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}

{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ثم قال {بَلَى قَادِرِينَ} يعني بلى نحن قادرون بلى نحن قادرون على ما هو أعظم من ذلك، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ومعلوم أن كل شيء حسب قدرة الله هو شيء سهل ويسير لكن بالنسبة إلينا هو ما يكون من التفاوت وإلا فكما قال عز وجل وما {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} فقال تعالى {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} والبنان الأنامل يعني من أنه عز وجل قادر على كما قال بعض المفسرين على ماذا؟ على أن يجعل الآدمي أن يجعل أصابعه قد التصقت بعضها ببعض، وذلك كخف البعير وما شابه ذلك، فلا يستطيع حينها أن يفعل شيئا، وقيل {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} يعني إذا قدرنا على أن نخلق بنانه، وأن نعيدها، وأن نسويها مع أنها دقيقة وصغيرة، فما ظنكم بالعظام؟! {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ولا تعارض بين القولين.

{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} هو لا يريد الإيمان، وإنما يريد ماذا؟ يريد أن يفجر أمامه يعني من أنه يريد أن يفجر، وأن يكذب وأن يعصي الله في مستقبل أيامه، بل يفجر ويكذب بيوم الجزاء والحساب، فقال الله {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}  يعني ما يكون من ما يستقبله من أيام، ولذا حتى مما يستقبله البعث والنشور يريد أن يفجر به يعني أن يفجر فيما يتعلق به بمعنى التكذيب له، ولذا قال بعدها {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} استبعادا {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} يعني تحير البصر وأصبح البصر شاخصا {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} يعني اختفى وذهب ضوؤه {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} يعني اجتمعا في يوم لا يجتمعان فيه، وأيضا جمعا باعتبار ماذا؟ باعتبار ـ كما جاء في الحديث الصحيح ـ ” الشمس والقمر يكوران في النار يوم القيامة” بمعنى أنهما يجمعان ويلفان، ثم بعد ذلك يلقيان في النار، تبكيتا لمن عبدها {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ} يعني في يوم القيامة {أَيْنَ الْمَفَرُّ} يريد الفرار، {كَلَّا لَا وَزَرَ} كلا يعني لا فرار {لَا وَزَرَ} يعني لا منجا ولا مهرب {كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)} يعني القرار عند الله، ولذلك قال تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} وهيهات هيهات أن يكون لكم سلطان، فقال تعالى {كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} والكلام حول ما يعلمه الإنسان ما قدم وأخر يعني ما قدمه في أول حياته، أو في آخر حياته، أو ما قدمه في حياته وبعد موته، وعلى كل حال أشمل الأقوال في مثل هذا {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ} يعني يخبر الإنسان {يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} يعني بكل أعماله التي قدمها في أول حياته، وفي آخر حياته، فكلها محصى، ولذا كما قال تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فقال الله {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}

{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} بل إنه شاهد وبصير على نفسه، ولذلك قال هنا {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} مقتضى الأسلوب بل الإنسان على نفسه بصير لكن أتى بالهاء بصيرة من باب ماذا؟ من باب المبالغة، {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} يعني لو أتى بالمعاذير فإنه لا ينفع وذلك لم؟ لأن جوارحه تشهد عليه،  {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}  كما قال تعالى {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} يعني لا عذر لهم مقبول حتى لو ألقى معاذيره فإنه إن سمح له في وقت فإنه لا يسمح له في وقت آخر؛ لأنه كما قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} يعني لو ألقى معاذيره، ولذلك قال بعض المفسرين {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} يعني المعاذير هي الستر، ولو كان ذلك العمل كان قد أخفاه فإنه سيبدو له يوم القيامة {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.

{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}

{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} هذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أتاه جبريل عليه السلام كان حريصا على أن يحفظ القرآن، وكان يسارع جبريل عليه السلام، فقال الله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17)} يعني لا تخف سنجمعه في ماذا؟ سنجمعه في قلبك يا محمد {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} يعني سيقرأ عليك لكن {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يعني إذا قرأه جبريل عليه السلام {فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} يعني اقرأه بعد جبريل، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يعني من أننا سنوضحه، وعده الله أن يحفظ هذا القرآن، وأن يبين له معانيه، ولذلك ماذا قال تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} {كَلَّا} ردع وزجر لحال أولئك الكفار {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}  يعني الدنيا وسميت بالعاجلة؛ لأنه ما أسرع زوالها {وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ} يعني تتركون الآخرة والعمل لها؛ لأنكم تنكرونها، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني من النضرة ومن النعيم، وذلك لأنهم أهل نعمة، فهذه النعمة أثرت على وجوههم، فوجوههم نضرة كما قال تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} يعني أنها تنظر إلى الله، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة من أن الله يراه المؤمنون في عرصات القيامة، ويرونه عز وجل في الجنة كما وضحنا ذلك في قوله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } ولذلك الصحابة  رضي الله عنهم كما ثبت بذلك الحديث الصحيح: ” قالوا وهل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وهل تضارون في رؤية الشمس بالنهار ورؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا لا، فقال إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته” لا يصيبكم ضيم أو لا تضامون يعني لا يضم بعضكم لبعض، وذلك لأنكم ترونه عيانا عز وجل، ومن ثم ـ فانبته ـ هنا الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن رؤية الله، ومع ذلك لم يحرفوا ذلك، ولم يؤوله، ولم يعطلوه، ولم يكيفوه، فكيف بأولئك المعطلة الذين يقولون نحن أعظم الناس وأكثر الناس فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فنقول خير القرون قرن النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما سألوه فيما يتعلق بالرؤية، وفي صفات أخرى، وما ذكره عز وجل في كتابه، وما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في سنته لم يقولوا شيئا مما أحدثتموه، فالواجب على الإنسان أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولو كان غيره أكثر وأكثر ممن حرف فلا ينظر إلى الكثرة، وإنما ينظر إلى اتباع الحق.

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} هذا هو الصنف الآخر {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} يعني أنها كالحة من أن وجوهها قد قطبت لما فيها، وما يعلوها من السواد والغبرة {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ} {تَظُنُّ} يعني توقن {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} يعني داهية عظيمة {فَاقِرَةٌ} يعني تقسم فقار الظهر..

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)}

{كَلَّا} ردع وزجر {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)} يعني هذه الروح {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} يعني الترقوة، وهو العظم الذي يكون قريبا من النحر يعني الروح وصلت إلى هنا {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)} ولذلك هذه قراة حفص، {وَقِيلَ مَنْ} تقف هنا {مَنْ رَاقٍ} وهناك قراءة أخرى بالوصل{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} يعني من يرقيه ومن يأتي إليه بالطبيب، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} هم يبحثون له عن راق وعن طبيب، لكنه أيقن هذا المحتضر من أنه سيفارق هذه الدنيا {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} يعني اجتمعت شدة الدنيا فيما يتعلق بسكرات الموت بشدة ما يكون في الآخرة، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} دليل على المشقة، وأيضا {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} وذلك أن الميت إذا مات تجتمع ساقه مع ساقه الأخرى، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} تساق إلى الله {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} يعني هذا الكافر {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} يعني أنه لا قام بالصدقة الواجبة، ولا صلى ولا قام بالصلاة الواجبة {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)} كذب بأخبار الله، وتولى عن طاعة الله، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)} يتمطى في مشيته فخرا وافتخارا وخيلاء.

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} كلمة وعيد وتهديد وقيل {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} يعني قاربك الهلاك، فالهلاك قد قارب منك {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وقيل العذاب أجدر وأحق بك يعني أنه نازل بك، ولا تعارض بين هذه الأقوال.

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} كرره من باب التأكيد وتعظيم الأمر، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أن يهمل قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}

{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} لينظر إلى أصله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} يعني يراق في الأرحام، {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} يعني بعد النطفة صار علقة، وهي الدم الجامد {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} تطور فخلقه الله، ثم أخرجه، وسوى خلقته {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ} يعني أنه تزوج {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}  كما قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فقال تعالى {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} من قدر على ما مر من ذكر ما ذكر عز وجل من أنه خلقك من نطفة أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ الجواب بلى، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ هذه السورة قال في ختامها:” سبحانك فبلى”

وبهذا ينتهي تفسير سورة القيامة….

 

تفسير سورة ( الإنسان )

الدرس (263 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الإنسان…

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قال كثير من المفسرين {هَلْ} هنا بمعنى قد مثل قوله تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يعني قد أتاك {هَلْ أَتَى} يعني قد، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وهذا كما قال بعض المفسرين فيما يتعلق بآدم خلقه الله، ثم تركه مدة، ثم بعد ذلك نفخ فيه الروح، وقيل وهو الأظهر هذا الثاني هو الأظهر من أنه شامل للإنسان من أن ذلك لا يمتنع دخوله، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} أنت يا إنسان من حيث الأصل لست بشيء، كنت في العدم، فخلقك الله، {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} على هذه الدنيا، ولذلك ماذا قالت مريم؟ {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}

{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يعني مختلطة من مني الرجل، ومن مني المرأة، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} يعني لنختبره {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} جعلنا له السمع والبصر من باب إقامة الحجة عليه حتى ينتفع بهذا القرآن، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيّن الله له سبيل الحق، وسبيل الضلالة حتى يختار الطريق الذي قدره الله له، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} هذا هو حالك { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } ولذلك لم يقل شكورا، وذلك لأن كلمة شاكر على اسم فاعل لا تدل على المبالغة، ولذلك فالشكر العظيم قليل من يأتي به، ولذلك لما ذكر عز وجل ما يتعلق بقصة داود وسليمان عليهما السلام قال {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} لم يقل شكورا، لكن لما كان الكفر عظيما في الناس قال {كَفُورًا} من باب المبالغة.

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) }

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} يعني هيأنا للكافرين {سَلَاسِلَ} يعني يسحبون بها {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا} تغل أيديهم إلى أعناقهم، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} يعني نارا مستعرة شديدة.

{إِنَّ الْأَبْرَارَ} لما ذكر حال أولئك الفاسدين ذكر حال الطيبين، {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} يعني من خمر{مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} يعني ما يخلط بها الكافور لشدة بياضه، ولرائحته، ولا ينظر إلى هذه الأسماء فقط؛ لأن ما في هذه الدنيا من الأسماء ما ذكر في القرآن عن أسماء الجنة إنما تكون الموافقة في الأسماء، أما ما يتعلق بماهية ذلك، فعلمه عند الله فهي تختلف، ولذلك ماذا قال تعالى{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

فقال الله {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} يعني ذلكم الكافور{عَيْنًا}لأنه  بدل{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} لم يقل يشرب منها، ولذلك قال بعض المفسرين {يَشْرَبُ بِهَا} يعني إن كلمة {بِهَا} بمعنى منها، ولكن الصواب كما قررناه كثيرا من أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض، وإنما يبقى الحرف على ما هو عليه، ويضمن الفعل فعلا آخر حتى تكون المعاني أكثر، فقال تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} يعني عينا يرتوي بها عباد الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يفجرون هذه العين حسبما يريدون يفجرونها بين قصورهم، وفي كل مكان يريدونه في الجنة، صفاتهم في الدنيا {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني ما ألزموا أنفسهم من طاعة، فإنهم يقومون بذلك، ولا يهملون ذلك، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت بذلك الحديث الصحيح نهى عن النذر، وقال: ” إن النذر لا يأتي بخير” ومن ثم فإن عقد النذر عقد نذر الطاعة كأن يقول إنسان نذر علي أن أصلي أو أن أتصدق، أو نذر علي إن شفا الله مرضي أن أتصدق أو أن أصوم فإن عقده مكروه، لكن لو أن إنسانا فعل ذلك، ونذر، فإن الواجب عليه أن يتم هذا النذر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري” من نذر أن يطيع الله فليطعه” فإذا وفّى بهذا النذر فإنه يكون محمودا لوفائه بهذا النذر.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا} ونكر اليوم لتعظيمه {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} فاشيا ممتدا عظيما {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}  حتى إن السموات لتتفطر في ذلك اليوم من عظم ما يكون في هذا اليوم.

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} يعني أنهم يطعمون الطعام مع حبهم لهذا الطعام، وقيل{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} يعني على حبهم لله، وقد مر معنا في قوله تعالى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} كما في سورة البقرة، ومن ثم فإن الأقرب ولا تنافي بين الرأيين، لكن الأقرب من أن الضمير يعود على محبة الإنسان لهذا الطعام قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فقال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} يعني فقيرا {وَيَتِيمًا} الذي  مات أبوه قبل أن يبلغ، {وَأَسِيرًا} يعني الأسير الذي يكون عند المسلمين من الكفار، فإن الأسيير الذي هو الكافر إذا أسر فأحسن إليه من غير محبة له كما مر معنا في سورة الممتحنة فإن العبد يؤجر على ذلك.

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لم يذكروا ذلك، ولكن الله بين أن هؤلاء ما أقدموا على هذا العمل الذي يحبونه إلا ابتغاء وجه الله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فهم لم يتحدثوا بذلك {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}

يعني نطعمكم ابتغاء وجه الله لا نريد منكم جزءا يعني مكافأة، ولا شكورا  يعني ولا ثناء من المديح، وما شابه ذلك.

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} سبحان الله! وصف اليوم بأنه عبوس لشدة ما يقع فيه كما يقال نهار صائم نهار صائم يعني أن صاحبه يصوم هذا النهار، وليل قائم مع أن الليل لا يقوم؛ لأن الإنسان يقوم فيه، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن من شدة ما يكون فيه من العذاب كأن هذا اليوم وهو العبوس القمطرير فقال تعالى {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} {عَبُوسًا} فتعبس فيه ماذا؟ الوجوه {قَمْطَرِيرًا} يعني أنه شديد {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وذلك لشدة ما يقع فيه من الأهوال.

{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} لما عملوا تلك الأعمال ابتغاء وجه الله {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}  فذلك اليوم به شرور، فقال تعالى {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} نضرة في وجوههم، في ظواهرها، {وَسُرُورًا} يعني في قلوبهم؛ لأن السرور والفرح يكون في الباطن.

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا}  {بِمَا صَبَرُوا} على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} وأفرد الحرير من باب الثناء على هذا الحرير؛ لأن النفوس كانت في الدنيا تريد أن تلبسه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:” هذا لبس من لا خلاق له” وقال:” من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة” فقال تعالى {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} وهي الأماكن المرتفعة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} يعني لا حرا ولا زمهريرا يعني ولا بردا، وقيل {شَمْسًا} يعني صيفا، {وَلَا زَمْهَرِيرًا} يعني شتاء؛ لأن الزمهرير شدة البرد، وقيل إن الزمهرير هو القمر باعتبار أنه قابل ذكر الشمس، وعلى كل حال، فالأظهر ما ذكرناه من القولين الأوليين؛ لأنه قال {شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} ولا مانع من دخول هذا، وليعلم كما هي القاعدة، وقررناها كثيرا من أن أكثر اختلاف المفسرين اختلاف  تنوع، كل ما قالوه يدخل تحت الآية إلا إذا جاء ما يخالف ذلك، وهو قلة، وهو مال يسمى باختلاف التضاد بمعنى أنه لا يمكن أن يجتمع القولان أو هذه الأقوال تحت آية، لا يمكن أن يكون قولا واحدة، وإلا فالأصل إن كل ما ذكره المفسرون يدخل ضمن الآية فقال تعالى {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}.

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} يعني أن ظلال الجنة قريبة من هؤلاء {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} يعني سهلت وسخرت قطوفها يعني الثمار {تَذْلِيلًا} ولذلك كما قال تعالى {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}.

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} دل هذا على ماذا؟ على أن هناك أواني للشرب {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} وأكواب هي التي لا عرى لها، {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} يعني أنها قوارير، سبحان الله مع أنها من فضة لبياضها ولمعانها فهي بمثابة  القوراير فيرى ما بداخلها من خارجها فقال تعالى بعد ذلك مؤكدا {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} يعني أن الخدم قدروها لهم على حسب ما يريدون، لم؟ لأن الأكل إذا زاد عن حده فإن الإنسان ينفر منه، وإذا قل فإنه لم يأخذ حاجته منه قال {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا} يعني خمرا { كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا } أي ما يخلط بها {زَنْجَبِيلًا}، والزنجبيل معروف عند العرب ومحبوب لدى العرب، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} يعني {زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا} يعني عينا من زنجبيل {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى} يعني في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} وذلك باعتبار ماذا؟ باعتبار سلاستها وذلك لأن الزنجبيل في الدنيا تكون هناك حرارة في حلق الإنسان لكن إذا شرب من هذا فإنه ينزل بسلاسة إلى أجوافهم من غير تعب، ومن غير حرارة، ومن غير أذى.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} لما ذكر {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ} من الذي يطوف؟ الولدان، قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} قال هنا {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} يعني أنهم باقون على هيئتهم، فإنهم لا يفنون، ويبقون على صفاتهم، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}  للخدمة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} من جمالهم كصفاء اللؤلؤ، وقال {مَنْثُورًا} لأن اللؤلؤ إذا كان مجموعا ليس بأحسن منه إذا كان منثورا، فإذا نثر كان أجمل وأجمل.

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} {وَإِذَا رَأَيْتَ} في الجنة وفي نعيمها {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ}  هناك رأيتم مرة أخرى ماذا؟ ترى العجب {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” فإن أقل أهل الجنة منزلة من يملك عشرة أمثال الدنيا” فدل هذا على أنه ماذا؟ ملك كبير {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}

{عَالِيَهُمْ} نصبت هنا لأنها ظرفية يعني فوقهم {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ} يعني أن فوقهم ثياب {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ}  وهو ما رق من الحرير، {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} يعني أن ألوانها خضر، {وَإِسْتَبْرَقٌ} يعني غليظ الحرير، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} حلوا بالأساور من الفضة وفي الآية الآخرى قال تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} يحلون فيها باللؤلؤ وبالذهب وبالفضة، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فهو طهور من ماذا؟ من الأقذار، وأيضا هو طهور، ليس كخمر الدنيا فيه ما فيه من الأقذار والآلام {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}

{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ} يعني ما مضى من النعيم، {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} جزاء لأعمالكم، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} ما سعيتموه من العمل الصالح فإنه مشكور عند الله، والله من أسمائه شاكر، لم؟ لأنه عز وجل يثيب الثواب العظيم الجزيل على العمل القليل الذي يقوم به عباده، فقال الله {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} {إِنَّا} يعني يا محمد لا تلتفت إلى أولئك فنحن {نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} هذا القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} يعني مفرقا حسب الأحداث {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا}.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} لحكم ربك القدري والشرعي والجزائي، ومر توضيح لهذه الأحكام في آيات سابقة، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} {أَوْ} هنا بمعنى الواو يعني لا تطع من هو؟ الأثيم والكافر لكن لماذا أتى بكلمة {أَوْ} من باب ماذا؟ من باب أن هذا إنما يأمر إما بالكفر وإما بالإثم، فهم يريدون أن يوقعوا الناس، وأن يوقعوك في الإثم وفي الكفر، {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)} ولذا لما ذكر ما يتعلق بالصبر قال هنا كما قال جملة من المفسرين المقصود من ذكر اسم الله هنا، وإن كان الذكر باللسان يدخل في ذلك، لكن أيضا ذكروا ماذا؟ ذكروا أن هذا يدل على الصلوات؛ لأن الصبر مع الصلاة كما قال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} {بُكْرَةً} يعني أول النهار، {وَأَصِيلًا} يعني ما يكون بعد العصر

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني صلاة ماذا؟ المغرب والعشاء، فتكون الآية هذه مع التي قبلها تكون لجميع الصلوات فقال هنا {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} يعني في الليل قم لصلاة الليل {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}.

{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} يعني يحبون هذه الدنيا، وسميت بالعاجلة لزوالها؛ لأن هؤلاء لا يريدون الآخرة، وإنما يريدون الدنيا، {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} يوما عظيما شديدا {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} وكما قال تعالى {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} كما في أول السورة، فقال الله {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} {وَرَاءَهُمْ} يعني أمامهم.

{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} يعني من الذي خلقهم هو الله، {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} الأسر الأعضاء والمفاصل شدّ الله هذه الأعضاء، وقواها وأحسنها إذن ما الذي يلزم هؤلاء؟ أن يقروا بأنه ماذا؟ أنه هو الإله الذي يستحق  العبودية وحده، فقال تعالى {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} يعني أشباههم {تَبْدِيلًا}.

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يعني ما مر في هذه السورة {تَذْكِرَةٌ} {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ} طريقا إلى الله عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يعني أن مشيئتكم من أنها لا يمكن أن تتحقق إلا بمشيئة من؟ الله، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}  ومن ثم فإن على العبد أن يدعو الله بالهداية وبالثبات، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وتأمل هنا ذكر العليم وذكر الحكيم بعد المشيئة، لم؟ لأن مشيئته عز وجل، ولأن أفعاله صادرة عن علم وعن حكمة ليست كأفعال ومشيئة المخلوقين تصدر من جهل ومن عدم حكمة.

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} يدخل يعني من منَّ الله عليه بالهداية، {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} ومن رحمته الجنة كما مر معنا في سورة آل عمران {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيأ لهم عذابا أليما مؤلما…..

وبهذا ينتهي تفسير سورة الإنسان……

تفسير سورة ( المرسلات )

الدرس (264 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة المرسلات وهي من السور المكية…

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} أقسم الله بهذه الأشياء، ومن ثم اختلف المفسرون في هذه الأشياء، ولعل أرجح ما ذكروه يكون قولين فقوله عز وجل {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} يعني الملائكة من أنها أرسلت بالعرف لا بالمنكر، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} بمعنى أنها تسارع إلى أمر الله {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} من أنها ماذا؟ من أنها تنشر ما أمر الله به أن ينشر من خير وما شابه ذلك، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} يعني أن الملائكة يفرقون بين الحق والباطل، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} من أن الملائكة تلقي الذكر على من يشاء من عباد ه عز وجل، {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} يعني للإعذار وللإنذار، وقول آخر {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} يعني الريح {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} يعني انها متتاعبة كعرف الخيل، فإن الخيل يكون له شعر في عرفه، فإنه إذا جرى يكون متتابعا، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} وهي الرياح الشديدة، {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا}  من أنها تنشر السحب {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} يعني أنها تفرق السحب {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} يعني هذه هي الملائكة {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} يعني أقسم بهذه الأشياء من أن وعد الله سيكون {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} وذلك هو يوم القيامة  {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ}، ولذا قال {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} يعني ذهب نورها {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} وأيضا زالت من أماكنها وتساقطت {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)} يعني انفرجت وانشقت {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} يعني من أنها تنسف وتدق وتدك حتى تكون كالعهن المنفوش، {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} يعني جمعت، جمعت الرسل {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} يعني لماذا أخرت؟ أخرت {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} يعني  ليوم القيامة يفصل الله بينهم وبين أقوامهم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} استفهم عنه من باب التعظيم له، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وعيد شديد للمكذبين، وقد تكررت هذه الآية أكثر من مرة في هذه السورة من باب التهديد وتذكير هؤلاء بأن هناك ويلا وعذابا شديا لهؤلاء {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في هذا اليوم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}

{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} يعني الأمم السابقة {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ} يعني من جاء بعدهم، {كَذَلِكَ} مثل ما فعلنا بأولئك {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} يعني كل مجرم ممن سار على طريقة الأمم السابقة، ومن بينهم كفار قريش، فإن هذا سيكون حاصلا لهم، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} وهي النفطة ماء مهين حقير ما يدل على أن الواجب عليكم أن تنظروا، وأن تتأملوا إلى أصل خلقكم حتى تعلموا أن الذي خلقكم من عدم قادر على أن يعيدكم مرة أخرى، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)} يعني في الرحم {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يعني مستقر {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} يعني إلى زمن معلوم {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} يعني قدرنا على ذلك، ثم أثنى على نفسه {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} يعني أنها للجمع يعني أنها تضمه {كِفَاتًا} يعني ضما وجمعا، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} يعني أن هذه الأرض تضمهم، وهم أحياء وأيضا بعد مماتهم، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} يعني تأملوا في هذه الآيات حتى تعلموا أن الذي أوجدها هو الذي يستحق العبودية عز وجل فقال الله {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}  يعني جبالا راسيات يعني ثابتات شامخات يعني عاليات مرتفعات {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} يعني ماء عذبا، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}

{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} يقال لهم يوم القيامة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا، ثم وضح ذلك {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} يعني ظل ذي ثلاث شعب وهو الدخان دخان نار جهنم، {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} يعني أنه يتفرق إلى ثلاث فرق كحال الدخان إذا عظم في هذه الدنيا، وإذا كان هذا لا يمكن أن يكون شبيها بذلك {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ} لا  ظليل من الحر، {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}  ولا يفيد من اللهب من حرارة النار، كما قال تعالى {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} يعني النار ترمي بشرر كالقصر يعني كالبناء المرتفع من حيث ضخامة الشرر، فالشرارة بمثابة البناء كالقصر العظيم الشامخ البناء العظيم، {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33)} يعني ذلكم من حيث الحجم، أما من حيث اللون {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} يعني جمع جمل وجمالة صفر يعني كالجمل الأصفر، وذلك من شدة اللهيب حتى قال بعض المفسرين إن اللون ليس أصفر فقط، وإنما يكون أسود لأن العرب تطلق على الإبل السوداء بأنها صفراء؛ لأن الأسود يكون به نوع من الصفرة، فقال الله {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}.

{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} {لَا يَنْطِقُونَ} وإن نطقوا في مقام آخر فهذا موقف وهذا موقف، {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} يعني لا يقبل منهم أي اعتذار{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} هذا يوم الفصل الذي يفصل الله فيه بين الخلائق، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ممن سبقكم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} إن كانت لكم قدرة ومكر بأن تخرجوا من ملك الله فكيدون، ولن تستطيعوا {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) }

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} سبحان الله! لما ذكر ظل أولئك ماذا ذكر عن ظل أهل الحنة؟ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ} يتفكهون بها مما يشتهون وفواكه ما يتشهون {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} أي بسبب أعمالكم، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يعني هذا الجزاء نجزيه أيضا كل محسن، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 

{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} يقال للكفار لكفار قريش ولمن شابههم في هذه الدنيا {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} يعني في هذه الدنيا {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ولذلك قال {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}  ولذلك ماذا قال في أول السورة {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} قال هنا {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} يعني إذا قيل لهم صلوا لايصلون، وذكر الركوع؛ لأنه ركن من أركان الصلاة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} إن لم يؤمنوا بهذا الحديث بهذا القرآن فبأي كتاب سيؤمنون…

وبهذا ينتهي تفسير سورة المرسلات….