التفسير الشامل
لفضيلة الشيخ
زيد بن مسفر البحري
تفسير جزء ” قد سمع “
( المجادلة ـ الحشر ـ الممتحنة ـ الصف ـ الجمعة ـ المنافقون ـ التغابن ـ الطلاق ـ التحريم)
تفسير سورة ( المجادلة )
الدرس (245 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة المجادَلة، ويصح تنطق بالمجادِلة باعتبار أن المرأة جادلت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من السور المدنية….
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وذلك أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، فقال لها أنت عليَّ كظهر أمي، وكان هذا القول يعد في الجاهلية من أنه فراق بين الزوجين إما فراقا مؤبدا، أو أنها تبقى معلقة، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله من أنها كانت تحت أوس، وقد أعطاه الله مني الأولاد، فلما كبرت سني قال لي هذا القول، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حكم من الله حتى يحكم عليه الصلاة والسلام، فقال الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} وهذا يدل على ثبوت صفة السمع لله بما يليق بجلاله وعظمته، وأتى بصيغة الماضي {قَدْ سَمِعَ } والمضارع {يَسْمَعُ} وأتى بصيغة الاسم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} تجادلك وتحاورك {فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} ترفع أمرها، وتشكو أمرها إلى الله، {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} بكل قول {بَصِيرٌ} بكل حال، ومن ذلك أنه سمع ما جرى بينكما، وما قاله أوس لزوجته، وبصير بكل ما دار بينكما، وبين أوس وبين زوجته، فأنزل الله بيانا لحكم الظهار لما قال {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} يعني الزوجة لا يمكن أن تكون أما؛ لأن هناك فرقا، {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} يعني أمهاتهم إنما هن من؟ {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} وصفه بأنه منكر باعتبار أنه إثم، وأيضا هو كذب، قال {وَزُورًا} وهذا يدل على أن قول أنت عليَّ كظهر أمي فإنه حرام، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} يعني يتجاوز لمن وقع منه هذا الذنب، فتاب إلى الله.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} قال هنا {مِنْ نِسَائِهِمْ} دل هذا على أن الظهار لا يكون إلا على زوجة، فلو ظاهر من امرأة أجنبية، فإنه لا أثر له من حيث الحكم الشرعي، لكنه لا يجوز له مثل هذا القول؛ لأنه لفظ لا ينبغي أن يقال؛ لأنها ليست زوجة له، وحتى لو كانت زوجة، فإنه منهي عن ذلك. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يعني يريدون جماعها، يعني يعزمون على الجماع، ثم يعودون لما قالوا، والعود هنا فيه كلام لأهل العلم، أصح ذلك من أن العود هنا هو الوطء، أو العزم على الجماع، وهو أقرب، العزم على الجماع، ولذلك قال بعض العلماء قال:” العود هنا من أنه لا تلزمه كفارة إلا إذا ظاهر من زوجته مرة أخرى” وهذا ولا شك أنه كلام ترده الأدلة الشرعية يعني من عزم بعد هذا القول على أن يجامع زوجته فتلزمه الكفارة المغلظة.
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قالوا ما الواجب عليهم؟ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} من قبل أن يجامعها، وهل يجوز له أن يقبلها، وأن يضمها من غير جماع قبل أن يُكفِّر؟ قولان لأهل العلم، والصواب أنه لا يجوز له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه قال: ” لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به” وهذا يشمل ماذا؟ الجماع وما دون الجماع، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وأطلق هنا الرقبة، وهي عتق رقبة، والصحيح كما دلت عليه آية كفارة القتل أنه يعتق رقبة مؤمنة، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وذلك من باب حمل المطلق على المقيد، فقال تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ} أي ما ذكر من أحكام، ومن كفارة {تُوعَظُونَ بِهِ} من أجل أنكم تتعظون فلا تقدموا على هذا الأمر مرة أخرى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فالله خبير بكل ما يعمله الإنسان.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يعني عتق الرقبة لعدم وجودها، أو أنه يجدها لكن لا يجد المال، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} دلّ هذا على أن هذه الكفارة تكون مرتبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} من قبل أن يتماسا، فلو أنه فصل بين هذين الشهرين بأيام أفطر فيها، أو بيوم واحد، فإنه يستأنف من جديد إلا إن كان لعذر من مرض لا يستطيع الصيام، أو لسفر، أو ما شابه ذلك من الأعذار الشرعية.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} لم يستطع الصيام ليس معنى ذلك المشقة لم يستطع لكبر، أو لمرض، أو نحو ذلك {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} لابد من إطعام ستين مسكينا {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني شرع لكم تلك الشرائع من أجل أن تؤمنوا بالله ورسوله {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} وهذا تعظيم لحدود الله، ومن ذلك ما ذكر في هذه السورة، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني عذاب مؤلم لمن لم يقم بحدود الله كحال هؤلاء الكفار الذين يجحدونها.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني أنهم يشاقون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويخالفون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني ذلوا وأهينوا {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وفي هذا تحذير لكفار قريش، ومن يأتي بعدهم من أن ما حل بالأمم السابقة سيحل بهم من الهوان ولذلك قال {كُبِتُوا} بصيغة الفعل الماضي مع أنه لم يقع شيء باعتبار ان ما وعد الله به فإنه يكون واقعا،{كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أنزل الله الآيات البنيات والواضحات في هذا القرآن، فلا حجة لأحد، بل فيها النور، فيها الخير، فيها السعادة {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لما ذكر الإهانة لهم فيما يتعلق بالدنيا {كُبِتُوا} بين لهم ماذا؟ من أن لهم عذابا مهينا أيضا في الآخرة، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يعني اذكر {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} يعني يخبرهم بما عملوا، وهذا الإنباء يتضمن ماذا؟ الجزاء والحساب، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} يعني من أن الله حفظه على هؤلاء {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} كم من ذنب فعله الإنسان ونسيه لكنه كما قال تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فلا تخفى عليه خافية.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم أيضا {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} ما معنى {أَدْنَى}؟ تفسرها كلمة {أَكْثَرَ} يعني أقل، {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} {مَعَهُمْ} المعية العامة المعية العامة كما وضحنا ذلك في أول سورة الحديد، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فالله هو في العلو معتقد أهل السنة والجماعة الله في العلو، لكن هو معنا عز وجل بإحاطته بتدبيره بتصرفه، وليس الله حالا في كل مكان كما يقال، لا، الله في العلو، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}بل إن هناك ما يقرب من ثلاثة آلاف دليل على إثبات علو الله، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فاختتم الآية بالعلم وافتتحها بالعلم من باب بيان أن معية الله معية عامة لجميع خلقه باعتبار ماذا؟ أنه محيط بهم، وعالم بهم، ومدبر لشؤونهم، فقال الله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} من هم؟ اليهود والمنافقون كانوا يتناجون إذا رأوا المؤمنين تناجوا فيما بينهم من غير أن يكون هناك شيء من باب إدخال القلق في نفوس المؤمنين، فقال تعالى لما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المناجاة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} {بِالْإِثْمِ} الإثم المتعلق بأنفسهم، {وَالْعُدْوَانِ} المتعلق بغيرهم، {وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} يعني أنه نصحهم فلم ينتصحوا، {وَإِذَا جَاءُوكَ} يعني هؤلاء المنافقون {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} لأنهم إذا أتوا يقولون: السام عليكم، لا يقولون السلام، لكن من باب التحريف، السام يعني الموت عليك يا محمد
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ماذا يقولون، فيقول:” وعليكم” فقط لا يزيد، يقول:” وعليكم” يعني إن كانوا قد قالوا السلام عليكم وعليكم، وإن قالوا السام عليكم يعني وعليكم، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} من باب التمويه، ومن باب بيان ماذا؟ بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بصادق كما زعموا من باب إيهام الناس من أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس على الحق، يقولون للضعفاء ولغيرهم، {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} فماذا قال الله؟ {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} تكفيهم جهنم المعدة لهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} يعني يقاسون حرها {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
يعني فبئس المرجع ما هي؟ النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} هنا لما ذكر ما يتعلق بالنهي لهؤلاء عن النجوى نهى أهل الإيمان من أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك في هذه النجوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} لكن ما البديل؟ {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} البر والتقوى، البر هو التقوى، والتقوى هي البر، لكن إذا اجتمعتا البر هو العمل الصالح، التقوى هو اجتناب العمل السيء، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فتقوى الله تجعل العبد يزداد إيمانا بيوم الحشر.
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} يعني نجوى أولئك المنافقين واليهود {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} يعني أزهم على ذلك الشيطان من أجل ماذا؟ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} ليدخل عليهم الحزن والقلق {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} يعني لن يضرهم الشيطان، ولا تلك النجوى، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يعني بأمر الله، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فلا يلتفت إلى نجوى هؤلاء، ولا إلى أفعالهم، ولذلك جاءت السنة الصحيحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر فإن ذلك يحزنه” ويصدق على ذلك من أنه كما في مثل هذا الزمن لو أن ثلاثة لم يتناجوا، ورفعوا الصوت، لكنهم يتحدثون بصوت مرتفع، لكن بلغة لا يفهمها الثالث فإنهم داخلون ضمن هذا الحديث.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} هنا أمر من الله من أنه إذا قدم شخص إلى مجلس فإن على من كان في المجلس أن يوسعوا له، فإن من وسع له فإن الله سيفسح له، وذلك بأن يوسع عليه في الدنيا، وفي الآخرة، فقال تعالى بعد ذلك {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} والمراد من النشوز هنا هو النهوض؛ وذلك لأن {انْشُزُوا} معناه ارتفعوا يعني {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} يعني انهضوا بأن تفعلوا قولا يحبه الله أو فعلا يحبه الله فافعلوا، ولا تتأخروا عن ذلك الأمر، {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} هذه هي العاقبة بأن ترفع درجات هؤلاء في الدنيا، وفي الآخرة، ومن ثم فإن الله يذكر الإيمان مع العلم، مما يدل على أن العلم لا فائدة ولا ثمرة منه إذا لم يكن هناك إيمان، ولذا قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقدم هنا العمل، وأخر اسمه عز وجل؛ لأن السياق يدل على العمل، فلعله ذكر العمل قبل اسمه عز وجل من أجل هذا الغرض، وأخر العمل في الآيات التي ستأتي بعدها من من باب أن النجوى وهي على وجه السر، فيكون من المناسب أن يقدم الاسم، وهو قوله {خَبِيرٌ} فقال الله هنا {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كثر من يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ به وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد أحدا، فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام، فأمر الله أن من أراد أن يناجي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم صدقة فقال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} {ذَلِكَ} يعني الصدقة {خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} {خَيْرٌ لَكُمْ} في الدنيا، وفي الآخرة {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم ولأعمالكم ولأقوالكم {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} يعني صدقة بمعنى أنكم كنتم فقراء، من كان فقيرا فإنها تسقط عنه {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم لما كان الأمر قد شقَّ على بعض الصحابة رضي الله عنهم نسخ الله هذا الحكم فقال الله {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا} يعني خفتم {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني أنه رحمكم، وتاب عليكم فخفف عنكم وتاب عليكم إذن ما الذي يلزمكم بعد ذلك؟ {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قدم اسمه هنا من باب ماذا؟ والله أعلم كما سلف؛ لأن تقديم اسمه الخبير يتوافق مع النجوى، وليعلم أنه جاء في بعض الأحاديث:” من أن من قدم صدقة هو شخص واحد، وهو علي بن أبي طالب، ولذا كان يقول إنه لم يعمل أحد بهذه الآية، ولن يعمل بها أحد بعدي، ولكن تلك الآثار لا تخلو من ضعف، وأما ما جاء عند الترمذي من أن النبي عليه الصلاة والسلام استشار عليا رضي الله عنه كم يقدمون من الصدقة أدينار؟ قال يا رسول الله إنه كثير قال نصف دينار؟ قال إنه كثير، بل شعيرة قال إنك لزهيد يا علي” فهذا الحديث ضعيف، ومن ثم فإن عليا رضي الله عنه يقول بي خفف عن هذه الأمة، لكنه حديث ضعيف.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} وهذا هو شأن المنافقين، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تولوا اليهود الذين غضب الله عليهم {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} يعني أن المنافقين {مَا هُمْ مِنْكُمْ} يعني ليسوا من اليهود، ولا منكم أيها المؤمنون كما قال تعالى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} وهذا أظهر من إرجاع الضمير إلى اليهود،{مَا هُمْ مِنْكُمْ} يعني اليهود {وَلَا مِنْهُمْ} يعني المنافقين، لكن ما تقدم هو الأظهر، قلت هو أظهر؛ لأن السياق يتعلق بالمنافقين {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} شأنهم وطريقتهم الحلف الكاذب مع أنهم يعلمون أنهم كاذبون، فالحلف الكاذب لا يجوز، فكيف إذا كانوا على علم بأنهم كذبة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} هيأ الله لهم عذابا عظيما {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أعمالهم أعمال سوء، ومن ذلك ما كان منهم من إبطان الكفر وهذا الحلف الكاذب.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني من أنهم حلفوا فاتخذوا أيمانهم جنة يعني يستترون بها من أجل ماذا؟ أن يحفظوا أموالهم وأنفسهم حتى لا يقاتلهم المسلمون، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أيضا مع ذلك كله كانوا سببا في صد الناس عن طريق الله، وأيضا في صد المسلمين عن مقاتلة هؤلاء لو أظهروا الكفر، فقال الله {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يعني يهينهم ويذلهم.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} من أن تلك الأموال والأولاد لن تفيدهم شيئا، وهذا كما قال تعالى عن الكفار {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} وقال هنا {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا يدل على أنهم مصاحبون للنار، وهم خالدون ماكثون فيها {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} فلا يبقى منهم أحد إلا وقد بعث {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} يحلفون لله من أنهم على الإيمان {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ}، يظنون أنهم سيسلمون؛ لأن الله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ليس كالبشر الذين تحلفون لهم كذبا، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وأكد ذلك من أنهم هم الكاذبون {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
ما سبب ذلك؟ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} بمعنى أن الشيطان استولى عليهم استيلاء كاملا {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فكان ذلك أنه أنساهم ماذا؟ {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أنساهم ذكر الله، وأعظم هذا الذكر هو القرآن العظيم، {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يعني جند الشيطان، {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} في الدنيا وفي الآخرة.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني أنهم يحادون الله ويخالفون الله ورسوله عليه الصلاة والسلام {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} يعني أنهم قد انغرقوا فيمن؟ في جملة الأذليين، ولذلك قال الله في أول السورة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال هنا {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} يعني من جملة هؤلاء الذين انغمسوا في دركات الذل والهوان.
{كَتَبَ اللَّهُ} كتب الله في اللوح المخفوظ {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} فالغلبة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين كما قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فهو القوي العزيز الغالب الذي لا يعجزه شيء، ومن ذلك هلاك هؤلاء.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} يعني من أن من يحب الكفار فإن في إيمانه خللا، وقد مر معنا من أن محبة الكفار من أعظم ما يكون من الذنوب العظام، وهل يكفر بهذا أو لا؟ مر معنا الحديث مفصلا متى يكفر ومتى لا يكفر؟ في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} فقال الله مبينا خطورة محبة الكفار {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني يحبون من حاد الله من خالف الله ورسوله، {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ولذلك ذكر من ذكر أولا، {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ} لأنهم هم الأصول، ثم الأبناء وهم الفروع، ثم الإخوة لأنهم هم الحواشي ثم القبيلة،
{وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني قبليتهم {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} كتب الله في قلوبهم الإيمان لما قدموا محبة الله ومحبة دينه على محبة هؤلاء الكفار فقال الله {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وهذه خصيصة لهؤلاء {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} {وَأَيَّدَهُمْ} يعني قواهم {بِرُوحٍ مِنْهُ} يعني بقوة وبنصر منه عز وجل، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} رضي الله عنهم لما قدموه من أعمال، ورضوا عنه لما لاقوا ثواب الله، ومن ثم فإن في هذا إثبات صفة الرضا لله بما يليق بجلاله وبعظمته {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن هذا الحزب ليس كالحزب السابق الذي مر {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال هنا {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين حصل لهم مبتغاهم، وزال عنهم ما يكرهونه، ولذا قال الله {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وبهذا ينتهي تفسير سورة المجادلة….
تفسير سورة ( الحشر )
الدرس (246 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الحشر وهي من السور المدنية، وذلك أن هناك صلحا كان بين النبي عليه الصلاة والسلام، وبين يهود بني النضير، وهذا الصلح من شروطه أنه متى ما قتل قتيل عن طريق الخطأ فإنهم يتساعدون في ديته، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قتل أحد المسلمين بعضا عن طريق الخطأ فإنه أتى من أجل ان يستعين بهم على الدية على مقتضى المعاهدة، فلما كان عليه الصلاة والسلام في مكان قالوا لو تسلق أحد إلى السطح، ثم رماه بحجر كبير حتى يموت ونرتاح منه، فأخبر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، فنقض العهد الذي بينهم، وحاصرهم عليه الصلاة والسلام، فقال الله:
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) }
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مرت هذه الآية في أول سورة الحديد.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ونص هنا على أنهم أهل الكتاب، والمققصود من ذلك هو يهود بني النضير، فقال تعالى{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قيل {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} لأنهم كانوا قريبين من المدينة، فأجلاهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى خيبر، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه الإجلاء الثاني من خيبر، أخرجهم من خيبر، وقد قال بعض المفسرين: إن أول الحشر هنا هو الشام، والشام وذلك من أن الناس في آخر هذه الدينا يحشرون إلى الشام تحشرهم النار، وهذا حشر في الدنيا كما جاءت بذلك الأحاديث تحشرهم النار تحشر من بقي على هذه الدنيا في آخر علامات الساعة تحشر الناس إلى الشام، فقال الله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} وذلك لأنهم أصحاب قوة، وأصحاب حصون، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ظنوا أن حصونهم ستمنعهم من بأس الله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} فسلط عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومر ما يتعلق بإتيان الله كما مر معنا توضيح ذلك أكثر وأكثر في قوله تعالى في سورة البقرة {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ومن ثم فإنه لابد من الرجوع إلى ما ذكرناه في سورة البقرة حتى يتضح ذلك أكثر وأكثر، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قذف الله في قلوبهم مما يدل على أن الرعب تمكن في قلوبهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} يخربون بيوتهم، وذلك لأنهم قالوا إن لنا أن نخرج منها ولنا ما حملناه على إبلنا، فأذن لهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يأخذون أشياء من بيوتهم، ويخربونها من أجل أن ينقلوها معهم، أو من أجل أن يخربوها على المسلمين، والمسلمون في تخريبهم لبيوت هؤلاء ليس المقصود الإفساد، وإنما كما قال تعالى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } يعني أن أهل الإيمان يخربون بيوتهم من أجل أن يصلوا إلى هؤلاء من باب أن يتحقق نصر الله، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فلكم عبرة يا أولي الأبصار في شأن يهود بني النضير، وهذا دليل للأصوليين الذين يقولون بإثبات القياس باعتبار أنه مصدر من مصادر التشريع.
{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} لولا أن كتب الله عز وجل عليهم فيما كتب الجلاء في الدنيا يعني من أنه يجليهم ويخرجهم من هذه البلاد، {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} إما بقتل أو بأسر، لكنه كتب الجلاء لحكمة يريدها عز وجل، ومن ذلك أن أموالهم تكون لمن؟ تكون للنبي عليه الصلاة والسلام من غير قتال، {وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} هناك عذاب أعظم من عذاب الدنيا، وهو عذاب النار.
{ذَلِكَ} يعني العذاب الذي سبق {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني خالفوا الله ورسوله ونقضوا العهد، {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ولاشك أن من يشاقق الله فإنه يشاقق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذا جاء في سورة الأنفال {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قال هنا {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} يعني من نخلة وقيل من نخلة كريمة {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} يعني على أسواقها وعلى جذوعها
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أذن الله لكم في ذلك، وذلك أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قطع بعض النخيل، فقال يهود بني النضير: إنكم تقولون نحن مصلحون، وأنتم تفسدون، فبين الله من أن ما قالته اليهود لا دليل عليه، بل إن الله له ملك كل شيء، وهو الذي أذن في هذا الأمر في بقائها أو في قطعها، فقال عز وجل بعدها {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ومن ذلك يهود بني النضير.
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني من يهود بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} يعني يا أيها المسلمون {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} يعني ما أسرعتم {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} {وَلَا رِكَابٍ} يعني ولا إبل، فدل هذا على أن هذا فيء، ولا يقسم كقسمة الغنيمة التي مر معنا ذكرها في سورة الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية.. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وقد سلط الله محمدا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في السموات، ولا في الأرض، فهو قادر على إهلاكهم من غير حرب، ومن غير محاصرة، فقال الله عز وجل بعدها {مَا أَفَاءَ} لم يأت بالواو، لم؟ قال بعض المفسرين: هذه الآية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} يعني فيها بيان للفيء الذي أخذه المسلمون من يهود بني النضير، بمعنى: أن قسمة أموالهم تكون مبينة بهذه الآية، وقال بعض المفسرين: بل إن الآية السابقة تتعلق بغنائم يهود بني النضير هي خاصة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يشاركه في ذلك أحد، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح: ” كانت غنائم يهود بني النضير كان عليه الصلاة والسلام ينفق على أهله منها ويجعل الباقي في السلاح” فدل هذا على ماذا؟ كما قالوا من أن هذه تختلف عن تلك، ولذلك لم يأت بالواو، فدل هنا على ماذا؟ على أن قوله {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من القرى كيهود بني قريظة، وما شابه ذلك غير الأموال التي أخذت من يهود بني النضير، يعني ما أفاء الله على المسلمين من غير حرب؛ لأن الفيء يختلف عن الغنيمة، الغنمية ما أخذ من أموال الكفار بحرب، وأما الفيء ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب كشأن يهود بني النضير، فقال تعالى من أي فيء تأخذونه مستقبلا فهذا الحكم حكمه {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ومر معنا توضيح لهؤلاء الأقسام، ومر معنا لماذا ذكر الله اسمه هنا فيما يتعلق بالفيء، مر ذلك مفصلا في قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية..
{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} يعني أن الفيء تكون قسمته كهذا من أجل ألا يكون المال {دُولَةً} يعني يتداوله الأغنياء فقط دون الفقراء.
{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا يشمل ماذا؟ يشمل كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، ومن ذلك يدخل ماذا؟ من أنه ما أعطاكم من الفيء فإنكم تأخذونه، ولكن الآية تدل على ماذا؟ تدل على أن السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بها المسلمون، وجاء ذكر ذلك في آيات كثيرة، وفي هذا الرد على طائفة، طائفة خبيثة تسمى بطائفة القرآنيين يقولون لا نأخذ شيئا إلا من القرآن، وقد حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام من أن أحدهم يجلس على أريكته فيقول: ما وجدناه في كتاب الله من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، فقال:” ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه”
ومن ثم: فإنه لو عطلت السنة، فأين لنا بمعرفة عدد ركعات الصلوات، وأنصبة الزكاة، وما شابه ذلك، فدل هذا على أن هذه الطائفة طائفة خبيثة تريد أن تعطل شرع الله، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولذا ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:” إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمروا بتقوى الله في جميع الأحوال، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهو شديد العقاب لمن خالفه عز وجل.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
{لِلْفُقَرَاءِ} يعني من يعطى من هذا الفيء من؟ الفقراء { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا } وهذا يدل على أن من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قدموا في الذكر، وذلك يدل على ماذا؟ يدل على أفضليتهم، ومن ثم ذكر بعد ذلك الأنصار، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن المهاجرين افضل من الأنصار، ولا شك أن للأنصار مزايا وفضائل ومناقب عظيمة، لكن من حيث الأفضل لما قدمهم دل على ماذا؟ على أنهم أفضل من الأنصار، وقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} قدم المهاجرين، فقال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} وذكر صفاتهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يطلبون من الله الفضل والرضوان لا يطلبون بخروجهم متعا من متع الدنيا، ولا حظا من حظوظها {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني أن همتهم نصرة دين الله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ولذلك حكم عليهم بقوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فإنهم إن نطقوا فإن أعمالهم تصدق أقوالهم، ثم قال بعدها {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} {تَبَوَّءُوا} يعني سكنوا {الدَّارَ} يعني المدينة {وَالْإِيمَانَ} يعني ألفوا الإيمان، وتمكن الإيمان في قلوبهم وهم الأنصار، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} وهذه فضائل لهؤلاء رضي الله عنهم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مجيء المهاجرين إلى المدينة، فإن الأنصار هم أهل المدينة، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} يعني أن الأنصار يحبون المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى المهاجرين أموالا، ومع ذلك ما وجد الأنصار في قلوبهم شيئا على ماذا؟ على المهاجرين، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يعني مما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقدمون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان الفقر قد حل بالأنصار، وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة لما قدم الماهجرون إليهم كيف صنعوا بهم حتى إن بعضهم كان يقول: اختر إحدى نسائي حتى أطلقها فتعتد ثم لك أن تتزوجها، وقال: هذا مالي لك نصفه، ولي نصفه، وهذا يدل على ماذا؟ كما قال تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومن ثم لما كان الشح متمكنا في القلوب، قال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي إنسان {يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يعني يجنب شح نفسه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولذلك قال تعالى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} قال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني من بعد المهاجرين والأنصار، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني إلى قيام الساعة، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} يدعون الله أن يغفر لمن سبقهم بالإيمان، {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} بمعنى أنك لا تجعل غلا وحقدا في قلوبنا على الذين آمنوا، ومن ثم فإن هذه الآية لا تصدق على الرافضة الذين يكنون البغضاء والعدواة لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينا كلام الإمام مالك في آخر سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} الآية… فقال الله عن هؤلاء {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فإنك أنت الرءوف الرحيم، فتقبل دعاءنا، واغفر لنا، واغفر لمن سبقنا، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }
{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} وذلك أن المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي أتى إلى يهود بني النضير وقالوا لا تنزلوا عن حصونكم، بل انزلوا وسنناصركم وسنعينكم على محمد {أَلَمْ تَر} وهذا استفهام تعجب، {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ} وهم إخوانهم في الكفر، {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني يهود بني النضير {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} يعني نحن وأنتم سواء، {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} يعني من المدينة
{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} يعني من أننا لا نمكن أحدا فيكم، ولا نسمع فيكم أي شيء، {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} يعني إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم {لَنَنْصُرَنَّكُمْ} قال الله {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} نعم فهم كذبة، ولذلك لما حلَّ بهم ما حل لم يناصروهم.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} على سبيل الفرض {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} وذلك لجبنهم وخوفهم.
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً}لأنتم يا مسلمون {أَشَدُّ رَهْبَةً} يعني خوفا {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} يعني يخافونكم أعظم من خوفهم من الله عز وجل، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بحساب ولا بعقاب، ومن ثم فإن قوله {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} هل هم المنافقون أم هم اليهود؟ والصواب من أنه يشمل الفريقين، فقال الله {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} فإنهم لا فقه لهم، ولا فهم لهم، فكيف يقدمون خوف المخلوق على خوف الله؟!
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} يعني أن هؤلاء اليهود، وحتى على القول الآخر من أن المنافقين إذا اجتمعوا مع اليهود {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} ذات حصون {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} جمع جدار {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} بمعنى أن العدواة بينهم واضحة بينة, إذا تقاتلوا فيما بينهم فترى القتال العظيم فيما بينهم {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} ومع هذا إذا رأيتهم قد اجتمعوا {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وذلك لما في قلوبهم من العداوة والبغضاء بينهم فقال الله {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} فلو كان عندهم عقل ما حاربوا دين الله، ولو كان لديهم عقل لآمنوا بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك جعل الخوف في قلوبهم نتيجة ماذا؟ نتيجة إعراضهم عن دين الله فهم لا يعقلون {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني من قبل يهود بني النضير من الذين كان قبلهم؟ يهود بني قيقناع، فإنهم جرى لهم ما جرى من الذل والهوان على يد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك الذل والهوان الذي حصل لكفار قريش في غزوة بدر، فقال الله {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} يعني من أن المدة ليست بالبعيدة، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يعني عاقبة أمرهم، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني في الآخرة.
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} هذا مثل المنافقين لما قالوا لليهود نحن معكم، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} هم كمثل الشيطان {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} تبرأ منه، وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصة عابد يقال له “برصيصا” وذكروا فيها آثارا، وتلك الآثار لا تخلو من ضعف، وذلك باختلاف رواياتها، مما يدل على أن بها ضعفا من أن عابدا عبد الله، وإذا بإخوة أرادوا أن يسافروا، وقيل قد أصاب ما أصاب الأخت هذه من سحر، فقالوا لنأتي إلى هذا العابد، فزين له الشيطان بأن يجامعها، ثم لما جامعها، وخاف من العار قتلها، فأتاه الشيطان، فقال له إني أنجيك شريطة أن تسجد لي، فلما سجد له حصل ما حصل، ومن ثم فإن هذا لا يشتبه لأن هذه فيها آثار ضعيفة، ولكن لا يشتبه في قصة جريج الذي ثبت ذكره في أحاديث صحيحة من أن امرأة بغية أرادت أن يواقعها، فاجتنب ذلك، فأتت إلى راعي فمكنته من نفسها، فلما حلمت بهذا الغلام، قالت هذا من جريج، جريج ثبته الله، فلم يقع في شأن تلك المرأة الزانية حتى أتى جريج وقال من أبوك ياغلام؟ قال الراعي.
وأيضا ليعلم أن هناك حديثا حكم عليه ابن حجر في المطالب العالية قال إسناده صحيح موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أن رجلا كان يعبد الله، فكانت هناك امرأة باتت عنده، فوقع بها ست ليال، ثم إنه ندم، فخرج نادما فلما أتى إلى مكان يتبعد فيه، وكان معه رغيف، فوجد فقيرين فأعطى أحدهما نصفه، والآخر نصفه، فمات، فلما مات وزن تلك العبادة بما فعله بتلك المرأة، فتلك السيئة التي حصلت منه نسفت كل عبادة عبدها، ثم لما أتي بتلك السيئة مع ذلك الرغيف الذي تصدق به ذلكم الرغيف نسف تلك السيئة. على كل حال هذا يدل على ماذا؟ يدل على خطورة البعد عن شرع الله، فقال الله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} فدل هذا على ماذا؟ على أن من أطاع الشيطان فإن مصيره إلى النار، ولذلك ماذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وأيضا فيه الحذر من أهل النفاق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أمر الله بتقواه، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وكلمة الغد تطلق على يومك الذي يلي حاضرك، والمقصود هنا يوم القيامة، وصف بأنه غد، وذلك لقربه لأنه متحقق لا محالة، ومن ثم لما أمروا بالتقوى وأمروا بأن يكون الإنسان على أهبة لذلك اليوم دل هذا على أن تذكر اليوم الآخر يزيد من التقوى، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ماذا قدمت ليوم القيامة من أعمال صالحة، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وهذا يدل في قوله تعالى {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يدل على المحاسبة يحاسب الإنسان نفسه {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} كررها من باب أهمية التقوى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم ولو دق.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} نسوا الله ونسوا دين الله عز وجل فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فتركوا دين الله، واشتغلوا بما يغضب الله كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وما ظلمهم الله، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} والفاسق هو الذي انصرف عن دين الله {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} لا يستويان أبدا فأصحاب الجنة كما قال بعدها {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} الذين فازوا بكل مطلوب، إذن أصحاب النار هم الخاسرون، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ} أنتم يا كفار قريش لا تعتبرون، وكذلك يسري على من جاء بعدهم ممن لم يعظه القرآن، يعني هذا القرآن قال تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ} لعظمة هذا القرآن لو أنزلناه {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا} يعني من أن به خشوعا، وبه تذللا {مُتَصَدِّعًا} يعني أن الجبل يتشقق متصدعا {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} من خوفه من الله، وهذا على سبيل ضرب المثل، ولذلك ماذا قال بعدها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لعلهم يعملون فكرهم فيعلموا أن هذا القرآن به الخير، وبه ما يرقق القلوب، فقال الله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي} لما ذكر ما ذكر بين أسماءه عز وجل، ومن ثم فإن معتقد أهل السنة والجماعة من أن ما يتعلق بنفي شيء عن الله يأتي على وجه الإجمال، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على وجه الإجمال، ولا يأتي على وجه التفصيل إلا إذا كان المقصود الرد على طائفة ضالة كاليهود لما قالوا لما أتم الخلق في يوم الجمعة استراح يوم السبت، فقال تعالى {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} بين ذلك من باب الرد عليهم، أما ما يتعلق بإثبات الأسماء والصفات، فإن معتقد أهل السنة والجماعة أن كثرتها وأن تفصيلها هو الذي به المدح والثناء، أما تفصيل النفي الذي مر معنا فإنه لا يكون ثناء، ولذلك ولله المثل الأعلى لو أتيت إلى ملك من ملوك الدنيا، فقلت لست بزبال، ولست بكناس، ولست بجزار، هل يرضى بذلك؟فإنه لا يرضى؛ لأنك فصلت في النفي، فالنفي يجمل، لكن لو قلت لا أحد يساويك من ملوك الدينا أهذا مدح له؟ نعم فسيفرح بذلك، أما على وجه الإثبات فإن فيه مدحا، الإثبات إذا فصل فيه مدح، لو أتيت إلى ملك من ملوك الدنيا ولله المثل الأعلى وقلت له أنت شجاع أنت كريم أنت مقدام أنت صبور ماذا سيكون؟ فيه الثناء، ولذلك تجد في أسماء الله الثناء لما قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فصل بعد ذلك {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
تجد أن هذه الآيات التي معنا في سورة الحشر ذكر فيها أسماء كثيرة فقال تعالى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحق إلا هو، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يعني عالم بما غاب عنكم وبما تشاهدونه، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ومن ثم فإن من تاب إلى الله فإن الله يرحمه، ورحمته وسعت كل شيء.
ثم قال بعدها مبينا أيضا أسماء له {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} مالك كل شيء، {الْقُدُّوسُ} يعني الطاهر المنزه عن كل ما لا يليق به، ولذلك قالت الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
{السَّلَامُ} السلام فهو عز وجل السلام الذي هو سالم من الآفات لكماله عز وجل، وأيضا يسلم عباده الصالحين من الآفات، {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} {الْمُؤْمِنُ} الذي أمن عباده من عذابهن وأيضا صدق رسله عليهم السلام بالمعجزات {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} يعني أنه الرقيب والشهيد على كل شيء.
{الْعَزِيزُ} والعزيز يتضمن ماذا؟ كما قال أهل السنة {الْعَزِيزُ} يعني هو القوي الغالب الممتنع الذي لا ينال بسوء.
{الْجَبَّارُ} والجبار يتضمن ثلاثة أمور: جبر العلو، وجبرالرحمة فهو يجبر كسرك وذلك، جبر العلو وجبر الرحمة وجبر القوة فلا يستعصي عليه شيء.
{الْمُتَكَبِّرُ} المتكبر الذي له الكبرياء كما قال تعالى {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والمتكبر عما لا يليق به عز وجل.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ولذلك لما ذكر هذه الأسماء العظيمة نزه نفسه عما يشرك به هؤلاء فمن له هذه الأسماء العظيمة يجب أن تجعل العبادة لله عز وجل وحده {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
سبحان الله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } أتت على سبيل الترتيب {الْخَالِقُ} بمعنى المقدر؛ لأنه ولله المثل الأعلى المخلوق قد يقدر الشيء، ولا يستطيع أن يخلقه وأن ينشئه، ولذلك ماذا قال تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} هل هناك خالقون مع الله؟ المقصود من الآية من يقدر لكنه قد يقدر الشي ء هذا المخلوق ولا يستطيع أن يصنعه.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} ثم قال { الْبَارِئُ } يعني ما قدره ينشئه عز وجل، ثم بعد ذلك {الْمُصَوِّرُ} يصوره على أحسن ما يكون، {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ثم لما كانت الأسماء كثيرة ولا تحصر بعدد قال {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.
{الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لما ذكر في أول السورة {سَبَّحَ لِلَّهِ} يعني فيما مضى، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعني استقر وثبت تسبيح الله فيما مضى، أيضا في نهاية السورة ماذا قال؟ {يُسَبِّحُ لَهُ} دل هذا على أن التسبيح مستمر له عز وجل {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} القوي والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.
وبهذا ينتهي تفسير سورة الحشر….
تفسير سورة ( الممتحنة )
الدرس (247 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الممتحِنة، وبعض العلماء يقول يجوز الممتحَنة، وهذه من السور المدنية….
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الباء هنا زائدة تلقون المودة إليهم يعني أنكم تحبونهم، وهذه نزلت في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يذهب إلى قريش ليغزوهم إذا بحاطب يرسل رسالة مع امرأة من أجل أن يأخذ ماذا؟ من أجل أن يأخذ مكانة عند قريش؛ لأنه لا قبيلة له، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر حاطب، وأمر صلى الله عليه وسلم من يتبع هذه المرأة، فوجدوها وأخذوا منها ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم صنعت هذا؟ قال حاطب: والله ليس حبا في الكفر يا رسول الله، ولكن أصحابك لهم نسب في قريش، وأنا ملصق بهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا حتى يحفظوا بذلك أولادي ومالي، فقال بعض الصحابة: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فعفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:” وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا فقد غفرت لكم”، ومرت معنا هذه القصة مفصلة في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} فيما يتعلق بالموالاة ومحبة الكفار، {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الباء زائدة يعني تلقون إليهم المودة، {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} كيف تحبون هؤلاء والسبب أنهم {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} هذا هو الأمر الأول يكفرون بالقرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} هذا الأمر الثاني، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من أجل أنكم آمنتم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} ما أخرجوكم إلا من أجل إيمانكم {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} يعني من أجل مرضاتي، وطلب مرضاتي، ومن أجل الجهاد هنا الجواب محذوف يدل عليه ما سبق إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوهم أولياء فقال الله {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} كررها مرة أخرى باعتبار أن هذا بيان الواقع إذ أسر حاطب بهذه المودة، أو من أجل أن الكلمة السابقة بالمودة شاملة للمحبة في العلانية والسر بين هنا أيضا من أنه حتى من جانب السر فلا يجوز، {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} يعني بما سترتموه، {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} يعني محبة هؤلاء {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} يعني أنه تاه عن طريق الحق.
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} يعني هذا سبب آخر كيف تحبونهم {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} يعني إن يجدوكم هؤلاء، {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} وأمر آخر {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} يعني يمدوا {أَيْدِيَهُمْ} بأذاكم وبقتلكم {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} ومع ذلك أيضا سبب آخر {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} يعني هم يحبون أن تكفروا، هذه أسباب تمنع من محبة هؤلاء.
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} يعني أقرباءكم كما صنع حاطب {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني يوم القيامة لن تنفعكم، ولذلك ماذا قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ولذلك قال بعض المفسرين {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني تقف {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} يعني بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبعض المفسرين قال {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} يعني يفصل بينكم وبين أقربائكم، فكل قد أشغلته نفسه، كما قال تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهو مطلع على أعمالكم كلها، ومن ذلك ما يكون بينكم وبين هؤلاء من مودة.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) }
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} يعني قدوة وهذا هنا من باب ماذا؟ من باب الحث على عدم موالاة الكفار اقتداء بإبراهيم، وبمن آمن معه {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني نحن بريئون منكم ومما تعبدون من دون الله، والكافر هنا يتبرأ منه المسلم، من نفس الكافر ومن عمله، من نفس الكافر ومن عمله الشركي.
{إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} يعني جحدنا صلتنا بكم، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا} يعني ظهر {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} العداوة والبغضاء وقد مر معنا تفصيل للفرق بين العداوة والبغضاء في سورة آل عمران، وفي سورة المائدة، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} إلا في حالة واحدة {حَتَّى} يعني ستستمر أبدية ذلك {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} فهذا لا تتأسوا بإبراهيم في هذا الأمر{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يقول لأبيه {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ولذلك لما تبين أنه مات على الكفر قال الله {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} فقال الله عن إبراهيم {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا} يقوله إبراهيم ومن آمن معه {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} فيما يتعلق بأمورنا الدنيوية، وبأمورنا الدينية {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} يعني رجعنا بالطاعة ولذلك ماذا قال تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} المرجع إليك في يوم القيامة.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يعني لا تسلط هؤلاء علينا فيظنون أنهم على الحق ونحن على الباطل فإذا بهم لا يهتدون، أو أنك لا تفتنا في ديننا، فنترك هذا الدين فنكون فتنة لهؤلاء.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} وكرروا ذلك من باب الثناء على الله والإلحاح في الدعاء، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فأنت العزيز القوي الغالب والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها المناسبة.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} كرر ذلك مرة أخرى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يعني في إبراهيم ومن آمن معه، لكن من يتقيد بذلك؟ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} ولذلك مما يدل على أن الاقتداء بهؤلاء الأنبياء لا يقدم عليه إلا من كان يرجو الله واليوم الآخر، وفي سورة الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} يعني محمدا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ماذا قال بعدها؟ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} من يعرض عن مثل هذا الدين، وعن هذه الأحكام فإن الله هو الغني ليس بحاجة إليك، وهو الحميد المحمود على جميع أفعاله.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ} وعسى من الله متحققة {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} يعني أنتم يا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الذين عاديتموهم، وحرم عليكم أن تحبوهم قد يجعل الله عز وجل في قلوبهم الإيمان، فتنقلب تلك العداوة إلى محبة، ولذلك دخل كثير منهم في الإسلام، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} لا يعحزه شيء {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تاب، ورجع إليه.
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ …} هذه الآية فيها دليل على ماذا؟ على أنه يجوز الإحسان إلى الكفار، فكما أنه عز وجل في أول السورة نهى عن محبة هؤلاء الكفار فإنه بيَّن عز وجل هنا أن الإحسان إليهم إذا كانوا كفارا غير محاربين لهم فإن الإحسان والبر إليهم والصدقة عليهم مما هو مستحب، ولذلك لو أن أحدا من الناس في مثل هذا الزمن مثلا في بلاد من بلدان المسلمين رأى عاملا من العمال وهو على ملة الكفر فإن الصدقة تكون عليه مستحبة. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} يعني من أنكم تقيموا العدل فيهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يعني العادلين.
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ …} لما ذكر ما يتعلق بأولئك الكفار ذكر حال الكفار المحاربين لنا من أنه لا يجوز الإحسان إليهم، وكذلك لا تجوز محبتهم، فقال تعالى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} يعني عاونوا على إخراجكم {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} يعني أن تحبوهم، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولذلك قال عز وجل كما في سورة التوبة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فقد ظلم نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} وذلك كما في صلح الحديبية لما أتى بعض النساء، وذلك كأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من أنها أتت مسلمة، ومن ثم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها على كفار قريش، قال بعض العلماء ذلك لأن الصلح الذي دار في صلح الحديبية من أن من أتى من الكفار إلى أهل الإسلام من أنه يعاد إليهم قال بعض العلماء النساء غير داخلات هنا، وقال بعض العلماء إنما هن داخلات لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد هؤلاء النسوة، وذلك لضعفهن، ولخيفة أن يفتتن في دينهن، ومن ثم أخذ هؤلاء العلماء من أن السنة تنسخ القرآن فقال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} يعني هل هن خرجن ابتغاء وجه الله أم أنهن خرجن لغرض من أغراض الدنيا كمحبة الزواج برجل أو نحو ذلك؟
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} بمعنى أن الله عالم بالظواهر وبالبواطن أما أنتم فما عليكم إلا أن تأخذوا بالظاهر .
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} فدل هذا على أن الإيمان يعلم، وذلك حسب ما يظهر من دلائل وقرائن فيما يظهر على حال الإنسان، أما باطنه فإنه لا يعلم به إلا الله عز وجل، فقوله عز وجل {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وذلك بأن يحلفن على هذا الأمر. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} وذلك بامتحانهن،
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} بمعنى أن هؤلاء الكافرين لا تباح نساء المسلمين لهن، وكذلك العكس إلا ما جاء من دليل فيما يتعلق بالكتابيات من زواج المسلم بالكتابية اليهودية والنصرانية، ومر معنا ذلك مفصلا كما في سورتي البقرة والمائدة فقال الله {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
{وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يعني أعطوا هؤلاء الكفار مهورهم، {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا إثم عليكم. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها المسلمون {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يعني مهورهن، {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فهذا نهي للمسلمين أن يمسكوا بعصم الكوافر يعني بالنساء الكافرات، ولذلك لما نزلت هذه الآية طلق الصحابة من كان تحتهم من أزواج كافرات، {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} يعني من أنكم تسألون مهوركم إذا ذهبن هؤلاء النسوة إلى الكفار مرتدات نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك هؤلاء الكفار يعطون مهورهم إذا أتى هؤلاء النسوة مسلمات.
{ذَلِكُمْ} يعني ما مضى {حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهو العليم عز وجل بما يصلح حال عباده، وهو الحكيم إذ شرع هذه الأحكام،
ومن ثم فإن المرأة إذا أتت مسلمة فإنه لا تحل لزوجها الكافر، ومن ثم فإنها إذا أنهت عدتها فإن لها أن تتزوج، ومن ثم فإنه لو أسلم زوجها، ولم تزوج فإنها تعاد إليه، هل تعاد إليه بنكاح جديد أم أنه بالنكاح الأول؟ خلاف بين أهل العلم، لكن دلت الأدلة على أن أبا العاص بن الربيع لما أتى مسلما بعد زينب ردها عليه الصلاة والسلام إليه من غير عقد جديد، وإن عقد بعقد جيد كان أولى وأحسن خروجا من الخلاف، فقال تعالى {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} بمعنى أن المرأة ارتدت نسأل الله السلامة والعافية فتذهب إلى الكفار، فقال تعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} يعني بمعنى أنكم حاربتم هؤلاء الكفار وغنمتم منهم غنائم فإنكم تعطون هذا الرجل المسلم الذي ارتدت زوجته {فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا}
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} دل هذا على ماذا؟ على أن من اتقى الله زاد إيمانه، وان من كان مؤمنا فإنه يكون حريصا على تقوى الله.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} هذه مبايعة حصلت من النساء في صلح الحديبية، وكذلك في فتح مكة، وكذلك حصلت مثل هذه المبايعة بالنسبة إلى الرجال، وهن إذا أتين فيما يتعلق بهؤلاء النسوة لما أتين مهاجرات فامتحن، فإنهن يبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ما هذه المبايعة؟ {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وذلك كعادة الكفار يئدون البنات، ويقتلون الأولاد خيفة الفقر، {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} المشهور والظاهر من أنها نهيت من أن تأخذ ولدا لقيطا تنسبه إلى زوجها نهيت عن ذلك أو قيل من أنها نهيت عن البتهان الذي هو أشد الكذب وقال {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} يعني أن هذا البهتان بهتان عظيم نسب إلى ذاتها.
{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وهذا وإن كان داخلا فإن الأولى والأظهر هو القول الأول، فقال عز وجل هنا {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يعني لا يعصينك في فعل أمر من الأمور التي أمرت بها، {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} يعني مما يبدر منهن من تقصير، وما شابه ذلك {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو عز وجل واسع المغفرة وواسع الرحمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهنا إثبات صفة الغضب لله، وكما أتت هذه الآية في أول السورة بالنهي عن موالاة الكفار إذ قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
ختم السورة أيضا بالنهي عن موالاة هؤلاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ} هؤلاء يئسوا من الآخرة {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} يعني هؤلاء يئسوا كما يئس {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} يئسوا من ثواب الله يعني يئس هؤلاء الذين ماتوا على الكفر يئسوا من ثواب الله، أو وهو قول آخر كما يئس الكفار يعني الأحياء من عودة أهل القبور إليهم لأنهم ينكرون البعث
{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}
وبهذا ينتهي تفسير سورة الممتحنة….
تفسير سورة ( الصف )
الدرس (248 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الصف، وهي من السور المدنية….
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مرت هذه الآية في سورة الحشر، وكما في سورة الحديد….
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وذلك أن بعض المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لفعلنا ذلك، فلما نزل ما يتعلق بالجهاد إذا ببعضهم يضعف عن ذلك فقال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وأيضا يدخل في ذلك أن يقول الإنسان فعلت وفعلت، وهو لم يفعل شيئا، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
{كَبُرَ مَقْتًا} المقت هو أشد الغضب {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فهذا الفعل يدل على ماذا؟ يدل على أنه بغيض عند الله أشد البغض، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} لما بين ما هو أعظم الأعمال وهو الجهاد بيَّن هنا حال أهل الإيمان، وأن الله يحب قتالهم إذا كانوا متماسكين ومتراصين في الصف، مما يدل على تماسك وحدتهم، وعلى ائتلاف قلوبهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} كأنهم كالبنيان الذي رص بعضه على بعض فهو متماسك، وهذا يدل على ائتلاف قلوبهم.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} قال لقومه وذلك لأن موسى عليه السلام من بني إسرائيل، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} {لِمَ تُؤْذُونَنِي} وقد آذوه كثيرا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه قال: ” لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر” لقد أوذي أذية كثيرة، وقد مر ما يتعلق بذلك في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}
{وَقَدْ تَعْلَمُونَ} يعني تحقق لديكم من أني رسول من الله، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا} يعني عن الهدى {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والله لا يظلمهم لكمال عدله، لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، فإنهم فعلوا، والجزاء من جنس العمل، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وذلك كما قال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الذين فسقوا، وذلك لأنهم لم يتعرضوا لرحمة الله.
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لم يقل يا قوم، وذلك؛ لأنه لا نسب فيهم؛ لأنه ولد من غير أب، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} يعني من أني مصدق لما جاء في التوراة هذا فيما يتعلق بالماضي، وأما ما يتعلق بالمستقبل {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وسمي بهذا الاسم: قال بعض العلماء: لأنه يحمد الله أكثر من غيره، وقال بعض العلماء كابن القيم رحمه الله قال: لأنه أكثر ما يحمد من الناس لما فيه من الصفات العظيمة، وهذا رجحه ابن القيم رحمه الله، ولا شك أن له صفات عظيمة صلى الله عليه وسلم تليق به كمخلوق، ولذلك يحمد عليه الصلاة والسلام، وأيضا لا يتعارض مع القول الآخر، فإنه ولا شك من أنه عليه الصلاة والسلام من أعظم الناس حمدا لله، لكن قال ابن القيم: لو كان المقصود من أنه من أكثر الناس حمدا لله لسماه الله بالحمَّاد.
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الضمير يعود إلى عيسى عليه السلام، وقيل يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا تعارض بين القولين، فإن اليهود كفرت بعيسى عليه السلام، وكذلك كفار قريش كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} سحر واضح وبيِّن.
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} افتروا، والافتراء هو أشد الكذب، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} يعني قد بينت له شعار الدين، فليس بجاهل، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فهذا يدل على أنهم ظلمة.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} في سورة التوبة {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} وقال هنا {لِيُطْفِئُوا} في سورة التوبة حذفت اللام، وهنا {لِيُطْفِئُوا} فعل مضارع منصوب بأن بعد اللام، فقوله عز وجل {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ومر معنا تفسير لها أكمل وأشمل في سورة التوبة، وكذلك الآية التي بعدها مر تفسيرها تفسيرا أكمل وأشمل في سورة التوبة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} لما بيَّن في أول السورة ما يتعلق بفضل الجهاد بين هنا من أن هناك تحارة عظيمة، من بين هذه التجارة الجهاد في سبيل الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} والاستفهام هنا للتشويق {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ونكَّر{تِجَارَةٍ} لتعظيمها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ما هي هذه التجارة؟
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قدم الإيمان بالله وبرسوله؛ لأنه لا يقبل أي عمل إلا بعقيدة صحيحة {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {ذَلِكُمْ} يعني تلك التجارة {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فافعلوا ذلك {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هنا يغفر جزم؛ لأنه جواب الشرط يعني إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} وهنا قال {وَمَسَاكِنَ} وذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بالهجرة وبالجهاد في سبيل الله حتى قتلوا عوضهم الله بمساكن طيبة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي في جنات ذات إقامة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هذا هو الفوز العظيم، ومر توضيح لهذه أكثر في سورة التوبة.
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} يعني نعمة أخرى تحبونها، ما هي هذه النعمة؟ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} على الأعداء {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} فتوحات تلك البلدان، ومن ذلك فتح مكة، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ثم عمم فقال {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فالمؤمنون لهم البشارة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} هنا أمروا بالاقتداء بمن سلف من الصالحين، ومر معنا ما يتعلق بالحواريين في سورة آل عمران، وفي سورة المائدة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يعني من أنصاري في الدعوة إلى الله، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} فحصل بينهم قتال، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ} يعني قوينا، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} بالسيف وبالحجة، وهذا يشمل أيضا حتى يعم القول الآخر من أن من كان على دين النصارى فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، فإن له النصر، ولذلك انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود، ولذا قال تعالى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}..
وبهذا ينتهي تفسير سورة الصف….
تفسير سورة ( الجمعة )
الدرس (249 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الجمعة….
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فيما مضى من آيات في سورة الصف {سَبَّحَ لِلَّهِ} يعني في الماضي، {يُسَبِّحُ} يعني في الحاضر، وفي المستقبل؛ لأن الفعل المضارع يدل على ذلك.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} فهو الملك عز وجل الذي هو مالك كل شيء، والقدوس الطاهر المنزه عن كل عيب ونقص {الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فهو العزيز القوي الغالب الذي لا ينال بسوء، وهو الحكيم في شرعه وفي أقواله وفي أفعاله.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} {هُوَ الَّذِي بَعَثَ} يعني أرسل {فِي الْأُمِّيِّينَ} وهم العرب {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وهو محمد عليه الصلاة والسلام {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} يعني أنه يطهرهم، فبعد التلاوة يحصل التطهير، ثم بعد التطهير يحصل الازدياد من العلم ومن الخير، فقال تعالى {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يعني القرآن {وَالْحِكْمَةَ} يعني السُّنة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} يعني من قبل إرسال النبي عليه الصلاة والسلام {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
{وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ} يعني بعث عليه الصلاة والسلام بآخرين منهم، {وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يعني هناك من آمن في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وهناك من آمن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن تأخر إسلامه، {وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}يعني وسيلحقون بهم من حيث الثواب، لكن من حيث السبق بالإسلام فإنهم لا يلحقونهم، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح قال: ” لا تسبوا أصحابي، وهذا القول قاله لخالد بن الوليد رضي الله عنه لما حصل ما بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، ودل هذا على أن الصحبة المتقدمة ليست كالصحبة المتأخرة، وكل منهم له فضل.
{وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} فقد اختلف في هؤلاء: فقيل هم فارس، ولذلك ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية وضع يده على سلمان رضي الله عنه، وقال: ” لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء”، وقيل هم العجم، وقيل هم التابعون، وقيل إنها شاملة من يأتي إلى يوم القيامة، ولا تعارض بين ذلك، فإن من أسلم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو تأخر إسلامه فكما سبق معنا من أن له الثواب والفضل، لكن فضل السبق بالإيمان هذا يناله المتقدمون، ولذلك قال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وأما من جاء بعدهم فإنهم ينالون ثوابا من عند الله وخيرا لكنهم لن يصلوا إلى فضل الصحبة حتى لو كان من الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فإن من جاء بعدهم لا ينال مرتبتهم من حيث الصحبة.
{وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كررها مرة أخرى بعد أن ذكرها في الآية السابقة مما يدل على عزته وحكمته عز وجل.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} يعني ما مضى من تفضيل هو فضل منه عز وجل، وكذلك كون النبي عليه الصلاة والسلام هو الرسول ذلك فضل من الله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فهو صاحب الفضل العظيم الذي فضله على جميع عباده.
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} وهؤلاء هم اليهود حملوا التوراة بأن يقوموا بها، ولكنهم لم يحملوها وضيعوها {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} وذلك في بلادته {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} يعني كتبا هل ينتفع بها وهي على ظهره مع أنها كتب نافعة؟ فالجواب: لا، فهؤلاء كحال هذا الحمار الذي هو أخس ما يكون، فدل على أنهم بلداء، بل إن الحمير أفضل منهم، ولذلك قال تعالى {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} يعني بئس هذا المثل مثل من؟ {الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} وذلك فيه أيضا إشارة إلى صنيع كفار قريش لأنهم كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم فلم يقوموا بدين الله، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فلم يوفقهم للتوبة، ولم يوفقهم للهداية.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} كما قال تعالى عنهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ولذلك مر معنا تفسير لها في سورة البقرة {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قال هنا {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} في سورة البقرة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} يعني في المستقبل وهنا ذكر ما يتعلق بالحاضر في سورة الجمعة فدل على أنهم لم يتمنوا، ولن يتمنوا الموت لا في حاضرهم، ولا في مستقبلهم.
{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب ما قدمته أيديهم من الأعمال الخبيثة، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فهو عز وجل أحاط علمه بهؤلاء الظالمين ممن في عصر النبي عليه الصلاة والسلام وممن سيأتي.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} بمعنى: أن العبد إذا كان لا يريد الموت ويفر منه، فإنه سيلاقيه كما قال تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ولذلك الحديث الصحيح حديث عائشة قال عليه الصلاة والسلام: ” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول كلنا نكره الموت، فقال ليس ذلكم يا عائشة، وإنما العبد إذا بشر برحمة من الله وبرضوانه وبجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإذا بشر العبد بسخط من الله وبغضب من الله كره لقاء الله فكره الله لقاءه” فهذا هو تفسير لهذا الحديث.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي هو عالم بما غاب عنكم، وما خفي عنكم، وبما هو ظاهر لكم، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومن ثم يجازيكم على ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال {فَاسْعَوْا} ليس المقصود من ذلك السرعة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ” عليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا” وإنما المقصود هنا الانطلاق يعني اسبقوا إلى الذهاب إلى الجمعة {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يعني اسبقوا إلى الذهاب إلى الجمعة مبكرين، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وذكر الله يشمل الصلاة، ويشمل الخطبة {وَذَرُوا الْبَيْعَ} يعني اتركوا البيع، ويدخل في ذلك كل ما ألهى عن الحضور إلى الخطبة، وذلك كعقود المعاوضة من إجارة ونحو ذلك، بل إن هذا يكون إثما، وأيضا على الصحيح لا يصح هذا العقد، ويكون العقد باطلا.
{ذَلِكُمْ} أي ما مضى من أحكام {خَيْرٌ لَكُمْ} فافعلوا ما أمرتم به، واتركوا ما نهيتم عنه. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم تعلمون فطبقوا ما جاء في هذه الآية من أحكام.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} يعني فرغ من الصلاة {فَانْتَشِرُوا} يعني انطلقوا واذهبوا، {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} هذا الانتشار يشمل على الصحيح الانتشار وهو الذهاب إلى زيارة مريض، أو إلى زيارة قريب، ويشمل أيضا الانتشار للذهاب إلى كسب الأموال من تجارة ونحوها، {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا} يعني اطلبوا {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} يعني عليكم أن تحرصوا على كثرة ذكر الله، ولاسيما إذا ذهبتم إلى كسب الأموال، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تحصلون على ما ترغبون ويدفع عنكم ما تكرهون.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} قدم هنا التجارة؛ لأنها هي المقصودة؛ لأن التجارة فيما مضى إذا أتت فإنه يأتي معها ما يصحبها من اللهو من باب الإشعار بقدومها، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} يعني انطلقوا إليها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فأتت القافلة، فذهب من ذهب، وبقي معه صلى الله عليه وسلم من بقي، فنزلت هذه الآية، فالصحابة رضي الله عنهم لم يذهبوا من أجل اللهو، وإنما من أجل التجارة، والصحابة لما فعلوا هذا الفعل فهذا اجتهاد منهم، ولذلك جاء في المراسيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم الصلاة على الخطبة، فظنوا أن الخطبة لا يلزم المسلم أن يحضرها، وهذا مرسل، لكنه ليس مرسلا من مراسيل الصحابة، فلا يكون حديثا ثابتا، ومن ثم فإن الصحابة لما فعلوا هذا الفعل سواء كانت الصلاة قبل الخطبة أو العكس، فإنما ظنوا أن لا جناح عليهم في ذلك باعتبار الحاجة الملحة لهم إلى هذا الطعام الذي يكون في القافلة حتى لا يظن بالصحابة الظن السيء، فكيف يكون ذلك، والله يقول { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } وأعظم هؤلاء هم الصحابة.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} يعني تخطب {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} قل يا محمد لهؤلاء الذين انطلقوا وتركوك {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} وقدم هنا اللهو على التجارة؛ لأن ما يتعلق بالمفاسد فيما يكون من اللهو أعظم مما يكون في التجارة.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فهو خير الرازقين، فليطلب الرزق منه عز وجل.
وبهذا ينتهي تفسير سورة الجمعة…..
تفسير سورة ( المنافقون )
الدرس (250 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة المنافقون… وهي من السور المدنية…
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} وهذا يتضمن أنهم حلفوا على ذلك {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} بيَّن عز وجل وردَّ عليهم من أنه عز وجل يعلم أنه رسول من عنده عز وجل، ثم أكد ذلك فقال {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فيما زعموه.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني سترة {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهذه الآية مر معنا توضيح لها أكثر في سورة المجادلة فقال تعالى {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هذا العمل الذي أتوا به فإنه من أسوأ الأعمال.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا} يعني آمنوا بألسنتهم وإلا فالإيمان لم يلج في قلوبهم كما قال تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ختم على قلوبهم فلا يظهر منها نفاق، ولا يدخل إليها خير، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} ولذلك لم يفهموا دين الله.
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} يعني من أن الأجسام يعجب بها الإنسان، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} وذلك لفصاحتهم لكنها أجساد خاوية؛ لذا قال بعدها {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فهم كالخشب التي لا تفقه ولا تعقل، بل إنها مسندة يعني أنها ليست في الأسقف حتى ينتفع بها، فدل هذا على أنه لا نفع من هؤلاء، ولذا قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} فقال تعالى {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يظنون أن كل أمر رفع الصوت به من أجل الحضور إلى صلاة، أو إلى خطبة، أو إلى أمر، أو إلى جهاد، أو ما شابه ذلك يظنون أن آية نزلت فيهم كما قال تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} فقال تعالى {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وهذا يدل على جبنهم وعلى خوفهم. {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} يعني هؤلاء هم الأعداء، ولذلك أنهم أظهروا أنفسهم بأنهم مسلمون لكنهم في بواطنهم هم الأشرار، وهم الأعداء، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} يعني عليك أن تكون منتبها لهؤلاء، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} يعني لعنهم الله {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن دين الله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} وذلك إذا صدر منهم ما صدر من قول معيب وسيء يقال لهم تعالوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لكم، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يعني أمالوا رؤوسهم {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يعني من أنهم قد تكبروا عن ذلك، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} فإن الإنسان إذا صد، وهو من غير تكبر قد يرجع، لكن دل هذا على ماذا؟ على أنهم يصدون وهم في حالة استكبار وكبر.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} يعني يستوي استغفارك لهم، وعدم استغفارك لهم، ولذلك قال تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أتوا بالفسق الأكبر الذي هو الشرك بالله، والكفر بالله.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} وذلك أن عبد الله بن أبي رأس المنافقين قال لا تنفقوا على من عند محمد حتى ينفضوا من حوله فيبقى وحيدا. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} لكن هؤلاء جهلة لم يعلموا أن الخزائن بيد الله، فقال تعالى {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مفاتيح هذه الخزائن، وهذه الخزائن بيد الله كما قال تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون ذلك؛ لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} وذلك في إحدى الغزوات حصل ما حصل من شجار، فقال عبد الله بن أبي لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن محمدا ومن معه، وهو الذليل، ولنكونن ومن معنا نحن الأعزاء فقال الله مخبرا عن حالهم {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فقال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية لا تتعارض مع الآية التي هي قوله عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} وقال تعالى {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} فالعزة والغلبة والقوة لله لكنه يهبها لمن يشاء، فأعطاها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال تعالى هنا {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وذلك لجهلهم بعظمة الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} قدم الأموال باعتبار أنها هي المقصودة والأهم، وكذلك لأن الإنسان إنما يطلب الأموال من أجل أولاده، {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يشمل كل ذكر لله من صلاة ومن قراءة قرآن وما شابه ذلك.
{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} من الالتهاء بهذه الأشياء {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} إذ خسروا ثواب الله وفضله.
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمروا بالإنفاق، وذلك لأنهم إذا كانوا يطلبون التجارة فإن لديهم أموالا فطلب منهم أن ينفقوا بعض الأموال، {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قدم أحدكم مع أنه هو المفعول، وأخر الفاعل الذي هو الموت من باب بيان والله أعلم من أن الموت سيصيب كل إنسان كما قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ} {فَيَقُولَ} هنا فعل مضارع منصوب، وذلك لأن الفاء عاطفة على قوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ} {أَنْ يَأْتِيَ} منصوب، فعطف على ذلك، فنصبت {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} يعني هلا {أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} يعني إلى زمن قريب حتى أتمكن من الإنفاق، ومن الصدقة، ومن أن أكون صالحا {فَأَصَّدَّقَ} وهنا فعل مضارع نصب بعد فاء السببية، وذلك لأنه تقدمه {لَوْلَا} مما يدل على الحض والتمني {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فسرها بعض العلماء من أن الصالحين هنا يعني أداء الحج، ولا شك أن أداء الحج يحصل به الإنسان على صلاح لقلبه ولدينه، لكن ليس محصورا على ذلك، وإنما {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} يعني من صلح فقام بحق الله وبحق المخلوقين.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} يعني إذا جاء وقت موتها فلن تؤخر قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فهو خبير بما يعمله العباد وسيجزيهم يوم القيامة على أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وبهذا ينتهي تفسير سورة المنافقون….
تفسير سورة ( التغابن )
الدرس (251 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرع بعون من الله في تفسير سورة التغابن، هل هي من السور المكية أو المدنية؟ اختلف العلماء والذي يظهر أن من بينها آيات مكية، وآيات مدنية.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ينزه الله عما لا يليق به من في السموات ومن في الأرض {لَهُ الْمُلْكُ} فالملك كله له عز وجل، {وَلَهُ الْحَمْدُ} فهو عز وجل الذي يحمد على أقواله وعلى أفعاله وعلى شرعه {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ولا يتعارض هذا مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه: ” كل مولود يولد على الفطرة” فنعم كل مولود يولد على الفطرة، لكن هناك من أضلهم الله لحكمته، وذلك كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقد بينا هذه المسالة المهمة بيانا واضحا شافيا في سورة الأعراف في قوله تعالى {…كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} وفي آية الأنعام {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} فالرجوع إليها جد مهم.
قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فالله مطلع عليهم.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} يعني ليتأمل هؤلاء حتى يؤمنوا بهذا الدين، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ما خلقهما للباطل أو اللعب بل من أجل أن يتأمل وأن يتدبر فيهما، فيعلم أن الله هو الذي خلقهما، وهو الذي يستحق العبودية. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أيضا هذه من دلائل عظمة الله إذ صوركم أيها الخلق فجعلكم على أحسن صورة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فليتأمل الإنسان في نفسه، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وإليه المرجع إليه عز وجل.
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو عز وجل يعلم ما يكون في السموات وما في الأرض. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} يعني ما تخفونه {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} يعني ما تظهرون، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فهو عليم بما تكنه صدور الخلق {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يعني يا كفار قريش ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل كيف كفروا فماذا صنع الله بهم؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ} يعني خبر {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يعني عاقبة أمرهم، {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني مؤلم، وذلك لما يكون لهم في يوم القيامة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ذلك العذاب الذي نزل بهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالدلائل الواضحات {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يعني استغربوا من أن ياتي بشر من الرسل، وقد مر معنا ما يتعلق بهذه الحجة التي ذكرها هؤلاء في أكثر من موطن، ورددنا عليها فقال تعالى عن هؤلاء {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} فما الذي جرى؟ {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} يعني أعرضوا {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} هنا السين والتاء للمبالغة فالله غني عنهم، {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فله الغنى المطلق التام، وهو حميد يحمد على أفعاله وعلى أقواله.
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} مع تلك الدلائل العظيمة {زَعَمَ} يعني أنهم افتروا وكذبوا {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ} يا محمد لهؤلاء {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} أي لتخبرن {بِمَا عَمِلْتُمْ} وهذا يترتب عليه الجزاء {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فهو أمر هين يسير على الله، وهذا هو الموطن الثالث الذي أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلف به على إثبات يوم القيامة كما مر معنا في سورة سبأ، وفي سورة يونس.
{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إذن ما الذي يلزمكم بعد تلك الدلائل؟ {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} {وَالنُّورِ} يعني القرآن {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو خبير بأعمالكم وسيجازيكم عليها.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} يجمع الأولين والآخرين {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}
{يَوْمُ التَّغَابُنِ} يغبن أهل الجنة أهل النار إذا أخذوا منازلهم في الجنة، فإن الكفار حينها يتحسرون بل كما ذكر بعض العلماء من أن ابن آدم يتحسر على تلك الساعات التي غفل فيها في الدنيا، ولم يذكر الله فيها حتى ولو كان من أهل الإيمان. قلت: وقد رد حديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ليس هناك شيء يتحسر عليه أهل الجنة إلا ساعة كانت في الدنيا لم يذكروا الله فيها” ولكن هذا الحديث ضعيف. وأيضا ذلك الحديث: ” أن ابن آدم ليتحسر على ساعة لم يذكر الله فيها في الدنيا”. وكذلك ما ذكره بعض المفسرين فإن تلك الحسرة ليست حسرة عذاب، ولا يترتب عليها شيء فيما يتعلق بأهل الإيمان؛ لأن من دخل الجنة فإنه يكون في سعادة غامرة طيبة، ولكن الدرجات درجات أهل الجنة تختلف بحسب اختلاف أعمالهم.
{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} ثم قال {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} وذلك لأن تكفير السيئات يزيل عنه المكروه، فقال الله بعدها {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} لم يقل خالدا فيها لأن كلمة ” من ” من حيث لفظها تدل على مفرد، ومن حيث معناها تدل على الجمع، ولذلك نوع فيما يتعلق بالإفراد، وفيما يتعلق بالجمع فقال هنا {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فهذا الفوز الذي لا فوز أعظم من هذا الفوز.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} كفروا بالله وكذبوا بهذه الآيات كما قال الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} فقال الله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا} خالدين فيها لا يخرجون منها، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وبئس المرجع ما هو؟ النار.
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا بإذنه القدري، فما من شيء يقع مما لا يلائم الإنسان إلا وقد كتبه الله وقدره وأذن فيه بإذنه الكوني، ولذا قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال به بعض المفسرين هو المؤمن تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم، ومن ثم فإن هذا القول الذي قاله تدل عليه الأدلة، ولذلك قال {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} يعني من يؤمن بأن هذا من قضاء الله ومن قدره فإن الله يهدي قلبه إلى الصبر، ولذا في قراءة غير سبعية: ” ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه” بمعنى أن قلبه يكون منشرحا، ودلائل هذا من حيث السنة قوله عليه الصلاة والسلام: ” إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك”.
فقال تعالى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيما يتعلق بهذه المصبة وفي غيرها.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أمرهم بطاعته وبطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا} {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يعني أعرضتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} إنما عليه البلاغ الذي هو واضح وبين، وأما ما يكون من صدود فإنما يترتب عليه من عقاب فإنه يكون عليكم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ثم قال الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بعد تلك الدلائل التي وضحها عز وجل فالله هو المعبود الذي لا مبعود بحق إلا هو، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هم الذين يتوكلون على الله فيما يتعلق بمصالحهم الدينية وبمصالحهم الدنيوية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال {مِنْ} للتبعيض، وليس الكل {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} يعني فاجتنبوا ما يدعونكم إليه من الصدود عن دين الله أو من إلهائكم عن ذكر الله.
فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولذلك ذكر بعض المفسرين من أن هذا فيما يتعلق بأناس مؤمنين لم يهاجروا إذ منعهم أولادهم من الهجرة، فلما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا أن الناس قد سبقوهم بالعلم وبالتعلم منه عليه الصلاة والسلام هموا أن يعاقبوهم فقال تعالى {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} وهذا ليس خاصا بهذه القصة، وإنما هو شامل في كل من أخطأ عليك من قريب أو بعيد، ولذا قال {وَإِنْ تَعْفُوا} بمعنى أنكم تتجاوزون عن الذنب {وَتَصْفَحُوا} يعني أنكم تعرضون عن هذا الذنب {وَتَغْفِرُوا} بمعنى أنكم تسترون هذا الذنب فلا تذكرونه لأحد، وهذه الأشياء إنما أتي بها على وجه التفصيل من باب التأكيد على أهمية العفو، وقد مر معنا شيء من ذلك في سورة البقرة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم قال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فهم فتنة واختبار، فالإنسان قد يشغله ماله، وقد يشغله أولاده {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فتذكروا ماذا؟ فتذكروا الأجر العظيم الذي يكون عند الله.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وهذه الآية ليست منسوخة، بل الإنسان مأمور بأن يبذل حسب وسعه أن يبذل في طاعة الله، وفي تقوى الله، أما لا يستطيع فقد رفع الله عنه الحرج ولذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ومن ثم فإن هذه الآية محكمة كقوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} فقال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا} يعني سماع تفهم وتعقل {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} و {خَيْرًا} هنا منصوبة باعتبار أنها خبر كان يعني وأنفقوا يكن خيرا لكم، وهذه الخيرية تكون لكم في الدنيا وفي الآخرة، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} من يوق شح وبخل نفسه فهو من المفلحين، ومر توضيح أكثر لهذه الآية في سورة الحشر.
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بمعنى أنكم تنفقون نفقة حسنة من طيب نفس ومن غير من ولا أذى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقد مر معنا ما يتعلق بالقرض الحسن أعظم وأشمل من هذا في سورة البقرة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} يعني مع المضاعفة يغفر لكم {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} فهو شكور لم؟ لأن عبده يعمل العمل القليل فيثيبه على ذلك الأجر العظيم وقال {حَلِيمٌ} لأنه عز وجل لا يعاجل بعقوبته على من أذنب فإنه يمهله {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فهو عز وجل عالم بما غاب عنكم وبما تشاهدونه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وذلك لأن له العزة والقوة والحكمة {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وبهذا ينتهي تفسير سورة التغابن…
تفسير سورة ( الطلاق )
الدرس (252 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الطلاق… وهي من السور المدنية….
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وقد مر معنا في قوله عز وجل في أول سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} مر معنا من أن الخطاب الموجه للنبي موجه لأمته، فلا يخص عليه الصلاة والسلام بحكم إلا بدليل
قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} ولم يقل: “إذا طلقت” من باب أنه يشمل الجميع، {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني مستقبلات لعدتهن، ولذلك ثبت قوله عليه الصلاة والسلام: ” فليطلقها حاملا أو حائلا” يعني من أن الإنسان إذا أراد أن يطلق الطلاق السني، فإنه يطلق زوجته إذا كانت حاملا قد استبان حملها، أو إذا كانت غير حائض يعني أنها كانت في طهر لم يجامعها فيه، ومن ثم فإن قول البعض من أن طلاق الحامل لا يقع قول باطل، فإنهم لم يفهموا النصوص الشرعية، فدل هذا على أن طلاق الحامل هو الطلاق السني، ومن ثم فإن الطلاق البدعي أن يطلق الإنسان والمرأة حائض، أو أنه يطلق المرأة في طهر جامعها فيه، بل إن الطلاق الشرعي أن تطلق في طهر، يعني بعد أن طهرت من حيضها في طهر لم تجامعها فيه هذا هو الطلاق الشرعي، ويكون طلقة واحدة.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لأنه إذا طلق في الحيض فإن الوقت يطول على المرأة، لكن هنا إن طلق في طهر لم يجامعها فيه هنا بعد الحيض، فإن نفسه تشتاق إلى جماعها، ومن ثم فإن في هذا تقليلا من الطلاق؛ لذلك قد يطلقها في الحيض؛ لأن نفسه لا تتوق إلى الجماع، لكن إذا حصر بهذه الأشياء ولله الحكمة البالغة فيما شرع فقال عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يعني اضبطوا العدة من قبل الزوج، ومن قبل الزوجة، وذلك حتى لا تتزوج المرأة في عدتها، فيكون زواجا باطلا، وحتى لا تختلط الأنساب.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أمرهم بتقوى الله مما يدل على أن تقوى الله تصلح بها بإذن الله أمور الزوجين وأمور الأسرة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} فدل هذا على أن إخراج أو أن خروج المرأة من بيت زوجها إذا طلقها طلاقا رجعيا، فإنه محرم، ومن ثم فإن ما يصنعه البعض من أنه إذا طلق امرأته طلقة واحدة يعني له المراجعة لها أخرجها أو خرجت فإن هذا لا يجوز، فما يفعله الناس مخالف للسنة، فقال تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} بل أضاف الأمر إلى بيوتهن باعتبار أنهن مالكات لهذه البيوت من حيث سكناهن في ذلك مع أنهن لا يملكن هذه البيوت إنما يملك هذه البيوت من هم؟ هم الأزواج، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما كما في الصحيح: ” رقيت بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ” مع أن البيت بيت النبي، ومن ثم فإن قول البعض من أنه يقول: إن البيت إذا لم ينسب إلى المرأة دل هذا على أن هناك خصاما، أو أن هناك غير وفاق بينهما، فنقول هذه الآية ترد ما تقولون، ولذا قال {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ولذلك قال تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} {فِي بَيْتِهَا} دل هذا على ماذا؟ على أن المرأة ينسب إليها البيت باعتبار أنها تسكن فيه، وإن كان ملكا لزوجها.
{وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يعني إذا وقعت في فاحشة مبينة يعني أن تلك الفاحشة قد وضحت وضوحا تاما، وذلك بأن تزني، وهذا هو أعظم ما يكون من الفاحشة بينة أو أنها ذات خلق سيء أو قول سيء فإن له حينها أن يخرجها، ثم قال {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني ما مضى حدود فيجب ماذا؟ أن يحافظ عليها، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ومر معنا ذلك مفصلا فيما يتعلق بالحدود في سورة البقرة.
{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فتنقلب تلك العداوة إلى محبة، وذلك الفراق إلى ألفة، ومن ثم فإنه كما قال بعض المفسرين ما يدرى ربما أنها تنجب له ولدا، فإذا هذا الولد يكون بإذن الله يكون وفاقا بينهما، فلا يستعجل الإنسان في طلاق زوجته {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ومن ثم فإن المرأة إذا طلقت وهي مطلقة طلاقا رجعيا فإن لها من الحقوق مثل ما للنساء، فالرجعية ما تزال زوجة، بل إنها إذا بقيت في بيت زوجها تتجمل وتتزين لعله أن يجامعها، فإذا جامعها بنية الرجعة فإنها تعتبر رجعة صحيحة، ويكون بذلك راجعها قبل زوال عدتها.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني قاربن انقضاء العدة فهنا كما قال الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ومر معنا تفصيل ذلك في سورة البقرة، {فَإِذَا بَلَغْنَ} يعني قاربن انقضاء العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بمعنى أنكم تمسكونهن بمعروف بحسن معاشرة، وإذا فارقتم المرأة فلتفارقوها بالمعروف من غير سوء ومن غير كلام ومن غير إساءة لها، وبحث عن الماضي {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني أمروا بالإشهاد عند طلاق المرأة وعند إرجاعها بأن يشهد اثنين قال {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ومر معنا العدالة فيما يتعلق بالشهود بحديث مفصل في آية الدين في سورة البقرة. ومن ثم قال بعض العلماء إنه يشترط لصحة الرجعة أن يشهد اثنين لكن الصحيح لو أنه راجعها من غير أن يشهد فإن الرجعة تكون صحيحة، لكن هل يأثم أم أنه لا يأثم؟ بناء على الخلاف {وَأَشْهِدُوا} هل هنا للوجوب أم للاستحباب؟ ومن ثم فإن على من طلق زوجته، وأراد أن يراجعها عليه أن يشهد اثنين. {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} يعني في كل أمر من الأمور إذا شهدتم فلتكن شهادتكم من أجل الله، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، لا لغرض من الدنيا.
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ولذلك في سورة البقرة {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ} وقال {مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} وبينا في سورة البقرة الضمائر المتعلقة بها {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} لما ذكر في أول الآية {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} هنا من اتقى الله فيجعل الله له مخرجا في دنياه، وفي أخراه، فيفرج الله عنه حتى قال بعض السلف لو أن الناس كلهم أصيبوا بمصيبة، فإن الله ينجيه ويجعل له مخرجا، ولو كان كل الناس قد أصابهم ما أصابهم قال هنا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من المخرج أن الله يجعل لك مخرجا إذا اتقيت الله فيما يتعلق بماذا؟ بزوجتك وما بينكما من معاشرة أو طلاق أو نحو ذلك.
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} يأتيه الزرق من حيث لا يدري كيف أتاه هذا الرزق، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} يعني من يتوكل على الله ويفوض أمره إلى الله، فالله هو كافيه قال تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} يعني ما قدره الله سيقع، ويحصل لا محالة، لكن عند وقته، ولذلك ماذا قال بعدها {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فلا يستعجل الإنسان {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فكل ما قدره الله سيقع في زمنه المحدد الذي قدره.
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} هذا صنف من النساء، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} وهي المرأة التي انقطع عنها الحيض، ولذلك قال بعض العلماء: إن الحيض ينقطع عند خمسين سنة، وقيل بأكثر، والصيحح أنه لا يحد بعدد من السنين؛ لأن هذا يختلف باختلاف البلدان، واختلاف بيئة المرأة، بل متى ما انقطع حيضها فطلقت فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر. قال {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} يعني شككتم قال بعض المفسرين يعني إن تيقنتم {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} والصحيح أن الريب هنا على ظاهره يعني إن شككتم، قال بعض المفسرين: إن شككتم هل هذا دم حيض أم لا {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} والصحيح الذي هو ظاهر الآية من أن حكم هؤلاء النسوة إن ارتبتم في حكمهن فحكمهن هذا الحكم، ما هو؟ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني من تزوجت ولم يسبق لها أنها حاضت فحينها إذا طلقت فعدتها أيضا ثلاثة أشهر، ولماذا ثلاثة أشهر؟ لأن المرأة إذا كانت تحيض ولم تكن حاملا فعدتها ثلاث حيض، والغالب أنه في كل شهر تكون حيضة.
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هذه يسميها الفقهاء بأم المعتدات، يعني متى ما كان الحمل موجودا فإن العدة لا تنتهي إلا به سواء كان متوفى عنها زوجها، أو فارقها زوجها حال الحياة. إذن مع وجود الحمل لا يلتفت لعدة حيض أو لأشهر أو ما شابه ذلك، وإنما ينظر إلى الحمل حتى لو لم يكن بين حملها وبين وضعها إلا يوم فإن عدتها تنتهي، وفصلنا ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فإذا وضعت ما في بطنها إن كان واحدا فإن عدتها تنتهي بوضع الحمل حتى لو طلقها في الشهر التاسع ثم بعد ساعة وضعت فإن عدتها قد انتهت، ومن ثم فإن الحمل إذا كان أكثر من احد فإن عدتها لا تنتهي إلا بوضع كل الحمل المتعدد.
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} كرر تقوى الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ييسر له أموره في دنياه، وفي أخراه.
{ذَلِكَ} يعني ما مضى {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني ما أمركم الله {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} فطبقوه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} كرر تقوى الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} وتأمل في الآيات في كثير منها تأتي مغفرة الذنوب وتكفير السيئات مع ماذا؟ مع حصول الأجر؛ لأن تكفير السيئات يزول عن الإنسان ما يخافه، والأجر يأتي إلى الإنسان ما يحبه.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} يعني من وسعكم يعني أسكنوا المطلقات {أَسْكِنُوهُنَّ} قال بعض المفسرين هذا فيما يتعلق بمن؟ المرأة التي هي قد طلقت طلاقا بائنا، ولا رجعة لها إلا بزوج آخر، فقال تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} بمعنى: أنكم لا توقعوا الضرر بهن حتى يخرجن من هذا السكن، {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وذلك لأن المرأة المطلقة طلاقا بائنا لا نفقة لها، لكن إذا كانت حاملا فينفق عيها من أجل الحمل فقال الله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأتوهن أجورهن على هذا الإرضاع، والقول الآخر من أن سياق الآيات يتعلق بالمطلقة الرجعية، لم؟ لأن المطلقة طلاقا بائنا كما جاء في الحديث الصحيح لا نفقة لها، ولا سكنى، فقال الله هذه الآيات فيما يتعلق بالرجعية، لكن من يقول من أن المقصود طلاق البائن قال: المرأة الرجعية ينفق عليها سواء كانت حاملا أو غير حامل، فلماذا ذكرت هنا؟ فالجواب عن هذا من أن المرأة الرجعية لها النفقة، لكن لما كانت مدة الحمل تطول ربما يتوهم من أنه لا نفقة لها لما طالت المدة فأتى هذا الحكم لبيان هذا الأمر، ولذلك ماذا قال تعالى {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاوروا فيما بينكم بمعروف من أجل مصلحة الولد فيما يتعلق برضاعه.
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وقال هنا {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} لأنه لا ينبغي لأب أن يعاسر الزوجة فيما يتعلق بإرضاع ابنه، ولا الأم، أين الأم الحنون؟ فلاينبغي أن يكون بينهما هذا التعاسر، {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} يعني إن لم تتفقوا فسترضع له أخرى يعني امرأة أخرى.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يعني النفقة إنما تكون على حسب وسع الإنسان إن كان غنيا فعلى حسب غناه، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} يعني من ضيق عليه رزقه {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} يعني مما كتب الله له {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} يعني إلا ما أعطاها {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} لما قال {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فقال هنا {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وهذا شأن أي عسر يأتي بعده اليسر، ولذا قال تعالى {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} يعني كثير من القرى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} وفي هذا تحذير كفار قريش من الكفر بهذا الدين، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} {عَتَتْ} يعني طغت وتجاوزت أمر الله {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} يعني عذابا فظيعا تنكره القلوب.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} يعني عاقبة أمرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} يعني أن العاقبة ليست عاقبة طيبة بل الخسارة.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ومن ثم قال بعض المفسرين {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} يعني في الآخرة وقوله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} يعني في الدنيا، وقيل المقصود في الآخرة، فيكون قوله تعالى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} من باب التكرار والتأكيد على شدة عقوبته، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ} دل هذاعلى ماذا؟ على أن الذي ينجي من عذاب الله تقوى الله، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} يعني أصحاب العقول هم الذين يتقون الله لأنهم آمنوا ولذلك ماذا قال بعدها {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} وهو القرآن فيه الذكرى وفيه الشرف لمن أخذ به.
{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ} {رَسُولًا} هل هو بدل من {ذِكْرًا} باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ لهذا الذكر، فكان بدلا عنه من حيث الإعراب، أو أنه منفصل عما مضى يعني وأرسلنا رسولا {رَسُولًا} يعني منصوبة بفعل محذوف يدل عليه المقام.
{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} {مُبَيِّنَاتٍ} يعني أنها موضحات للحق، {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في آية أخرى {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} لأن القرآن إنما أنزل من أجل أن يخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور، لكن هناك من لم يوفق، لكن الذي يوفق هو الذي يستفيد وينتفع من هذا القرآن. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الجهل والشك والنفاق وما شابه ذلك إلى نور الإيمان والعلم والخير والهدى، وبينا ذلك أكثر في سورة البقرة مفصلا، فقال الله {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وقد مر معنا في السور ة السابقة ما يتعلق بهذا قال هنا {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أحسن الله الرزق، وأحسن الرزق هو الجنة. {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} يعني لتتأملوا ولتتدبروا ولتتعظوا حتى تعلموا أن الله هو الذي يستحق العبادة، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} {مِثْلَهُنَّ} من حيث العدد؛ لأنهن سبع كما أن السماء سبع، وقد جاءت أحاديث منها: ” من ظلم شبرا طوق من سبع أراضين” ، لكن المثلية ليست من حيث الصفة لأن صفة الأرض تختلف عن صفة السماء، المقصود من ذلك العدد. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أمر الله مما أمر به جبريل أن ينزل بالوحي، أيضا ما أمر الله به من الأوامر الكونية القدرية {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} ولذلك ماذا قال عز وجل {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} من أجل ماذا؟ {لِتَعْلَمُوا} يعني خلق الله السموات والأرض من أجل ماذا؟ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}الله على كل شيء قدير، فلا يعجزه شيء وأحاط بكل شيء علما إذن ما الذي يلزمكم إذا أقررتم لأنهم يقرون بأن الله هو الذي خلق السموات {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وهذا يدل على أنه يلزمكم أن تعلموا {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن ذلك أنه يبعثكم يوم القيامة {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ….
وبهذا ينتهي تفسير سورة الطلاق……
تفسير سورة ( التحريم )
الدرس (253 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة التحريم… وهي من السور المدينة…
{يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}
{يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهذا التحريم على الأشهر وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زينب رضي الله عنها، وكان يشرب عندها عسلا، واتفقت عائشة مع حفصة رضي الله عنهما على أن كلا منهما إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم تقول له: “إني أجد منك ريح مغافير” وهو مثل الصمغ الحلو، لكنه يخرج رائحة ليست حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد في نفسه ما يجد إذا صار هناك ريح ليست حسنة، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه العسل.
وقيل في رواية أخرى: من أن النبي صلى الله عليه وسلم جامع إحدى إمائه في بيت حفصة رضي الله عنها، فحرم جماع هذه الأمة، لكن المشهور ما ذكرناه فيما يتعلق بقضية العسل، فقال الله {يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} من أجل ماذا؟ مرضات أزواجك {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفور ورحيم عز وجل لمن تاب ورجع إليه.
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} يعني أوجب عليكم من أجل أن تتخلصوا من هذه اليمين بماذا؟ بكفارة اليمين. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} والكفارة فيما يتعلق بالتحريم، فمن حرم على نفسه شيئا مباحا قال حرام عليّ مثلا أن آكل التفاح، أو أن آكل هذا الطعام، أو أي شيء حرمه من الحلال فإنه إذا أراد أن يعود عليه يكفر كفار يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإذا لم يجد فصيام ثلاثة أيام كما وضحنا ذلك في سورة المائدة،..
وهل يدخل في ذلك لو حرم زوجته؟ خلاف بين أهل العلم: بعض أهل العلم يقول إنه بمثابة الظهار، وبعضهم يقول إنه من باب المباحات، فإنه يكفر كفارة يمين، وعلى كل حال تحدثت عن هذه المسألة بالتفصيل في غير هذا الموطن في درس الفقه.
فقال تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} هو الذي يتولى أموركم، وهو الذي ينصركم، وهي ولاية خاصة، {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ولذلك لعلمه عز وجل شرع لكم الكفارة، ولحكمته شرع لكم هذه الكفارة.
{وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} أسر إلى حفصة رضي الله عنها من أنه حرم على نفسه العسل، أو على الرواية الأخرى أنه حرم جماع تلك الأمة، {وَإِذْ أَسَرَّ النبي} بمعنى أنه أمرها ألا تفشي هذا الأمر.
{وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} يعني هي أخبرت عائشة رضي الله عنها، {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} يعني الله أطلعه على ما قالته حفصة لعائشة رضي الله عنهما، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني عرف بعضه لحفصة يعني لماذا أخبرت بهذا السر؟ {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني لم يذكر كل الأشياء، وهذا كما يقول العلماء: ” ما استقصى كريم” ولذلك يوسف عليه السلام لما أتى إليه إخوته معتذرين {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} إذن ما بعد اليوم من باب أولى، {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
فقال تعالى هنا {عَرَّفَ بَعْضَهُ} يعني ذكر بعضه لها {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني لم يذكره. {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} يعني أخبرها بما جرى منها من إفشاء السر، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} يعني من أخبرك بهذا؟ هل أخبرتك عائشة؟ تظن أن عائشة رضي الله عنها قد أخبرته. {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وهو الله المطلع على كل شيء، وعلى دقائق وخبايا الأمور.
{إِنْ تَتُوبَا} الخطاب لحفصة وعائشة رضي الله عنهما، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني مالت قلوبكما إلى ما لا يرضي رسول الله، إذن عليكم التوبة، ولذلك قال {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني مالت قلوبكما عما يريده النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يريده النبي صلى الله عليه وسلم ويشق عليه، هذا لا يرضيه فيكون هذا ميلا عن دين الله، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وهما اثنتان، ولم يقل قلباكما؛ لأنه في اللغة العربية الأفضل إذا جاء مثنى مضافا إلى مثنى فإنه يؤتى بالجمع حتى لا يكون اللفظ ثقيلا، وقد وضحنا هذا فيما يتعلق بإثبات صفة اليدين لله بما يليق بجلاله وبعظمته في سورة آل عمران، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ}.
{وَإِنْ تَظَاهَرَا} يعني تتعاونا {عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} هو مولاه يتولى أموره وينصره {وَجِبْرِيلُ} ونص على جبريل من باب االثناء على جبريل عليه السلام، {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ثم قال {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} يعني أنهم ظهراء يعاونون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو قال قائل: لماذا قال في آخر الأمر{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ألا يكفي ما يقدره عز وجل بنفسه فنقول: بلى، لكنه عز وجل قدم نفسه في أول الأمر؛ لأن كل ما يجريه فيما يتعلق بولاية النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل وصالح المؤمنين هذا بأمر الله، فلما ذكر جبريل وذكر صالح المؤمنين ذكر عموم الملائكة، {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} يعني من أنكن إذا فعلتن هذا الأمر والمشقة بالنبي صلى الله عليه وسلم {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} {عَسَى رَبُّهُ} وعسى كما قال العلماء من الله واقعة ومتحققة، قال بعض العلماء إلا هذه الآية، فإنها لم تتحقق، فإنها لم تتحقق، والقول الآخر ولعله هو الأظهر من أن عسى هنا للوقوع وللتحقق، لكن لم يقع؛ لأنه مشروط بشرط، بشرط ماذا؟ بشرط الطلاق فلما لم يطلق هنا لم يتحقق هذا الأمر؛ لأنه مشروط بالطلاق، فقال تعال {عَسَى رَبُّهُ} وهذا يدل على ماذا؟ على عناية الله بالنبي صلى الله عليه وسلم {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ما صفاتهن؟ {مُسْلِمَاتٍ} من حيث الظاهر. {مُؤْمِنَاتٍ} من حيث الباطن، {قَانِتَاتٍ} يعني أنهن مديمات للطاعة، {تَائِبَاتٍ} يعني من أنهن كثيرات التوبة يتبن إلى الله، {عَابِدَاتٍ} يعني أنهن ملازمات للعبادة، {سَائِحَاتٍ} السائح مر معنا مفصلا أكثر في قوله تعالى في سورة التوبة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} يعني خلاصة ذلك من أنهن يسارعن إلى العمل الطيب مما ليس مخصوصا بشيء، وقد قال بعض العلماء {سَائِحَاتٍ} يعني مهاجرات، وقيل صائمات، وهذه تدخل ضمن هذه، {سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} {ثَيِّبَاتٍ} يعني من أنهن قد تزوجن من قبل، {وَأَبْكَارًا} يعني لم يسبق لهن الزواج.
ولكن لو قال قائل: لماذا هنا لم يأت بالعطف {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} لم؟ لأن المقصود من ذلك أن الصفات السابقة كل تلك الصفات تكون في المرأة الواحدة، لكن الثيب والبكر هل يمكن أن تجمتع في المرأة الواحدة في آن واحد؟ الجواب: لا، ولذلك قال {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }، ومن ثم فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوج من النساء بكرا إلا عائشة رضي الله عنها، لماذا جمع قال {وَأَبْكَارًا} فالذي يظهر والعلم عند الله من أن ذلك يكون في الجنة، ولذا ورد حديث من أن آسية بنت مزاحم التي هي زوجة فرعون، وكذلك مريم بنت عمران، وكذلك أخت موسى عليه السلام من أنهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، لكنه حديث ضعيف، لكن الله على كل شيء قدير، له أن يزوج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسوة وبغيرهن.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} لما كان الحديث عن الأهل أمر بماذا؟ بأن يقي الإنسان نفسه بأن يجنب نفسه مساخط الله حتى لا تؤدي به إلى النار, وأيضا يأمر أهله فإن هذا واجب عليه، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} ونكرها، نكر النار لتعظيمها، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي الذي يشعلها، {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ولذلك قال في سورة البقرة {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}.
{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} غلاظ من حيث القول، شداد من حيث قوة الأبدان، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} يعني أنهم لا يعصون الله أي أمر من الأمور، لكن قال بعدها {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} لكن لماذا قال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ألا يكتفى بالجملة السابقة؟ فالجواب: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يعني هم لا يعصون الله ما أمرهم، ينفذون تنفيذا تاما، وأيضا إذا نفذوا فإنهم ينفذون عن طواعية وعن رضى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} لا ينفع الاعتذار في يوم القيامة، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجزاء على حسب أعمالكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وذلك بأن تتوبوا إلى الله بشروطها الإخلاص والاستغفار والعزم على ألا يعود الإنسان إلى الذنب، والندم على ما فات، وأن تكون التوبة في وقتها قبل أن يغرغر العبد، وإن كان فيما يتعلق بحق آدمي فإنه يعطيه هذا الحق مع الشروط السابقة، لكن لو قال قائل: لماذا وصف التوبة بأنها نصوح؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وصفها بأنها نصوح لأنه إذا تحققت شروطها نصحت صاحبها، فلا يرجع إلى الذنب مرة أخرى، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ} وهذه متحققة {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} لا إهانة، ولا ذل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا للذين معه {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ومر معنا في قوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وفصلنا في ذلك تفصيلا أشمل.
فقال هنا {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} يعني أدم هذا النور، وأتممه لنا، وذلك لأن المنافقين في يوم القيامة {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فقالوا هنا متوسلين إلى الله بأن يتم لهم النور، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} وذلك لأن الذنوب مهلكة للعبد في يوم القيامة، فهنا إذا غفرت الذنوب نجا العبد من عذاب الله، {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن ذلك إتمام النور ومغفرة الذنوب.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يعني واشدد عليهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يعني مثواهم جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والمرجع، ومر تفسير لهذه الآية أكثر في سورة التوبة.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ما هو هذا المثل للذين كفروا؟ {اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} وذكر ما يتعلق بامرأة نوح وامرأة لوط يعني لتنتبه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن نوحا ولوطا لم ينفعا هؤلاء الزوجات، فدل هذا على ماذا؟ على أن في ذلك تحذيرا لطيفا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن رضي الله عنهن قد أثنى الله عليهن في سورة الأحزاب، ولذلك ماذا قال تعالى {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وقد اخترن الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك ماذا قال مكافأة لهن {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فرضي الله عنهن، فقال تعالى مبينا من أن وجود المرأة تحت من هو صالح وشريف، ولو كان نبيا فإن ذلك لا ينفعها {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} لماذا لم يقل نبيين؟ من باب ماذا؟ من باب أن الصلاح صفة من أجل أن يقتدي الناس بهما، فليسارعوا إلى الصلاح، وذلك لأن الله وصف هذين النبيين في آيات أخرى من أنهما أنبياء، ولذلك قال {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} ولذلك يوسف ماذا قال {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} إلى غير ذلك مما سأله أنبياء الله عليهم السلام.
{فَخَانَتَاهُمَا} الخيانة هنا هي خيانة الكفر، وليست خيانة الزنا، فلم يجعل الله تحت نبي لم يجعل تحته امرأة بغية زانية، وذلك لطهارة النبي صلى عليه الصلاة والسلام، ولطهارة فراشه، ومن ثم فإن المقصود من الخيانة هنا خيانة هاتين المرأتين فيما يتعلق بالدين، فإنهما كانتا كافرتين {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} نوح ولوط عليهما السلام لم يغنيا عن زوجتيهما شيئا {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ} يعني قيل لهاتين الزوجتين {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} مع من يدخل النار.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} ما هو هذا المثل للذين آمنوا؟ {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وفرعون الطاغية المعروف، {إِذْ قَالَتْ رَبِّ} تدعو الله {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا} قالت {ابْنِ لِي عِنْدَكَ} وأخرت البيت، ولذلك طلبت ماذا؟ طلبت الجار قبل الدار، {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} يعني من عمله الشرك، ويدخل في ذلك قول من قول ومن تعذيبه؛ لأنهم قالوا إنه عذبها، وأيضا من جماعه، الجماع جعلته من العمل، {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هو وجنوده وأشابه هؤلاء.
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟ ” كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية ومريم..” الحديث.. فقال الله هنا {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} يعني ومثلا آخر للذين آمنوا من؟ {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} يعني حفظت فرجها لما تمثل لها الملك جبريل على صورة إنسان على أحسن ما يكون، فإنها مع ذلك الخفاء وعظته {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} فهذا هو حصانة فرجها، فقال تعالى {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} يعني في الفرج، وفي الآية الأخرى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وبينا ذلك مفصلا في سورة مريم، وفي سورة الأنبياء، {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وذلك بأن الله أرسل جبريل إليها فنفخ في جيب درعها، فولجت النفخة إلى فرجها، فحلمت بعيسى من غير أب، فقال الله عز وجل {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} بكلمات ربها مما كتبه الله عليها فيما يتعلق بعيسى عليه السلام، وما شابه ذلك، وأيضا بكلماته عز وجل الشرعية والقدرية، {وَكُتُبِهِ} يعني آمنت بالكتب كلها حتى بالكتاب الذي نزل على ابنها وهو الإنجيل، {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} لم يقل وكانت من القانتات، بل كانت من جملة القانتين من الرجال ومن النساء لأنها طبقت، ولذلك ماذا قال تعالى في سورة آل عمران {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} هنا كتب الله بذلك القنوت هذا الفضل والثواب.
وبهذا ينتهي تفسير سورة التحريم…