التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (146) إلى (154) الدرس (45)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (146) إلى (154) الدرس (45)

مشاهدات: 443

تفسير سورة آل عمران

الدرس (45)

من الآية (146) إلى (154)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }  آل عمران: ١٤٦

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ } هنا وإن كان ما قاله بعض أهل العلم من أن ” أي ” هنا للاستفهام فهي تدل على الكثرة { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ } هنا ذكرت هذه الآية تذكيرا للصحابة بحال أتباع الأنبياء السابقين { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ }

{ رِبِّيُّونَ } يعني جماعات كثيرة وأتباع كثر

وقال بعض العلماء { رِبِّيُّونَ } هنا بمعنى الربانيين الذين سبق الحديث عنهم { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } من أنهم العلماء الذين تعلموا وعملوا وعلموا الناس وصبروا على تحمل الأذى لكن الذي يظهر من الآية من أن المقصود بالربيين هنا من أنهم الجماعات الكثيرة لأنه لو كان المقصود الربانيين لقال رَبيون بفتح الراء

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا } أي ما أصابهم الضعف تذكيرا لهم بما مر معنا { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا }

{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فما أصبتم به يوم أحد هو في سبيل الله { وَمَا ضَعُفُوا } أي ما أصابهم الضعف في الأبدان { فَمَا وَهَنُوا }  أي ما حصل لهم ضعف في القلوب وهو الجبن { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا } أي في أبدانهم في مقابلة الأعداء

{ وَمَا اسْتَكَانُوا } أي ما خضعوا لأعدائهم

{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ  }

ففيه إثبات صفة المحبة لله بما يلقي بجلاله وبعظمته ، ومر الحديث عن ذلك مفصلا في قوله تعالى في نفس السورة { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣١ }

{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } ومن ثم فإن الصابر إذا سمع  مثل هذه الآية فإن قلبه يطمئن وتدعوه هذه الآية وأمثالها إلى أن يصبر ومن ذلك الصبر على قتال هؤلاء ولو حصل ما حصل من قتل بينكم ، قال هنا { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ  } قال شيخ الإسلام : ” لم  يقتل نبي في معركة “

ونقل عن بعض السلف بعض الآثار قال : ” فإن القتال والجهاد لم يكن في الأنبياء السابقين قبل بني إسرائيل فحصل الجهاد في بني إسرائيل ولم يقتل نبي في معركة  “

فدل هذا على ماذا ؟

دل هذا على أنه من قتل من أولئك الأنبياء كما بين عز وجل في أول السورة { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ٖ } قتل بغير الجهاد . مما يدل على ماذا ؟

مما يدل على أن الدخول في الجهاد طبعا إذا قلنا وهذه قاعدة الجهاد في سبيل الله الجهاد الشرعي الذي له شروطه لا على حسب  ما يفهمه بعض  الناس مما لديه عاطفة وما شابه ذلك وقد بيَّنّا ذلك في مواطن متعددة

إذن الإقدام على الجهاد في سبيل الله فإنه لا يقصر عمرا ، ولذلك خالد بن الوليد سيف الله المسلول ما من موضع في بدنه إلا وفيه طعنة برمح أو بسيف ومع ذلك مات على فرشه

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }  آل عمران: ١٤٧

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا } { قَوْلَهُمْ } خبر كان مقدم منصوب { إِلَّا أَنْ قَالُوا } { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا } { إِلَّا أَنْ قَالُوا } الجملة اسم لكان

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا } انظر ما أصابهم مما أصابهم رجعوا فيه إلى أنفسهم من باب تذكير الصحابة  كما سيأتي بيانه في الآيات القادمات

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } اغفر ما جرى منا مما فعلناه من ذنوب ، والإسراف في الأمر أي مما حصل منا من تقصير في طاعتك

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } يعني تثبيت الأقدام في الشدائد ولاسيما في الجهاد أمر مطلوب

ولذلك ماذا قال أولئك الذين قابلوا جالوت ممن كان مع طالوت { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٢٥٠ }

والله عز وجل أنزل في غزوة بدر المطر { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ١١ }

{ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فرجعوا إلى أنفسهم من أن التقصيرحاصل منهم إما بفعل ذنب أو بترك طاعة

{ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } آل عمران: ١٤٨

{ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ }  يعني أعطاهم الله { ثَوَابَ الدُّنْيَا } من الغنيمة والخير{ وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ } وصف ثواب الآخرة بالحسن لأنه باق مستمر ، أما الدنيا فإن ثوابها زائل ولو تمتع الإنسان ما تمتع

{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } إثبات صفة المحبة لله بما يليق بجلاله وبعظمته ويحب من ؟ المحسنين الذين أحسنوا فيما يتعلق بحق الله وفيما يتعلق بحق المخلوق ، ومر معنا ذلك مفصلا في قوله تعالى { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ومن ثم فإن من كانت هذه الصفة صفة له في هذه الآية فهو من المحسنين الذين أثنى الله عليهم

{  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } آل عمران: ١٤٩

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا } نداء لأهل الإيمان للتحذير والحذر من أهل الكفر ، وتأمل كرر التحذير من متابعة أهل الكفر قال في الآيات السابقة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }

وقبلها { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } في سورة البقرة { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } هنا ماذا قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي كافر { يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا } { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي على ارتداد منكم وذكر العقب هنا كما سلف لأن الارتداد والرجوع إلى الخلف عن طريق العقب مهلكة { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي إنكم ترجعون خاسرين وأي خسارة ؟

كما قال عز وجل { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وكما قال عز وجل { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ }

{ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } آل عمران: ١٥٠

{ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ } وتأمل ذكر الولاية هنا ومرت الولاية في السورة مما يدل على ماذا ؟

على أن الولاية كما سبق وفصلنا ذلك في أواخر سورة البقرة { أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ولاية عامة وولاية خاصة هنا ولاية خاصة لأهل الإسلام { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ } ومن ذلك من أنه لما حصل ما حصل من الهم الذي وقع لبني سلمة وبني حارثة { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ١٢٢ } حفظهما الله من الهم وهو الخروج من المعركة

أيضا من ولايته الخاصة { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ } أكمل الآية { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } ولاية تقتضي النصرة { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ٤٠ }

{ أَنْتَ مَوْلَانَا } ذكر النصرة { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } والآيات كثيرة جدا

فقال هنا { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } لأن هناك أسبابا قدرها الله للنصر تلك الأسباب بأمره عز وجل ، وإنما النصر منه قال تعالى { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ومن أسباب النصر ما مر في الآية مما ذكره عز وجل عن حالهم في غزوة بدر لما أمدهم من الملائكة { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ١٢٦ }

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }  آل عمران: ١٥١

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } هذا من أسباب النصر، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام من خصائصه كما أتت بذلك أحاديث صحيحة قال ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) بمعنى أنه من حين ما ينطلق من المدينة إلى مسافة شهر من حيث سير الدواب الرعب يصل إلى قلوب الأعداء ، وإذا وصل الرعب في قلب الإنسان خارت قواه وضعفت

هذا  نصر من الله عز وجل

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } السبب { بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ } بإشراكهم بالله { بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ } الشرك سبب للضعف والجبن  والخوف ، والتوحيد سبب للأمن { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } يعني بشرك { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }

ولذلك ماذا قال عز وجل لما أمد الصحابة في بدر بالملائكة ماذا قال عز وجل { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا } { أَنِّي مَعَكُمْ } فالملائكة محتاجون أيضا إلى معية الله ولو كانت لديهم القوة

قال تعالى عن الملائكة { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ١٢ }

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ }  ولا أعظم من أن تنزل  السكينة في قلب المسلم حال الشدائد فإن فيها تثبيتا من الله له

ومر معنا هذا في سورة البقرة لما ذكر عز وجل { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } وبيَّنا في ذلك آيات كثيرة تدل على عظم السكينة وهي نعمة من الله للعبد حال الشدائد ولاشك أن القتال من أعظم الشدائد

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا }

{ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } الشرك بالله لا حجة عليه من حيث الفطرة ولا من حيث العقل ولا من حيث الدين ولا من حيث الشرائع السابقة لكنه ذكر هنا { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } من باب التشنيع بهؤلاء من أنهم أشركوا بالله من غير حجة قائمة من عقل ولا من فطرة ولا من دين

كما قال تعالى { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ }

والآيات في مثل هذا كثيرة

{ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } هذا مصيرهم في الدنيا الرعب والخوف { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ }  أي مصيرهم النار في الآخرة { وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } بئس فعل ذم { مَثْوَى } أي مستقر { الظَّالِمِينَ }  فهؤلاء ظلمة ، فهؤلاء ظلمة

وأعظم الظلم الشرك بالله لأنه قال { بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}  آل عمران: ١٥٢

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي بالنصر على الأعداء { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } الحس هو القتل بقوة { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قتلتموهم في أول الأمر بأمره عز وجل الكوني

{ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } حصل الجبن { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ } تنازعتم مع رئيسكم عبد الله بن جبير وهو رئيس الرماة على الجبل بعد ما انتهت المعركة ورأوا أن الكفار قد هربوا من المعركة تنازعتم في الأمر بعضهم قال لنأخذ من الغنيمة فذهب كثير منه وبقي القلة فما الذي جرى ؟ انقلبت موازين الغزوة فصار الانتصار كما سبق لكفار قريش

{ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ } أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالبقاء حتى يأذن في ترك هذا المكان

{ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } ماذا يحبون ؟ الغينمة

هذه طبيعة ابن آدم ولا يكون في ذلك نقص في الصحابة فهذه طبيعة البشر

لكن هم وبخوا هنا من باب أنهم عصوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام    { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } ممن ترك المكان          { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ } ممن بقي

{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليختبركم ، بمعنى أنه بعد تلك النصرة وبعد ذلك النصر صرفكم عنهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } اختبارا منه عز وجل لما عصيتم أمر النبي عليه الصلاة والسلام

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه ولعل الشواهد تقوي ذلك من أنه كان يقول والإنسان لا يأمن على نسفه وصحابة النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس قدرا وأرفعهم منزلة وأصدقهم إيمانا كان يقول ” ما كنت أظن أن أحدا من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام أنه يريد حتى وقع ما وقع في غزوة أحد “

ومن ثم فإن الإنسان لا يأمن على نفسه بمعنى أن الإنسان لو كان عالما أو كان عابدا أو ما شابه ذلك فليعلق قلبه بالله

ولذلك كما ثبت عن الزبير في قوله تعالى { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } قال ” ما كنا نظن أن الفتنة ستكون فينا حتى وقع ما وقع “

{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } بفضل منه وبكرم عفا عنكم ما جرى { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ } صاحب فضل { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وذكر الفضل هنا ، ومر معنا ذكر الفضل في هذه السورة  { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ٧٤ }

قال هنا { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فأنتم أهل الإيمان ومن ثم فإن عفو الله لأهل الإيمان ومن ذلك ما جرى من الصحابة رضي الله عنهم في شأن غزوة أحد

{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ومن ثم فإن مثل هذه الآية كما سلف لا تحط من قدر الصحابة ، ومن ثم فإنه لما أتى رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما وقال له ” ألا تشهد بأن عثمان لم يحضر غزوة بدر فقال أشهد ، قال وفر من غزوة أحد قال نعم قال قد فر ، قال ولم يحضر بيعة الشجرة قال لم يحضر، فلما أراد ان ينصرف الرجل ــ لأن الرجل قال :  ” الله أكبر ” من باب الطعن في عثمان ، وهذا ديدن الخوارج ، ومن ثم فإنه رضي الله عنه قال : ( تعال أما تخلفه في غزوة بدر فإنه بأمر النبي عليه الصلاة والسلام كانت زوجته مريضة فأذن له أن يمرضها ، وأما  فراره يوم أحد فإن الله قد عفا عنه { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } وأما لم يحضر بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أكرم من عثمان ما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهل مكة ليتفاوض معهم ، ولذا لما لم يحضر عثمان أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بيده ثم ضربها على يده الأخرى فقال هذه عن عثمان أفيد النبي عليه الصلاة والسلام خير لعثمان أم يد عثمان لعثمان ؟ ثم قال : ( اذهب بهذه معك )

يعني : لا حجة لك في الطعن في عثمان

{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} آل عمران: ١٥٣

{ إِذْ تُصْعِدُونَ } أي تسيرون في المكان السهل والإصعاد يختلف عن الصعود ، الصعود يكون بمشقة ، ولذا قال تعالى { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي شاقا ، هنا من الإصعاد الإصعاد يعني السير في الأرض السهلة

{ إِذْ تُصْعِدُونَ }  يبين حالهم في غزوة أحد لما حصل ما حصل من فرار والنبي عليه الصلاة والسلام تركوه في المعركة باعتبار أنه قد قتل

{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ } أي لا تعرجون ولا تنظرون ولا تلتفتون إلى أحد { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي من الخلف أي من خلفكم من ورائكم بمعنى أنه كان يدعوهم أن يعودوا ولذلك لما نشر وأشيع من أنه عليه الصلاة والسلام قتل ، ثم ظهر عليه الصلاة والسلام ، وبشر الصحابة من أنه عليه الصلاة والسلام لم يمت قال هنا    { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ } أي تفرون { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي لا تعرجون على أحد من باب أن تنقذوا أنفسكم { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ }  يعني هلموا إلي { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } الثواب هنا في الأصل لا يطلق إلا على الأجر ولا يطلق على العقوبة لكنه يطلق أحيانا ولذلك ماذا قال عز وجل قال ــ وهذا من حيث بيان الثواب وليس من باب بيان ما جرى للصحابة هنا فكلمة الثواب قد تطلق على العقاب ، ولذا قال عز وجل { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي عقوبة من عند الله وقال تعالى { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦ } قال هنا { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } الغم هو الألم الحاصل في القلب لأن الغم يكون في الحاضر ، يقول ابن القيم يقول في دعاء تفريج الهم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد ( إذا أصاب أحدكم هم فليقل :  اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك )

وهذا الحديث صححه جملة كثيرة من أهل العلم ويؤيده من حيث المعنى من أن النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يأتي إلى العرش فيحمد الله بمحامد كثيرة

الشاهد من هذا :

أنه من ذلك في ضمن الدعاء ( أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي )

الغم يكون في الحاضر ، الهم يكون في المستقبل ، الحُزن أو الحَزن يكون في الماضي

فقال هنا { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } غم ماذا ؟ غم الهزيمة اختلف فيها لكن يدخل في ذلك هم الهزيمة وهم فوات الغنيمة وهم ما أذيع من قتل النبي عليه الصلاة والسلام

{ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } جزاء الغم السابق { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } من النصرو الغنيمة { وَلَا مَا أَصَابَكُمْ } من القتل والجراح وما شابه ذلك لأن ذلك كله بقدر من الله  { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } لكي تعلموا أن ذلك مقدر من الله ، وأن العبد كما جاءت بذلك الأحاديث ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك )

وهناك قول آخر ويدخل ضمن الآية وهو قول قوي جدا { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } يعني أثابكم غم قتل النبي عليه الصلاة والسلام حتى تنسوا الغم السابق لأن قتل النبي عليه الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الغم ثم لما أشيع من أنه لم يمت هنا لما قال { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي ما أصابكم من خبر قتل النبي عليه الصلاة والسلام أنساكم الغم السابق { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ } وسبحان الله ، هنا تكون كلمة { فَأَثَابَكُمْ } على معناها الأصلي أي الثواب الحسن

سبحان الله ! الثواب الحسن ، لم ؟ لأن الغم الذي أصابكم من الهزيمة وفوات الغنيمة لم يكن في قلوبكم زال وذهب ، لم ؟ لأنه أتاكم غم أنساكم وذلكم الغم الذي أناسكم وهو قتل النبي عليه الصلاة والسلام أنساكم الغم السابق وأخبرتم بأنه عليه الصلاة والسلام من أنه حي

هنا { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا }  يعني لا تفكرون فيما مضى { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ } وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن هذا الغم فضل من الله عز وجل ، وهذا يؤكد ويقرر ما ذكرناه مرارا من أن البلايا فيها الخيرات والمسرات لكن العبد لا يشعر بذلك كما قال ابن القيم يقول : ” إن العبد إذا جهل حكمة ورحمة الله نسي ذلك وإلا فإن الخيرات والمسرات في ضمن البلايا والمصائب كما قال رحمه الله ويؤكد ذلك قوله تعالى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }

{ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا }

{ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ } عالم ببواطن الأمور ، ومن ذلك ما تعملونه وتأمل قال هنا   { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ستأتي آية { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }  قال هنا قدم الاسم { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }  قدم الاسم هنا من باب أنه يتناسب مع  حالهم وما جرى لهم وما يتعلق ببواطن أعمالهم وقلوبهم وأحوالهم قال     { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} آل عمران: ١٥٤

{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا } الأمنة تفسيرها النعاس إذن فالنعاس أمنة ولو كان في غير القرآن : ثم أنزل عليكم من بعد الغم نعاسا أمنة ، لكن قدم الأمنة من باب أن الأمن والأمنة لكم من باب استقرار النفوس وطيب النفوس

سبحان الله !

{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى } أي يصيب { طَائِفَةً مِنْكُمْ } يصيب طائفة منكم حتى أتت الآثار من أن بعض الصحابة كان السيف يسقط من يده من النعاس ثم يفيق ، وفي هذا وهو وجود النعاس في الشدائد وفي المحن نعمة من الله عز وجل على أهل الإيمان ، نعمة على أهل الإيمان فكما أنزل النعاس هنا في غزوة أحد من باب أن القوم تطمئن نفوسهم ويزول عنهم الغم والهم أنزله أيضا عليهم في غزوة بدر { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } نعم ولذلك يرفق الله بأهل الإيمان فينزل عليهم النعاس وهو النوم الخفيف رفقا بهم تأملوا حال عائشة في حادثة الإفك لما تركها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة وظنوا أنها كانت في الهودج ثم انطلقوا وبقيت وحدها في تلك الصحارى ألقى الله عليها النوم وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن النوم في الشدائد والنعاس في الشدائد رحمة من الله لأهل الإيمان

{ يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ }  وهم أهل النفاق { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } همهم أنفسهم كيف ينجون من هذا الأمر

{ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ليس لهم هم في النبي عليه الصلاة والسلام ولا في نصرة الدين

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } هذا الظن كما قال عز وجل { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } الظن هنا ظن غير الحق وهو ظن الجاهلية من أن الله لن ينصر دينه ولن ينصر رسوله عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة وأن الله سيديل الكفر وأهله على أهل الإسلام فيقضي عليهم

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } وهذا هو ظن أهل الجاهلية لأنه لا دين لهم { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } هذا ظن غير الحق لأن الواجب على المسلم أن يظن بالله الظن الطيب ، ولذلك في الحديث  القدسي في الصحيحين ( أنا عند ظن عبدي بي ) وفي رواية في غير الصحيحين ( إن ظن بي خيرا فله وإن ظن بي شرا فله )

وفي رواية ( فليظن بي عبدي ما شاء )

ولذلك يقول ابن القيم : ” الظن بالله الظن السيء نوعان :

ــ ظن أهل الكفر وهو ظن أهل النفاق كما في هذه الآية

ــ وظن يتعلق بأهل الإيمان وهو أن بعضهم يظن بالله ظنا سيئا فيما يخص نفسه فيما يتعلق به فيما لو جرى عليه شيء

ولذلك يقول : ”  من عرف الله وعرف أسماءه وعرف صفاته فإنه لا يظن بالله إلا الظن الطيب ، فإن بعضا من الناس إذا كان في حالة فقر يظن أن الله لن يغنيه أو في حالة كرب من أن الله لن ينجيه “

يقول : ” هذا ظن يظن سوء يخص الإنسان نفسه “

قال رحمه الله : ” لو علم أسماء الله وصفاته وعلم أن الله هو الشافي وهو الغني وهو الرحيم هنا لن يظن بالله ظن السوء “

قال : ” وفتش نفسك ، هل أنت ناج من هذا أو لا “

قال : ” ولا أخالك ناجيا ” يعني لا أظنك ناجيا

قال : ” ومن مستقل ومستكثر “

ومن ثم فإن العبد يتعلق بالله ؛ لأن هؤلاء ظنوا بالله ظن السوء ظن الجاهلية لأنهم لم يعلموا ولم يتفقهوا أسماء الله القوي العزيز الحكيم النصير المولى ، إلى غير ذلك من هذه الأسماء

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } أي كظن الجاهلية { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } يعني هل لنا من النصر من شيء { هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ } يا محمد { إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } الأمر كله بيد الله ليس بأيديكم ، النصر من عند الله  { إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } هو الذي يفعل ما يشاء { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }

{ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } من الكفر والنفاق { مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ } أي ما لا يظهرون لك من ذلك القول الذي يخفونه ما بعده{ يَقُولُونَ } هذا مما أخفوه في نفوسهم { يَقُولُونَ } فيما بينهم { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لو كان الأمر بأيدينا ولنا الرأي والمشورة ما خرجنا للقتال

وبعضهم قال في قوله عن هؤلاء { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } أي من النصر { مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا }

ولا تعارض بين القولين فهؤلاء قالوا قولا سيئا

{ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا }

ولذلك عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج مع أن المشورة كما سلف كان يرى مثل ما كان يراه النبي عليه الصلاة والسلام من المكث في المدينة فلما خرج وكان في الطريق رجع بثلث الجيش ممن يتبعه

 فالشاهد من هذا :

قال تعالى هنا قال عنهم { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ } أي لخرج وظهر { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي إلى أماكن قتلهم والمضاجع كما تطلق على الفرش تطلق على الأماكن أيضا

{ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } يظهر الكفروالنفاق الذي في صدوركم

{ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي يظهر أهل الإيمان ممن ليسوا كذلك ولذلك في ختام السورة قال تعالى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ }

{ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يعني هو عليم  قبل ذلك لكنه هو ابتلاكم بما ابتلاكم به ليختبر ما في الصدور ، وليمحص ما في القلوب ليظهر للخلق  ومن ثم إذا ظهر يترتب عليه الجزاء والحساب وإلا فالله عالم بما تكنه صدوركم من قبل قبل هذا الابتلاء

ولذلك ماذا قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ٣١ } تظهر الأخبار

ولذلك في حالة الأمن وفي حالة السراء والرخاء كل يدعي أنه مؤمن وأنه صابر لكن في حال الضراء يتبين ، ولذلك ماذا قال تعالى { الٓمٓ١ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ٢ }

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }