تفسير سورة آل عمران من الآية (155) إلى (160)
الدرس (46)
فضيلة الشيخ زيد البحري – حفظه الله –
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ، أما بعد .
﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ ﴾ أي أوقعهم في الزلة وذلك أن كثيرا من الرماة عصوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ﴾ وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين فهم كغيرهم من البشر ﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ ﴾ ببعض ما كسبوا ومن ذلك ما حصل منهم من عصيان أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمرهم أن يبقوا على الجبل ﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ ﴾ ورحمة الله عزوجل واسعة لأنه عز وجل لو عاقب عباده بكل ذنب فعلوه فإن الهلاك يكون محتمًا عليهم قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ﴾ ولكن هوعز وجل يعاقب على بعض الذنوب ولذا قال عز وجل ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) ﴾ وقال تعالى ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ وقال تعالى ﴿ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾
﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ ﴾ فالله عز وجل تجاوز عنهم وذلك نظير هذه الآية ما مر في الآيات السابقات كما قال عز وجل ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ﴾ إما هو عز وجل كرر ذلك من باب تطمين نفوسهم من أنه عز وجل خاطبهم بالعفو في الآيات السابقة أو أن قوله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ﴾ هذا في شأن الرماة الذين عصوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون العفو هنا في شأن من فرّ من المعركة ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) ﴾ فهو عز وجل غفور لكل ذنب وواسع المغفرة وحليم هو عز وجل فلا يعاجل عباده بالعقوبة إذ لو عاجلهم بالعقوبة لهلكوا ومن ذلك فقد غفر الله عزوجل ما جرى من الصحابة في غزوة أحد وقد حلم عز وجل بهم ولم يعاجلهم بالعقوبة .
﴿ مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ ﴾ أي هذا القول المتقدم منهم الذي قالوه وهو قولهم ﴿ لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ ﴾ القول ﴿ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ ﴾ حسرة بمعنى أن قلوبهم تكون متألمة و بها الحسرات لم ؟ لأنهم لم يؤمنوا بقضاء الله وبقدره ومن كان مؤمنا بقضاء الله وبقدره فإن نفسه تطمئن ومن ثم فإن من أراد أن يكون مرتاح البال سعيد الفؤاد مطمئن القلب عليه أن يرضى بقضاء الله وبقدره لكن هؤلاء لمّا لم يرضوا بقضاء الله وبقدره فإن ذلك القول يكون حسرات عليهم في قلوبهم ﴿ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ ﴾ والله يحيى ويميت هو عز وجل يحيى ويميت فمن شاء الله عز وجل أحياه إلى ما أراد عز وجل ومن شاء الله عز وجل أماته حيث أراد عز وجل فلا أحد يعترض على قضاء الله وعلى قدره لم ؟ لأنه قال لما قال: ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ ﴾ مرّمعنا ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ ﴾ كل ذلك بمقدار﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) ﴾ وذكر قوله ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ ﴾ قدم الحياة باعتبار الرد على هؤلاء من أنه عزوجل يشاء فيحيي ويبقى من يشاء وفي هذا دليل على أن من خرج وضرب في الأرض يعني سافر في الأرض أو أنه جاهد من أن ذلكم الجهاد أو ذلكم الضرب في الأرض فإنه لا يقرب الموت للعبد ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ ﴾ فما تلك بأمور تميت الإنسان أو تحييه وإنما الذي يحييه ويميته هو الله لا السفر في الأرض ولا الدخول في المعارك ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) ﴾ هو عزوجل عالم بما يفعله هؤلاء بصيرعزوجل بما يعمله هؤلاء فإن ما ذكروه هو قول أيضًا هو عز وجل بصير بأعمالهم كما أنه سميع لقولهم الذي قالوه ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) ﴾
﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) ﴾ ﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ يغفرعز وجل ذنوب الشهيد ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله رجل كما ثبت عنه : أرأيت إن قاتلت محتسبًا مقبلًا غير مدبر فقتلت فتكفّر عني ذنوبي ؟ فقال صلى الله عليه آله وسلم: ” نعم ” ثم بعد ذلك ناداه قال: ” إلا الدَّين فإن جبريل أخبرني بذلك ” فإذًا تُغفر ذنوب الشهيد إلا الدَّين لأن الدَّين حق من حقوق الآدميين وحقوق الآدميين مبنية على المُشاحَّة وعلى المطالبة وليست كحقوق الله المبنية على المسامحة لمغفرة من الله و أعظِم بذلك من مغفرة هي من الله عز وجل ﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ وتأمل ما مرَّ معنا في قوله تعالى ﴿۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أيضًا من المسارعة وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن قوله ﴿۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي سارعوا إلى مغفرة الله بجميع الأعمال الصالحة ومن ذلك ما ذُكر هنا وهو الجهاد في سبيل الله ﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ ﴾ إذا ذُكِرت المغفرة وحدها دخل فيها ما يتعلق بحصول المطلوب بمعنى أن الله عزوجل إذا ذَكَر المغفرة وحدها فإنها تتضمن أن يزول عن الإنسان ما يخافه و يحصل له مطلوبه وإذا ذكرت الرحمة أيضًا كذلك تزول عنه المخاوف و تحصل له المطالب فإذا اجتمعتا كانت المغفرة لزوال المخاوف والرحمة لحصول المطالب ولذا نقول في الصلاة بين السجدتين ربي اغفر لي وارحمني لمغفرة من الله أي لزوال الذنوب التي تؤذيه ﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ ﴾ حصول المطلوب ورحمة الله عزوجل واسعة.
﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) ﴾ أي مغفرة من الله ورحمة منه خير وأطلق ، خيرفي الدنيا وفي الآخرة لهذا الشخص ﴿ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) ﴾ مما يجمع أهل الدنيا وتأمل معي قال عز وجل ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) ﴾ هذه الآية ذكرت الإسلام والقرآن ومعلوم أن العلم إنما يؤخذ من القرآن ويؤخذ من السنة فدلّ هذا على أن العلم في قوله تعالى والذي دلت عليه الآية ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) ﴾ دلّ على أن العلم نوع من أنواع الجهاد بل إن العلم الشرعي أعظم نوعَي الجهاد أعظم من الجهاد في المعارك ولذا ماذا قال عز وجل قال: ﴿ وَجَاهِدْهُم ﴾ أي بالقرآن ﴿ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ دلّ هذا على أنه هو الجهاد الأعظم .
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ ﴾ الخطاب لمن ؟ خطاب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ ﴾ يعني سَهُلت أخلاقك لهم وهو صلى الله عليه وآله وسلم كيف لا يكون كذلك والله عزوجل مدحه فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾ ولذلك ثبت لمّا قيل لعائشة رضي الله عنها: ما هو خُلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالت له: ألا تقرأ القرآن ؟ فقال: بلى ، قالت رضي الله عنها: ” كان خُلُقُه القرآن ” .
ومن كان خُلقه القرآن فإنه ولا شك سيكون في أعلى مرتبة من حسن الأخلاق ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا ﴾ فظّا: أي في أفعالك وفي أقوالك ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا ﴾ شديدًا ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾ قلبك غليظ عليهم ﴿ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ﴾ وتفرّقوا ودلّ هذا على ماذا ؟ دلّ هذا على أن من كان مسؤولًا لأي جهة من الجهات في الدوائر الحكومية ويشمل ذلك الولاية الصغرى والولاية الكبرى ، دلّ هذا على أنه متى ما كان لينًا وسهل الأخلاق وليس بغليظ القلب وليس بفظ فإن من تحته يحبونه ولذلك النبي صلى الله وآله وسلم كما جاء في صحيح مسلم وهذا شامل الولاية العامة والولاية الخاصة ، قال: -إمّا دعاءً وإمّا مُخبرًا يحتمل هذا ويحتمل هذا- ” اللهم من وَلِيَ من أمر أُمّتي شيئا فَرَفق بهم فارفُق به ، ومن وَلِيَ من أمر أُمّتي شيئًا فشَقّ عليهم فشُقق عليه “
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ﴾ ودل هذا على ماذا ؟على أن هذه الصفات المذكورة تجمَع ولا تفرّق ﴿ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ فاعفُ عنهم: أي ما جرى وما يجري منهم مما يصدر منهم ومن ذلك لمّا عصوكَ في قضية الوقوف على الجبل ومن ثم فالله عز وجل عفا عنهم أيضًا فيه إشارة إلى أنك يا محمد تعفو عنهم وهذا ليس خاصًّا بما جرى في غزوة أحد بل هو شامل ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ هذا فيما يخص نفسك ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ بمعنى ادعُ الله أن يغفر لهم مما جرى من تقصير في حق الله عز وجل فيكون قوله ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ أي في حقك يا محمد ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ أي فيما يتعلق بحق الله عز وجل ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ وهذا ليس كحال المنافقين فإن هؤلاء أهل الإيمان لكن أهل النفاق لا يرضون بذلك ولا يرضون أن يستغفر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه السورة مما جرى منهم وما جرى منهم من غزوات بعد غزوة أُحد كما قال عز وجل: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) ﴾ مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصًا على أن يستغفر لهم ، ولذا ماذا قال لهم الله عز وجل ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾
﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ ﴾ الأمر هنا أتى بـ(ال) مما يدل على ماذا ؟ مما يدلّ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم في جميع الأمور التي بها مصالح للعباد أما ما جاء به الوحي فلا مشورة وإنما المشورة فيما يُحتاج إليه من مصالح فيما يتعلق بأحوالهم ولكن وقال هنا ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وشاورهم في الأمر لأن المشورة بها تكثر الآراء و إذا كَثُرت الآراء من أهل المشورة من أهل العقل ولا شك عن الصحابة رضي الله عنهم أهل العقل الراجح هنا تتضح الأمور أكثر وأيضا ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ حتى تطمئِن قلوبهم فلا تنفرد عنهم برأي و أيضا فيه تشريع لمن سيأتي ممن تكون له ولاية أن يُشاوِر أهل الحل والعقل ، وأيضا فيه ماذا ؟ فيه تطييب لنفوسهم لأن من بينهم من كان رئيسًا في قومه في الجاهلية ، فطرح الشورى منك لهم يأتي بهذه الفوائد والحكم العظيمة إلى غيرها من الفوائد العظيمة ولذا قال عز وجل: عنهم وعن أهل الإيمان ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وبالفعل حصل منه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه قبل أن يخرج من المدينة كما مرّ معنا شاورهم هل نبقى في المدينة أم لا ؟ مع أنه كان يريد أن يبقى في المدينة لكن مع ذلك من لم يحضر غزوة بدر قالوا: نريد أن نخرج يا رسول الله . ومع ذلك ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وجرى ما جرى كما بيّنا ذلك .
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ ﴾ العزم هو إقبال النفس على فعل الشيء الذي استُشِير فيه ، وكذلك يشمل الشيء الذي لم يُستَشر فيه بمعنى أن الإنسان نفسه أقبلت على فعل شيء يرى أن فيه المصلحة التي تعود عليه إما في دينه وإما في دنياه فلا يتردد ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ ﴾ ومن يتوكّل على الله عز وجل فهو حسبُه كما قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ لأن الإنسان إذا كان عازمًا ثم بعد ذلك حصل عنده تردد لأن بعضًا من الناس لا يكون عازمًا في كل أحوالِه قد تستبين له الأمور واضحة من حيث المصالح ومع ذلك يتردد ، ومع ذلك فإنه يخسر أشياء كثيرة .
﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ ﴾ لم ؟ التعليل ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾ إثبات محبة الله عز وجل بما يليق بجلاله و بعظمته من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ومرّ معنا توضيح ذلك أكثر عند قوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾ المتوكلين عليه في كل شيء ، و مع التوكل على المسلم أن يبذل الأسباب لأن بذل الأسباب مما قدّره الله عز وجل وممّا أمر به .
فليس المتوكل من وضع يده في فم الثُعبان وليس المتوكِّل من فتح الباب للسُرّاق وإنما عليه أن يفعل الأسباب . فيتوكل العبد على الله مع فعل الأسباب ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾ سبحان الله ! هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن العبد إذا سمع مثل هذه الآيات وكما قال عز وجل في آيات كثيرة ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ إلى غير ذلك من هذه الآيات فإنه حينها يطمئِن قلبه بمعنى أنه إذا عزم على أمر و توكل على الله عزوجل ربما أن ما كان يتوقعه من مصلحة لا تحصل له لكن قلبه يكون حينها مطمئنًّا باعتبار أنه توكل على الله ولعل الله صرَفَه عن هذا الشيء لخير أعظم سيأتيه.
ولذلك ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنه قال قال رضي الله عنه ” إن العبد ليَهِمُّ بالأمر من الإمارة ومن التجارة فيقول الله عز وجل لملائكته: اصرفوه عنها فإنه إن حصل عليها أدخلته النار فيُصرف عنها فيَظلّ العبد يقول سبَقني فُلان (يعني إليها) دَهَاني فلان وما يدري نعمة الله و فَضُل الله عليه “
﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾ ولذلك فعلها صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل ولبس لأمَتَهُ ، فقال من قال: ” لعلنا قلنا بأمرٍ لم يرضَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلنبقى يا رسول الله في المدينة ” قال: ” ما كان لنبيٍّ لبس لأمَتَهُ أن يضعها حتى يُقاتل ” ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ انظر قدّم كلمة ﴿عَلَى اللَّهِ ﴾ لأنه لو كان في غير القرآن ( فليتوكل على الله المؤمنون ) يُقدَّم لأن أصل الفعل أن يكون في المقدمة لكن قال ﴿ وَعَلَى اللَّهِ ﴾ أي لا على غيره ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ إذن أهل التوكل هم أهل الإيمان والإيمان يزداد بالتوكل ولذا قال تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ ليسوا بشيء ، و كما قال عز وجل ﴿ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ .