التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية( 185 إلى 192) الدرس ( 49)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية( 185 إلى 192) الدرس ( 49)

مشاهدات: 577

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة آل عمران

من آية  185  إلى آية 192

( الدرس 49 )

للشيخ زيد البحري – حفظه الله –

 

  • {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: ما من نفس الا وستذوق الموت، سبحان الله هذه الآية تبيّن ما جرى في غزوة أُحُد مما جرى من قتل لأهل الاسلام قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۝ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}: يعني الجميع سيموت، قال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: كل نفس، من في السماوات ومن في الأرض قال تعالى: {كُلُّمَنْ عَلَيْهَا فَانٍ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَام}، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، فيموت كل شيء البشر والجن والملائكة وكل الخلائق، ولذا قال عز وجل: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: والذوق يدل على أنه شديد إلا من خفف الله عز وجل عنه، ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: “إن للموت لسكرات”، وكان يعاني صلى الله عليه وآله وسلم من سكرات الموت، أما ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البراء: “وأما المؤمن فتخرج روحه كما تخرج القطرة من فِيّ السقاء” يعني: من فم القربة لسهولتها، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم شُدّد عليه الموت، ويشدد على غيره من الصالحين من باب رفعة درجاتهم.

{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: وفاء كاملا كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ۝ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ۝ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} لكن ما الذي بعدها؟ :{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}: أي: أُبعِد، {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}: زحزح برحمة الله وأدخل الجنة برحمة الله لا بعمل الانسان، وإن كان العمل سببا لكن العمل ليس عوضا عن الجنة، ولذا ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه و آله وسلم: “اعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل”، وإنما الإنسان عليه أن يبذل الأسباب، العمل الصالح سبب، :{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}: لم يزحزح نفسه، ولم يدخل نفسه الجنة {فَقَدْ فَازَ}: وأي فوز! قال تعالى في آيات: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وقال سبحانه:{وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، وفوز عظيم ومبين وكبير وأعظم الفوز في الجنة أن يُرى الله عزّ وجل، فأعظم نعيم لأهل الجنة هو رؤية الله وذكرت هذه هنا؛ لأن بعض المعتزلة في تفاسيرهم كالزمخشري –لأنه معتزلي- لكنه صاحب بلاغة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: يأتي بفصاحته وبلاغته، لأنهم ينكرون رؤية الله عز وجل فيقول أي نعيم أعظم من دخول الجنة من أجل أن ينفي رؤية الله عز وجل فأعظم نعيم في الجنة أن يرُى الله عز وجل كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة وسيأتي بيانها إن شاء الله.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) } متاع: يغتر به الانسان، ولذا ماذا قال عز وجل في أول السورة؟ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} يستمتع بها الانسان ويغتر بها فتزداد جمالا في نفسه ويزينها الشيطان أيضا ويغرر ببني آدم ولذلك ماذا قال عز وجل؟ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} بل وصفه الله عز وجل بأنه هو الغَرور أي الشيطان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يعني: الشيطان.

 

  • {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}: أي يكون هناك اختبار، أصلها: لتبلوونّ، اجعلها قاعدة لك: نون التوكيد الثقيلة، اجتمع ثلاث نونات: نون الرفع لأنه من الأفعال الخمسة، ونون التوكيد المشددة: عبارة عن نونين، فحذفت لأنها ثقيلة في النطق، فحذفت نون الرفع، والواو واو الجماعة حُذف؛ لأنها ساكنة فالتقت بالنون الأولى المشددة من نون التوكيد المشددة فلالتقاء الساكنين حذفت واو الرفع فكان النطق: لتبلونّ أي: الابتلاء هو الاختبار.{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}: في أموالكم بما يحصل فيها من النقص الخسارة الضياع، الأنفس: يكون فيها ما يكون من الأمراض ولذا ماذا قال عز وجل في سورة البقرة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمبِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِوَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}: ومر هذا مفصلا، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لمَ؟ {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا}: لا تحزن على ما فاتك ولا تفرح فرح بطر وكبر بما آتاك، ومما جرى في هذه السورة ما جرى مما حصل للصحابة في غزوة أحد: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}: سبحان الله ماذا قال عز وجل في ثنايا السورة عن أهل الكتاب: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}فقال هنا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ}: سماع، مرّ معنا: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}: قال المفسرون أذىً بالكلام وهنا التوضيح؛ لأنه علّق الأذى بالسماع دل على أنه مجرد كلام. دل هذا على أن قوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} متعلق بأهل الكتاب، أيضا انتبهوا حتى من هو مشرك فهم يشتركون في أذيتكم. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ}: أي الصبر والتقوى، {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ  (186)} أي: من الأمور المعزوم عليها، أي: المأمور بها، قال لقمان لابنه كما قال عز وجل: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} سبحان الله العزم هنا صفة للأمور، الأمور التي صفتها العزم والأخذ بها فقدم الصفة هنا من باب التأكيد على أن هذا أمرٌ عليكم أن تأخذوا لأنكم إذا أخذتم بهذا الشيء: اقرأ في السورة: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}: فلا يصيبكم من كيدهم شيء وأيضًا أنتم مأمورون بهذا.

 

  • {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل الكتاب بأن يوضحوه

{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}: لتوضحنَّه للناس، {وَلَا تَكْتُمُونَهُ}: ولا يكتم منه أي شيء. {فَنَبَذُوهُ}: أي: طرحوه، {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: وهذا يدل على عدم المبالاة؛ لأن الذي يلقى وراء الظهر لا يُبالى به، أعوذ بالله من سوء المقال والحال، {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: من أجل المال الذي يأخذونه نظير أنهم باعوا العلم من أجل هذه الدنيا والدنيا كلها قليلة، ومر معنا توضيح ذلك في قوله عز وجل، بل في آيات منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلّا النَّار} وقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، بل في هذه السورة: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: كما فعلوا يوم أتاهم الرسول، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.

{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}: بئس ما يشترونه ذمّ لمَ؟ اقرأ ما في سورة البقرة الويل العظيم الذي يكون لهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} ولذلك كما أن هذه الآية في أهل الكتاب تنطبق على العلماء في هذا الزمن، علماء أهل الإسلام ولذلك قال بعض السلف: من ضل من علماء المسلمين ففيه شبه باليهود ومن ضل من عباد المسلمين فبه شبه بالنصارى، وبيان العلم الشرعي واجب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه: “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”.

{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}: دل على أنهم اشتروا، اقرأ ما قبلها من آيات: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فهذا الذي أخذوه بئيس وذميم وأيضا بفعلهم هذا لن يضروا الله وانما يضرون أنفسهم.

 

  • {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}: لا تحسبن يا محمد أن هؤلاء، وهذه الآية نزلت في اليهود من أنهم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم عن شيء فأخبروه فظنوا أنهم استحمدوه: أي طلبوا الحمد منه، فظنوا أنهم على حق فيما ذكروه مع أنهم أتوا بالباطل. وهذه الآية يدخل فيها كقاعدة حتى تشمل كل قول قيل في هذه الآية: أن من أتى بالباطل وأحبَّ أن ينسب إلى أنه من أهل العلم ومن أهل السنة فإن هذه الآية تصدق عليه كحال اليهود. {بِمَا أَتَوْا}: أي بما أتوا به من القول، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}: هم لم يأتوا بالحق فأحبوا أن يحمدوا باعتبار أنهم أتوا بالحق وأنهم أهل الحق والخير والصلاح، وإنما هم أتوا بالباطل تدليسا على الناس، ومن ثم فإن ما يكون في هذا الزمن وأي زمن من ظهور علماء البدع والخرافات والضلال من أنهم يظهرون للناس بأنهم أهل خير وعلم وصلاح وهم يأتون بالباطل فهذه الآية تصدُقُ عليهم، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا}: يحبون أن يثنى عليهم من أنهم أهل علم وخير وصلاح وهم ليسوا كذلك؛ لأنهم ما أتوا بالحق ولا الخير ولا بالصلاح وإنما أتوا بالباطل ومع ذلك لسوء خبثهم وخبث طويتهم مع أنهم أتوا بالباطل أيضا يحبون أن يوصفوا بأنهم أهل حق وأي ضلال أعظم من ذلك وهذا كشأن أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم في الآية من أنهم كتموا العلم واشتروا بالعلم ثمنا قليلا ومع ذلك يحبون أن يحمدوا من أنهم أهل علم وأهل كتاب وأهل صلاح، ولذا قال عز وجل هنا: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}: لم يأتوا بقول فيه صلاح ولا بعمل فيه صلاح فقال: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ}: كرر كلمة لا تحسبن من باب التأكيد أن هؤلاء ليسوا على خير. {بِمَفَازَةٍ}: بنجاة، {مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}: سبحان الله عذاب أليم أي مؤلم يناسب لذة الشراء، مر معنا : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِلَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وتحدثنا عن كلمة العذاب الأليم لماذا وصفت بالأليم في هذه الآية، فقال هنا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}: ولذا كما ثبت بذلك الحديث الصحيح، أن مروان أرسل عامله وحاجبه إلى ابن عباس رضي الله عنهما لما قرأ هذه الآية، فقال: إن كان كل شخص منا يحب أن يحمد بما لم يفعل كما في هذه الآية إننا لهالكون -يعني لا أحد يسلم-، فقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما نزلت هذه الاية في اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالخبر واستحمدوه من أجل أن يحمدوا على انهم على الحق وهم أهل باطل ثم قال العلماء المحققون من أن هذه تصدق على كل من أتى بالباطل وزعم أنه صاحب علم وصاحب حق وسنة أو أنه من أهل السنة. {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا}: دل هذا على أن المخلوق يجوز أن يحمد حمدا نسبيا؛ لأن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الحمد المستغرق الكامل لله عز وجل وحده، لكن يجوز أن يحمد المخلوق على شيء معين نسبيا لدلالة ظاهر هذه الآية، ولأن عائشة رضي الله عنها في قصة الافك كما جاءت بذلك الاحاديث في الصحاح وفي غيرها لما أنزل الله عز وجل براءتها فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (بحمد الله لا بحمدك) وفي رواية أخرى: (قال أبو بكر لابنته قومي فاحمديه يعني احمدي النبي صلى الله عليه وسلم) فقالت: (والله لا أحمدكما ولا أحمده إنما أحمد الله الذي أنزل براءتي)، فالشاهد من هذا أنه يجوز أن يحمد المخلوق حمدا نسبيا أما الحمد كله المستغرق هو لله عز وجل كحال الشكر، ولذا ماذا قال عز وجل؟: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لكن يجوز أن يُشكر المخلوق شكرا نسبيًا، ولذا قال: {أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}. والنبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عند الترمذي قال: “مَن لا يشكر الناس لا يشكرُ الله”.

 

  • {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: لما مضى ما مضى من ذكر ما يتعلق بغزوة أحد وما يتعلق بالإنفاق والأموال وأمور الدنيا وأنها متاع، قال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: دل هذا على أن العبد كما أُمر بالصبر والتقوى هناك عليه أن يفوّض أمره لله إن أصابته ضراء فليصبر وإن أصابته سراء فليشكر لأن كل ذلك ملك لله في أول السورة: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} ومن ثَم إذا كان الإنسان يعتقد هذا الاعتقاد هنا يطمئن. ختام الآية: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (189)}: لا يعجزه شيء عز وجل فهو الذي أنزل بك الضراء حكمة منه وعدلا وهو قادر على أن يرفع ذلك فلا تلتجئ إلا إليه، وهو الذي أنزل عليك الخير والنعمة تفضلا منه عز وجل فلا تبطُر ولا تكفر وإنما عليك أن تشكر، سبحان الله قال هنا في سورة آل عمران: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: في ختام السورة، وفي ختام سورة البقرة: {لِّلَّهِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} سبحان الله العباد وما يملكون لله عز وجل فلا يغتر أحد لا بمال ولا بقوة ولا بعلم ولا بسلطان ولا بمنصب في لحظة من لحظات قد يبيد الله عز وجل انسانًا وما يملك وقد يغني الله في لحظة، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} يُغني انسانا فقيرا ويرفعه.

 

  • {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: سبحان الله قال قبلها والله على كل شيء قدير، من دلائل قدرته عز وجل ما يجريه في هذا الكون ولذا جاء عند ابن حبان ولعل الشواهد تؤيده وهو حديث حسن من أن النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بكى بكاء شديدا فقيل له: لمَ يا رسول الله؟ قال أُنزل عليّ هذه الليلة آية -وبعضهم قال آيات- فقرأ هذه الآيات حتى ختم السورة فقال ويل لمن قرأها ولم يتدبرها. يعني: لمن لم يعقلها. ولذا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما بات عنده ابن عباس قام صلى الله عليه وسلم من الليل، فقام وتوضأ وقرأ هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ…} إلى ختام السورة، فصلى ركعتين فعل ذلك ثلاث مرات إذا صلى ركعتين نام ثم إذا استيقظ توضأ وقرأ هذه الآيات، وهذه سنة لمن يقوم الليل. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: في ارتفاع السماوات وما أبدع الله عز وجل فيها والأرض ما أبدع الله فيها، ومر ذلك في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ…} الآيات. ولذا قال هنا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: طول وقِصَر، ودخول هذا في هذا، يعتدلان ويطول أحدهما ويقصر الآخر. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب (190)}: أصحاب العقول، الذين يعقلون ويتأملون ولذا قال: “ويل لمن قرأها ولم يتدبرها”: أي ولم يعقلها ولذا سبحان الله انظر، من نظر في آيات الله الكونية ازداد ايمانه ولا ينظر ولا يتفكر في هذه السماوات إلا من هو صاحب عقل، ولذا قال: {لِأُولِي الْأَلْبَاب} في سورة البقرة قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ولذا النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل لما قرأ هذه السورة رفع بصره إلى السماء -وهذا فيه الرد على بعض من يفعل في هذا الزمن من أنه يغمض عينيه ولا يرفع بصره إلى السماء، لعله أخذ ذلك من بعض العلماء السابقين من أنه جلس ما يقارب من أربعين سنة لا ينظر إلى السماء تخشعا، فإن ذلك ليس بواردٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بل خلاف ذلك-، ولذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى –رضي الله عنه-: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يرفع بصره إلى السماء. يتأمل.

 

  • {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ}: هم أولوا الألباب، حالهم: {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}: يعني في جميع الأحوال؛ لأن حال الانسان إما أن يكون قائما أو قاعدا أو مضطجعا على جنبه ففي جميع الأحوال. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} يعني: استمر على كفره، {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَاإِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ}. فهنا انظر حال أولئك الذين يدعون الله من أجل أن ترفع عنهم الضراء لكنهم يدعونه في جميع الأحوال حال القيام والقعود والجنب لكن لما كشفت عنهم الضراء {مَرَّ}: استمر على كفره وضلاله {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَاإِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ} لكن هؤلاء يزدادا الايمان معهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}: في جميع أحوالهم، ومن ثَم لو أن الانسان شاء أن يقرأ القرآن أو يذكر الله وهو قائم وهو يمشي وهو قاعد وهو نائم على فراشه على جنبه أو مستلقيا فإن هذا هو حال الذاكرين ولذلك من ذكر الله حال قيامه وقعوده وعلى جنبه فهو من الذاكرين الله كثيرا. ويدخل في ذلك ما قيل، وهو قول داخل في الآية من أن قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ}: أي: يصلون لله على حسب طاقتهم، فإن كان قادرا صلى قائما وإن لم يستطع فقاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه ويدل لذلك حديث عمران عند البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: “صلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك”. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: يتفكرون، ليس نظرا فقط نظرا مجردا، سبحان الله كما سلف: النظر إلى السماء سنة نبوية دلّ عليها ما ذكرناه من حديث ابن عباس لما استيقظ من الليل رفع بصره إلى السماء، وحديث أبي موسى عند مسلم: “كان كثيرا ما يرفع صلى الله عليه وسلم نظره إلى السماء”، أيضا في القرآن: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: التقلب يدل على التفكر والنظر إلى السماء. {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: في خلقهما وما أبدع الله عز وجل فيهما كما مر معنا في تفسير سورة البقرة. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: قال: {هَذَا} مع أنه لو كان في غير القرآن قال هذه، لكنه قال {هَذَا}: ردًّا على الخلق، {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: ما خلق السماوات والأرض باطلا، ما خلقهما إلا لحكمة وتدل على قدرته وعلى أن هذه السماوات والأرض لها أجل معيّن وأنها ستزول وأن السماوات والأرض إنما هي من دلالة قدرة الله عز وجل قال تعالى: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}.

{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: ليس عبثا ليس كحال الكفار. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار}. ولذلك لا يتنبّهون إلى ما خلق الله عز وجل في هذه السماوات وفي هذه الأرض فلم يعبدوا الله ولم يتقربوا لله ولم يحمدوا الله ولم يدعوا الله ولم يثنوا على الله ولم يذكروا الله، لكن هؤلاء انظر ما قبلها: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: قبلها: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}. {سُبْحَانَكَ}: تنزيه لله عز وجل عما لا يليق به ومن ذلك تنزيهه من أنه خلق السماوات والأرض باطلا كحال ما قاله الكفار. {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) }: سبحان الله هنا نوع من أنواع التوسّل: التوسل بما وفقهم الله عز وجل إلى هذا العمل الصالح من النظر في السماوات والأرض توسلوا إلى الله بأن ينجيهم من النار، ولذلك في أول السورة: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

 

  • {رَبَّنَا إِنَّكَ}: كرروا {رَبَّنَا} وهذا يدل على أنهم دعوا الله عز وجل باسمهم الرب لأنها ربوبية خاصة تقتضي أن الله عز وجل يربي قلوبهم بالإيمان وبالتوفيق والسداد إلى هذه الخيرات. {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}: أهنته. سبحان الله فقد أخزيته ولذا قال عز وجل: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّوَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ومن ثَم فإن بعض أهل الإيمان يدخل النار، من أهل الكبائر يعذب بقدر ما يقدره عز وجل ثم بعد ذلك يكون مصيره إلى الجنة وهو قد دخل النار فكيف يكون هناك خزي، ولذا قال المفسرون من أن قوله عز وجل: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}: يعني الدخول الأبدي؛ لأنه هو الخزي. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}: ولعل الذي قاله المفسرون في هذا يدل عليه هذا؛ لأنه قال: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: وأعظم الظلم هو الكفر بالله، قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.