تفسير سورة الأعراف
من الآية (94) إلى الآية (126)
الدرس (108)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم ..الحمد لله رب العالمين.. وأصلي وسلم وعلى خاتم الأنبياء وإمام المرسلين .. نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد..
فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } (الأعراف: ٩٤ ) ، لما ذكر عز وجل قصص الأنبياء ذكر هذه الآية ليبين العموم قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } هنا إضمار وهو (فكذبوه) أي: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه قومه إلا أخذنا أهلهم بالبأساء والضراء، { إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ومر معنا في سورة الأنعام: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } (الأنعام: ٤٢ ) ومر معنا تعريف البأساء والضراء، وفي سورة الأنعام { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } فلعل المعنى يكون واحدا وإنما اختلف السياق من باب تنويع الأسلوب أو والعلم عند الله من أجل أن السياق هنا سياق نفي ومعه من الزائدة التي هي للتأكيد فأتت كلمة يضّرعون كأنها والعلم عند الله أقوى من كلمة لعلهم يتضرعون في سورة الأنعام باعتبار أن هناك ليس به نفي وإن كان فيه تأكيد إلا أنه ليس به نفي فلعل هذا هو السبب والعلم عند الله. { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } (الأعراف: ٩٥ )
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } والسيئة هي الحالة السيئة التي لا تناسب الإنسان، والحسنة هي الحالة التي تناسب الإنسان مما يلائمه من صحة وعافية، وأما السيئة فهي التي لا تلائم ولا تناسب الإنسان كفقر و نحو ذلك، { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا } بمعنى أنه عز وجل بدل تلك الحالة السيئة إلى حالة حسنة لهم { حَتَّىٰ عَفَوا } أي كثر ما عند هؤلاء من الخير و زادت النعمة، لأن عفوا هنا بمعنى الزيادة { حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا} بعد مجيء هذه البأساء والضراء كان من المتعين عليهم أن يتضرعوا إلى الله لكن لم يحصل ذلك منهم فأنعم الله عز وجل عليهم بهذه النعم لكن هؤلاء بطروا فقالوا هذا القول { وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ } بمعنى أنهم يقولون إن هذه عادة جرت على آباءنا من قبل يأتيهم الضر ثم يأتيهم النعيم فحالنا كحالهم، لكن ما هي العاقبة { فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فأخذهم بغتة: أي من حيث لا يحتسبون وهم لا يشعرون ولا يعلمون بذلك، وهذا استدراج ولذا قد ترى أن الإنسان قد يوسع له ولو كان كافرا قد يوسع له في هذه الدنيا لكن هذا استدراج ولذا في سورة الأنعام { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } (الأنعام: ٤٤ ) أي: يائسون { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام: ٤٥ ) فإذا وُسِّعَ على العبد وهو مقيم على الذنب كما ثبت عنه قوله ﷺ:
” إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ “
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف: ٩٦ )
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ } بدل هذا التكذيب آمنوا واتقوا أتو بالإيمان الذي هو العقيدة الصحيحة واتقوا الله عز وجل فصانوا جوارحهم عما يغضب الله وفعلوا ما يرضي الله عز وجل لأتتهم الخيرات ولذا قال { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ} ولم يقل بركة وإنما { بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا } فتح عليهم بركات من السماء والارض وهذا يدل على الشمول وعلى العموم وعلى الكثرة ويدخل في ذلك قول من يقول إن البركات من السماء هو المطر وإن البركات من الأرض هو النبات، ولكن ما الذي جرى من هؤلاء { وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي: بسبب كسبهم وعملهم السيء وما ظلمهم الله عز وجل ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا بَياتًا وَهُم نائِمونَ} (الأعراف: ٩٧ )
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا } أي بالليل { وَهُمْ نَائِمُونَ }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى وَهُم يَلعَبونَ﴾ (الأعراف: ٩٨ )
﴿أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى﴾ وهو وسط النهار { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } وهذا التفصيل يبين الإجمال المذكور في أول السورة { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} ذكر البيات وذكر القيلولة، وهنا والعلم عند الله تبين لي ولا أدري هل سبقني إلى ذلك أحد أم لا، من أن هذه الآية { أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } لما ذكر الضحى وذكر في أول السورة { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الأعراف: ٤ ) من أن القيلولة تصدق على ما قبل الزوال ولذا اختلف العلماء هل القيلولة تكون بعد الزوال أو قبل الزوال، قولان لأهل العلم والذي يظهر من أن القيلولة تصدق على ما قبل الزوال وعلى ما بعده، ولذا في حديث سهل بن سعد كما في الصحيحين قال رضي الله عنه: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) فدل هذا على أن القيلولة تصدق بعد الزوال، وهنا أيضا قد يستفاد من حديث سهل من قوله: (ما كنا نتغدى و لا نقيل إلا بعد الجمعة) يدل على أنهم كانوا يقيلون قبل الزوال، لكن لا يتمكنون من القيلولة قبل الزوال لوجود صلاة الجمعة، وهذا الدليل { أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يؤكد أو يكون دليل لمن قال تكون القيلولة قبل الزوال لأنه ذكر الضحى هنا، وذكر القيلولة في أول السورة ولا أدري هل سُبِقتُ بهذا أم لا؟ إذن القيلولة على الصحيح من أنها تصدق على ما قبل الزوال وعلى ما بعد الزوال أي ما قبل الظهر وما بعد الظهر ومن ثم فإن قوله تعالى: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } أي: في حال نومهم من حيث لا يشعرون { أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي حال وقت اللعب مما يدل على أنهم ماذا؟ على أنهم مشغولون، وهذا بأس الله عز وجل إذا جاء فإنه لا يرد{ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{أَفَأَمِنوا مَكرَ اللَّهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرونَ } (الأعراف: ٩٩ )
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } وذلك بالوقوع فيما يغضب الله عز وجل ومر معنا إثبات صفة المكر مفصلة عند قوله تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (آل عمران: ٥٤ ){ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } هنا استفهام توبيخي لمن يستمر على الذنوب وعلى المعاصي ويصر عليها { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } بمعنى أنه يصر على الذنوب لأنه يرجو رحمة الله ونسي أن الله شديد العقاب { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } ولذا قال: { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } أي: خسروا أنفسهم إذ عرضوا أنفسهم لعذاب الله عز وجل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } (الأعراف: ١٠٠ )
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } أي: أولم يتبين ويتضح، لمن يرث الأرض مِن مَن أهلكهم الله عز وجل فيما مضى، وهذا فيه تعريض لكفار قريش { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ } بمعنى أنه لو شاء الله عز وجل لعاقبهم بسبب ذنوبهم كما عاقب من قبلهم { أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } هذه جملة على الصحيح مستأنفة { وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي: ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وذلك بسبب إصرارهم على الذنوب وبسبب أمنهم من مكر الله طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون سماع قبول وسماع انتفاع
{ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } (الأعراف: ١٠١ )،
{ تِلْكَ الْقُرَىٰ } أي: تلك القرى يا محمد مما ذكر عزوجل ممن أهلكه الله كما في قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } (الأعراف: ٩٤ ) { تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } أي : من أخبارها ومن هنا للتبعيض ، أي : من بعض أخبارها { تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْل } أي: أتتهم رسلهم بالبينات الواضحات من المعجزات وما شابه ذلك من البينات والدلائل الواضحة، ومع ذلك مع وجود هذه البينات وهذه المعجزات فإنهم لم يؤمنوا لم؟ لأنهم من أول ما جاءتهم الرسل لم يؤمنوا بهم فطبيعتهم الكفر، إذًا يستوي حالهم حال، حال مجيء الرسل دون معجزات، فهم كذبوا وحال مجيء الرسل بالمعجزات و بالبينات أيضاً كذبوا { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْل } وهذا يدل على أن الذنوب تولد ذنوبًا، قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: ١١٠ ) فقال عز وجل: { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } أي كذلك كما طبع الله عز وجل على قلوب الكفار من الأمم السابقة كذلك يطبع الله عز وجل على من اتصف بصفات أولئك فهذا أيضا فيه تعريض لكفار قريش ولمن جاء بعدهم.
{ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَما وَجَدنا لِأَكثَرِهِم مِن عَهدٍ وَإِن وَجَدنا أَكثَرَهُم لَفاسِقينَ} (الأعراف: ١٠٢ )
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } أي: ما وجدنا لأكثر هؤلاء ممن كذب الرسل من تلك القرى وقيل { وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم } أي: لعموم الناس ولعل هذا هو الأشمل، { وَمَا وَجَدْنَا } لأنه عز وجل قال وكثير منهم ساء ما يعملون كما قال عز وجل: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } (الأنعام: ١١٦ ) { وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } أي: ما وجدنا لأكثر هؤلاء من عَهْد عَهِده الله عز وجل لهم به فوفوا به أي لم يوفوا به { وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } يعني لم يوفوا بعهود الله عز وجل { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} والحال أننا وجدنا أكثرهم فسقة، وعند الكوفيين يكون المعنى { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي : ما وجدنا إلا أن الأكثرية فسقة، وعلى كل حال سواء قيل بهذا وبهذا فإن أكثرهم فسقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ثُمَّ بَعَثنا مِن بَعدِهِم موسى بِآياتِنا إِلى فِرعَونَ وَمَلَئِهِ فَظَلَموا بِها فَانظُر كَيفَ كانَ عاقِبَةُ المُفسِدينَ} (الأعراف: ١٠٣ )
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا } لما ذكر عز وجل القصص قصص الأنبياء السابقين ثم ذكر على وجه العموم ما حصل من القرى في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } (الأعراف: ٩٤ ) إلى هذه الآيات قال: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ } هذه قصة موسى وليعلم أنه عز وجل لم يذكر هنا ابتداء قصة موسى فإن المذكور من حيث البداية موجود في سورة القصص لكن لما كان الحديث هنا عن شدة عذاب الله عز وجل بمن كفر اقتصر هنا والعلم عند الله على ما ذُكر هنا من شأن ماذا؟ من شأن موسى مع فرعون ثم بعد ذلك ما جرى لموسى مع قومه { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ }.
بِآيَاتِنَا: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } (الإسراء: ١٠١ ) والآيات التي أتى بها موسى كثيرة من بينها ما ذكر في هذه السورة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ } (الأعراف: ١٣٣ ) { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } والملأ هم أشراف القوم { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } لأن من هو مستضعف إنما هم بنو إسرائيل { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا } أي: كان الحال من هؤلاء حينما جاءتهم هذه الآيات ما الذي جرى من فرعون ومن ملئه أنهم ظلموا بها،
{ فَظَلَمُوا بِهَا} فانظر نظر اعتبار وتعجب { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ولم يقل: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ؛ ليجمع لهم بين الظلم وبين الفساد ودل هذا على أن من الفساد ومن الظلم أن تكذب الرسل فقال: { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } (الأعراف: ١٠٤ )
قال { إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ليرد عليه حينما قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ } فبين له أنه رسول من رب العالمين { إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (الأعراف: ١٠٥ )
{ حَقِيقٌ عَلَىٰ} أي: جدير وخليق بي، { حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} فإني مرسل من رب العالمين فإنه جدير بي لما أنعم علي بهذه النعمة من أني لا أقول إلا القول الحق.
{حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أرسل معي بني إسرائيل لأنهم كانوا مضطهدين فاتركهم حتى يتخلصوا من هذا العذاب وحتى يهاجروا ويخرجوا من مصر فقال موسى عليه السلام: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿قالَ إِن كُنتَ جِئتَ بِآيَةٍ فَأتِ بِها إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقينَ﴾ (الأعراف: ١٠٦ )
{قالَ} أي: فرعون {إِن كُنتَ} أتى بكلمة (إن) التي تدل على الشك وعلى قلة الوقوع من باب أن يبين لقومه من أن موسى ليس بصادق { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } (الأعراف: ١٠٧ )
وكما قلت لكم بالنسبة إلى هذه العصا وبالنسبة إلى ما جرى من تفصيل ليس في سورة الأعراف ما يدل على ذلك وإنما ذُكرت في سورة القصص وفي غيرها من السور فقال هنا: { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (الأعراف: ١٠٦ )
ولذا قال إن كنت من الصادقين { فألقى عصاه فاذا هِيَ } يعني ألقى موسى عصاه { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي: ثعبان ضخم، { مُّبِينٌ }:واضح عظمته، وأما قوله تعالى: { كَأَنَّهَا جَانٌّ } (النمل: ١٠ ) هذه الجان هي الحية الصغيرة فكيف أطلق عليها لفظ الجان وأطلق عليها هنا بأنها ثعبان عظيم فالجمع بينهما من أنه ثعبان عظيم لكن من حيث الحركة والسرعة كالجان كالثعبان الصغير أو كالحية الصغيرة { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (الأعراف: ١٠٨ )
{ وَنَزَعَ يَدَهُ } يعني أخرج يده {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} من أنها بيضاء ليس بها برص لأن موسى عليه السلام كانت به سمرة كانت به سمرة إذًا قال عزوجل هنا: { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ولذا في سورة أخرى قال تعالى عن موسى عليه السلام :{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } (النمل: ١٢ ) أي من غير برص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } (الأعراف: ١٠٩ )
ووصفوه بأنه عليم مبالغة في ماذا من أنه بلغ في السحر مبلغه وهنا القائل قوم فرعون لكن في سورة الشعراء، القائل فرعون فيكف قالوا هذا القول؟ الجواب عن هذا من أنه قال وقالوا في وقت واحد فيكون هؤلاء كما قال عز وجل: { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أو هو قال ذلك من أول الأمر ثم أكدوا وقرروا كلامه أو أنه قال ذلك ثم بلَّغوا هذا الكلام إلى غيرهم { قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } (الأعراف: ١١٠ )
وقوله { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } هو من المشورة أي بم تشيرون به من حيث أمر موسى وأمر هارون؟ لأن هارون كان معه كما ذكر عز وجل في سور أخرى { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ } وفي سورة أخرى: { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } (الشعراء: ٣٥ )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قالوا أَرجِه وَأَخاهُ وَأَرسِل فِي المَدائِنِ حاشِرينَ} (الأعراف: ١١١ )
{ قَالُوا أَرْجِهْ} يعني: أخر الحكم عليهما { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} يعني: أخر الحكم والنظر في شأنهما، ولعلهم قالوا هذا القول باعتبار أنه -فرعون- أراد أن يقتل موسى وجاء ذلك مصرحا كما في سورة غافر{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } (غافر: ٢٦ ) قال هنا: { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ } ولم يقل يأتونك لأنه جواب للأمر { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ }
{ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } أي: أرسل رجالًا في المدائن في مدائن مصر { حَاشِرِينَ } يعني يجمعون السحرة وقد قيل من أن المدائن التي توجد بها السحرة هي الصعيد هذا قول لبعض المفسرين والمهم عندنا أنه أمر رجالًا بأن يجمعوا السحرة في مدائن مصر ومعلوم أن مصر لها مدائن كثيرة فالله أعلم بحقيقة وجود هؤلاء في الصعيد أو في غيره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿يَأتوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَليمٍ﴾ (الأعراف: ١١٢ )
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ } يأتوك ولم يقل يأتونك لأنه جواب للأمر أرسل.
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } ساحر عليم هنا للمبالغة، ساحر ليست كلمة فيها مبالغة لكن لما وصفوا الساحر بأنه عليم، وعليم على وزن فعيل هذا مبالغة لكن في آية أخرى { بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } (الشعراء: ٣٧ ) سَحَّارٍ: على وزن فعال للمبالغة، ولذا قال بعض المفسرين لا اختلاف بينهما لأن كلمة عليم هنا في سورة الأعراف تدل على المبالغة والذي يظهر لي من أن القول هنا في سورة الأعراف من أنهم أمروا بحشر من لديه سحر وقد بلغ في السحر مبلغه، أيضا لا ينفي هذا من أنهم طلبوا أيضا من هو أعظم من هؤلاء لأن العظمة في الشيء تتفاوت ولو كان عظيما فهناك من هو أعظم منه ولعلهم أن يكونوا هم الرؤساء الذين تمكنوا من السحر فأرادوا أن يجمعوا كل ساحر قد بلغ في السحر منتهاه على اختلاف درجاتهم في هذا السحر قال هنا: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرعَونَ قالوا إِنَّ لَنا لَأَجرًا إِن كُنّا نَحنُ الغالِبينَ} (الأعراف: ١١٣ )
{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ } دل هذا على أن هناك إيجازًا في هذه الآيات؛ إيجاز لأن الإيجاز في القران: إيجاز حذف وإيجاز قصر وهنا إيجاز قصر أبلغ حيث إنه لم يذكر من أنهم ذهبوا ثم جمعوهم وما شابه ذلك فهنا إيجاز يدل على عِظَم القرآن فتُرِكَتْ جُمَلٌ كثيرة دل على تلك الجمل هذه الآية { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } طلبوا أجر الدنيا وهذا هو مقصد هؤلاء السحرة لأنهم لو كانوا يؤمنون بالله عز وجل ما أقدموا على السحر وعلى الكفر بالله عز وجل { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } أي إذاغلبنا موسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } (الأعراف: ١١٤ )
قال ذلك من باب التأكيد على أن أجرهم سيكون تاما وزادهم على ذلك من أنهم سيحضون بالقرب منه إذ سينالون الأجر الدنيوي والوجاهة الدنيوية ولذا في سورة الشعراء قال: { وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } (الشعراء: ٤٢ )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: ١١٥ )
لأنهم أتوا بعصيهم وبحبالهم { قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} ولكأن هذا الكلام منهم يظهر منه من أنهم حكموا لأنفسهم بأنهم غالبون فكأنهم يقولون سواء ألقينا نحن أولا أم ألقينا ثانيا فلنا الغلبة: { قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قالَ أَلقوا فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاستَرهَبوهُم وَجاءوا بِسِحرٍ عَظيمٍ} (الأعراف: ١١٦ )
{قَالَ أَلْقُوا} أمرهم موسى بأن يلقوا وذلك متى؟ ضحى في يوم الزينة { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: ٥٩ ) وطلب موسى عليه السلام أن يلقوا أولا؛ لأنهم إذا أتوا بكل ما عندهم من الباطل الذي زُيِّن فأتى بالحق هنا يتبين ضلال هؤلاء، ولذا قال { قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } سحروا أعين الناس وهذا يدل على أن للسحر حقيقة بمعنى أن السحر يتأثر به المسحور لكن كون السحر يقلب الأعيان من أعيان إلى أخرى كأن يقلب هذا الجهاز إلى شيء آخر فمثل هذا لا يمكن لأن الذي يقدر على هذا هو الله عز وجل وحده، لكن قد يخيل للمسحور بأن هذا الجهاز قد انقلب إلى شيء آخر، إذا السحر له تأثير على المسحور لكن كونه يقلب الأعيان إلى أعيان أخرى، لا يمكن. قال هنا: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } ولذا انظر السحر واقع على الأعين ولم يقل سحروا الناس ولذا قال عز وجل { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } (طه: ٦٦ )
{ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } لعظم ما أتوا به من السحر وقعت الرهبة ووقع الخوف في القلب إذا هذا السحر وصفه الله عز وجل بقوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } ووصف السحر بأنه عظيم مما يدل على أن العبد إذا رأى الباطل قد عَظُم وأصبحت له هيبة من حيث النظر فإنه لا يلتفت إليه لأن مآله إلى الزوال ولذا قال { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَأَوحَينا إِلى موسى أَن أَلقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلقَفُ ما يَأفِكونَ} (الأعراف: ١١٧ )
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ} (أن) هنا: تفسيرية؛ لأنها أتت بعد فعل يدل على القول ولا يدل على لفظه وهو الوحي { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ } وهذه العصا سيأتي ذكر لها في سورة طه وفي سور أخرى، { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أي: تبتلع { مَا يَأْفِكُونَ } أي: ما أتوا به من الإفك، وهو الكذب وهو هذا السحر، { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (الأعراف: ١١٨ )
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } أي: ظهر الحق، فوقع وأتى بكلمة وقع مما يدل على أن هذا الحق أتى على هذا الباطل فدمغه ولذا قال عز وجل:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } (الأنبياء: ١٨ ) { فَوَقَعَ الْحَقُّ } ما النتيجة { وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: زال، ولم يزُل فقط بل ظهر بطلان ما كانوا يعملون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{فَغُلِبوا هُنالِكَ وَانقَلَبوا صاغِرينَ} (الأعراف: ١١٩ )
{ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ } هذامن باب التصغير والتحقير لهم في ذلكم المكان الذي هو يوم الزينة ويوم عيد لهم واجتمع الناس كلهم، فغلبوا هنالك ولم تكن غلبه فقط مجردة، وإنما انقلبوا، { وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ } يعني أذلاء أي: مهزومون وأيضا هم أذلاء { وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (الأعراف: ١٢٠ )
سبحان الله علم السحرة من أن هذا ليس بسحر ومن ثم فإنهم كما قال عز وجل { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } كأن شيئا ألقاهم إلى السجود، مما يدل على أن الحق قد وضح و تبين، فقال عز وجل هنا: { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ – رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } (الأعراف: ١٢١- ١٢٢ )
سبحان الله { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ليردوا على فرعون الذي قال { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ } (النازعات: ٢٤ ) ثم أتى تبيين { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أيضا هو رب العالمين، رب العالمين كلهم، وأيضا هو رب موسى وهارون، وهي الربوبية الأولى، رب العالمين: الربوبية العامة لجميع الخلق المؤمن والكافر لما قالوا هنا كما ذكر عز وجل عنهم: { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } هذه الربوبية الخاصة التي تقتضي النصرة والتأييد لموسى ولهارون، وسيأتي ذلك مفصلا كيف أيد الله عز وجل موسى وهارون كما في سورة القصص والشعراء وغيرها من السور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّ هذا لَمَكرٌ مَكَرتُموهُ فِي المَدينَةِ لِتُخرِجوا مِنها أَهلَها فَسَوفَ تَعلَمونَ} (الأعراف: ١٢٣ )
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ} أي: آمنتم به { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } قبل أن أعطيكم الإذن في هذا، وهذا يدل على أن فرعون طغى وتكبر فقال لهؤلاء السحرة كيف تصنعون هذا الصنيع من غير أن تحصلوا مني على الإذن { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا } أي: ما فعلتموه { لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ } أي: هذا مكر مكرتموه أنتم وموسى في المدينة لتكون لكم الغلبة والولاية على المدينة { إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
وهذا يتضمن التهديد والوعيد منه لهم، وتأمل إلى بطلان ما قاله: { إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ } بمعنى أنكم اجتمعتم أنتم وموسى على هذا الأمر ومعلوم أن موسى وهارون لم يجتمعا بالسحرة من أول الأمر وإنما أتيا إلى فرعون مباشرة، ثم إذا بفرعون أمر بحشر السحرة، فدل هذا على أن هذا من باب التدليس والتلبيس من فرعون على قومه { إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ} (الأعراف: ١٢٤ )
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ } بمعنى أنه يجعل اليد مقطوعة من جانب والرجل مقطوعة من جانب آخر { لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ } أتى بثم التي تدل على التراخي في الزمن لأنه بعد هذا القطع يُحتاج إلى أن الجرح يَحتاج إلى علاج وإلى أن يُحصر وأن يُقطع الدم ثم بعد ذلك يحصل الصلب ثم قال: { ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } والصلب معروف بأن يوضع الإنسان على خشبة والصلب هنا للجميع، { ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{قالوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ} (الأعراف: ١٢٥ )
{ قَالُوا } أي: السحرة { إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي: مرجعنا إلى الله عز وجل سواء فعلت بنا في هذا الوقت أو في وقت آخر فسيأتينا الأجل { َقَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَما تَنقِمُ مِنّا إِلّا أَن آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتنا رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَتَوَفَّنا مُسلِمينَ} (الأعراف: ١٢٦ )
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } أي: ما تنكر منا وما تعيب علينا { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا } وهذا ليس محل العيب وليس محل الإنكار، ولذا قال عز وجل: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (البروج: ٨ ) وقال عز وجل كما مر معنا في سورة المائدة: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } ( المائدة: ٥٩ ) { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا } تلك الآيات التي ظهرت لهم لما ألقى موسى عصاه { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } قالوا هنا:{رَبَّنَا} سألوا الله عز وجل أن يفرغ عليهم الصبر لأن المقام مقام تخويف وفرعون طاغية فالتجؤوا إلى الله عز وجّل فقالوا { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } بمعنى أن هذا التعذيب منه لا يكون سببا لنا في ترك الإسلام { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } قالوا هنا { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } وهل نفذ فرعون ما توعد به لهؤلاء أم لا؟ قال بعض المفسرين نعم، ولذا قالوا إنهم كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار أتقياء بررة ولذا قالوا، أي قال بعض المفسرين إن لم يكن الأكثر منهم من أن فرعون قد صنع بهم فقتلهم وصلبهم، وهناك قول آخر ولعل القول الثاني يؤيده من حيث الظاهر والعلم عند الله من أنه لم ينفذ ذلك لأن الله عز وجل قال لموسى وهارون { فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } (القصص: ٣٥ ) فهذه الآية تدل على أنه لم يحصل مثل ذلك والعلم عند الله، وعلى كل حال سواء حصل هذا أو لم يحصل هذا فإن الله عز وجل قد نصر أوليائه وأظهر الله عز وجل الحق على يد موسى عليه السلام.