التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأنعام من الآية (52) إلى (64) الدرس (93)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأنعام من الآية (52) إلى (64) الدرس (93)

مشاهدات: 451

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تفسير سورة الأنعام من الآية (52) إلى الآية (64)

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

قوله تعالى { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } هؤلاء و هم فقراء المسلمين قال الأغنياء من الكفار أُطرد هؤلاء عنك فلعلنا نؤمنُ بك فكيف نجتمع مع هؤلاء الضعفاء فنهاهُ الله عز وجل مع أنه ﷺ حاشاه أن يطرد هؤلاء لكن من بابِ ماذا ؟ أن ينتفع من جاء بعده من أنه لا يقدم أهل الغنى و هم الطغاة على الضعفاء الفقراء أهل ألإيمان و الخير{ وَلَا تَطْرُدِ } هنا ماذا ؟ نهي جوابهُ في آخرِ الآية { فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } إذا حصل الطردُ تكونُ من الظالمين و لذا نُصبَ بعد الفاء السبيبة لأنه تقدمه نهي { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } بالغداة أول النهار و العشي آخر النهار و مرَ معنا في قصةِ زكريا عليه السلام { وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ}  فقال هنا { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } يدعون ربهم بخلاف أولئك يدعون غير الله عز وجل { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } المقصد يريدون وجههُ إخلاص العمل لله عز وجل و ابتغاء الأجر من الله عز وجل و مر معنا الحديث عن إثباتِ صفةِ الوجه لله عز وجل في سورة البقرة { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ } ( البقرة : 115 ) ففهيا إثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليقُ بجلاله و عظمته فقال هنا { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ  } و لذا في سورة الكهف ماذا قال عز وجل { وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }( الكهف : 28 ) فقال عز وجل هنا { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ  } { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } لا تتحمل حساب هؤلاء { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ } هنا جواب للنفي { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ } و لذا نُصبت فتطردهم بعد فاء السببية لأنها جواب للنفي بينما { فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } جواب للنهي { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي فإنك لا تتحمل حسابهم { { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ } هذه الآية  تُفسرها { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ } (فاطر : 18 )  و أيضًا تتضمن ماذا ؟ من أنك مبعوثٌ بالرسالة و عليك أن تُنذر أن تدعو من ؟ الفقراء و الأغنياء لا تنظر إلى الغني من حيث غناه ولا الفقير من حيث فقرُهُ { فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } و كذلك سبحان الله قال هنا و كذلك أي ما مرَّ من ما ذكرهُ عز وجل عن حالِ هؤلاء أهل الإيمان آمنوا و اتبعوا النبي ﷺ و ما ذكر من حالِ أولئك الكفار الذين أعرضوا قال {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } فتنة الله عز وجل الغني بالفقير و الفقير بالغني ، فالغني يقول كيف لهؤلاء أن يسبقوني إلى الإيمان والفقير يُفتن بالغني كيف يكون هذا غنيا { وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا } أي الكفار { أَهَٰؤُلَاءِ } يعني أهل الإيمان { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } من الله عليهم بالإسلام من بيننا إذًا ليسوا على الطريق الصحيح هذا على حسب ما يرونهُ حسب عقولهم الضالة فقال الله عز وجل { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } فالله أعلمُ بالشاكرين من يصلحُ  لهذا الهدى و من لا يصلحُ لهُ { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الجواب : بلى هو أعلم بالشاكرين ، فهو عز وجل أعلم بحالِ من يستحق هذا الهدى فهداه ، و من يستحقُ هذه التقوى  فأكرمهُ بهذه التقوى و هذا يدل على ماذا  ؟ يدل على أن العبد إذا حرصَ على الخير فإن الله عز وجل يُكافئهُ و يجزيه بالخير فيعطيه عز وجل و لذا الله عز وجل لا يُعترض عليهِ لا في شرعهِ ولا في قدرهِ ، و لذا قال تعالى في نفس هذه السورة { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ } فقال هنا { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } و لذا ماذا قال عز وجل عن الصحابة  رضي الله عنهم {  فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (: 18 ) و هذا يؤكد من حيثُ المعنى ما قاله ﷺ كما في الصحيحين ألا و إن في الجسدِ مضغة إذا صلحت صلح الجسد ، إذا فسدت فسد الجسد ، ألا و هي القلب { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ  } أي تحية من الله عز وجل عليكم و هذه تتضمن السلامة من الشرور لأنهُ لما قال في الآيات السابقات { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ } لما نهاه  ذكر هنا الطريقة التي بها يكرم هؤلاء { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } سواءً  كانوا أغنياء أو فقراء { فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ  } كتبها أوجبها على نفسهِ  تفضُلًا منهُ عز وجل { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ  } إثباتُ صفة الرحمة لله عز وجل بما يليقُ بجلاله و بعظمته ، و لذا قال ﷺ كما ثبت عنه قال الله غلبت رحمتي غضبي و في رواية سبقت فقال هنا { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } أي أنهُ تعمد فجهل عظمة الله فأخطأ وزل ، فتاب ، تاب اللهُ عليه و مرَّ معنا الحديثُ مفصلا عن الجهالة عند قوله تعالى في سورة النساء { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } (النساء : 17 ) { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } تابَ توبة نصوحا و أصلح عمله و قولهُ و قلبهُ { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سبحان الله هذا يدلُ على ماذا ؟ على عِظم رحمة الله عز وجل فإنهُ لما كتبَ على نفسهِ الرحمة و بين أن من مُقتضيات رحمته أن من عمل سواءً من أهل الإيمان بجهالة ثم تابَ و أصلحَ و يغفرُ له ختمت الآيةَ أيضًا با سمين يدلانِ على المغفرة { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } و كذلك كما فصلنا لك ما سبق نفصلُ كل الآيات { وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } نوضحها و نبينها حتى تقوم الحجةُ على البشر فلا حجةَ لأهل الكفر و أيضًا تفصيلُ الآيات بهِ هدايةُ لأهل الإيمان { وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } {وَلِتَسْتَبِينَ} أي لتتضح { سَبِيلُ} أي طريق { الْمُجْرِمِينَ } الذين أجرموا فأعرضوا عن دين الله { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } و منها نأخذُ فائدة و هي أن من علم الحق و تعلمهُ فإن ما جاء يُخالف هذا الحق يجعلهُ باطلَ ، فإن أهل السنة في مثل هذا الزمن و في كل زمن لو تعلموا العلم الصحيح و المعتقد الصحيح فكل باطلٍ يأتي من أي مذهبٍ قديمٍ أو يتجدد فإنهُ يُطرح إذًا هذه الآيةُ تدلُ على ماذا ؟ تدلُ على الإنسان يجب عليهِ أن يعرف الحق و أن يأخذ به حتى يتبين لهُ سبيل الحق  من سبيل الباطل و لذا النبي ﷺ كما ثبت عنهُ في الصحيح قال إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم  فقال هنا { وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } إذًا إذا فُصلت الآيات ما عادها { سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ } قل يا محمد لهؤلاء { إِنِّي نُهِيتُ } و أتى بصيغة النهي لأن صيغةَ النهي تدلُ من حيثُ الأبلغ على النهي في خلاف كلمة لا الناهية فقال { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ } يعني لما بينا الحق تبرأ النبي ﷺ بأمر من ربه تبرأ من طريقةِ هؤلاء و هذا كما ذكر عز وجل في أولِ السورة قال عز وجل { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّا أَشْهَدُ ۚ } و هذا يدل على ماذا ؟ على أن العالم يجب عليه أن يصدع بالحق و أن يبين أنهُ على الحق { وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } إذًا ما عداها { سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } إذا كان هذا { سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } الذي يُخالف الحق ، إذًا من كان على الحق عليهِ أن يصدعَ بالتبرؤ من هذا الباطل و لذا هناا يُستفادُ فائدة مع أدلةٍ أخرى من أن الإنسان لو أنهُ كان صاحب بدعة أو مُتعزعما لمذهبٍ كُفريِّ أو بدعيّ ، فقال : إني تُبتُ فإن مثل هذا الكلام لا يُقبلُ منهُ حتى يتبرأَ مما كان عليه ، فإذا كان الإنسانُ مأمورًا هو لم يكن صاحب بدعة و لم يكن صاحب مذهبٍ كفرِ هو مأمور ، بأن يتبرأ من الباطل و من طرقهِ إذًا من كان عليهِ ثم تاب فإنهُ يتعينُ عليهِ أكثر أن يتبرأ منه ، و مرَّ معنا ذلك في سورة البقرة مفصلة { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ } ( البقرة : 160) فقال هنا {  قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } و أتى بكلمة تدعونَ بعد العبادة مما يدل على ماذا ؟ مما يدل على أن دعاء هؤلاء الكفار لتلك الآلهة هي عبادة و لذا النبي ﷺ كما ثبت عنه عند الترمذي ماذا قال ؟ الدعاء هو العبادة و قال عز وجل { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } (غافر : 60 ) و لم يقل دعائي فالقول هنا يكون كالقول هناك فقال هنا {  قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } في سورةٍ أخرى قال عز وجل { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي } (غافر : 66) فدل هذا على أن من منحهُ الله عز وجل هذه الآيات و هذا العلم قد منحهُ الله منحةً عظيمة فواجبٌ عليه القيام بشكرِ هذه النعمة و بتبليغها و بتبرأ مما يكونُ مخالفًا لها فقال هنا {قُل لَّا أَتَّبِعُ} أيضًا أمره بأن يقول هذا الأمر { قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ  } و جعلها هنا عامة لمَ لأن أهواءهم التي ذكرها عز وجل عنهم في هذه السورة مما سبق و أيضًا في سور أخرى كثيرة فجمع هنا بمعنى أنه ﷺ لا يتبع حالَ هؤلاء و أن هؤلاء لما قال { لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ }  دل أن هؤلاء ليسوا على دين و إنما هو هوى { قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } أي { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} قد ضللتُ يعني ضللتُ عن الصراط المستقيم إذًا إذا اتبعتُ أهواءكم { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } يعني ضللتُ عن الصراط المستقيم  { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي لستُ من جملة المهتدين فدل هذا على ماذا ؟ على أن من أعرض عن دين الله عز وجل فقد ضل ولا يظن أنهُ من جملة المهتدين بل إنهُ من الضالين { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ } قل إني قل يا محمد لهؤلاء { إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ } أي على بيان و وضوح و هو هذا القرآن و ما جئتُ به من هذا الدين  { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ } و هو قال على لأن الإنسان لا يمكن أن يعلو إلا عن طريق الدين { أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ  } ( البقرة : 5 ) فقال هنا { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } من ربي و ليس هذا من تلقاء نفسي ولا من أحد و ليس من أساطير الأولين { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي كذبتم بهذا القرآن و كذبتم به { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ } أي من هذا العذاب لأنهم قالوا { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ( الأنفال :32 ) فقال عز وجل هنا عن النبي ﷺ { وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ } الحكمُ كلهُ لله ، الحكم القدري ، و الحكم الشرعي ، و الحكم الجزائي إذا أراد أن ينزل عليكم هذا العذاب هو لله عز وجل و ليس عندي { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ } يقصُ الحقَ فهم يذكر القصص عز وجل و يقول الحق {  إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ } ( آل عمران : 62) يقص الحق و يقولهُ ولا يقولُ إلا الحق { يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } أي خيرُ من فصل و قضى ، فهو يفصلُ بيني و بينكم { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أمرهُ بأن يقول { لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي من هذا العذاب { لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ  } ولو قيل هذا يتعارض من حيثُ الظاهر مع قول النبي ﷺ كما في الصحيح لما أتاهُ ملك الجبال فقال إن أردت أن أُطبق عليهم الأخشبين و هما الجبلان المحيطان بمكة ، قال لا إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك بهِ شيئا ، هناك في الحديث عرف عُرض عليه هذا الأمر ، فالنبي ﷺ لم يقل لهذا الملك أُطبق عليهم الأخشبين لكن هنا لما طلبوا هذا الطلب { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } قال هذا القول { لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} فهو عالمٌ بالظالمين و محيطٌ بهم و يقتضي ذلك أنه سيُعاقبهم و أنتم ممن ظلم { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } وعندهُ قدمَ العندية هنا التي تدلُ على التأكيد أنها ليست ألا لله عز وجل { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } أي خزائن الغيب و هي كما جاء مصرحًا في حديث ابنِ عمر خمسٌ من الغيب لا يعلمهن إلا الله كما في الصحيح و هي الآية التي في أواخر سورةِ لقمان {  إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ } (لقمان : 34 ) { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ } و لعل ذكرَ كلمة الغيب هنا بعدما اقترحُ من الآيات ليقرر ما صرح بهِ في آيةٍ أخرى من أن طلب آية تُقترح على الأنبياء هي غيبٌ لا يعلم بها إلا الله عز وجل ، قال عز وجل كما في سورةِ يونس قال عز وجل لما طلبوا الآيات قال { وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } (20 ) { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } أي ما ذُكر في أواخر سورة ماذا ؟ في سورة لقمان و أيضًا تتضمن ماذا ؟ اقتراح الآيات فيها من الغيب كما دلت على ذلك آيةُ يونس { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } النفي مع الاستثناء أبلغ طرق الحصر { لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } البر و البحر قيل البر هو البر المعروف و البحر البحر المعروف ، و قيل البر إنما الصحاري و البحر المدن و القرى و الأول أشمل { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لما ذكر عز وجل من أن عندهُ ما غابَ عن الناس مما يطلعُ عليه بينه أيضًا عز وجل أنهُ يعلم الظواهر كما يعلمُ الغيب فهو عالمُ الغيب و الشهادة ، فقال { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} كل شيء في البر و البحر { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم بعد ذلك البر و البحرعلى وجه العموم ثم أتى التفصيل { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } من أي شجرة إلا يعلمها { ولَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } مما هو في الأرض أو في أعماق البحار { ولَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } ثم بعد هذا التفصيل أتى بالعموم لأنهُ ما من أحد إلا و هو رطب أو يابس { وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ و هذه الآية تدل على ماذا ؟ تدلُ على مرتبتين من مراتب القدر فالواجب على المسلم أن يكونَ مؤمنًا بالقضاء و القدر و مراتب القدر أربع مراتب : العلم ، و الكتابة ، و المشيئة ، و الخلق ، علمٌ كتابةً مولانا مشيئتهُ و خلقهُ و هو إيجادٌ و تكوين قال هنا ذاكرًا ماذا ؟ ذاكرًا الكتابة قال في شأن المشيئة { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( التكوير : 29 ) و في الخلق { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ( القمر :49 ) { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم} و هي الوفاة الصغرى النوم { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم } أي ما كسبتم { بِالنَّهَارِ} { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } فالوفاةُ عُرف معناها  من أنها النوم لأنهُ قال { مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } كما مرَّ معنا في آيات من بينها { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ } ( البقرة : 282) فدل هذا على أن الموت نوعان صُغرى و كُبرى ، الصُغرى النوم ، الكُبرى الموت و هو خروج الروح من البدن { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ } ( الزمر : 42 ) { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم } هذه دلائل على قُدرة  الله عز وجل مما يستوجب منكم أن توحدوه فهو الذي يُميتكم بالليل { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم } و هذه الآيةُ على الصحيح لمن قال هي في سياق الكفار ، تشمل المؤمنين و الكفار { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } أي ما كسبتم بالنهار { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي في النهار بعد النوم { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } حتى ماذا ؟ يأخذ كل إنسان ما قدرهُ الله عز وجل لهُ من بقاءٍ في هذه الدنيا { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } هذه الآية  تؤكد ما رجحناه من أنهُ في أول السورة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } (2) أن الأجلين هما أجلُ ماذا ؟ أجلُ الحياةُ الدنيا و أجل ما يكونُ بعد الموت لأنهُ  قال هنا { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } لأنهم إذا بُعثوا من قُبورهم هناك أمور في يومِ الجزاء و الحساب يمرون عليها ، ثم يأتي الحساب { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } أي يخبروهم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ } و لعل الآية السابقة { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من أنها تتضمن ولو لم يُصرح بها تتضمن المرتبتين الأخريين من مراتب القدر ، و هي المشيئة فما شاء الله و ما لم يشأ لم يكن ، لأن مثل هذه الأمور إنما هي بمشيئة الله و أيضًا خلقُ النوم و بعث الناس من قبورهم و خلقِهم مرة أخرى أيضًا هذه تدلُ على أن ذلك بتقديرٍ منهُ عز وجل { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ } و مرَّ معنا الحديثُ عن ذلك في قوله تعالى في أول السورة { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ( 18 ) قال هنا { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ } لما قال قال هناك { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ختمها بالخبير حتى يعرف الناس أنهُ مع علو الله عز وجل فإنهُ خبيرٌ بأحوالهم و بأعمالهم و بكل شيء من أمورهم ذكرَ هنا من أنهُ عز وجل قاهر و تضمن ذلك العلو لله عز وجل { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ } فمع أنهُ عز وجل خبيرٌ بأحوالهم إلا أنهُ عز وجل لما ذكر { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ } بينه أنهُ هناك ملائكة يحفظون عليهم الأعمال {  وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } ( الإنفطار : 10 ) لما قال { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } {  وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً }  كما قال تعالى { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ } ( الرعد : 11) {  وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } لكن إذا أتى أمر الله فإن هؤلاء الحفظة يتخلون عنه { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } قال رسلنا و قال عز وجل في آيةٍ أخرى {  اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } ( الزمر : 42) فيما قبله من الآيات { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } و قال عز وجل في سورة السجدة { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ } ( السجدة : 11) فكيف الجمع بينهما أن الموتَ بأمر الله عز وجل و هناك رُسل جعلهم الله عز وجل يقبضون أرواح الخق و رئيسهم ملك الموت و ما يقال من أنهُ عزرائيل أو ما شابه ذلك ، من هذه الأسماء فإنهُ لم يدل دليلٌ صحيحٌ على ذلك { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } أي لا يضيعون شيئًا مما أمرهم بهِ عز وجل { ثُمَّ رُدُّوا } بصيغة الجمع في السابق قال { تَوَفَّتْهُ } بصيغة ماذا ؟ الإفراد لمَ ؟ لأن لكل إنسان أجلًا معينًا يخصهُ لكن الرد للجميع كما قال عز وجل في أواخر السورة { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ( 94 ) فقال عز وجل هنا {  ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ } الولايةُ هنا الولاية العامة لجميع الخلق للكافر و للمؤمن ، أما الولاية الخاصة فهي تخصُ من ؟ أهل الإيمان و تحدثنا عن ذلك في سورة البقرة  { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } ( 257) و في آخر السورة { أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ } الله هو الحق قال تعالى {  ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } ( الحج : 62) وأتى الوصف هنا لله عز وجل بأنهُ هو الحق لأنهُ في يوم القيامة يتبين لهم عين اليقين و حق اليقين من أن ما كانوا عليه هو الباطل و أنهم تركوا عبادة الحق عز وجل {  ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ } فهو مولاهم ولاية عامة فكان من الواجب عليهم أن يتولى الله عز وجل  الذي يتولاهم ، إن تولوا الله بنصُرةِ دينه تولاهم الله عز وجل بالخير في الدنيا و في الآخرة و لذا في أول السورة ماذا قال { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } لرد عليهم لأنهم اتخذوا غير الله أولياء فقال هنا { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } الحكم  ماذا قال عز وجل في الآيات السابقات لما طلبوا من النبي ﷺ استعجال العذاب { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } (58) لما ذكر ذلك فيما يتعلق بالدنيا فجاء سياق الآخرة قال { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } الحكمُ القدري و الحكم الشرعي و الحكم الجزائي { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } هنا في يوم القيامة حكمهُ الجزائي لأهل الإيمان بالجنة و للأهل الكفار بالنار { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } كما قال تعالى { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ( النور : 39 ) أي فإنهُ يُحاسب الخلق لمَ ؟ لأنهُ عالمٌ و مُحيطٌ بهم فهو أسرع الحاسبين و سريع الحساب فهو ليس كغيرهِ يغيبُ عنهُ شيء أو يحتاج إلى تروي أو إلى إمعانِ نظر أو فكر لا ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرة { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم } قل يا محمد لهؤلاء { مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ذكر هنا ظلمات البر و البحر و قال قبلها في آيات { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} دل هذا على ماذا ؟ على أنه عالمٌ عز وجل بما في البر و البحر و هو عالمٌ عز وجل بحالكم حينما تأتيكم هذه الظلمات و ليس المقصود الظلمات لأن الظلمات تأتي من في البر و البحر و في أي مكان لأن الليل يأتي و النهار يأتي فالمقصود من ذلك الظلمات التي بها المخوف و الضرر و الكرب الذي سيحصل بهم {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هنا الظلمات حسية أو معنوية ؟ حسية و هذا يقرر ما رجحناه من أن قولهُ في أول السورة {وَ جَعَل‌َ الظُّلُمات‌ِ وَ النُّورَ} تشمل الظلمات الحسية و المعنوية فقال هنا { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا } أي تضرع وجل و خوف { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } بدعاء خفي الدعاء بصوتٍ خفي يدل على الخشوع و الخضوع و لذلك قال هنا مبينًا حالهم من أنهم في حالةِ إخلاص لله عز وجل { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ } أي من هذه المحنة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} انظر حالهم إذا حصل الكرب كما قال تعالى { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ( العنكبوت : 65 ) قال هنا { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ } الكُربَ { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } إذا دعوا الله بإخلاص و دعو الله بخُفية و بتوحيد خالص في تلك الحال ، لكنهم كَذَبه ، و وعدوا الله بأن يكونوا بعد نجاتهم أن يكونوا من الشاكرين فماذا قال عز وجل { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } و لذا قال عز وجل لما ذكرَ إنابة أهل الخير { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } ( 33) ( الروم ) فدل هذا على أن الإنابةَ قد تكونُ من ماذا ؟ من أهل الكفر لكن في حالِ الشدة لكن في حالِ الرخاء فإنهم يكفرون { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } قل يا محمد لهؤلاء { قُلِ اللَّهُ } قال الله صرَّحَ باسم الله ، باعتبار أنهُ هو المعبود المألوه محبة و تعظيما فواجبٌ عليكم أن تعبدوا الله لأنكم تعترفون بأنهُ هو الرب إذًا يلزمكم أن تعبدوه فهو الله المعبود الذي لا شريك لهُ { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } ليس من هذه فقط  { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } و لكن الحال منكم ، ثم أنتم بعد هذه النجاة { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } .