التفسير المختصر الشامل تفسير سورة المائدة من الآية (106) إلى (110) الدرس (88)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة المائدة من الآية (106) إلى (110) الدرس (88)

مشاهدات: 508

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المائدة من الآية (106) إلى آية (110)

     لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

بسم الله الرحمن الرحيم والحمدلله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد :

فكنّا قد توقفنا عند قول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية هذه الآيةُ ذكر الله عز وجل فيها ما يتعلقُ بشهادةِ الكفار بمعنى أن يُشهدَ أهل الإسلام أهل الكفر ، و ذلك من باب بيان من أن الآيةَ السابقة لما قال عز وجل { لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } لا يعني أن شهادةَ هؤلاء الكفار لا تقبلُ في بعض الأحوال ، و ليُعلم أن هذه الآية ليست منسوخة لأن بعض أهل العلم قال إنها منسوخة باعتبار ما جاء في قول الله عز وجل { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } و هؤلاء أي الكفار ليسوا بِمرضِيين و نحنُ نقولُ إن الآيةَ ليست منسوخة ، و إنما نحن نقولُ بما تقولونَ بهِ من أنهم ليسوا مرضِيين في الشهادة لكنها هذه الشهادة إنما قُبلت منهم عند الضرورة حينما لا يوجدُ مسلم و ذلك حالة السفر ، و هذه الآيةُ معناها و التي تليها معناهما على وجه الاختصار حتى نفهمَ الآية فهمًا جيدا من أن المسلمَ إذا كان في سفر و حضرت أسبابُ و علاماتُ الموت و كان معهُ مال ، فإنهُ يوصي اثنينِ من المسلمين بأن يعطوا مالهُ لورثتهِ فإن لم يجد مُسلِمين فَلْيُوصِ إلى اثنينِ من الكفار ، بمعنى أنهُ يُشهدُهما على هذا الأمر بأن يوصلَ مالهُ هذا إلى ورثتهِ فإذا أتيا هذانِ الشاهِدان إلى ورثةِ هذا الرجل الميت فإنهم يقبلونَ ما أتى بهِ هذانِ الشاهدان المسلمان أو الكافران عند الضرورة ، فإن حصلَ ريبٌ و شكٌ من ورثةِ الميت فإنهما يطلُبان من الحاكم بأن يُحَلف هذينِ الشاهدينِ بعد الصلاة من أنهم لم تحصُل منهما خيانة أو سرقة من هذا المال ، و ذلك الحلِف عندما يكونُ هناك ريب ، أما إذا لم يكن هناك ريبٌ فلا فإذا حلفا فإنهما يُتركان يعني هذينِ الشاهدينِ يُتركان فإذا تبينَ فيما يُستقبل من أن هناك خيانة حصلت منهما و أنهما حلفا على كذبٍ فإن اثنينِ من أقرِباء الميت يحلفانِ من أنهما ماكذبا على هذينِ الشخصينِ الشاهدين ، و إنما فُقدَ من مالِ مورثِهم ما فُقدَ من المال فيقومَان فيشهدانِ بصدقِهما و بكذِبِ هذينِ الشاهدين ، كلُ هذه الأحكام من أجل أن الشاهدين الذينِ أشهدهما من بهِ علاماتُ الموت من أجل أن  يؤدوا الشهادةَ على وجهها أو خيفةً من أنهُ إذا عُثرَعلى كذِبٍ منهما من أن اليمين تُردُ على ورثةِ الميت هذا معنى هذه الآيات على وجه الإجمال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي أسباب و علامات الموت { حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } بمعنى أنكم توصونَ حالَ هذا السفر قال { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } أي ليشهد اثنان { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي أصحاب عدالة منكم  ، يعني من أهلِ الإسلام و مر معنا حديثُ عن العدالة في آيةِ الدَين { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } يعني ممن ليسَ من أهلِ الإسلام و هذا هو القولُ الصحيح و هو أظهر خِلافًا لمن قال { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي من عشيرتكم { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي من غيرِ عشيرتكم و من ثم على هذا القول و كذا على القول الآخر من أنها منسوخة ، فإنهُ لا شهادة للكفار و من ثم فإن القول الصحيح من أن المسلم  يُشهد الكافر عند الضرورة حين ما يفقِدُ المسلم و أين في حالِ السفر ، فقال هنا { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي سافرتم في الأرض لتجارةٍ أو غيرِها { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ }  والموتُ لا شكَ أنهُ مُصيبة و لذا قال { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ } فهو مُصيبةٌ باعتبار أن من حضرهُ فإنهُ يتألمُ بخروجه من هذه الدنيا و بما يجري عليهِ مما يجري على المُحتضر كما ذكرَ النبي ﷺ و أيضًا هو مصيبة باعتبار أن ذويه يفقِدونه و من ثم فلا شكَ أن الموت من المصائب  ، و لذا قال بعضُ العلماء { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ } قال لا شكَ أن الموتَ مُصيبةٌ عُظمى لكن أعظم من ذلك أن ينسى الإنسانُ ذِكرَ الموت { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ } بمعنى أن هذين يُحبَسانِ بعد الصلاة ، قيل هي جميع الصلوات دونَ تحديد و قيل صلاةُ العصر باعتبار أنها صلاةٌ مُعظمة في الأمم السابقة ، ولأن هناك ما يدلُ على ذلك و هذا هو الأقرب لما جاء في الصحيح قولهُ ﷺ : ( ثلاثةُ لا يُكلمهم الله ذكرَ منهم رجلٌ حلفَ على يمينٍ كاذبة بعد العصر ) { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ } و ذلك لأن حَبْسَ هؤلاء و إيقافهما من أجل هذه الشهادة إنما كان بعد الصلاة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر بهذا لهما { تحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } بمعنى أن هذين الشاهِدين سواءً كانا مُسلِمين أو كانا كافِرين يُقسمان بمن بالله عز وجل { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } بشرط { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي حصل عندكم شكٌ من أنهما أخذَ شيئًا من مالِ هذا الميت المورث لكم { إِنِ ارْتَبْتُمْ } إن لم يحصُل ريبٌ فلا يُحبسان و من ثمَ فإن هنا ما يدلُ على تعظيم اليمين بمعنى أن الحاكم القاضي لو شاء أن يُغلظَ اليمين ، لأن البينةَ كما قال ﷺ البينة على المُدعي و اليمين على من أنكر فمن أنكره  وهو المدعى عليه عليهِ ماذا ؟ اليمين لكن هل تُغلظ أو لا ؟ إذا رأى الحاكمُ ذلك فإنهُ يُغلظها و هنا تغليظُ لليمين بعد زمن أو مكان بعد زمن و هو بعد الصلاة و جاء أيضًا التغليظ عند المكان كما قال ﷺ : كما ثبت عنه ( من حلفَ على يمينٍ اثِمَ عند منبري هذا فليتبوأ مقعدهُ من النار ) ، و أيضًا يكونُ التغليظُ بذكرِ الأوصاف التي بها تعظيم التي تجعلُ الإنسان يخاف كأن يُقال لهُ احلف بالله رب السموات و الأرض الذي أنزل الكتاب على محمد ، و أنزل التوراة على موسى ، و الإنجيل على عيسى ، و ما شابهَ ذلك مما يدلُ على تعظيمِ اليمين من حيثُ اللفظُ  قال { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } يعني يحلفانِ بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ } بمعنى أنهما يقولانِ في هذا الحلف والله لا نشتري بهذا اليمين بالله و بالقسم بالله لا نشتري به ثمنًا حتى ولو كان هذا من أجلِ قريب أو من أجلِ مصلحة { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } و لو كان الحلف من أجل قريب ، فإنهما يُعَظَّمُ هذا الأمر لديهما ولو نظرتَ إلى أولِ السورة فإن قولهُ تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } فقال هنا { لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } و مر معنا في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ( النساء : 135) فقال هنا { لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ} أي لا نُخفي شهادةَ الله ولا نكتمُ شهادةَ الله و سُميت اليمينُ شهادة باعتبارِ أن الحكم كما يثبتُ بالشهادة يثبتُ باليمين ، و لذا سمى الله عز وجل الحلف شهادة كما في قولهِ تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } ( النور : 6 ) فقال هنا { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا } إن فعلنا ذلك { إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ } أي ممن وقعَ في الإثم بل قالوا { إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ } أي من صِفتهُم الوقوع في الإثم وهنا بينَ من أن كتمَ الشهادة يحصلُ بها الإثمُ لمن كتمها و مرَ معنا في سورة البقرة  { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ( البقرة : 283) فالإثمُ وقع على القلب و مرَ هناك من أن القلبَ إذا فَسِدَ وأثِمَ فإن هذا يسري على الأعضاء على بقية البدن ، فإذًا لا تعارُض بين هذه الآية و بين التي في سورةِ البقرة { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ } فإن حلفا  يُتركان فإن عُثرَ على أنهما استحقا إثما بمعنى عُثرَ على أنهُ حصلت خيانة منهم أو سرقة من هذا المال فقال هنا { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي مما يُوجِبُ الإثم من سرقة أو كِتمان { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ } بمعنى فآخرانِ من أقرب الناس الأوليان مفرد أولا بمعنى أقرب شخص إلى الميت يقومُ اثنان { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } مَقامَهُمَا في ماذا ؟ فيما يتعلق بما سبق من الحلف { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ } و ذلك لأن هذينِ القريبين يستحقانِ وصيةَ و ترِكة الميت فإنهما ورثتهُ فيقومُ اثنان بعد أن يختار ورثة الميت من هو أقرب إلى الميت يختارُ يختارونَ اثنين فيُقومانِ فيحلفان { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا } أي بمعنى الأيمان كما مرَ فيما مضى { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } باعتبار ماذا من أن الأوليان و هما أقرب الناس إلى الميت يعرفانِ ماذا لدى الميت من أموال { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي على هؤلاء بما ذكرنا { إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي ممن ظلمَ نفسهُ و ظلم غيرهُ { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } ذلك أي الحكم السابق أدنى يعني أقرب أي يأتوا بالشهادة ، و ذلك لأن الحاكم لا يطلِعُ على بواطنِ الأمور و لذا قال ذلك أدنى لأن من يطلع على البواطنِ و على الظواهر هو الله جل وعلا أما القاضي فكما قال ﷺ : كما ثبت عنه قال ( فلعلَ أحدكم أن يكونَ الحنَ بِحُجتِهِ من الآخر فأقضي لهُ على نحوِ ما أسمع ) { ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا } بمعنى أنهُ لما حُكِمَ بهذا الحكم يحرصان من ؟ الشاهدان على أنهما يؤديانِ هذا الأمر بصدقٍ دون خيانة حتى لا يحصُل لهما الإثم الذي بهِ الخزيُ في الآخرة قال { ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا } يعني على حقيقتها ذَٰلِكَ  { ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ  } كما حصلَ من أن الأقرب من الورثة يحلفانِ مكانهما يعني حُكِمَ و شُرِعَ الحكم حتى يأتي بالشهادة على وجهها حتى لا يحصُلَ لهما العقوبة في الآخرة أو إذا كانا لا يخشيانِ من العقوبة في الآخرة يخشيانِ أيضًا من ماذا ؟ من الخزي و الفضيحة في الدنيا لما تُرد الأيمان على ورثة الميت أو يخافوا أن تُردَ أيمانٌ بعد أيمانِهِم  ، و في هذا دليلٌ لقولِ من قال من العلماء و يختارُهُ وهو شيخُ الإسلام رحمهُ الله من أن اليمين تُردُ على من هو أقوى جانبه و من ثمَ فإنهُ لو مثلًا حصلت قضيةٌ بين اثنين فلم يكن لدى المدعي لم يكن لديهِ مثلًا بينة و اليمينُ على من ؟ على المدعى عليه فلو رأى القاضي من أن اليمين تُرد على المدعي ، فإن لهُ ذلك من باب رد اليمين و المسألة سبقت مُفصلة لنا في درسِ الفقه من أراد التوسعَ في هذا .

 { أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ  } أي بعد الأيمان و هي الحلف { وَاتَّقُوا اللَّهَ } بعد ذلك أمرَ بتقوى الله جلَ وعلا في جميعِ الأحوال و من ذلك ما ذُكرَ في هذه الآيات { وَاسْمَعُوا ۗ  } اسمعوا ليس سماعُ مُجرد ، و إنما اسمعوا سماع قَبول بأن تقبل أحكامَ الشرع و أن تُطبقَها و ليس مجرد سماع { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فاللهُ عز و جل لا يهدي ولا يوفق من انغمسَ في الفسق فإن من فسقَ و عظُم فِسقهُ و زادَ فإنهُ خليقٌ بأن تُسد عنهُ أبواب الهداية قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ( الصف : 5) و قال تعالى { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } لما ذكرَ ما يتعلق بهذه السورة من أحكامٍ متنوعة و من قَصصٍ و من إنكارٍ و جُحودٍ و طُغيانٍ من اليهودِ و النصارى وأشباه هؤلاء ختم هذه الأشياء المذكورة  بالتذكيرِ بيومِ القيامة من بابِ ماذا ؟ من بابِ أن يكونَ العبدُ على خوفٍ هذا اليوم قال { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } أي أُذكر يومَ يعني يومَ منصوبةٌ بأُذكر فتكون الآية مُستأنفة بمعنى و أذكرُ { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } و سواءٌ قيلَ هي مُستأنفة كهذا القول أو قيلَ هي مُرتبطة بالسابق بقولهِ و اتقوا الله يعني و اتقوا الله لمَ ؟ لأن هناكَ يَومَ يَجمَعُ اللَّهُ فيهِ الرُّسُل وعلى كلِ حال سواءً كانت مرتبطة بالسابق ، أو أنها مُستأنفة فهذا يدلُ على أن العبدَ عليهِ أن يخشى ما يكونُ في ذلك اليوم { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } و قال هنا { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } مع أن الناسَ كلهم يُجمعون  قال تعالى { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ( الواقعة : 49 و 50 ) { هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ۖ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ }  ( المرسلات : 38 ) إلى غيرِ ذلك من الآيات لأنهُ إذا جمعَ الرسل فإن من يكونُ تبعًا لهم من بابِ أولا  فالجميعُ مجموع { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } و لعلَ التنصيصَ على الرسل هنا من بابِ التبكيتِ و التحقيرِ لمن عصى هؤلاء الرُسل { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ } عز وجل { مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ  } أي بماذا أجابتكم أُممكم { قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ  } مع أنهم يعلمون لما كانوا في الدنيا يعلمون حالَ أُممِهم فلماذا لم يُجيبوا بأنهم يعلمونَ بعض ما حصلَ من أممِهم في حالِ حياتهم ، قيلَ من بابِ تفويض العلم لله عز وجل فهو العالمُ  بالظاهرِ و الباطن أما الرسل فإنما هم يعلمون ما هو ظاهر حالَ حياتهم و قيلَ من بابِ بيانِ أن هذا اليوم ، و هو هذا اليوم الرُسل عليهم السلام تحصُل لهم هذه الخشية و هذا الخوف و مع ذلك لا يُجيبون الله عز وجل فيقولون لا علمَ لنا من بابِ تعظيمِ هذا اليوم ،  ثم بعد ذلك في زمنٍ و في حالٍ من يوم القيامة يشهدون على أُممهِم { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } ولا شكَ أن مثل هذا اليوم يوم عظيم بدلالةِ أن الناسَ إذا أردوا أن يشفع لهم الأنبياء كلُ نبيٍ يقول نفسي نفسي إلا النبي ﷺ فيقولُ أنا لها كما جاء في حديثِ الشفاعة الطويل كما ثبت عنهُ ﷺ ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ } و أثنوا على الله إِنَّكَ أَنتَ إنك و أكدوا ذلك بالضمير أنت عَلَّام و لم يقولوا عالم و لم يقولوا الغيب و إنما عَلَّام الْغُيُوبِ ، علام على صيغةِ مبالغة فهوعلام الغيوب فيعلم عز وجل ما يكونُ في الخفايا و البواطن مما لا يطلِعُ عليهِ الناس فقالوا { إِنَّكَ أَنت عَلَّامُ الْغُيُوبِ } و لعل عدم الجواب أيضًا منهم من أنهم فوضوا الأمر إلى الله من بابِ أن يحكم بينهم و بين قومهم الذينَ عاندوهم { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } إذ قال الله أي في ذلك الوقت في يومِ القيامة يقولُ الله عز وجل لعيسى ابنِ مريم و إنما ذُكرَ عيسى عليهِ السلام دون غيرهِ من الرُسل باعتبار ماذا و العلمُ عند الله باعتبار مع أن الأنبياء أيضًا يكونُ لهم مثلُ هذا قال تعالى { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } ( الأعراف : 6 ) لكن لعلَ ذِكرَ عيسى هنا من بابِ أن ما مضى في هذه السورة إنما هو في كثيرٍ من الآيات عن اليهودِ و النصارى ،  فاليهودُ غالوا فيهِ قدحا و النصارى غالوا فيهِ مدحا فأتى ذِكرُ عيسى عليه السلام لا سيما ما جرى من اليهودِ و النصارى { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } و لم يصفهُ بالرسالة ولا بالنبوة من بابِ ماذا و هذا يكونُ تحقيرًا لمن قالَ من أنهُ إله أو أنهُ ابنٌ لله من بابِ التحقيرِ لهم { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } و أضافه إلى أمهِ فليسَ ابنًا لله و ليس هو الله كما مر في الآيات السابقات { قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (72) { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ} (73) { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ } (التوبة : 30 ) فقال هنا { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } نِعمهُ عز وجل الدينية و الدُنيوية عليه وعلى والدتك ثم ذكرَ هذه من بابِ العموم يعني اُذكر من بابِ الثناء على الله عز وجل النِعم التي أنعمتُها عليك و على والدتك ، ولو نظرَ الإنسانُ إلى ما ذُكرَ مُفصلا لوجدَ هذه النِعم مُتعلقة بعيسى فإن النِعمُ على مريم فالجواب عن هذا من أن النِعم التي أنعمَ الله بها على عيسى يدخلُ في بعض منها من بابِ التبع من مريم لمَ ؟ لأنها أمهُ و لذا قال عز وجل عن عيسى و مريم مُبينًا من أنهما يُعتبرانِ آية واحدة  قال عز وجل كما في سورة المؤمنون {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } ( المؤمنون : 50) و لم يقل آيتين {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فصلَ هنا النِعم { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي } و مر تفصيلُ و تفسيرُ هذه الآيات في سورةِ آل عمران  { وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّه } (آل عمران : 49 ) و زادَ في آل عمران { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } و لكن الحديث هنا في ما يظهُر لي و العلمُ عند الله من أن هناك اختلافًا بين هذه الآية في بعض الضمائر و بين الآية التي في سورة آل عمران ، في سورة آل عمران المتحدث من ؟ عيسى { وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ } هنا  { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } المتكلم من ؟ هو الله { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } و قال هنا كررَ كلمة بإذني في أكثر من موطن فيما يتعلق بعيسى قال { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ } أي في هذا الشيء الذي أجعلهُ كالطير أما هنا قال { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } و زادَ كلمة بإذني من بابِ ماذا ؟ من أن هذا اليوم يوم القيامة و تأكيد على أن عيسى عليهِ السلام ما صنعَ ذلك من قُدرته و لا من أمره و إنما هو بإذن الله عز وجل { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا } فتنفخُ فيها أي في الهيئة و الصورة التي تصورُها { فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي } كررَ الإذن هنا { وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ  } في سورةِ آل عمران ماذا قال { وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ } (آل عمران : 49 ) إحياء هنا إخراج فقال بعضُ العلماء من أن الإحياء لما قال { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّه } قال الإخراجُ المقصودُ منهُ هو الإحياء و لعلَ هو العلمُ عند الله في ما يظهرُ لي من أن عيسى عليه السلام و العلم عند الله لدلالة الآيتين من أنهُ يُحيي الموتى ممن مات و قَرُبَ موتهُ قبل أن يُدفن و أيضًا يُحيي من ؟ من دُفنَ بعد زمنٍ طويل و يُخرج من قبرهِ فيحفروا  لهُ و إذا بهِ يخرجُ حيا  كلُ ذلك بأمر الله عز وجل قال هنا { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ } و إذ كففتُ أي منعتُ بني إسرائيل و هذا يدلُ على ماذا ؟ يدلُ على أن من صُرِفَ عنهُ العذاب فهي نعمة من صُرِفَ عنهُ الأذى الذي يأتي من المخلوق فهي نِعمةٌ من الله و لذا عدها عز وجل من النِعم التي أنعمَ الله بها  على من ؟ على عيسى و ذلك لما  أراد أن يقتلهُ كما مرَ معنا في سورةِ النساء  { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } ( النساء : 157) و كما مرَ في سورة آل عمران { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ( آل عمران : 54) { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ } كفروا مع مجيء البينات الواضحات { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا } أي ما هذا { إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } هذا سحر ما أتيتَ بهِ البيناتِ و المُعجزات إنما هو سحرٌ و أي سحر مُبين واضح  ، وهذا يدلُ على أن هؤلاء طبعَ الله عز وجل على قلوبهِم بعد مجيء هذه البينات .