﷽
[ تفسير سورة المائدة ]
من الآية (45) إلى الآية (50)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين وأُصلِّي وأُسلِّمُ على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين
أما بعد :
فكُنَّا قد توقفنا عند قول الله -عز وجل-
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة : 45]
” وكتبنا” : أي فرضنا عليهم فيها، وهذا الذي فُرِضَ على هؤلاء هم اليهود، فُرِضَ عليهم في ماذا ؟ في التوراة.
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }
وهذه الآيةُ وهي قولهُ تعالى :
“أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ” يدلُّ على أنَّ القِصاصَ موجودٌ في التوراة، وكذلك القصاص فيما دونَ النفس في الأطراف، وفي الجروح، وفي الأعضاء موجودٌ أيضًا في التورارة.
“وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ” : وهذا يدلُّ على ماذا؟ يدل على أنَّ الرجل يُقتل بالأنثى إذا قتلها على الصحيح من قولي العلماء ومرَّ معنا ذلك عند قوله -عز وجل- : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الآية، وجاءت السُنَّةُ بذلك ومِن ثمَّ أخذَ بعضُ أهل العلم من قولهِ تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لعموم الآية يُقتل المسلمُ بالكافر، ويُقتل الحُر بالعبد، لكنَّ الصحيح: أنَّ الحُرَّ لا يُقتلُ بالعبد، وأنَّ المسلم لا يُقتلُ بالكافر؛ وذلك لمجيء النهي منه ﷺ :
” لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ولا يُقتلُ حرٌّ بعبد”
لكن لو أنَّ المسلم غدرَ بالكافر وقتلهُ غِيلةً بمعنى:أنَّهُ أمّنَهُ وكانَ هذا الكافرُ مُعاهدًا أو ذميًا أو مستأمنًا فإنَّ شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى القول الآخر من أنَّ المسلم يُقتَل في مثل هذه الحال لِمَ ؟ لعدم اشتراط المكافأة باعتبار أنَّ هذا نوعٌ من أنواع الإفسادِ في الأرض.
“وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ” : أي تؤخذ العين بالعين ولها شروط وذلك :- أن تُؤخذ اليُمنى باليُمنى وذلك إذا كانَ عمدًا، أمَّا إذا كان عن طريق الخطأ فإنَّما هي الدية.
“وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ” : أي يُجدع الأنف بالأنف.
“وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ” : أي تُقطَع الأذن بالأذن.
“وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ” أي ما حصل من جُرحٍ بمعنى: أنَّهُ جرحَ شخصًا فإنَّهُ يُقتصُ منه إذا كانَ عن طريق العمد بشرط: ألا يكون هناك أيُّ تعدٍ على الفاعل والجاني بمعنى: أنَّهُ يُجرَحُ في موضع الجُرح ويُكسَر العظم إذا كانَ لهُ حد ينتهي إليه، أمَّا إذا لم يكن لهُ حد ينتهي إليه فإنهُ حينها تُقدَّر حُكُومة، والحكومة بينها الفقهاء، لكن في مثل هذا الزمن يُقدِّرها الحاكم.
يعني أنَّ من جرحَ شخصًا فإنهُ يُقتصُ منه.
فدلَّ هذا على أنَّ هذه الآية دليلٌ على ماذا ؟ دليلٌ على القِصاص في النفس وفي ما دون النفس من الأطراف ومن الجروح، وهُنا قدَّمَ العين، ثم بعد ذلك ذكر الأنف، ثم ذكر بعد ذلك الأذن، ثم ذكر السن … لم أجد فيما أعلم من أحدٍ من العلماء تحدّث عن هذا بتقديم هذه الأشياء، والعلمُ عندَ الله من أنهُ -عز وجل- ذكر النفس؛ لأنها أعظم ما يكون ولأن أعظم الحواس بعد ذلك العين ولذلك النبي ﷺ كما ثبتَ عنه من أن الله -عزَّ وجلَّ- قال : (إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ)
“حَبِيبَتَيْهِ” : أي عَيْنَيْهِ.
ثم ذكر بعد ذلك الأنف؛ لأنَّ حاسة الأنف ولأنَّ الأنف من حيثُ الجمال يكون أظهر وأبرز من الأُذُن.
ثم ذكر الأذن، ثم ذكر السن وذلك باعتبار أنَّ السِنَّ لو أُخِذَ فإنَّ هُناك أسنانًا أخرى، بينما الأُذُن يتعذرُ مثل ذلك…
فدلَّ هذا على أنَّ هذا الترتيب الذي جرى هذه حِكمَتهُ والعِلمُ عند الله .
{ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } أي من تصدَّقَ، بمعنى أنَّ من جُنِيَ عليهِ، من اُعتُدِيَ عليهِ فعفا، وهذا يدلُ على ماذا؟ يدلُ على أنَّ الإسلام كما أمرَ بالقصاص أيضًا حثَّ من اُعتُدِيَ عليه بأن يعفوَ وبأن يتسامح كما مرَّ معنا في القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وقال هُنا : {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} بمعنى: من عفا فإنه يكونُ لهُ أجر ولذلك ثبتَ قوله ﷺ : “من جُرِحَ بشيء فتصدق به كان كفارة له” النسائي في السنن الكبرى.
وهذا يؤكد على أنَّ الضمير على الصحيح: يعودُ إلى المجني عليه أو يعود إلى أولياء المجني عليه بمعنى: أنه إذا عفا أو عَفَوا فإنَّ مثل ذلك يكونُ كفارةً لهم، ويكونُ هو الصحيح على القول الآخر الذي يقولُ: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} يعني من عفا عن الجاني فإنَّ الجاني يكون له بذلك أجر، لكنَّ الحديث فاصلٌ في ذلك، ثُمَّ إنَّ ما يتعلق بالجاني إنما هو مذكورٌ هنا على وجه الخُفيَة، يعني على وجه عدم الظهور، لكن هنا ماذا قال ؟ {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} دلَّ على أنَّ الضمير يعودُ إلى “من”؛ لأنهُ أظهر وأوضح، ولأنهُ لم تجري عادةٌ من أنَّ المُتصدَّق عليه يكونُ لهُ الأجر، إنما الصدقة يكونُ أجرُها على من تصدَّقَ .
{ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ومرَّ معنا فيما يتعلق بدية الخطأ أن أولياء المقتول خطأً لو تصدقوا بالدِية فإنهُ يكونُ لهم أجر قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء : 92]
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ذكرَ هُنا أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يكونُ ظلما ومرَّ معنا تفصيلُ ذلك في الآية السابقة.
{وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
“وَقَفَّيْنَا” أي: أتبعنا.
“عَلَىٰ آثَارِهِم” أي: على طريقتهم الحميدة، مَن ؟ الأنبياء المذكورون سابقا، قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فـ قَفَّا وأتبَعَ على آثارِ هؤلاء مَن ؟ عيسى -عليه السلام- فدلَّ هذا على أنَّ عيسى -عليه السلام- هو خاتم أنبياء بني إسرائيل.
{وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا} أي: حالةَ كون عيسى-عليه السلام- مُصدقًا لِما بينَ يديهِ من التوراة، أي: مصدقًا لِما في التوراة من أحكام، قال هُنا:{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} كأنها حاضرةٌ أمامهُ، ولا شكَ أنَّ التوراة أيضًا كما أنها في عهدِ موسى أيضًا هي في عهدِ عيسى-عليه السلام- ولِذا الإنجيل جاءَ لبيانِ بعضِ الأحكامِ الأُخرى وفيها أيضًا وهو المشهور عند العلماء من أنَّ الأحكامَ أخذها عيسى -عليه السلام- من التوراة، وإنما ما في الإنجيل فيه من المواعظ كما قال في آخر الآية : {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} وأيضًا قال : {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ} لمَّا ذكرَ -عز وجل- من أنَّ عيسى مُصدق لما بينَ يديهِ من التوراة، ذكرَ أنَّ الله-عز وجل- أعطاهُ الإنجيل{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} أيضًا كما وُصِفت التوراة فيما سبق بأنَّها نور وهدى{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}ذكرَ هُنا أيضًا من أنَّ الإنجيل وُصِفَ بأنهُ نورٌ وبأنهُ هُدى، قال:{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} وبيّنا معنى كلمة الهُدى والنور، وأيضًا بيّنا من أنها هدى ونور قبل التحريف، وأنه بعد مجيء القرآن حكم القرآن على تلك الكتب ونسخها.
قال هُنا : { وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ }
أعادَ كلمة:”ومصدقًا” هل هناك اختلافٌ بين كلمة “مصدقًا” في الأولى وفي الثانية؟ نعم، “مصدقًا” في الأولى: -حال- باعتبار عيسى {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}
أما هنا { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} حالة كون الإنجيل مصدقا لما في التوراة.
{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى} “وهدىً” ما هيَ ؟ الإنجيل، وكرر “هدى” مع أنَّهُ قال:{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كرر الهدى باعتبار أنَّ التوراة اشتملت على ذكر ماذا ؟ على ذكر محمد ﷺ من باب التأكيد، ولذلك {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فأعادَ كلمة “هدى” باعتبار أنَّ بها ذكرًا للنبي ﷺ .
{وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة : 46] وصفها بوصفٍ آخر بأنها موعظة وهذا مما يُؤكِّد ويُرجِّح ما قاله العلماء من أنَّ المواعِظَ موجودةٌ في الإنجيل وأنَّ الأحكامَ هي في التوراة.
قال هُنا : { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً } مع أنَّهُ “هُدى”، هُدى من ماذا ؟
هدى من الضلالة ومِن الجهل ومِن الكُفر، بمعنى أنَّهُ يهدي إلى الطريق المستقيم، وهو أيضًا نور، نورٌ بإذن الله يُخرجُ الإنسانَ من ظُلمات الشرك والشُبُهات والبِدَع .
أيضًا فيهِ المواعِظ التي تزجُرُ الإنسان عن القبائح وعن الرذائل وبها من المواعظ ما يُذكِّر الإنسان بيومِ الحساب وبيومِ القيامة.
{وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} خصَّ المُتقين باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنَّهُم همُ المنتفعون، وهذا نظيرُهُ ما جاء في القرآن : { ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }[البقرة : 2]
فدلَّ هذا على أنَّ الكُتُب التي أنزلها الله – عزَّ وجل – إنَّما يُنتفعُ بها مع أنهُ أُنزِلت هداية للناس جميعًا لكن الذي إنتفع بها مَن ؟
هم المُتَّقون.
{ وَلْيَحْكُمْ } هُنا أمر .
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ } الذين كانوا قَبْلَ مَن ؟ قبل عصر النبي ﷺ لأن بعد مجيء النبي ﷺ فالحكم لِمَن؟ الحكمُ للقرآن .
قال هنا : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ } ودلَّ هذا على أنَّ كلِمة “الأهل” كما تُضافُ إلى القرآن كما قال النبي ﷺ : ” أهلُ القرآن هم أهل الله وخاصّتُه ” ، أيضًا كلمة “الأهل” تُضافُ إلى الإنجيل : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ فِيهِ } وما أنزلهُ اللهُ في الإنجيل ماذا ؟ ذكرُ النبي محمد ﷺ .
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة : 47]
{فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومِن ثَمَّ ذُكِرَ الفِسقُ هُنا ثُمَّ قبلها الظُلم ثُمَّ قبلها الكُفُر.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قالَ بعضُ العُلماء باعتبار أنَّ الحديث السابق هو عن الكتاب، والكتاب من كفرَ بهِ يكونُ كُفرا، وذكر {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} باعتبار أنَّ هُناكَ إعتداءً على الغير فكان ظُلما، وذكر الفِسق هُنا باعتبار أنَّهُ هناك مواعظ من لم ينتفع بها فإنَّما يكونُ فاسقًا وليسَ من المُتَّقين، ومرَّ معنا تفصيلٌ لِمَن يُحكِّم القوانين الوضعية هل يكفُر بذلك أم لا ؟ عند قوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} سبحان الله لمَّا ذكرَ صفات الإنجيل {وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} وذكر قبلها صفات التوراة {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }ذكر هُنا ماذا ؟ صفات القرآن
قال هنا : “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ” يعني: القرآن.
وتأمَّل هُنا قال : “وَأَنزَلْنَا” أتى بالواو باعتبار أنَّها جُملة مُستَقِلَّة تدُلُ على ماذا ؟ تدُلُّ على أنَّهُ لمَّا قال {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } يدُلُّ على أنَّ عيسى من أنَّ بعدَهُ يكونُ هُناكَ نبي، ويكونُ هُناكَ كتاب، لكن هُنا لمَّا ذكر:”وَأَنزَلْنَا”بصيغةِ الواو باعتبار الإستقلال دلَّ على أنَّ هذا القرآن هو آخر كتاب أنزلهُ الله، وأنَّ محمدًا ﷺ هو خاتم الأنبياء.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي هذا القرآن أنزلهُ الله بالحق، مُشتملًا على الحق وحينما أُنزِل حال نزولِهِ أيضًا لم يعتريهِ شيءٌ من تدريسِ الجِنّ ومن مُسترِقي الجن.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا} هذا القُرآن “لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ” أي : مُصَدِّقًا لما بينَ يديه من الكُتُب. الكتاب هُنا : الكُتب السابقة من التوراة والإنجيل.
“وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ” بمعنى أنَّهُ رقيبٌ على الكُتُب السابقة فيُصدِّق ما فيها ويكونُ مُهيمنًا بمعنى: أنَّهُ حاكِمٌ عليها، بمعنى أنَّ ما حكمَ بِهِ القرآن مِمَّا جاءَ فيها فهوَ الحق، وما جعلَهُ باطلا يكونُ باطلًا، وأيضًا هو نَسَخ الكُتُب السابقة؛ لأنَّهُ لمَّا ذكرَ تِلكَ الأوصاف عنِ التوراة وعنِ الإنجيل يُظن أنَّ هذهِ التوراة وأنَّ هذهِ الإنجيل ولو لم تُحرَّف، لو وُجِدت توراة أو إنجيل لم تُحرَّفَ قد يُظن أنَّهُ يُحكم بِها فبيَّن هُنا أنَّهُ لا حُكمَ لأيِّ كتابٍ بعدَ القرآن أو معَ القرآن؛ لأنَّهُ هيمنَ على الكُتُب السابقة، وأنَّهُ لا دينَ صحيح إلا ما جاء بهِ النبي محمد ﷺ ، وتأمَّل هُنا قال : “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ”لم يقٌل القرآن مما يدُلُّ على أنَّ “الــ” هُنا الــ المعهودة، بمعنى أنَّهُ عُرِفَ أنَّ هذا الكتاب هو القرآن فكأنَّهُ هو الكتاب الذي لا يُمكِن أن يُحكَّمَ كتابٌ معهُ.
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} قالَ هُنا: “بما أنزلَ الله” مما يدُلُّ على ماذا ؟ مما يدل على أنَّكَ إذا حكمتَ لا تحكُم إلا بالذي أُنزِلَ إليك، ما الذي أُنزِلَ إليك ؟ القرآن، لكن {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} خصّصَّهُم باعتبار ما كانَ قبلَ النبي ﷺ ، فقالَ هُنا : {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }لأنَّ هؤلاء إنَّما قصدوا في قولهِ تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ } فإنَّما حكَّموك في قضيةِ الرجم أو في قضيةِ القتل إنَّما هو من أجل أن ينظروا إلى حُكمِك هل هو يوافق أهوائهم أو لا ؟ ولِذا قال : {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } والخِطاب وإن كانَ مٌوجهًا للنبي ﷺ فإنَّهُ حاشاه أن يتّبِع أهوائهم، وإنما المقصود أنَّ الحُكَّام وأنَّ القُضاة عليهم أن يتبِعوا الحق وأن لا يتّبِعوا أهواء من خاصمَ لهُ في قضية.
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ } كُل أُمَّة من الأُمم جعلَ اللهُ -عز وجلَّ- لها شِرعة ومِنهاجا، لكن من حيثُ الأصل، من حيثُ التوحيد فإنَّهم مُتفِقون ولِذا ماذا قال -عز وجل- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}الأنبياء
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ} النحل
لكن تختلف الأحكام من مِلَّةٍ إلى أُخرى؟ نعم؛ ولِذا قال : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }والفرقُ بينَ الشِرْعَة والمِنهَاج قِيلَ هُما : بمعنى واحد.
لكِنَّ الذي يظهَر ‘الشِرْعَة’ مأخوذة مِن: شريعةِ الماء وهو ظهور وبِداية الشيء، ولعلهُ وُصِفَ بهذا الوصف باعتبار أنَّ الماء كما أنَّهُ حياةٌ للأرض، أيضًا القرآن حياةٌ لِمَ ؟ حياةٌ للقلوب.
والمِنهَاج : هو الطريق المستقيم، فكأنَّ بهِ الأمر، والعلمُ عندَ الله، من أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بأن يبدأ وأن يلتزِمَ وأن يسيرَ على الدِّين، وأن يجعلَ هذا الدِّين مِنهاجًا مُستمِرًا لهُ حتَّى الممات.
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني على دين واحد، وعلى كتابٍ واحد، لكن -عز وجل- أرادَ بذلك ما أرادَ مِن الحِكمة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ}
” وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ” من بابِ الإبتلاء والإختبار ولهُ الحِكمةُ البالغة، ولهُ الحِكمةُ التَّامة.
فقال -عز وجل- بعدها : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ} هذا هو المُتَعَيِّن عليكم، أن تُبادِروا إلى الخيرات.
“فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ” ولم يقُل ’فاستبقوا إلى الخيرات’، باعتبار أنَّ الإستباق يتضمن المُبادرة.
” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ” أي : بادِروا الخيرات.
” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ” كما في قولهِ تعالى : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ }في قصةِ يُوسُف، يعني : ابتدرا البابَ.
” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ” ودلَّ هذا على ماذا ؟ على أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بأن يحرِصَ على ماذا ؟ على الخيرات وأن يتسابقَ وأن يتسارعَ إليها، وهذا دليل على أنَّ العُلماء يقولون : يُستحبُ أن تُفعَلَ الطاعة في أولِ وقتِها باعتبارِ هذهِ الآية، وكما مرَّ معنا فيما يتعلقُ بِالقِبْلة “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ” فقال هُنا : ” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ” قال: ” وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا” البقرة
هُنا ماذا قال ؟ ” فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” أي : يُنبِئكم ويُخبِرُكم بما حصلَ من اختلاف، ومِن ثَمَّ يدُلُ هذا الإنباء منهُ -عز وجل- على أنَّهُ سيُحاسِبُ كُلَّ إنسان بما عمِلَ.
ثُمَّ قال : ” وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ” سُبحانَ الله كرَّرَ ماذا ؟ كرّرَ الأمر في هذه الآيات وفي الآيات السَّابِقة بالأمر بماذا ؟ بأن يحكُمَ بما أنزلَ الله؛ لأنَّهُ لمَّا قال “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” ولمَّا ذكرَ ما يتعلَّق بأوصافِ التوراة، وبأوصافِ الإنجيل، قد يظُن ظان من أنَّ هُناكَ كِتابًا يُحكَّم مع القرآن، وأنَّ القرآن ليسَ لِكُلِّ المِلل. فقالَ هُنا : ” وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ” ومرَّ الحديثُ عنها.
“وَاحْذَرْهُمْ” مع ذلك هؤلاء أصحاب خِداع، وأصحاب تدليس.
“وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ” أي : يُضِلوكَ عن حُكمِ اللهِ -عز وجل- كما قالَ -عز وجل- كما مرَّ معنا في سورةِ النِّساء : “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ” ذكرنا أنَّ الإضلال : إضلالُ عِلمن وإضلالُ عمَل.
فهُنا: أرادوا أن يفتِنوا النبي ﷺ حتَّى لا يحكُمَ بِما أنزلَ الله، وهذا فتنة فيما يتعلَّق بماذا ؟
بالعِلم، وليسَ بالعمل.
{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
“وكرر تصريحًا ” مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ باعتبار أنَّ هذا القرآن مُنزَّلٌ غيرُ مخلوق، وأنَّهُ لا حُكمَ أبدًا إلا بهذا القُرآن، وليسَ بأيِّ كتابٍ آخر، ولِذلك النبي ﷺ كما ثبتَ عنهُ قال
( لَو أنَّ موسى حيًّا ما وسِعَهُ إلَّا اتِّباعي)
فقال هُنا : ” وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ ” حتَّى ولو بما قلَّ “عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ”
“فَإِن تَوَلَّوْا” فإن أعرضوا عن حُكمِ هذا القرآن.
“فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ”
“أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ”
فإنَّ لهم ذنوبًا عظيمة وكثيرة، لكنه -عز وجل- يُريدُ أن يُعاقبهم باعتبار ماذا؟ ما وقعوا فيه من الذنوب وليسَ ظُلمًا منهُ -عز وجل-.
“فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ” [المائدة : 49]
فيهِ تسلية للنبي ﷺ من أنَّ هُناكَ كثيرًا من الناس يفسُق، فلا تحزن على هؤلاء.
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ }
هذا إستفهام إنكاري وفيهِ تعجيب! عجب وإنكار أن يُحكَّمَ ماذا؟ حُكمَ الجاهلية! ؛ ولِذا قدَّمَ المفعول لأنه مفعولٌ به للفعل “يبغون”.
“أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ ” أي يطلِبون، وهُنا كما مرَّ معنا : الإستفهام إذا أتى بعدَهُ حرف عطف تكونُ هُناكَ جملة كما مرَّ معنا : {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } الآية [البقرة : 100] هُنا قال : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ } سبحان الله! هُناكَ جملة أبعدَ بيانِ فضائل هذا القرآن، وبيان حكم الله -عز وجل- يبغونَ حُكمَ الجاهلية؟ سبحان الله! ماهذا إلا ضلال وزيغ وغي.
“أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ” وأضافَ الحكم إلى الجاهلية باعتبار ماذا؟ باعتبار أنَّهُم أهلُ كتاب ومع ذلك سبحان الله! كيف انصرفوا فأرادوا حكم الجاهلية وأعرضوا عن حكم الله -عز وجل-.
“أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ” ودلَّ هذا على أنَّ من أعرضَ عن أحكام الشرع فإنَّهُ على خطرٍ عظيم حتَّى على التفصيل الذي ذكرناهُ فيما مضى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فإنَّهُ يكونُ على ماذا؟ على التفصيل السابق الذي ذكرناهُ هناك فإنَّهُ يكونُ على خطرٍ عظيم في جميع الأحوال.
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 50]
“وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ” الإستفهام هُنا للنفي الذي تضمَّن التحدي “وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ” الجواب: لا حُكمَ، ويتضمن التحدي: يتحدَّى أن يأتيَ شخصٌ بأنَّ هُناكَ حكمًا أحسن من حكم الله -عز وجل-.
“وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ” ودلَّ هذا على أنَّ كما سبق من أنَّه في قولهِ تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} كما بيَّنَّا ذلك مُفصلا من أنَّ من حكَّمَ القوانينَ الوضعية باعتبار أنها أحسن من القرآن أو أنها مثل القرآن في الحُسُن فإنَّهُ يكونُ كافرًا كُفرًا يُخرجه عن ملة الإسلام، ولابُدَّ لمن أرادَ التوسُعَ في هذه المسألة وهيَ ‘تحكيم القوانين الوضعية’ لا بُدَّ أن يعودَ إلى كلامِنَا كُلِّهِ الذي ذكرناه مفصلا عند قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة : 44]. سبحان الله! قال هنا : {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} اليقين هو : العلم التَّام المُستلزِم للعمل، قالَ: “يُوقِنُونَ” دلَّ هذا على أنَّ من حكَّمَ شرعَ الله -عز وجل- فإنَّهُ يكونُ من أئِمةِ الدِّين؛ ولِذا قال شيخُ الإسلام-رحمه الله- : (من أرادَ أن يكونَ إمامًا في الدين فعليهِ بالصبر، وعليهِ باليقين). قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة : 24] فأيُّ حاكمٍ من حُكام المسلمين حكَّمَ دين الله-عز وجل- وحكَّمَ شرعَ الله فيكونُ إمامًا في الدِّين لدلالةِ هذه الآية؛ ولأنَّهُ يستلزِم اليقين أن يكون صابرا لِمَ ؟ لأنَّهُ إذا حكَّمَ الدِّين فإنَّهُ سيُخالفُ الأهواء ولذلك ماذا قال تعالى في أول الآيات ؟
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }.