بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الرعد
من الآية 16 إلى الآية 32
(الدرس 143)
للشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله
قال تعالى :
{قلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}
قل يا محمد لهؤلاء من رب السموات والأرض؟ وهم يعرفون ذلك تمام المعرفة (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) ولذا قال له: قل لهم أجِب، لأن مثل هذا السؤال لا يمكن أن يُنكر.
(قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) فكيف تُتخذ! ولذلك قال مُبيناً أنهم اتخذوا، فكيف يتخذُ الإنسان إلهاً من نفسه وجعلوهم أولياء، وهؤلاء الأولياء لا يملكون لهم نفعاً ولا يدفعون عنهم ضُراً، ولذا كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) وكما قال عز وجل: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) ،(لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) قل يا محمد لهؤلاء: (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)، الجواب: لا، لا يستوي من هو أعمى ومن هو بصير النظر، (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ)، يعني: هل تستوي الظلمات مع النور الساطع؟ الجواب: لا، فكذلك كما لا يستوي الأعمى والبصير، لا يستوي المؤمنُ والكافر، و كما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي الكفر والإسلام.
وجمع الظلمات باعتبارِ ماذا؟ أنَّ الكفرَ ظلماتٌ بعضُها فوق بعض وبها الخسارة، والنورُ أفرَده لأنَّ ذلك طريقُ اللهِ عز وجل، ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ)، الجوابُ: لا، ولذلك لا يمكن أن يكونَ هناك من هو يخلقُ كخلق الله حتى يكونَ خَلْقُ هذا المخلوق كخلقِ الله، فيقع التشابه بين خَلْقِه وبين خَلْقِ الله، ولذا الجواب: لا، ولذا ماذا قال عز وجل؟ (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) إنكار (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ)، ولذا ماذا بعدها؟
(قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، كلُّ شيء، وليس فقط هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فالواحد الذي له القهر، ومن له القهرُ التام، هو الذي يستحقُّ ماذا؟ يستحق العبودية، لا هذه الأصنام ولا هؤلاء الأولياء، ولذا قال تعالى: (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }(17)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) هنا مثلان: مثلٌ للباطل ومثلٌ للحق (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، باختلاف تلك الأودية من حيثُ الِّصَغر ومن حيثُ الكِبَر، (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا)
(زَبَدًا رَابِيًا) يعني: مرتفعاً صاعداً، مما يدل على أن علوَّه علوٌّ عظيم على هذا السيل النافع.
(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنَّ الباطلَ وأهلَه، مهما عَلَو فإنهم بمثابة الزَّبَد الذي وإنِ انتفخ فإن مآله إلى الزوال، أما الذي ينفع فهو الذي يبقى، ومن ثَمَّ فإن على أهل الُّسنة أن يُوَطِّنُوا أنفسَهم على قِلَّة من يكونُ تابعا لهم أو من يسيرُ على طريقتِهم، ولا يلتفتوا إلى كثرةِ أهلِ الباطل، وما يحصُلُ منهم في أيِّ زمن، لمَ؟ لأنَّ العاقبة للمتقين، وهم بمثابةِ الزبد، والوقائع في مثل هذا الزمن شاهدناها واضحةً بينةً، وهذا يدل على أنَّ الحقَّ يعلو ولو طال الزمن.
فقال هنا: (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) هذا مثل مائي يتعلق بزبد الماء، وهذا مثلٌ مائيّ.
ثم ذكر المثل الناري، كما ذكر عز وجل مثَلَين المثل الناري والمائي فيما يتعلقُ بالمنافقين كما مر معنا (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)
فقال هنا: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ)، أي: مما يُوقدون ويُشعلون عليه النار {ابْتِغَاءَ} أي: طلب حلية، يعني: تلك المعادن التي تُوقَدُ في النار يطلبونها يوقدون عليها في النار إذا أوقدوا النار عليها من أجل أن يَتَحَّصلوا على الحُليّ من ذهب وغيره، أو يتحصلوا على أوانٍ يستفيدون منها وينتفعون منها، تلكم النار تُخرج الزبد، زبد ماذا؟ زَبَد هذه الحُلي وزبد هذه الأواني، هذا الزبد يخرج ويعلو، هذا المعدن النفيس، لكن زوالُه زوالٌ سريع.
قال هنا: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) مما يُتحلى به من ذهب وجواهر (أَوْ مَتَاعٍ)، أو متاع من أوانٍ ونحوها (زَبَدٌ مِثْلُهُ)، مِثْلُ زَبَد السيل فإنه وإن علا فإنه يزول (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ).
كذلك مِثلُ هذين المَثلين (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) مَثَل للحق والباطل (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي: مُتفرقاً ُمتشتتاً زائلاً، لا يزولُ فقط بل يتشتت، إذا بأهل الباطن ورأينا شيئاً من ذلك في هذا الزمن، رأينا أنَّ أهلَ الباطل لما كانوا مجتمعين تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ ولم يبقَ لهم من البقايا إلا ما قَل.
قال هنا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) كالسيل النافع في الأودية، وكذلك الحُلي والأواني (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
قال: (فَيَمْكُثُ) المكوث يدل على ماذا؟ على القوة وعلى التَمَكُّن ليس كالزبد الذي هو يطير ويتطاير ويتصاعد، ومن ثَمَّ فإنه لما قال: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) دل هذا على ماذا؟
على أنك يا عبدَ الله، عليك ماذا؟ عليك إذا تَعلمتَ فتعلم العلم الشرعي النافع الذي هو علم القرآن والسنة، بشرط أن تَفهم ذلك على ما فهمه سلف هذه الأمة حتى تنجو.
ولذلك هذه الآية: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) مثالٌ للقرآن فحالُ القرآن فيما يتعلق بقلوب الناس، قلوب الناس أودية منها الكبير ومنها الصغير، فيأتي هذا القرآن ويأتي هذا العلم النافع فكلٌ يتلقاه على حَسَبَ قلبِه، إن كان قلبُه واسعاً منشرحاً تَقبَّل أكثر وإن كان أقل فأقل، ولذلك تختلف القلوب فشُبهت القُلوب بالأودية، فكما أن الماءَ النازلَ من السماء غذاءٌ وحياةٌ للأرض، كذلك القرآن حياةٌ للقلوب ومن ثَمَّ الذي يبقى في قلبك وينفع ولو علا أهل الباطل (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو العلم الشرعي الصحيح (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (كَذَلِكَ) مثل ما ضرب المثلين (يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) الأمثال المتنوعة حتى يعتبرَ الناس وحتى يتعظوا لذا قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ).
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) الذين استجابوا لله بخلاف أولئك الذين أعرضوا، لهم الحسنى وهي: الجنة وهذا لمن؟ لأهل الحق، قال هنا: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى).
وأهل الباطل قال: (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ) في يوم القيامة (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) (لَافْتَدَوْا بِهِ) من هذا العذاب، لكن ماذا قال؟ (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) الحساب السيء لهم، وبعد الحساب السيء في يوم القيامة (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يعني: مثواهم جهنم (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) بئس الفراش (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) ما هو؟ جهنم (وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }(19)
يا محمد (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) ممن لا يعلمُ ذلك فهو أعمى البصيرة، ولذا ماذا قال قبلها؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) فإنهماً لا يستويان، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنَّ صاحبَ الحق الذي تَلَقَّى الحق فنفع اللهُ به كما مَرَّ في المثلين السابقين (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فإنه ينتفعُ بمَ؟ في هذا القرآن.
أما أهلُ الباطل فإنهم لا ينتفعون به فقال هنا: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) وتأمل هنا ما ذكره هنا وذكره في أول السورة: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) من هو؟ الذي هو أعمى كما في هذه الآية، قال تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) أي: يَتَّعِظُ (أُولُو الْأَلْبَابِ) أصحابُ العقول النافعة المستبصرة (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (20)
(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) ما صفاتهم؟ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) يوفون بما عَهِدَ اللهُ عز وجل لهم من العهود مما يتعلقُ بالإيمان بالله وبكتابه وبرسله (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) وعمم هنا، أي: ميثاق سواءٌ كان هذا الميثاق والعَهْد بينهم وبين الله مما فَرَضَه عليهم أو مما بينهم وبين المخلوقين، فقال هنا: (وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ).
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)}
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ) هنا صفة أخرى لهم (الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يصلون ماذا؟ (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) لا يُوصلون شيئاً لم يأمر الله عز وجل به كما يحصلُ من أهلِ البدعِ فيما بينَهم فإن هذا ليس على أمر الله، فهذا شأن أهل الباطل؛ لكن: هنا أهل الحق (يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)، من ماذا؟ من الإيمان بالرسل كلِّهم، وأيضاً مما يصلون القولَ بالعمل فليس قولاً بلا عمل، وأيضاً صلة الأرحام: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ومع ذلك كِّله (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يخشون اللهَ عز وجل والخشية تدل على التعظيم فهم يعظمون الله.
(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) ويخافون سوء الحساب كما قال عز وجل عن أولئك (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) وهم يخشون من أن يقعوا في مثلِ ما وقع فيه أولئك فتقرَّبوا إلى الله (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ).
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)}
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا): (صَبَرُوا) لأنَّ ما مضى من صفات تحتاجُ إلى صبر والصبرُ شامل: صبرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن معصيةِ الله، وصبرٌ على أقدارِ اللهِ المؤلمة.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي: طلباً لرضى الله، لأن بعضاً من الناس قد يصبِرُ تَجَلُّداً من أجل أن يُقال والله فلان صبور، أو حتى لا يُذم وما شابه ذلك، فإنَّ الصبر لا يكون مقبولاً ولا محموداً إلا إذا كان ابتغاء وجه الله (الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).
(وَجْهِ رَبِّهِمْ) وهنا إثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليق بجلاله وعظمته، ومرَّ معنا توضيح ذلك أكثر في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) أقاموا الصلاة بأركانها وبواجباتها وبشروطها، وأيضاً جمعوا مع الصلاة الإنفاق وهو بذل الخير للآخرين (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) أي: من بعض ما رزقناهم، فهذا رزقٌ من الله ليس منهم (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ).
( سِرًّا وَعَلَانِيَةً) قال سراً وعلانية، يعني أنهم يُنفقون سراً، أي: من حيث السر، وعلانية من حيث الظهور، فهم ينفقون سراً باعتبار المصلحة، وينفقون علانية باعتبار المصلحة، ولذا قال عز وجل كما مر معنا: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) وقَدَّمَ السِّرَ هنا باعتبار أن الأصلَ في الصدقة أن تكونَ في السر (سِرًّا وَعَلَانِيَةً )
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون بالحسنة السيئة، يكونُ معنى الآية من أنهم اذا فعلواً سيئة أعقبوها بحسنة كما قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم عند الترمذي كما ثبت عنه: (وأتبِعِ السيئةَ الحسنة تَمْحُها) وأيضاً (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) يعني: أنَّ من أساء إليهم فإنهم لا يُسيئون إليه بل يُحسنون إليه كما قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة العاقبة التي تكون لهم بعد هذه الدنيا (عُقْبَى الدَّارِ) تفسيرُها:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)}
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) جناتُ عدن جناتُ إقامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ومن صلح من آبائهم من الأصول ومن زوجاتهم ومن ذرياتهم من أبنائهم الفروع بشرط ماذا؟ بشرط الإصلاح، وذلك حتى لو كانت منزلةُ هؤلاء أقل فإنهم يُرفعون كما قال عز وجل (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ترتفعُ منزلتُهم إلى منزلةِ آبائهم في الجنة فقال هنا (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ) من باب التشريف لهم (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) يدخلون عليهم من كل باب من أبواب الجنة، ولذا قال هنا : (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ) دل هذا على ما ذكره شيخ الاسلام ومرت معنا هذه المسالة من أن صالحي بني آدمَ في الآخرة أحسن وأفضل من الملائكة، أما في الدنيا فالملائكةُ أفضل باعتبارِ أول الأمر، أما باعتبار النهاية فصالحو البشر أفضل ومر معنا ذلك فيما مضى.
{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)}
قال هنا: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) يُسَلِّمون عليهم، (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) لمَ؟ (بِمَا صَبَرْتُمْ) بسبب الصبر (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).
(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) مُدحت تلك الدار وهي دارُ الجنة، نسألُ اللهَ عز وجل أن نكون وإياكم من أهلها.
ولما ذكر عز وجل فيما مضى من أنَّ أهل الإيمان (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)، ذكر هنا أهلَ الباطل قال هنا:
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }(25)
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ)، (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ)، أي: لم يُوَفُّوا بعهد الله من بعد ميثاقه، بعدَ توثيقه وبعد عقدِه، والعزمِ على العملِ به (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)
(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ): والذي أمر الله به أن يوصل مر معنا الحديثُ عنه في الآيات السابقات (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) مع ذلك يفسدون في الأرض بينما أولئك الصالحون الذين وفوا بعهد الله ولم ينقضوا الميثاق ذكر لهم صفات الصلاح والإصلاح، فقال هنا: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)، ما عاقبة هؤلاء؟
(أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ)، أولئك لهم اللعنة وهي الطردُ والإبعادُ عن رحمةِ الله، ولم يقل عليهم أتى باللام أي بمعنى الاستحقاق يستحقون ذلك (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)؛ (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ): الدار السيئة، وهي النار، بخلاف الصالحين: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) وهؤلاء بيَّنَ عز وجل كما في سورة البقرة فقال: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) حكم عليهم (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فقال هنا: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (يَبْسُطُ): يعني يُوَسِّع الرزقَ عز وجل، (وَيَقْدِرُ): يعني يُضيِّق الرزق على من يشاء وليس معنى التضييق أنه يكونُ أقل من كفايته، لأنه لو كان أقلَّ من كفايته لمات وإنما يُقَتِّرُ عليه.
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) فَكَونُ هؤلاءِ الكفار الذين نقضوا الميثاق وُسِّعَ عليهم في الدنيا لا يدل على أنَّ اللهَ عز وجل يُحبهم ولا يدل على أنه عز وجل لما يُضَيِّق على المؤمن من أنه يكرهه! كلا، ولذا قال عز وجل: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا) ليس الأمر كما تزعمون وكما تتوهمون، ولذلك ماذا قال بعدها؟ (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)، كما قال تعالى: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) ) ومر معنا ما يتعلق بالفرح المذموم، وبالفرح المحمود، كما في قوله تعالى (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)، فقال هنا:
(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) فهي بمثابة المتاع، وِقس حالك وحالي كم لنا من سنة في هذه الدنيا كأنها متاع مُتِّعنا فيما ما مُتِّعنا فيه، مَرَّ علينا ما مر علينا من أحزانٍ أو من سرورٍ وما شابه ذلك هي متاع، ولذلك لو تمتع الإنسانُ حياتَه كلها في هذه الدنيا فهي عند الآخرة لا شيء، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت عنه:
“ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ أحدُكُم أُصبُعه في اليم” -يعني: في البحر- “فلينظر بمَ يرجع؟” اغمس في البحر ثم ارفَع اصبعك كم تأخذ من ماء البحر؟ فدل هذا على أن الدنيا زائلة، ولذا ثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناحَ بَعوضة ما سقى منها كافراً شَربة ماء”، ليس بعوضة “جناح بعوضة” (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) مرت معنا في أولِ السورة وهذا من باب التأكيد على ما كانوا يطلبونه بصيغةِ الفعل المضارع فقال عز وجل: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) يعني وجود الآيات والمقترحات التي اقترحتموها لو أتت لن تؤمنوا، لمَ؟
لأن الإضلالَ بيد الله، والهداية بيد الله (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) كحالِكم لأنكم لم تُقبلوا على الله، ولذلك قال بعدها: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)
يعني من أناب ورجع إلى الله وأقبل على الله فاللهُ يهديه، فمن تَعَرَّضَ لهدايةِ الله هداهُ اللهُ عز وجل (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
(الَّذِينَ آَمَنُوا) هذا بدل، يعني من هم الذين أنابوا؟ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)، (بِذِكْرِ اللَّهِ) جميعُ ذكرِ الله وأعظم ذلك القرآن، لأن السياق سياق الآيات في السورة يتعلق بالقرآن (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) يعني حينما يأتي الوعد والترغيب تطمئن قلوبُهم، ومر معنا في سورة الأنفال الجَمْع بينها وبين قولِه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) تَوْجَل قلوبُهم إذا كان في مقام الوعيد والترهيب.
(الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) دلَّ هذا على أنه لا طمأنينةَ لقلب العبد أبداً لو مُتِّع في هذه الدنيا ما مُتِّع كحالِ أولئك (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لا سعادةَ ولا راحة ولا طمأنينة لهذا القلب إلا بذكر الله (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) (أَلَا) تنبيه من بابِ التأكيد (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ) كرر (ذِكْرِ اللَّهِ) وكرر (تَطْمَئِنُّ) من بابِ التأكيد (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}
(الَّذِينَ آَمَنُوا) هذا استئناف (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) ورد في الحديثِ الصحيح اسم شجرة في الجنة وقال بعضُ المفسرين يعني: من أنه خير وقُرَّةُ عين ولا تعارضَ بينهما، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم شجرة في الجنة اسمها طوبى، وأيضاً تطيبُ حياتُهم وتَقَر أعيُنُهم بذلك، ولذلك قال هنا: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) حُسن مَرجِع، ينقلبون في الآخرة إلى أحسنِ ما يكون من المَرْجِع.
{كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }(30)
(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ) أي: مثل ما أرسلنا الأنبياء السابقين أرسلناك يا محمد لقريش فلا عَجَب، فلا أحد يقول هذا الأمر، ولذا قال عز وجل: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) (فِي أُمَّةٍ) يعني في قريش (قَدْ خَلَتْ) أي: مضت (مِنْ قَبْلِهَا) أي: من قبل قريش (أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يعني وظيفتُك أن تتلوَ عليهم ما أوحينا إليك (لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك لكن هؤلاء (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) ولذلك قال عز وجل عن هؤلاء، كما في سورةِ الفرقان: (قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا)
(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) الرحمن الذي رحمتُه وسعت كلَّ شيء، وما هم فيه من هذه المُتَع في الدنيا إنما هي من رحمتِه عز وجل، وهذا من باب التعجب من حال هؤلاء (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ).
(قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)
قل يا محمد لهؤلاء: (هُوَ رَبِّي) كما هو ربكم لا إله إلا هو، أي: لا معبودَ بحقٍ إلا هو، لأنهم يقرون بأن الله هو الرب لكنهم لا يعبدونه وإنما يشركون معه غيرَهُ، ولذا قال: (قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يعني: وحدَه (وَإِلَيْهِ مَتَابِ) إليه توبتي من حيثُ قَبولها، وأيضاً مَرجعي في يوم القيامة (وَإِلَيْهِ مَتَابِ)، وتأمل قال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) مما يدل على ماذا؟ كما قررنا ذلك وكررناه من أنَّ العبدَ يتوكلُ على اللهِ عز وجل في أموره كلها ومن أعظم ما يتوكل به العبدُ على الله أن يتوكل على الله فيما يتعلقُ بدينِه ولذلك قال (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ).
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا): هؤلاء كفار قريش طلبوا من الآياتِ التي اقترحوها من أنَّ جبال مكة تُسيَّر تُزال عن مكة، وأيضاً تُقطَّع لهم الأرض بحيث تكون أنهاراً وتُسيَّر الجبال وأن تُكلمهم الموتى، فقال عز وجل لهؤلاء: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) سُيَّرت به الجبال عن أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) بحيث تُقطَّع الأرض أنهاراً وعيوناً (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) الجواب جواب لو: محذوف، لكان هذا القرآن ثم لما آمنتم، لمَ؟ لأنكم ما تريدون الإيمان ولذلك قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) فقال هنا: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا) يعني لو أنَّ كتاباً يُقرَأ لأن الكتب السابقة لأنها مقروءة يصح أن يُطلق عليها قرآن، يعني لو كان هناك كتاب يُقرأ وبهذا القرآن الذي يُقرأ تُسير الجبال وتُقطَّع الأرض وتكلمكم الموتى لكان الأَولى بذلك هو هذا القرآن ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أنَّ النبي ﷺ قال: “خُففت القراءةُ على داوود فكان يقرأُ القران” -بهذا النص- “فكان يقرأُ القرآن قبل أن تُسرجَ لهُ دابَّتُه”، يقرآ القرآن يعني: الزَّبُور، فقال هنا: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) لكان هذا القرآن، ثم مع هذا لما آمنتم لأنكم ما أردتم الإيمان وإنما أردتم العناد والكفر.
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) الأمر كُّله لله جميعاً ولذلك ماذا قال في اول السورة؟ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) يهدي من يشاء ويُضل من يشاء (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا).
(أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) يعني ألا يحصُل يأسٌ من أهلِ الإيمان في شأنِ هؤلاء من أنَّهم لن يُؤمنوا لأنَّ اللهَ عز وجل لو شاءَ أن يَؤمنَ الناسُ كلهم لآمنوا، هذا قول بناءً على أنَّ التيئيس على ظاهره.
وقال بعضُ العلماء -ولا مانع من دخول هذا أيضاً- (أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا) يعني: ألم يعلم الذين امنوا لأنَّ من يئس من شيء فقد عَلِمَه (أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) لمَ؟
لأن المؤمنين يقولون للنبي ﷺ اسأل ربك أن يُنزلَ آية حتى يؤمنوا، فمن باب الرحمة لهؤلاء قالوا لِتسأل ربَّك، فقال عز وجل: (أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا).
(بِمَا صَنَعُوا): بسبب ما صنعوا من الكفر {قَارِعَةٌ} نوع من أنواع العذاب تقرعهم بشدتها كما وُصِفَت القيامة بأنها القارعة.
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ) أي: تلك القارعة (قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ)، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ) وقيل: (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) يعني: أنتَ يا محمد -ولا تعارضَ بين القولين- فقال هنا: (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي: بعذابه عز وجل الذي وعدَهُ لهم (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) وَعدُ الله عز وجل لا يخلفه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) وفي هذا يحملُ التهديد لهؤلاء من أنَّ الأمرَ لو طال بهم في هذه الدنيا فإن مَرَدَّهم إلى عذابِ الله عز وجل.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (32)
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يعني: ما صنعوه هذا فيما مضى استهزاء، فَلْتَعلَم أنَّ الأمم السابقة قد استهزأت بالأنبياء السابقين، تسلية للنبي ﷺ.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ما الذي جرى لهم؟ (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (فَأَمْلَيْتُ) يعني: أعطيتهم إملاءً وزمناً من الوقت حتى استدرجَهم فيؤخَذُ على حَينِ غِرَّة (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) أيُّ عقابٍ نَزَلَ بالأمم السابقة؟
أملى اللهُ لهم وجَعلَهم في هذه الدنيا واستدرجهم ثم أخذهم العذاب (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)، الجواب: عقابٌ شديد في محلِّه وواقِعٌ مَوْقِعَهُ.