بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النحل
من الآية (93) إلى (110)
فضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه وسلَم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد
فكنا قد توقفنا عند قول الله تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (93)
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ هذه الآية كالآية التي في سورة هود ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: يعني على دينٍ واحد ولكن لحكمته عز وجل جعل هناك من هو ضال ومن هو مهتدي وكل ذلك بحكمته وبعدله. فقال عز وجل بعد ذلك: ﴿وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وهذا دليلٌ على ماذا؟
دليلٌ على أن الإضلالَ والهداية بيد الله عز وجل وفي هذا ردٌ على القدرية.
﴿وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وهذا كقوله: ﴿تعالى فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ فدل هذا على أن الخلق سيُسألون أمام الله عز وجل يومَ القيامة.
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (94)
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ هذه الآية لما ذكر عز وجل فيما مضى لما ذكر من التحذير في نقْضِ العهود المؤكدة بالأَيمان، بَيَّنَ هنا من أنَّ الأيمانَ لا يجوزُ على وجه الإطلاق –لا في عهدٍ ولا في غيرِه– لا يجوز أن تُتخذَ وسيلةً للفساد وخِداعِ الناس قال تعالى ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾، ﴿ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ يعني إفسادا وخديعةً فيما بينكم لتتوصلوا إلى ما تتوصلوا إليه من رغباتكم في هذه الدنيا دون أن تُعظموا اسمَ الله عز وجل الذي ذكرتموه في أيمانكم ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ ما العاقبة؟
﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾، ﴿فَتَزِلَّ﴾ يعني فتسقُط ﴿قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ وهذا يدل على ماذا
يدل على أن هؤلاء إذا فعلوا هذا الفعلَ فإنهم قد ضلوا عن الصراط المستقيم بعد أن هداهم الله عز وجل.
﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ وما أسوأ حالَ من ضلَّ وانحرف عن الصراط المستقيم بعد إذ هداه الله عز وجل، ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ وذِكْر القدم هنا من باب ماذا؟ من باب أن الإنسان إنما يقومُ على قدميه فهي محل الاستقرار فإذا زَلَّت القدم ماذا يحصل للإنسان؟ يحصُلُ له الهلاك.
﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ أي الحالةَ السيئة مما يسوؤكم.
﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ﴾ أي: بسبب صدودكم عن سبيل الله ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: عن طريق الله ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وتوعدهم بهذا العذاب العظيم في يوم القيامة وقال عز وجل ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما كليهما.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (95)
وقال عز وجل بعد ذلك ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ تلك الآيات التي تحدثت عن أولئك الذين ينقضون عهد الله عز وجل مع قومٍ إذا عاهدوهم فرأوا أنَّ هناك من هو أكثرُ منهم قوةً ومالاً، فإنهم ينقُضون عهدهم ويتعاهدون مع تلكمُ الطائفة الأخرى وكلُّ ذلك طلباً للدنيا.
وقال عز وجل ذلك: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وأيضاً هو شامل لكل عهدٍ مما يكون بين العبدِ وبين ربه عز وجل فلا يُضيّع دين الله عز وجل ولا يحرِّف دين الله من أجل أن يحصلَ على هذه الدنيا، وكذلك لا ينقض العهود التي بينه وبين المخلوقين حتى يحصلَ على رغباته في الدنيا فقال تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ والدنيا كلُّها ثمنٌ قليل.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الأجر والمثوبة، وأيضا من أنه سيرزقكم في هذه الدنيا ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في الدنيا وفي الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إن كنتم تعلمون ذلك فعليكم أن توفوا بالعهود.
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(96)
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾ يعني يزول ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ فإنه باقٍ، وثوابُ الله عز وجل في الآخرة باقٍ لا يزول ولا يحول ولذا قال عز وجل هنا: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾ لما ذكَر النفاد فيما يتعلق بالمخلوقين ذكر ذلك بصيغة الفعل المضارع مما يدل على ماذا؟
على استمرار نفادِ ما لديهم، ولمَّا ذكر ما يتعلق بالبقاء مما عند الله عز وجل ذكره باسم الفاعل مما يدل على ثبوته واستمراره.
فقال عز وجل: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله، وصبروا على أقدار الله المؤلمة ومن ذلك ما يكونُ من عهودٍ أكَّدُوها، فقال عز وجل هنا:
﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ﴾ ثوابَهم ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: بأحسن مما عملوا فكما قال عز وجل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ وكما قال تعالى عن ثواب الصابرين: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (97)
فقال عز وجل بعد ذلك: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ﴾ قال: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ﴾ مع أنَّ كلمة ﴿مَنْ﴾ تدل على الذكورية والأُنُوثيَّة ودلَّ هذا على أنه من باب التأكيد من أنه من يعملُ عملاً صالحاً من الإناث أو من الذكور فإن أجرَه يكونُ تاماً.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وقيَّد ذلك بالإيمان لأن العمل لا يكونُ صالحاً مقبولاً إلا إذا كان على عقيدةٍ صحيحة، أما إذا لم يكن على عقيدةٍ صحيحة فكما قال تعالى:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾.
ثم قال بعد ذلك: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ وهي الحياةُ الطيبةُ التي يرتاحُ فيها من جميعِ الوجوه، فحياتُه طيبة ويدخل في ذلك كل ما تطيبُ به الحياة ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ وهذا يدل على ماذا؟
يدل على أنَّ ثوابَ الله عز وجل للعبد الصالح سيحصُلُ عليه في هذه الدنيا ومن ثَمَّ فإنه إن كان غنياً فإنه في حياةٍ طيبة، وإن كان فقيرا فإنَّ اللهَ عز وجل يرزقُهُ القناعة، ولذا فسّرَ بعضُ المفسرين من أنَّ الحياةَ الطيبة هي: القناعة، ولكنَّ الصحيح: من أنَّ الحياةَ الطيبة هي كلُّ حياةٍ تطيبُ بها حياة العبد فقال عز وجل: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾.
وأما من أعرض عن ذلك فكما قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ فقال عز وجل: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وذلك في الآخرة،
وأما من فسَّر الحياة الطيبة بأنها هي الجنة فلا شك أن الجنة هي حياةٌ طيبة لكن لما ذكر قولَه تعالى ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ دل ذلك على أن الحياةَ الطيبة هي في الدنيا وأما هذا الجزاء فإنه يكونُ في الآخرة.
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)﴾
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ﴾ هنا فعلٌ مقدَّر دل عليه السياق، ودل عليه فعل النبي ﷺ وهو ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ﴾ يعني فإذا أردت أن تقرأ كما قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فدل هذا على ماذا؟
دل هذا على أن العبد مأمور بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم عند قراءته للقرآن خلافاً لمن قال إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لظاهر هذه الآية، لكن الصحيح من حاله ﷺ:
أنه كان يقرأ الاستعاذة قبل قراءته للقرآن.
وهل هذه الاستعاذة للوجوب أم أنها للاستحباب؟
قولان لأهل العلم والصواب أنها للاستحباب، فالنبي ﷺ كما عند مسلم لمّا نزلت عليه سورة: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ) ولم يقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فخليقٌ بالمسلم ألا يدعَ الاستعاذة.
﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾،﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: اعتصم بالله عز وجل من الشيطان الرجيم وهو: المرجوم والمُبعد عن رحمة الله عز وجل، ومر معنا ما يتعلق بالشيطان وما يتعلقُ بمعنى الرجيم في أولِ ذِكرنا للاستعاذة.
﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ﴾ يعني: الشيطان ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾ أي تسلط وحجة ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ دل هذا على أن الشيطان بعيدٌ عن أهلِ الإيمان وعن أصحابِ التوكل، فمن جمع الإيمان والتوكل على الله عز وجل فإن الشيطان لا يتسلطُ عليه وذلك بتوفيقٍ منه عزوجل: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ولذا كما قال عز وجل في سورة الحجر كما مر معنا قال عز وجل: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ دل هذا على أن المُخلَص الذي خلَّصَه الله عز وجل لأنه أخلصَ العبادة لله هم أصحابُ الإيمان وهم أصحابُ التوكل.
فقال عز وجل: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ﴾ أي: إنما تسلطه وحجته ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يتولون الشيطان كما قال عز وجل: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يطيعون هؤلاء الشياطين وقد قال عز وجل كما مر معنا في سورة الأعراف: ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ قال يتولونه مما يدل على أنهم مستمرون في متابعة الشيطان ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾ يعني الشيطان ﴿مُشْرِكُونَ﴾ أي مشركون مع الله عز وجل، ويصح كما قيل ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾ يعني: بالله هم مشركون فدل هذا على ماذا؟ دل هذا على أن نجاة العبد إنما تكونُ بعد توفيق الله عز وجل تكون بالتوحيد.
ولذا مر معنا في سورة إبراهيم لما تبرأ الشيطانُ منهم فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ بمعنى أنهم تولوه كما في هذه الآية:
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)﴾
{بَدَّلْنَا} يعني: غيرنا ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ بمعنى أنَّ اللهَ عز وجل إذا نَسَخَ آية لحكمةٍ أرادها فإن هؤلاء يقولون إنما افتراه محمد وأتى به محمد فيُغيرُ القرآن.
وقد مرَّ معنا ما يتعلق بالنسخ في سورة البقرة عند قوله:
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ وقد مر ذلك معنا ُمفصلاً.
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ والله عز وجل عالمٌ بما ينزلهُ عز وجل، ولذا كما مر معنا في قوله عز وجل: ﴿ لَٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾.
وقولُه تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ يعني آية قرآنية بآية قرآنية،
وقد قال بعضُ المفسرين: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً﴾ بمعنى: مما اقترحوه من الآيات كعصا موسى ونحو ذلك مما اقترحوه على النبي ﷺ وبدَّلنا ذلك بمعنى أننا لم نأتي بها وإنما أتاهم هذا القرآن قالوا هذا القول،
ولعل هذا يدل له قوله عز وجل :
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
لكنَّ الأظهرَ من حيثُ السياق من أن التبديلَ بآية مكان آية هي :الآيات القرآنية.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ من أنه عز وجل نزَّلَه، ونَزَّلَهُ عليك يا محمد، لكن ما حال هؤلاء؟ لما قال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ يعني يا محمد إنما أنت مفتري، تفتري وتأتي بأعظم الكذب فتقول إن هذا القرآن من عند الله وإنما هو من عندك تبدله حيثما تشاء فقال عز وجل عن هؤلاء: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾.
فقال عز وجل: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون أنه منزل من عند الله عز وجل، {قُلْ} يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ وهو جبريل عليه السلام ومر معنا ما يتعلقُ بروح القدس مفصلاً في سورة البقرة: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾.
دلَّ هذا على ماذا؟ على أنَّ الإنزالَ مِن ربِّ العالمين.
وَلْتَعلَم أنَّ كلمةَ (الإنزال) تأتي مُطلقة وتأتي مقيدة،
فتأتي مطلقة: كقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ وكما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ فتكون مطلقة
وقد مر معنا ما يتعلق بذلك موضَحا مما يتعلق بنزول الأنعام وبنزول الحديد وبنزول اللباس عند قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ فنزولُ اللباس مما يكونُ على ظهور بهيمة الأنعام مما يكون عليها من الصوف وما شابه ذلك مما يلبَسه الناس.
ونزول الأنعام وذلك بأنَّ الذكور تعلوا الإناث فيما يتعلق بالجماع فتكونُ الذكور عالية، ومن ثَمّ ينزل المنيّ إلى هذه الإناث فيخلق الله عز وجل من ذلك ما يقدره عز وجل،
وأما إنزال الحديد فيكون من أعلى الجبال وهذا يسمى إنزالاً، وقد مر معنا ذلك مفصلا عند آية سورة الأعراف: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾.
وأما إذا وردت مقيدة فتكون على ما قُيِّدَت فقال عز وجل: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ دلَّ هذا على أنَّ المطر ينزل من ماذا؟ ينزل من السحاب. إذاً قوله عز وجل لما قال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ دل هذا على أنَّ القرآنَ مقيدٌ تنزيله من عند رب العالمين، فدل هذا على أنه ليس لمخلوق وإنما هو كلامُ رب العالمين عز وجل.
وهنا يُرَدُّ بمثل هذا الكلام على تلك الطوائف التي قالت إنه ليس من كلام الله وإنما هو مخلوق أو من كلام المخلوقين أو حكاية عن كلام الله أو عبارة عن كلام الله! فهنا تنصيص:
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ لم؟
﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ دل هذا على أنَّ القرآنَ عظيم له ثمراتٌ عظيمة من ذلك:
التثبيت، فمن قرأَهُ وتمعَّنَهُ وتدبَّرَهُ وتأمَّلَهُ وحرِصَ على أن يعملَ بما فيه فإنَّ اللهَ عز وجل يُثَبِّتُهُ في هذه الحياة ويثبته عند الممات ويثبته في القبر ويثبته في الآخرة.
قال عز وجل: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
﴿وهُدًى﴾ من الضلالة ﴿وَبُشْرَىٰ﴾ لهم بالخير ﴿وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وقال هنا للمسلمين، ومر معنا في نفس هذه السورة قال عز وجل: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وبَيَّنا ما يتعلقُ بهذه الآية وبقوله تعالى في نفس السورة:
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
بَيَّنا ما يتعلق بختامِ هذه الآية بالإيمان وتلك بالإسلام،
ومر معنا في سورة إبراهيم في أواخرها:
﴿هَٰذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
فهذه ثمرات من قرأ القرآن وتدبره وعَمِلَ بما فيه.
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (103)
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ﴾ هؤلاء كفار قريش يقولون إنما محمد أتى بهذا القرآن لأنه كان يتعلمُ عند رجلٍ أعجمي كان يجلسُ عند البيت الحرام ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ فقال عز وجل: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ أي: لغة {الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} يعني: يميلون إليه ويقولون إنه من عنده ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ هو أعجمي وهذا القرآن عربي فكيف يُعَلم هذا الأعجمي النبيَّ ﷺ فيكون القرآن كما زعموا مُختَلَقاً. فقال عز وجل: ﴿وَهَٰذَا لِسَانٌ﴾ أي: بلغة بلغة عربي مبين واضح، وهم يعلمون ذلك ولذا قال عز وجل ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ ، ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾: يستنكرون ذلك فدل هذا على أنَّ قولَهم هو البهتان فقال عز وجل ﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ دل هذا على أنَّ هداية الله عز وجل لا يُوَفق إليها من لا يؤمن بآيات الله، ومن آيات الله عز وجل هذا القرآن فهو آياتُ الله الشرعية،
كما أن من لم يؤمن بآياته الكونية من شمس وقمر وما شابه ذلك فإنه يكون مُنْكِراً لها:
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لا يُوَفَّقون للهداية وذلك بسبب إعراضهم. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذابٌ مؤلم توعدهم الله عز وجل بهذا العذاب جزاءَ ما فعلوه من ذلك الفعل الأثيم.
﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ لأنهم قالوا للنبي ﷺ كما مر ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ فرد اللهُ عز وجل عليهم فبيَّن أنهم هم الذين يفترون الكذب ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فهم يفترون على اللهِ الكذب بتلك الأقوال ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ لما ذكر عز وجل عن هؤلاء من أنهم اتهموا النبي ﷺ فقالوا ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ هنا رد عليهم ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ وهؤلاء قد افتروا على اللهِ الكذب وقالوا في هذا القرآن قولاً عظيماً ﴿ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ وأشار إليهم بأنهم هم الكاذبون الذين من صفتهم الكذب واستغرقوا وانغرقوا في الكذب ولذا قال: ﴿وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (106)
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾
فبيَّن هنا أن من كفر بالله عز وجل فله غضبٌ من الله وله عذاب شديد
ويُستثنى من ذلك: من كان مكرهاً وقد اطمأنَّ قلبُه بالإيمان فقال عز وجل:
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ ثم استثنى ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ أُكرِهَ على قول الكفر أو على فعل الكفر وهو مطمئن بالإيمان ﴿قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ الجواب:
﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بدلالة ما بعد ذلك لأنه قال عز وجل:
﴿وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ ، ﴿مَنْ شَرَحَ﴾ دل هذا على أن الصدور تنشرح للكفر – نسأل الله السلامة والعافية – بخلاف أهل الإيمان كما قال تعالى:
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾.
فقال هنا ﴿وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ﴾:
إثبات صفة الغضب لله بما يليق بجلاله وبعظمته.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لهم عذاب عظيم من حيث قدره ومن حيث نوعه ومن حيث كميته.
ومن ثَمّ فإن العبد إذا أكره على قول الكفر أو على فعل الكفر ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ يعني أن قلبه مطمئن بالإيمان لكنه جارى هؤلاء، جارَى هؤلاء حالَ الإكراه، أما إذا كان خائفاً فقط فلا يجوز،
ولذا مر معنا في قوله تعالى في سورة آل عمران إذ قال عز وجل:
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ لكنَّ الكلام هنا من أنه يُكرَهُ على الكفر فدل هذا على:
أن من كفر مستهزئاً أو هازلاً أو راغباً أو خائفاً فإنه لا يكونُ معذورا إنما المعذور فقط من أكره على أنه يُقتل مثلا فإنه حينَها له أن يقول كلمة الكفر وله أن يفعل الكفر ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾
ولذا جاء الأثر كما ذكر الشُرَّاح وكما ذكر العلماء في السِيَر:
من أن عمار بن ياسر كانوا يؤذونه فكانوا يكرهونه على كلمة الكفر فقالها فأتى إلى النبي ﷺ فقال: “إن عادوا فَعُد” فدل هذا على ماذا؟
على أنه أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ومن ثَمّ فإن له أن يفعلَ هذا الكفر وهذا القول بهذا الشرط بأن يكونَ قلبه مطمئناً بالإيمان.
من ثَمّ فإنه لو أنه مثلاً لم يرضَ بذلك وقال لو أقتل فإني لن أقولَ كلمة الكفر فله ذلك،
ولذا بلال رضي الله عنه كان يُعَذَب وكان يقول: “أحد أحد”، فدل هذا على ماذا؟
على أنه لم يقل شيئاً من كلمة الكفر.
ومن ثَمّ لو قال قائل: ما هو الأفضل؟ هل الأفضل أن يصبرَ على القتل أو أنه لا يصبرُ على القتل وإنما بقاؤه به خير؟
الذي يظهر من أن الإسلامَ جعل له سَعَةً في ذلك فيقول كلمة الكفر ويفعل فِعلَةَ الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وذلك لأن الإسلام عَذَرَه، ولأن النبي ﷺ كما ثبت عنه قال “ولا يزيُد المؤمنَ عمُره إلا خيرا” وقال ﷺ كما عند الترمذي: “خيركم من طال عمُره وحَسُن عمله”.
لكن لِيُعلَم: لو أنه أكره على الكفر وسيترتبُ على ذلك مضار على الأمة الإسلامية فيجب عليه أن يصبر حتى لا يضيعَ دينُ الله كما قال ذلك الغلام الذي كان يتعلمُ من الساحر ويتعلمُ من العابد فقال للملك بعدما أراد أن يقتله عدةَ مرات بأن يُرمى من الجبل وما شابه ذلك، كما في صحيح مسلم قال: “اجمع الناس وقل بسم الله ربِّ هذا الغلام” فلما قال هذا القول إذا بأولئك الجمع يُسلمون،
فهذا يدل على أنه يجبُ عليه أن يصبر، وكما صبر الإمامُ أحمد رحمه الله في فتنة خلْق القرآن لأنه لما رأى أن الناس اشتهر فيهم هذا الأمر وخشِيَ على أن يقال إن القرآن مخلوق هنا صبر رحمه الله فهذا هو ما يتعلقُ بهذه المسألة.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (107) قال عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ يعني من يكفُر وقد انشرح صدرُه بالكفر ذلك ما فعلوه إلا بسبب أنهم {اسْتَحَبُّوا} يعني أحبوا، وأتى بالسين والتاء الزائدة للتأكيد بمعنى أنهم قد أحبوا الدنيا حباً عظيما ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ أرادوا الدنيا ولم يُريدوا الآخرة.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ وذلك لأنهم أرادوا الكفر وانشرحت صدورُهم به.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)﴾
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِم﴾ والطبع هو: الختم، وقد مر معنا في تفسير قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾ فالطبع هو أن يُطبعَ على شيء بحيث لا يخرج منه شيء وبحيث لا يدخل إليه شيء.
﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ ودلت هذه الآية بخلاف الآيةِ التي في سورة البقرة، في سورة البقرة: الختم على القلوب والسمع، والغشاوة على الأبصار:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾
لكن هنا: بيَّن أيضاً من أن البصر أيضاً يُطبعُ عليه.
﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فإذاً:
﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾ فلا يستقبلون الخير ولا ينتفعون منه
﴿وَسَمْعِهِمْ﴾ بمعنى أنهم لا يسمعون ما ينتفعون به، وأيضاً لا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وأيضاً طُبِعَ على الأبصار وذلك لأنهم لا يرون الحق لما في قلوبهم من كُره الحق. ثم ختم الآيةَ بقوله ﴿وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ المُعرضون الساهون عن دين الله عز وجل،
ولا شك أن من طُبِعَ على قلبِه وعلى سمعه وعلى بصره لا شك أنه من الغافلين الذين استغرقوا في الغفلة أعظم ما يكون فيها
﴿ لَا جَرَمَ﴾ يعني ثبت وحق أن هؤلاء سيكونون هم الخاسرين يوم القيامة ﴿ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ كما قال تعالى: ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة﴾
خسروا أنفسهم بأن عرَّضُوها للعذاب، وخسروا أهليهم إذا كان أهلهم قد دخلوا الجنة.
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (110)
﴿ثم إن ربك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا﴾ قال الله عز وجل هنا مُبيناً ماذا؟ مُبينا حالَ الذين هاجروا، وقد مر معنا في نفس السورة قولُه عز وجل:
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾.
قال هنا: ﴿ثم إن ربك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا﴾
﴿مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ أي اختُبِروا فيما يتعلقُ بدينهم كحال الضعفاء في مكة كحالِ عمار وبلال وما شابه أولئك ﴿مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ بمعنى أنهم بعد الهجرة وبعد تلك الفتنة هاجروا جاهدوا في سبيل الله ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا﴾
{وَصَبَرُوا﴾ دل هذا على أن العبد يحصل على ما يريد بإذن الله عن طريق الصبر.
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي من بعد تلك الصفات مما يقع من هؤلاء فإن الله عز وجل يغفر لهم ويرحمُهم مما يكون من نقْصٍ فيما أتوا به من عبادات ويرحمهم عز وجل
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.