التفسير المختصر الشامل (162) تفسير سورة الإسراء من الآية (89) إلى ( آخر السورة )

التفسير المختصر الشامل (162) تفسير سورة الإسراء من الآية (89) إلى ( آخر السورة )

مشاهدات: 638

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الإسراء

من آية (89) إلى آخر السورة (111)

الدرس (162)

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

قوله تعالى :

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)

صرفنا ونوعنا وبينا من حيث الأحكام ومن حيث الترغيب ومن حيث الترهيب ومن حيث القَصص ومن حيث الأمثال.

(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) والمثل المقصودُ من ذلك أن كل حكم وكل قصة وكل موعظة وكل ما في هذا القرآن من أي شيء من الأشياء، هو بمثابة المَثل الذي يجب أن يعتبرُ به.

لكن للأسف (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) امتنعوا فصار أكثر الناس كفرةً بهذا القرآن وكفرةً بالله (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) بل إنهم اقترحوا المقترحات والتعنتات على النبي .

 

﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَك حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)

لأنهم أرادوا في مكة حيث الجبال أن يكونوا منها نهرُ ينبع بمعنى أنه يكون ظاهراً نابعاً عظيماً وكذلك أرادو أن تُزاح عنهم هذه الجبال حتى يزرعوا كغيرهم، فقال الله عز وجل عن هؤلاء (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ) يا محمد (حَتَّى تَفْجُرَ) يدل على أن هذا الينبوع من أنه يكون واضحاً قوياً نابعاً كثيرا، من باب التفجير (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ) من أرض مكة (يَنْبُوعًا).

 

 

 

﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾ (91)

بمعنى تكون لك بساتين من نخيل وعنبٍ، وذكر النخيل والعنب لأن هذا هو معظم ما يكون من أشجارهم (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِير) بمعنى أن تكون لك هذه البساتين ويكون بها أشجار النخيل والعنب وتكون الأنهارُ بها مفجرة في خلالها وفي أقصاها.

}أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً{(92)

كما زعمت من أننا لن نؤمن لأن الله سينزل علينا العذاب قالوا فأنزل علينا العذاب كسفاً يعني قطعا، (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ) ولذا قال عز وجل:

  (وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ).

وهذا هو غايةُ الطغيان من هؤلاء ولذا قال عز وجل (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) وكما مر معنا في سورةِ الأنعام من أن هؤلاء لن يؤمنوا ولذا قال عز وجل:  (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ) ومر معنا تفسير القُبُل، قال هنا (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) يدخل في ذلك كل ما قاله المفسرون (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) أي معاينة وظهورا بمعنى أننا ننظر إليهم جهرةَ ووضوحا، وكذلك قبيلَا يعني: من أنهم يجتمعون الملائكة صفوفاً صفوفا كاجتماع القبيلة أو كما قال بعض المفسرين، وكل ذلك داخل من أن الملائكة تضمن لك هذا الأمر وتقول إنه لصادق كما قال عز وجل (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) فدل هذا على أن هؤلاء ما أرادو الإيمان وإلا فهذا القرآن كافٍ في إيمانهم لو أراد الله عز وجل إيمانَهم لكنهم لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.

﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

(مِنْ زُخْرُفٍ)  الزخرف هو الزينة من حيث الأصل لكنه أُطلق على الذهب لأنه أعظم الزينة (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) أي تصعد في السماء (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) لن نصدق لرُقيكَ  (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)  يعني نفهمهُ

 قل يا محمد لهؤلاء (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) أمره بأن ينزه الله عز وجل عما طلبه هؤلاء (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) {هل} هنا للنفي، أي ماكنت إلا بشراً رسولا فأنا رسولُ من رب العالمين وأنا بشرٌ، ولذا قال عز وجل عن النبي   (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ)

ومن ثَم فإن قولهم (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) هذا تعنت من هؤلاء ولذا قال عز وجل ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)

يعني وقت مجيء الهدى، ما منع الناس من الايمان وقتَ مجيء الهدى (إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (يعني يستغربون كيف يبعث الله عز وجل بشراً رسولا لماذا لا يكون من غير البشر من الملائكة؟! فهذا الذي منع هؤلاء وهذا مر معنا كما في قوله عز وجل وفي آيات كثيرة بما يتعلق بقصة نوح في سورة الاعراف (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ)

وكما مر معنا قوله عز وجل في سورة إبراهيم: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

فقال هنا عن هؤلاء (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)

﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ (95)

قل يا محمد لهؤلاء لو كان في الأرض ملائكة يمشون كحال البشر مطمئنين يعني مستوطنين مستقرين بهذه الأرض لنزل الله عز وجل على هؤلاء الملائكة ملَكا، لم؟

لأنهم يقبلون ويفهمون منه، فالجنسُ إلى جنسه أميَل وأقرب، فما أرسلنا محمدا وغيرَه من الأنبياء السابقين على أنهم بشر إلا لأن اجناسَهم يأخذون منهم ويفهمون منهم وهم إليهم أقرب كذلك الشأنُ في الملائكة.

﴿قلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96)

(قلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فهو يشهدُ عز وجل بصدقي، وقد مر معنا مفصلاً في ما يتعلق بهذه  الآية في أواخر سورة الرعد (قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ( قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) إنه عز وجل (كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) فقال هنا (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا ) أي عالماً بهم من حيث ظواهرهم ومن حيث بواطنهم وهو بصيرٌ بهم عز وجل وهو عز وجل بصير وعالمٌ بمن يستحق الهداية، ولذا مر معنا في هذه السورة من أنه عز وجل ايضاً خبيرٌ بذنوب عباده كما قال عز وجل وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) فهو خبيرٌ عز وجل وبصيرٌ عز وجل بذنوبهم وايضاً هو خبير وبصيراً بهم أنفسهم.

 

﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)

قال (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) يدل هذا على أن الهداية بيدِ الله عز وجل وهذا فضل منهُ عز وجل والضلال منه عز وجل وهذا لكمال عدله.

(فما ظلمهم الله) كما قال عز وجل (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) والوقوف هنا على الدال وتحتها كسرة ولم يذكر الياء هنا، بخلافِ ما في سورة الاعراف قال عز وجل (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون)

 لكن هنا بدون الياء، وهذه لغةُ فصيحةُ في لغة العرب فإن الاسم المنقوص إذا لم ينون فيصح أن تُحذف الياء وهذه لغةُ فصيحةُ من لغة العرب.

فقال هنا (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ) (وَمَنْ يُضْلِلْ) يعني من يضله الله عز وجل (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ) لم يقل حتى ولياً بل لو اجتمع من اجتمع من أجل ان يهديه  فلن يستطيع (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ) وهذا عقابهم في الدنيا، وعقابهم في الآخرة (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) يحشرهم عز وجل على وجوههم، وهذا قد سُئل عنه النبي كيف يمشون على وجوههم فقال كما ثبت عنه:

 ( إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيَهم على وجوههم )، فدل هذا على أنهم يمشون على وجوههم قد انكبوا كما يمشون على اقدامهم في هذه الدنيا.

وقال بعض العلماء: إنما يكونوا ذلك بسحب الملائكة لهم، والذي يظهر من أن هذين الأمرين يُحملان على مقامين قال عز وجل في ما يتعلق بأول خروجهم من القبور:

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) بمعنى أنه حال الحشر يمشون على وجوههم، أما إذا أُخذ بهم الى النار وتسحبهم الملائكة كما قال تعالى: ( إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي ضَلَٰالٖ وَسُعُرٖ * يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ).

( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) وذكر الوجوه لأنها أشرف ما يكون  إذلالاً وإهانةً واحتقاراً لهم

 (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) قال بعض المفسرين: عمياً بمعنى انهم لا يبصرون ما ينفعهم، وبكماً يعني لا ينطقون بما يكون لهم حجة، وصماً بمعنى أنهم لا يسمعون ما يسرهم؛ والذي يظهر: من أن هذا هو العمى والصمم والبكم الحقيقي

 (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) دل هذا على أنهم في خروجهم من قبورهم يمشون على وجوههم وهم لا يبصرون وأيضاً لا ينطقون وأيضاً لا يسمعون، لكن في بعض المواقف فيما بعد ذلك من مواقف فإنهم يسمعون ويبصرون فلا يسمعون الخير ولا يبصرون الخير ولذا قال الله عز وجل (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا )،وكما قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ).

(مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) ولذا مر معنا فيما يتعلق بالعمى قال (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ) يعني في الدنيا، وفي الاخرة أعمى (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ) أعمى من حيثُ البصر، وأيضاً إذا أبصر في بعض المواقف فانه يكون اعمى فلا حُجةَ له ليعتذر فهو أعمى.

(وَأَضَلُّ سَبِيلًا (أي وأضلُ طريقاً مما كان عليه في الدنيا، فهو في الدنيا في ضلالٍ عن السبيل، أيضاً في الآخرة فهو يكون حيراناً مشتتاً (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فقال هنا: (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) المصير مأواهم ومثواهم (كُلَّمَا خَبَتْ) بمعنى كل ما ضَعُفَ نارها ولهيبها (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)

وهذا لا يدل على أن العذاب يخفف عنهم حتى لا يتعارض مع قوله تعالى (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) فهذا يدل على أن النار كلما أرادت أن تخبوَ فإنها تزداد، لكن العذاب الأليم باقٍ لهم سواء كان ذلك مع خبو النار أو مع ازديادها (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) وهذا أيضاً لا يدل على فناء النار، وقد بينا هذه المسألة في سورة هود.

 

﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)

{ذلك} أي العذاب الذي حل بهم مما مضى في هذه الآية مما سبق ذكره (كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا ) فكفروا بآيات الله ومن ذلك هذا القرآن ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا)  أيضاُ هذا العذاب جزاء لهذا القول ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) كما مر معنا في نفس السورة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)  وكما مر معنا (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) فذكر أن هذا القول سببٌ لمَا جرى لهم من هذا العذاب.

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ (99)

أولم يرى هؤلاء! وهذا استفهامُ إنكاريُ لحال هؤلاء ولذا قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)

فقال هنا (قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) لماذا قال (قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ذكر المثلية هنا باعتبار أن الذي أوجدهم من عدم فهو قادر على أن يعيدهم على أحوالهم السابقة من أعضاء وما شابه ذلك ولذا قال عز وجل (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)

وقد قال بعض المفسرين (قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) بمعنى أنه يفنيهم عز وجل ويأتي بخلق جديد كما قال تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) وهذا القول وإن كان بالإمكان أن يدخل تحت الآية، لكنً السياق يتعلق بماذا يتعلق بإنكار هؤلاء بالبعث والنشور.

ولذا قال بعد ذلك مما يدل على أن المقصود هو البعث (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) بمعنى لا شك فيه، فما سيكون في هذا اليوم بمعنى أنهم سيصيرون إلى هذا اليوم، لكن الله عز وجل جعل له زمنا محددا عنده كما قال تعالى كما مر معنا في سورة هود (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فقال هنا (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا) امتنع الظالمون إلا أن يكفروا بالله مع وضوح الدلائل.

 

﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

قل يا محمد لهؤلاء لو أنكم تملكون خزائن رحمة الله عز وجل من الأرزاق (لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ).

(خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) أي خشية النفاذ والفاقة والفقر (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) بمعنى أنه بخيل، وهذا يدل على بخلُ بني آدم، لأن خزائن الله عز وجل ملأى، ولذا في الحديث الصريح في صحيح مسلم قال الله عز وجل:

( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ )

فدل هذا على أن خزائن الله عز وجل ملأى، ومع ذلك لو ملكها هؤلاء لكان سبيلُهم إلى البخل ولذا قال ﷺ:

 يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ “. وَقَالَ : ” أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمينه” يعني لم ينقص شيءٌ من ذلك.

وفي رواية: “يمينُ اللهِ ملأى”

وهذه الآيةُ نظير قول الله عز وجل كما مر معنا في سورة النساء قال الله عز وجل (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ) يعني لو كان لهم نصيبُ من ملك الله (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) أي لا يعطون الناس نقيرا، والنقيرُ كما مر معنا هي: النقرة التي تكون في ظهر نواة التمر.

 

﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

ذكر الله عز وجل حال موسى وذكر الآيات البينات تسليةً للنبي ، فلتعلم يا محمد أن قومك كما أنهم كذبوك فإن موسى عليه السلام قد كُذِّبَ مع وجود الدلائل والآيات الواضحات فقومك لما سألوا ما سألوا (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) وما ذكر بعد ذلك من مقترحات لهم فهم ما أرادو الإيمان ولكنهم أرادو الشقاقَ والعناد.

فقال عز وجل هنا (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ( تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) واضحات وهذه الآيات هي ما ذكره عز وجل في سورة الأعراف (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ ) وقال عز وجل (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ) وكذلك فيما يتعلق بعصى موسى وما يتعلق بخروج يدهِ بيضاء من غير سوء كما قال (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ )  فهؤلاء الذين أتاهم موسى عليه السلام وهم آل فرعون لم يؤمنوا مع وضوح هذه الدلائل.

(فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الأمر هنا بالسؤال للنبي محمد أم لموسى؟ قولان لأهل العلم فيكون المعنى (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يعني يا محمد اسأل بني إسرائيل وهم علماء بني إسرائيل الذين آمنوا عن حقيقة ما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون ومع قومهَ (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فإنهم يخبرونك عما حصل فيما يتعلق بهذا الأمر.

أو/ فاسأل يعني: يا موسى اسأل بني إسرائيل عن أحوالهم مع فرعون لما كان يعذبهم وكيف نجاهم الله عز وجل (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ ) يعني موسى جاء هؤلاء (إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) بمعنى أنك مصابٌ بالسحر فأنت تقول هذا الكلام وتهذري بهذا الكلام كحال من أصيب بالسحر وقد احتمل بعض العلماء (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) بمعنى أنها بمعنى ساحر.

 

﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)

(قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) قال موسى لفرعون لقد علمت علم اليقين (مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ) هؤلاء يعني الآيات (إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) ولست بالرب، لأن الرب هو رب السماوات والأرض. َ

(بَصَائِر) يعني: هذه الآيات بصائر وواضحة لمن أراد أن يتبصر بها، ولذ قال عز وجل عن حال فرعون (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) يعني أنهم موقنون بأن ما جاء به موسى هو حقٌّ ويقينيّ لكنهم تكبروا وطغوا، فقال عز وجل هنا (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال موسى لفرعون (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) والمثبور هو الهالك (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) بمعنى: أن مصيرك إلى الهلاك لما رددت هذه الآيات الواضحات.

 

 

﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)

(فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ ) فأراد فرعون أن يستفزهم من الأرض بمعنى أنه يستفز ويزعج ويحث بني إسرائيل ومعهم موسى على  أن يخرجوا من مصر(مِنَ الْأَرْضِ) الأرض هنا أرض مصر كما مر معنا  بيان ذلك في سورة الأعراف وكما سيأتي معنا في سورة الشعراء.

(فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) وتأمل هنا قال –الاستفزاز- وكما جرى من كفار قريش قال عز وجل (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)  قال هنا  (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ)  فما الذي جرى؟ (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) أغرق الجميع ونجَّا الله عز وجل فرعون ببدنه فقط بعد أن أهلكه الله كما مر معنا في سورة يونس (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) وفي هذا بشارةٌ للنبي من أن الله سينصره على كفار قريش لأنه قال (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) .

﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد هلاك فرعون (اسْكُنُوا الْأَرْضَ ) الأرض هنا أرض مصر كما عند بعض العلماء، والبعض يقول: مصر والشام كما مر معنا في سورة الاعراف (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)  فدل هذا على أنهم يسكنون الشام ويملكون الشام وورثوا الشام وأيضا يرثُ الأحفاد من هؤلاء، يرثون مصر، فقوله عز وجل (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) وهذا يدل على أن بني إسرائيل مكنهم الله عز وجل من مصر ومن الشام بعدما أراد فرعون أن يستفزهم وأن يخرجهم بإزعاجٍ منهُ من مصر، فقوله عز وجل في نفس هذه السورة لما ذكر (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) يعني يا محمد، فبين هنا من أن هناك بِشارة للنبي ، فكما أهلك فرعون وقومَهُ وجعل العاقبة الحسنى من حيث الدار ديار مصر إلى بني إسرائيل أيضا سيكون لك يا محمد النصر على كفار قريش ثم إذا بك تدخل مكةَ وقد أعزك الله عز وجل، وقد حصل هذا الأمر.

فقال عز وجل (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ) في يوم القيامة (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جئنا بكم جميعا، لفيفا بمعنى أنكم مجتمعون مختلطون يوم القيامة (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) وهذا يدل على أنه عز وجل سيعاقب كل إنسان في يوم القيامة ما صدر منه، ومن هؤلاء ما جرى من فرعون مع بني إسرائيل.

﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)

لما ذكر ما يتعلق بقصة موسى والبينات الحاصلة لموسى، ذكر أن أعظمَ معجزة هو هذا القرآن تسلية للنبي ، ولكن هؤلاء قد ضلوا وأضلوا وأعمَوا أبصارَهم عن هذا الحق.

قال: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ ) يعني هذا القرآن نزل وقد اشتمل على الحق الذي يدمغ الباطل، فبه الحق ومن أخذ به فهو يعلو لأنه على الحق (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) بمعنى أنه لما نزل  ونزل به جبريل وهو القوي الأمين فلم يحصل له حال نزوله تغيير أو تبديل فلذا قال عز وجل (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) فهو قرآن محفوظ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

إذاً هو حال إنزاله لم يتغير ولم يتبدل ولم يتغير منه شيء فهو محفوظ، وبعد أن نزل تكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة، ولذا في آخر الزمان إذا أعرض الناس عن دين الله عز وجل، ولم يكن هناك من يعظم الله عز وجل هنا يُسرَى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى شيء منه لا في الصدور ولا في المصاحف، وهذا كما ثبت عنه .

ثم سلاه مرةً أخرى يا محمد (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) تبشر أهل الطاعة بالخير، ونذيرا تنذر أهل الذنوب والإعراض، تنذرهم مع تخويفٍ لهم بعقاب الله عز وجل.

وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)

(وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ) أي وآتيناك قرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث، قال {فرقناه} بمعنى أن هذا القرآن نزل مفرقاً، وأيضاً به يَفرق الله عز وجل بين الحق والباطل (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ) يعني من أجل أن تقرأه على الناس، {على مكث} على تُؤدَة وتمهل ويُسر

(وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) نزلت الآيات حسْب الحوادث وحسب القضايا فكلما حصلت حادثة او حصلت قضية نزل القرآن بما يناسبها.

 

﴿قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)

قل يا محمد لهؤلاء (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا) يعني سواءٌ آمنتم بهذا القرآن أو لم تؤمنوا فلا قدرَ لكم ولا مكانة من حيث حالكم هذا.

وهذا فيه تسليةُ أخرى للنبي ﷺ: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) بمعنى علماء اليهود وعلماء النصارى الذين امنوا بالنبي إذا قرؤوا هذا القرآن وسمعوا هذا القرآن فإنهم يكونون خاشعين لله، لأنهم عرفوا أن هذا القرآن هو ما ذكره عز وجل في كتبهم  فقال عز وجل (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) يعني من قبل نزول هذا القران (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) بعد نزوله (يَخِرُّونَ) والخرور هو: السقوط من علوٍ إلى السُّفُل مما يدل على سرعة استجابتهم  (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) بمعنى أنهم يتمكنون من السجود ويخرون للأذقان، لأن هذا فيه تمكُّن، والذقن هو ما يكون من مجمع اللحيين لأنه ألصق ما يكون من وجه الإنسان في الأرض.

{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا

} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا {(108)

} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا}: من هنا استدل بعض العلماء من أن التسبيح يكون في السجود.

(إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} يعني هذا وعد الله الذي في كتُبنا أنه ذكر ذلك عن هذا القرآن وتحقق هذا الوعد.

﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) كرر الخرور لأن هناك صفةً أخرى لهؤلاء

 (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) يدل على أن قراءة القرآن ترقق القلوب وبه بأمر الله عز وجل يحصل الخشية والخشوع والبكاء، ولذا قال (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) دل هذا على أن القرآن يزيد من خشوع العبد، ولذا قال عز وجل عن هؤلاء من أهل الكتاب:

 (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).

 

﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ (110)

كما ذكر المفسرون لما سمع كفار قريش النبي يقول: ( يا الله يا رحمن، فقالوا: كيف ينهانا أن نعبد آلهتنا ويقول أن الإله واحد وهو يدعو إلهين، الله والرحمن!؟ فرد الله عز وجل عليهم: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ). ويتضمن ذلك التسمية، يعني قل سموا الله باسمه الله أو الرحمن، فهذان اسمان من أسمائه عز وجل لان أسماءه كثيرة.

(أَيًّا) {أي} هنا أداة شرط أيا ما وما زائدة للتأكيد (أَيًّا مَا تَدْعُوا) تدعوا فعل الشرط {فله} جواب الشرط (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) يعني إن دعوتم بأي اسم من أسمائه: يا الله يا رحمن يا رحيم يا تواب يا غفار يا غفور (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

ولذا قال تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) فقال هنا:

 (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) ثبت في الصحيح: أن النبي كان في مكة اذا رفع صوتَه بقراءةِ القرآن في الصلاة إذا بكفار قريش يسبون هذا القرآن فأمره الله عز وجل أن يخفض من صوته، وليس إخفاضا كثيراً بحيث لا يسمع الصحابة وإنما يكون بين بين.

(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) حتى يسمع أصحابك (وَابْتَغِ) واطلب (بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) أي بين رفع الصوت وبين خفض الصوت،

 وقد ثبت ايضاً في الصحيح من أن عائشة رضي الله عنها قالت نزلت هذه الآية في الدعاء، ولا تعارضَ بينهما فالإنسان حينما يدعو لا يكون صوته مرتفع ولا يكون منخفض (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).

 

﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

وقل يا محمد لهؤلاء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) احمد الله عز وجل على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) ودل هذا على أن التوحيد إذا وحد العبد ربه فإنه يحمد الله عز وجل، بل إن أعظم الحمد أن تنزه الله عز وجل عما لا يليق به

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فالملك كله لله عز وجل (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) لم يكن له من يعينهُ وينصرهُ من ذلٍ أصابه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً لأنه هو القوي العزيز الغالب الغني.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) عظِّم الله عز وجل تعظيما وهذه الآيةُ جاء عند أحمد لكن بإسناد ضعيف: أنها آية العز، وما ورد من أن هذه الآية تُقرأ في آخر دعاء القنوت فهذا مما لا يُعلم له أصل من حيث صحته من سنة النبي .

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.