بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الكهف من آية 19 الى آية 31
الدرس ( 164 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
قوله تعالى :
﴿وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدً﴾ (19)
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} وكذلك أي: مثل ما ذكر عز وجل عن حال هؤلاء وعن نومهم وعن تقليبهم في الكهف وما جرى لهم {وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} يعني في هذا الكهف.
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وذلك لعل هؤلاء دخلوا في أول النهار فاستيقظوا عند غروب الشمس أو قبل غروبها ولذا {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}،
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا} ومن ثَم أخذ ابن عباس رضي الله عنهما من هذه الآية من أن عددهم سبعة، ولذا كان يقول رضي الله عنهما إني من القليل الذي يعلم عددهم، كيف علم ذلك؟ قال: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} ،{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} هذا واحد {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} ، {قَالُوا} هذا صيغة جمع وأقل الجمع ثلاثة {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، {قَالُوا} يعني العدد الآخر وهم ثلاثة لأن أقل الجمع ثلاثة فكان المجموع سبعة {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ}.
{ فَابْعَثُوا} وهذا دليل على الوكالة من أن الإنسان يوكل غيره من بيع شيء أو في شراء شيء {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ} أي: بنقودكم هذه وكانت النقود فيما مضى يضرب عليها بعض الأشياء بعض الرسومات وما شابه ذلك {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا} يعني أطيب وأفضل وأخير طعاماً {فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} فليأتكم برزق من هذا الطعام الزكي {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} وليتلطف بمعنى أنه يذهب ويكون بلطف حتى لا يشعر به أحد وليتلطف ولذا قال :{وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} بمعنى أنه حال ذهابه يكون على تريث ولطف وحذر وأيضاً {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} بمعنى أنه لا يخبر أحداً بمكانكم {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.
﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ (20).
{إِنَّهُمْ} هذا تعليل لما سبق ذكره {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} بمعنى أنهم يطَّلعون عليكم والظهور هو العلو، فهم يعلمون أن قومهم لهم قوة وقدرة، فقالوا {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} يعني بالحجارة وهذا أشد ما يكون من أنواع القتل
{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} يعني لو رجعتم إلى ملتهم الفاسدة فإنكم لن تفلحوا أبداً لمَ؟ لأن الشرك لا فلاح به بل هو الخسران، فمن أشرك مع الله عز وجل فلن يفلح أبداً
{وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}.(21).
{وَكَذَٰلِكَ} أي: مثل ما جرى من بعث هؤلاء والتساؤل فيما بينهم، وبعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وهذا يدل على أن الله عز وجل أعثر عليهم لحكمة يريدها، وقد قال المفسرون: من أنه لما ذهب بتلكم النقود فاستغربوا كيف تكون هذه النقود، فظن هذا الذي ذهب بالنقود من أصحاب الكهف من أن حاله كحاله بالأمس، من أن هذه النقود قد اشترى بها أو تعامل بها وهو لا يدري انه مكث مدة طويلة فاستغرب هؤلاء من حاله ثم تبين لهم أن هؤلاء كانوا في عهد ذلكم الملك السابق الذي مرت عليه مئات السنين.
وهذا الذي ذكره المفسرون لا يكون بعيداً لمَ؟ لأنهم قالوا {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وعلى كل حال قدر الله عز وجل وعثر عليهم هؤلاء.
{وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}.(21).
{وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ليعلم أصحاب هذه المدينة أن وعد الله حق من أنه عز وجل وعد من أنه سيبعث الناس من قبورهم {وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} يعني لا شك فيها {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} يعني لما عثروا على هؤلاء حصل بينهم التنازع ماذا يفعلون بذلك؟ والله عز وجل أنام هؤلاء هذه المدة الطويلة من باب أن يبين لهؤلاء من أنه لما أنامهم تلك المدة وأيقظهم وهو قادر عز وجل على إحياء الموتى.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} بمعنى أن هؤلاء تنازعوا في شأن أهل الكهف وبعضهم قال من المفسرين: من أنهم تنازعوا هل يعيد الله عز وجل الأجساد دون الأرواح أو العكس أو ما شابه ذلك.
والذي يظهر: من أنهم تنازعوا في شأن هؤلاء، لأنه يدل على أن هؤلاء وهم أصحاب الكهف قد أماتهم الله عز وجل، فهل هؤلاء يوضع عليهم ما يوضع عليهم حتى يُسد عليهم هذا المكان أو أنه يبنى عليهم المسجد من باب التعظيم؟
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يعني ابنوا عليهم بنياناً بمعنى: كما يبنى على غيرهم من حيث يوضعون في هذا المكان في الكهف ويُردم وينتهي أمرهم فقال عز وجل عن هذه الطائفة: {ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا} ثم قالوا {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} لكن {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ} من له السلطة والقدرة {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} ومن ثم أخذ بعض الناس هذه الآية من أنه يجوز أن يُبنى المسجد على القبور ويجوز أن توضع القبور في المساجد استدلالاً بهذه الآية!
وليعلم أن هؤلاء الذين صنعوا هذا الأمر من ظاهر الآية يدل على ماذا؟ يدل على أن هؤلاء ليسوا بأهل الإيمان لأن أهل الإيمان فيما ذكر عز وجل عنهم {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} لكن أصحاب السلطة والقوة {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ} يعني من له الغلبة على الأمر وله الأمر الذي يكون أعلى من غيره {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} فلا دلالة في الآية على جواز اتخاذ المساجد على القبور أو أن القبور توضع في المساجد في دلالة ظاهر هذه الآية، ولو سلمنا تسليماً مع أن الآية لا تدل على ما ذكروه فإن هذا شرع من قبلنا ولكن شرعنا أتى بالتحذير قال ﷺ في أحاديث كثيرة كما ثبت عنه: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا انبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأُبرز قبرهُ لكنه خُشي أن يُتَّخذ مسجداً.
﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾ (22).
{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} بمعنى أن هؤلاء الذين في عهد النبي ﷺ {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذان القولان ردهما الله عز وجل فقال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} إنما هذا عن طريق القول بالظن كما أن الإنسان يرجم شيئاً لا يعرف الهدف الذي يرمي إليه فلربما يصيبه ولربما لا يصيبه وكونه لا يصيبه أكثر فقال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} يعني هذا ظن من عندهم وليس لهم سلطان وحجة على ذلك.
ومن ثم لما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} لم يذكر الله عز وجل ما يتعلق بمن قال بهذا العدد، فدل هذا على أن هذا القول هو الأقرب إلى الصحة، ولذا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (أنا من القليل الذي يعلم عدد هؤلاء) لأن الله عز وجل لما قال عن هؤلاء {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ماذا قال؟ {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أي: قلّة ممن يعلم عددهم.
{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي: لا تجادل في هؤلاء في عدد أصحاب الكهف {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي: إلا جدالاً ظاهراً من غير التعمق، إلا كما اخبرناك يا محمد عن هذا الأمر وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن ما لا فائدة للإنسان في الوصول إلى تعلمه فإنه لا يحرص عليه، ولذلك بعض الناس انشغل في هذا الأمر، فقال بعضهم فيما يتعلق بالكلب: ما لونه؟ وما اسمه؟ وما شابه ذلك، فهذه لا أدلة عليها ولا تعود على المُكلَّف بمزيد فائدة، إذ لو كان فيها فائدة لذكرها الله عز وجل فقال هنا: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}
وقوله عز وجل {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} وقوله قبل ذلك {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} هل هناك تناقض؟ الجواب: لا، قوله تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فهو عز وجل يعلم عدتهم علماً يقينياً تفصيلياً، أما هؤلاء القلة فإنهم يعلمون عددهم على وجه الإجمال وليس على وجه اليقين التام.
قال هنا: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم} أي: في هؤلاء أصحاب الكهف {مِّنْهُمْ أَحَدًا} لا من اليهود ولا من غيرهم، ودل هذا على أنه من ليس بورع وليس بتقيٍ ولو كان ينسب إلى العلم الشرعي ولو كان يحفظ النصوص الشرعية لكنه ليس بتقيٍ ولا ورِع فإنه لا يستفتى، فاليهود عندهم علم ومع ذلك ماذا قال تعالى؟ {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} لا سيَّما إذا كان الأمر يتعلق بشهوةٍ أو هوَى لذلك المفتي.
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا﴾ (23).
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا﴾. (24)
النبي ﷺ كما ذكر المفسرون تحت هذه الآية لما سألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين قال سأخبركم غداً، فأبطأ الوحي عليه خمسة عشر يوما، فقالوا إن محمداً يعد بأنه سيأتينا بالجواب ولم يأت الجواب لأنه ﷺ لم يقل سأخبركم إن شاء الله، فقال الله عز وجل هنا:
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ} أي: ذلك الشيء {غَدًا} أي: فيما يستقبل سواء كان اليوم الذي يلي حاضرك أو ما بعده من أيام {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا}، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لمَ؟ لأن الأمور كلها بمشيئة الله عز وجل، ومن ثم فإن قوله عز وجل أيام {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا}، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} دل هذا على أن الإنسان عليه أن يفوض أمره إلى الله عز وجل.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} إذا نسيت المشيئة في أمرٍ ستفعله في المستقبل وتذكرت المشيئة فهنا تقول: إن شاء الله.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ويدخل في ذلك قول بعض أهل العلم من أنه قال {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال إذا غضبت فاذكر الله عز وجل واستعذ بالله من الشيطان الرجيم كما جاء بذلك الحديث (قال ﷺ لذلك المغضَب إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
ويدخل في ذلك: قول من يقول من أهل العلم من أن الإنسان إذا نسي شيئاً فإنه يذكر الله عز وجل، ومن ثم فإن هذا النسيان حاصل بسبب الشيطان فإذا ذكر الله انخنس الشيطان وابتعد فتذكر هذا الشيء الذي نسيهُ، ومعلوم أن ما يحدث من نسيان إنما هو بأمر الله عز وجل فلا يقع شيء بالكون إلا بأمر الله لكنه ينسب إلى الشيطان باعتبار ماذا؟ باعتبار التقبيح للشيطان ولأن الشر لا ينسب إلى الله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ولا تعارض بين هذه الأقوال.
{وَقُلْ} وقل يا محمد {وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا} يعني من أنه سأل الله عز وجل ورجا الله عز وجل أن يعطيه من البيّنات الواضحات والدلائل ما هو أعظم من قصة أصحاب الكهف حتى تكون حجته ﷺ أقوى ويكون غيره متبعاً له ﷺ {وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا} وأيضاً يتضمن من أنه ﷺ يرجو هداية الله ولا شك أن العبد محتاج إلى هداية الله عز وجل.
﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (25).
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} هذه المدة التي لبثوا فيها ثلاث مائة وتسع سنوات، الثلاث مائة بناء على السنة الشمسية، والتسع بناء على السنة القمرية ولذا قال {وَازْدَادُوا تِسْعًا}.
﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ (26).
{قُلِ اللَّهُ} قل يا محمد لهؤلاء {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني ما غاب في السماوات وما في الأرض وهو عالم عز وجل به بل هو عالم الغيب والشهادة {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} هنا تعجب! ما أعظم بصر الله وما أعظم سمع الله { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ} مالهم أي: هؤلاء الكفار مالهم من دونهِ من دون الله من وليّ ينصرهم ويحفظهم {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} فهو الكامل عز وجل فلا يشرك أحداً في حكمه الشرعي أو في حكمه الكونيّ أو في حكمه الجزائيّ. {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.
﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾. (27).
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} لمَّا ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف بيّن هنا من أن أعظم ما يهتدي به الإنسان هو هذا القرآن من ضمن هذا القرآن هذه القصة ولعل قوله عز وجل {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} لعلها تكون مناسبة لما جاء هنا.
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} يعني لا مغيّر لكلماته عز وجل ولا يستطيع أحد أن يغير كلمات الله عز وجل الكونية أو الشرعية فالآية حتى ما يتعلق بالنسخ لا يغيرها ولا يبدلها إلا هو ولذا قال عز وجل {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} يعني: مأوىً وملجاً ونصيراً.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (28)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقد مر معنا نظير هذه الآية في سورة الأنعام فقال هنا لما طلبت قريش أن تطرد الفقراء كعمار وبلال حتى يكونوا يعني هؤلاء الكفار عنده في مجلسه فقال عز وجل {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} بالغداة يعني في أول النهار، العشي في آخر النهار.
ولذا قال بعض العلماء المقصود من ذكر الغداة والعشي: من أنهم يذكرون الله دائماً بمعنى أن ساعات يومهم في طاعة الله عز وجل وفي دعائه { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فهم مخلصون لله عز وجل لا كحال هؤلاء الذين يدعون مع الله تلك الآلهة.
{يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وفي هذا اثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليق بجلاله وعظمته ومر معنا مفصلاً في قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} وفي سورة الأنعام {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} وهنا قال {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ} أي: لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وذلك بمطاوعة هؤلاء الكبراء والرؤساء فهو ﷺ ما يريد زينة الدنيا وإنما هو عليه الصلاة والسلام إن أراد الذهاب الى هؤلاء أو أن مجيء هؤلاء اليه ما أراد إلى من أجل الدين من أن هؤلاء إذا أسلم الواحد منهم تأثر قومه وقال هنا {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} وهم هؤلاء الكبراء أغفل الله عز وجل قلوبهم عن ذكره {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وكل ذلك بسبب اتباع الهوى {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} يعني في تفريط وفي خسارة وفي تضييع، فأمره في ضياع وفي خسار {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} فإنه يكون في ضياع في دنياه وأخراه.
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾(29)
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن} وقل يا محمد لهؤلاء هذا هو الحق من ربكم وهو القرآن {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وهنا هذا الأمر ليس على التخيير إنما هو على التهديد.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي: هيئنا للظالمين {نَارًا} نكّرها للتعظيم {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أحاط بها من جميع الجوانب من جدار ونحوه ودل هذا على ماذا؟ على أنه كما قال عز وجل:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة]
بمعنى أن تلك الأبواب ممددة بعمد، وبين هنا من أن الحيطان والجدران قد أحاطت بهؤلاء فلا يستطيعون الخروج منها.
{وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} ومن ثم فهذا من باب التهكم لأنه قال {وَإِن يَسْتَغِيثُوا} وهذا أسلوب من أساليب اللغة {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا} فكأن في هذا ماذا؟ فكأن في هذا شيئاً مما يروق لهم {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} ثم يأتي ما هو أعظم كالمصيبة عليهم {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} والمهل هو النحاس المذاب أو الزيت الذي يكون به ما يكون من التعفن، وكذا قال بعض العلماء: القطران. فدل هذا على ماذا؟ على أنهم يغاثون بماءٍ كريه الرائحة كريه المنظر شديد الحرارة {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} وهذا من شدته يشوي الوجوه يشوي وجوههم لأن الإنسان يسوؤه ما يسوؤه إذا أسيء إلى وجهه {يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} ذميمُ ومذمومٌ وحقير {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} وساءت النار مرتفقا بمعنى مرتفقاً يرتفقون به ويتكئون عليه والنار لا مرتفق بها أبداً لكنه ذكر المرتفق هنا من باب مقابلة أهل الإيمان كما ذكر عز وجل بعد ذلك:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾. (30).
والله عز وجل لكمال عدله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
﴿أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (31)
{أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات عدن جنات إقامة لا يريدون التحول عنها كما قال تعالى في أواخر السورة { لا يبغون عنها حولاً}
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } مع ذلك تجري من تحتهم الأنهار، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} من الحلي، يحلون فيها من أساور من ذهب وأيضاً يحلون أيضاً من فضة قال تعالى { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} ويحلون باللؤلؤ كما قال تعالى: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} فقال عز وجل هنا {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} ومع ذلك {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} ثياب خضر يلبسونها {ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} تلك الثياب الخضراء مِّن سُندُسٍ: وهو ما رقّ من الحرير، وَإِسْتَبْرَقٍ: ما غلظ من الحرير.
{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} يعني مع ذلك كله مع هذه الزينة فهم متكئون على تلك الأرائك قال {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} وهو ما ارتفع من سرير أو مكان يجلس عليه {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} وهي الأرائك الجميلة النضرة {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ}
{ نِعْمَ الثَّوَابُ} لما قال هنا { نِعْمَ الثَّوَابُ} كلمة مدح، ولذا ماذا قال فيما مضى عن أهل النار قال {بئس الشراب} قال هنا {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} يعني: الجنة، ولذا لما ذكر النار قال {وساءت مرتفقا} يعني أن الجنة خير مرتفق يتكئون فيها ويستمتعون فيها .