[ تفسير سورة الحج]
من الآية (1) إلى الآية (29)- الدرس (178)
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد ٌ(2)﴾
تفسير سورة الحج اختلف المفسرون هل هي مكية أو مدنية؟
والذي عليه الأكثر أن سورة الحج منها آيات مدنية ومنها آيات مكية.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} هنا مناداة لجميع الناس لتقوى الله ولذلك في أول سورة النساء:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] أُمِروا بالتقوى لأن هناك أمرًا عظيمًا أمامهم:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تلك الزلزلة المضافة إلى الساعة شيء عظيم مهول، ولذلك وضح شيئًا منها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ} يعني تلك الزلزلة في تلك الساعة {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ} يعني تغيب وتتحير
{كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} معلومٌ أن الذي يرضع النساء، يعني فيما لو كان في الأساليب الأخرى {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} لأن هذا مما يخص النساء لكن لماذا أتى بالتاء هنا؟
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} كل مرضعة لأن المرأة يقال عنها مُرضِع ولو لم تُباشر الرضاعة، لكن لما أتى بالتاء هنا دل هذا على أنها إذا جاءت تلك الزلزلة تلك المرأة التي باشرت إرضاع طفلها عطفًا عليه تذهل عنه
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}: من شدة ما يكون.
{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من حيث الصورة كأنهم شربوا مسكر {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} يعني لم يشربوا مُسكرا لكن حالهم حالة من هو مسكِر {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} لكن لم يشربوا مسكرًا،
ما السبب في كون صورهم سكارى؟
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} من شدة العذاب من يراهم يرى أنهم شربوا مسكرًا ولم يشربوا مسكرًا.
ومن ثم لو قال قائل: حمل الحمل وإرضاع الطفل لا يكون في يوم القيامة، ولذلك اختلف المفسرون هل هذه الزلزلة قبل قيام الساعة بقليل ثم تطلع الشمس من مغربها ويجري ما يجري، أو أنها تكون في يوم القيامة؟
بعض المفسرين قال: هي تكون قبل قيام الساعة لأنه لا حمل ولا إرضاع في يوم القيامة ومن ثم يكون الأمر هنا على الحقيقة من وجود مرضع ومن وجود حمل.
وبعض المفسرين قال: أنه في يوم القيامة لكن لا حمل ولا إرضاع وإنما هو تمثيلٌ لحال الناس في يوم القيامة إذا كانت الزلزلة في نفس يوم القيامة إذا بُعِثَ الناس، كأن أحوالهم كحال امرأة تذهل عما أرضعت وحال امرأة حامل تضع حملَها.
وعلى كل حال سواء قيل بهذا أو بهذا فالأمر عظيم يستحق ويستوجب من العبد أن يمتثلَ ما أمر الله به في أول السورة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} لأن تقوى الله تُنَجِّي العبدَ من هذه المخاوف.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير(4)﴾
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا صنف من أصناف الناس الضالين وهم المُقلدون، وهم الذين يتبعون غيرَهم من دعاة السوء ومن رؤساء الضلالة يتبعونهم، فتجد أن بعضهم يدافع ويتبع رؤساء الضلالة ولو كانوا على ضلالة، ولذلك ذمهم الله هنا، لأن الإنسان يجب عليه أن يتبع الشرع لا أن يقلد غيرَه، إلا فيما يتعلق بالأحكام الشرعية التي يجهلها عوام الناس يسأل أهل الذكر:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} من يجادل ويخاصم في دين الله عز وجل وفيما يتعلق بالله وتوحيده {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ما عنده علم! دل هذا على أن من يجادل بعلم حق فإنه لا ذمَّ عليه، إلا إذا كان هذا الجدال لا يتوصل به إلى الخير فإنه هنا كما قال تعالى:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت:46]
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} هو مقلد يتبع كل شيطان من شياطين الإنس والجن،
{مَرِيدٍ}: يعني عاتٍ وبلغ في الضلالة مبلغها، يعني أنه يتبع رؤساء الضلالة.
{كُتِبَ عَلَيْهِ} يعني قُضِيَ على هذا الشيطان المريد {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} يعني من تولى هذا الشيطان وجعل الشيطانَ وليًا له من دون الله كما قال تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]، وكما قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]
قال هنا: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}
{ فَأَنَّهُ} يعني الشيطان {يُضِلُّهُ} يضل هذا المقلد عن الحق {وَيَهْدِيهِ} انظر أتى بالهداية وهي هنا تدل على التبكيت والتحقير له، لأن الهداية هنا ليست إلى خير {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} دل هذا على أن الهداية قد تطلق على هداية الشر كحال دعاة الضلالة، فإنهم يهدون الناس إلى الضلالة وإلى النار
{السَّعِيرِ} السعير النار المستعرة الشديدة.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(5)
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} دل هذا على أنهم أنكروا البعث، ولذلك في صدر السورة حذرهم مما يكون من زَلزلة تكون قبل قيام الساعة أو في قيام الساعة
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الناس هنا ليس للجميع وإنما للكفار لأنهم الذين ينكرون البعث، أما أهلُ الإيمان فلا ينكرونه {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} يعني في شك {مِنَ الْبَعْثِ} يعني دليل على ماذا؟ دليل على أن الله عز وجل قادر على إحياء الموتى وأن القيامة قائمة ولا محالة وذكر هنا دليلين:
دليلٌ يتعلق بخلق الإنسان، ودليلٌ يتعلق بالأرض التي يمشي عليها الإنسان
{ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} من حيث الأصل، أصل أبينا آدم من تراب
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وهذا هو أصلنا {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} [السجدة:8]
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} يعني تتحول النطفة إلى علقة إلى قطعة دم
{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} يتحول هذا الدم سبحان الله إلى قطعة لحم صغيرة بقدر ما يأخذ الإنسان قطعة لحم من بهيمة ويمضغها
{ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مُخَلَّقَةٍ: بمعنى أنها قد استوت خلقتها تكاملت الأعضاء، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: يعني أنه نقص شيء من أعضائها، هذا قول وقيل بأقوال أخرى.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} لنبين لكم الدلالة على قدرة الله عز وجل، فإنه خلق هذا الآدمي من أطوار متعددة من نطفة ثم علقة ثم مضغة، تلك المضغة تنقسم إلى قسمين: كاملة الأعضاء أو ناقصة الأعضاء، أو كما قال بعض المفسرين: مخلقة يعني نفخت فيها الروح، وغير المخلقة لم تنفخ فيها الروح
{ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} يعني هذه دلائل على أنه كما أوجدكم من العدم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة قادر على أن يحييكم مرةً أخرى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم:27]
ثم استأنف {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} هنا الاستئناف جديد، يعني أنه عز وجل يبقي في الأرحام ما أراد الله إبقاءَهُ بخلاف السقط الذي يسقُط من هذه الأجنة
{وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أجل محدد في بطن أمه إلى أن يخرج إلى هذه الدنيا {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} ولم يقل أطفالًا لأن كلمة طفل جنس تشمل المفرد والجمع، كما قال تعالى في سورة النور: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}[النور:31]،
ثم بعد تلك المرحلة، يعني بعدما يخرج من بطن أمه حتى يصير طفلا، ثم يتطور في مراحل متعددة {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي القوة من أجسادكم وانظر قال: {لِتَبْلُغُوا} أتى باللام في تبلغوا لأن الذي يحاسَبُ عليه الإنسان من حيث السن هو البلوغ، ولذلك لم يأتِ بها في قوله: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} لم يأتِ باللام لكن لما أتى إلى البلوغ {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} من يتوفى حيث الزمن الذي قدره الله له في سن الأربعين، في سن الخمسين، في سن الستين قبل بعد.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} يعني إلى أحقر وأذل وأسفل وأردأ العمر، ولذلك كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر، لأن الإنسان بعدها يكون ضعيفًا من حيث الجسم ومن حيث العقل ولذلك قال بعدها:
{ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} بمعنى أن الحواس ضعفت فأصبح كأنه كالطفل فَهْمُهُ قليل، وقد يذهب فهمه وقد يذهب عقلُه كله، هذا دليل على قدرة الله عز وجل، لكنَّ مآل من رد إلى أرذل العمر إلى الموت وسيبعثه الله.د
الدليل الثاني الذي به البرهان على قدرة الله على بعثكم في يوم القيامة هذه الأرض:
الأرض الميتة {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} هامدة يعني ميتة ما بها نبات يابسة
{فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} المطر {اهْتَزَّتْ} تهتز تتحرك لما يأتيها المطر {وَرَبَتْ} تنتفخ الأرض لوجود الماء تحت ووجود النباتات إذا خرجت {وَرَبَتْ} يعني زادت {وَأَنْبَتَتْ} بأمر الله {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} يعني من كل صنف من النباتات {بَهِيجٍ} هو ذو منظر حسن وجميل.
فالذي قدر على هذا على إحياء الأرض الميتة وأنتم تُبصرونها قادر على أن يحييكم مرة أخرى ولذلك قال بعدها:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور (7)﴾
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الذي يجب أن يُعبد وما دونه هو الباطل، {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} كما سيأتي في آخر السورة [الحج:62]
{وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} وسيحييكم {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليس فقط على إحياء الموتى، بل على كل شيء قدير {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} لا شك فيها، ثم أكد أيضًا {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} كل من في القبور يبعثهم الله عز وجل، ولذا قال تعالى قال:
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:3-4] { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة:4]
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(10)﴾
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا الصنف والنوع الثاني من أنواع أهل الضلال،
في أول السورة هم المقلدون، هؤلاء هم رؤساء الضلالة رؤساء البدع والكفر
قال هنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} يعني من يخاصم في الله في توحيد الله عز وجل وفي شرعه
{بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} يعني مجادلته عن عناد ليست عن حق.
إذًا {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ليس عنده دليل عقلي، {وَلا هُدًى} ليس له دليل شرعي
{وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} ليس هناك كتاب منير واضح يؤيد ما يقوله ولذلك قال تعالى:
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}[الروم:35]، الجواب لا ما أنزل الله حجة لهؤلاء، فلا حجة لهم لا من حيث العقل ولا من حيث الشرع، ولذلك قال عز وجل:
{اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الأحقاف:4]
{ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (9)
فقال هنا: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} يعني يلوي عطفه يعني جانبه وعنقه يلويه يعني ينصرف ويُعرض عن الحق لأجل {لِيُضِلَّ} دعاة ضلالة {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يعني عن طريق الله {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} هوان وعار وشنار {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} العذاب المحرق فيجتمع له العذبان في الدنيا وفي الآخرة {ذَلِكَ} أي هذا العذاب الذي تُوعد به هذا لم يظلمه الله عز وجل
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لكمال عدله عز وجل.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)﴾
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} هذا صِنف آخر ظاهرُهُ الإيمان لكنه على شك في قلبه فهو ليس على عقيدة صحيحة، هو {عَلَى حَرْفٍ} يعني مثل الإنسان الذي واقف على حافَّةِ جدار بمجرد ما يُلمَس يسقط
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ولذا كأن الواحد منهم إذا أتى إلى المدينة فأسلم، فإذا ولدت زوجتُه وأنتجت خيلُه قال: هذا دين صحيح، وإذا لم تلد امرأته ولم تُنتج خيله قال: هذا دينٌ ليس بحق!
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يعني على حافة شيء {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} من عافية ورزق وما شابه ذلك {اطْمَأَنَّ بِهِ} انظر قال: اطمأن به دل على أن قلبه كله مطمئنٌ لهذا الخير المتعلق بالدنيا، ليس في قلبه حبٌّ لهذا الدين!
{وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} ابتلاء واختبار من مرض وفقر وما شابه ذلك {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} فترك الدين {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} خسر الدنيا فإنه لا خير في الدنيا إذا لم يكن معها إيمان، وأيضًا خسر الدنيا بما أصابه من هذا الابتلاء والفقر والفتنة، وخسر الآخرة إذا المآل إلى النار
{ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الخسران الذي هو واضح وبين.
حالُهُ: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّه مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} يعني إن عبده فلن ينفعه وإن ترك عبادته لن يضره {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} ضلال بعيد عن الحق، وأيضًا هو ضلال بعيد يهوي بصاحبه إلى الشتات والضياع في الدنيا وفي الآخرة.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} سبحان الله قال في الآية السابقة:
{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} قال هنا: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}
فكيف يكون أقرب من نفعه ونفى النفع والضر عنه في الآية السابقة؟
فالجواب عن هذا: قال بعض المفسرين {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} على حسب ظنه أنه ينفعه وإلا فالأساس من أنه لا نفع منه أصلا ولا ضُر منه، ولذلك {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولذا في يوم القيامة يتبين له أنه لا منفعة منه أصلا.
والقول الآخر: – ولعله الأظهر- قال في الآية السابقة: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ} قال: {مَا} “ما” لغير العاقل، يعني أن الأصنام والأوثان هي غيرُ عاقلة فلا نفع منها ولا ضرر،
وفي الآية التي بعدها قال: {يَدْعُوا لَمَنْ} “مَن” للعاقل، يعني كحال من عبد فرعون فهو:
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} لأنه يلتمس منه النفع في الدنيا من مال أو منصب وما شابه ذلك {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} لكنه نفع على ظنه نفع فقط في الدنيا، لكن في يوم القيامة يتبين الخسران، ولذلك قال تعالى في آيات كثيرة: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75]
{وَضَلَّ عَنْهُمْ}: أي غاب عنهم.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}
{لَبِئْسَ الْمَوْلَى} بئس فعل ذم {الْمَوْلَى} لبئس هذا الولي له {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} يعني المصاحب له.
إذًا/ لا منفعة منه ولا نفع إليه وبئس الصاحب والعشير هو.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(14)
هنا ذكر أهلَ الإيمان، لما ذكر المقلدين في الكفر ورؤساء الكفر وأهل النفاق والشك ذكر هنا أهلَ الإيمان، ولذلك لم يأتِ بالواو ولذلك في قوله تعالى فيما مضى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ}، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} هنا لم يأتِ بالواو لأن هذا الصنف يختلف عن ذلك الصنف من الأنواع الثلاثة.
قال هنا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}: إثبات صفة الإرادة لله عز وجل، ويفعل ما يريده عز وجل، لكنَّ المخلوق قد يريد شيئًا ولا يستطيع أن يفعلَه.
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ (15)
بعضُ المفسرين قال: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ} لما ذكر ما يتعلق بأولئك الذين يعبدون الله {عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} قال: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} إن كان هذا الإنسان الذي به شك ويعبد الله على حرف {أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } النصر هنا بمعنى الرزق لأن كلمة النصر تطلق في اللغة العربية على الرزق، كحال أولئك الذين عبدوا الله على حرف {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} يعني ليضع حبلًا في سقف بيته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} فليختنق
{فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} من الأقوال: باعتبار أن ما قدره الله عز وجل سيكون، فإنما أتى به من العبادة على حرف فأراد الدنيا فقط وظن بالله الظن السيء، فإنه يفعل هذا الفعل، لأن قدر الله حاصل ولا محالة، ولن يفيده إذا اختنق شيئًا لأن قدر الله واقع لا محالة هذا قول
وإن كان القول هذا به وجه من النظر
القول الآخَر: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يعني: من كان يظن أن محمدًا عليه الصلاة والسلام لن ينصره الله في الدنيا والآخرة كحال أولئك الكفار {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} إلى سقف بيته ليضع حبلًا ثم ليختنق به ثم ليقطع هذا الحبل حتى يموت {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} وهي معاداته للنبي ﷺ {مَا يَغِيظُ} يعني هل سيُذهب غيظَه إذا اختنق، فإنه لو اختنق وفعل ذلك فليمت بغيظه فإن الله ناصرٌ نبيه ﷺ.
وعلى هذا الرأي قال بعض المفسرين: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} المقصود: السماء المبنية لأن الوحي ينزل منها يقول: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} فليذهب إلى السماء وليقطع هذا الوحي إن كان قادرًا، ولذلك قال عز وجل في سورة الطور:
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[الطور:41]، وعلى كل حال دلت هذه الآية على أن من اعترض على قدر الله عز وجل فإن قدر الله واقع، فإنه لو اختنق بأن يضع حبلًا في سقف بيته فإن قدر الله حاصل، وكذلك الشأن على الرأي الآخر: أن الإنسان الكافر سيموت بغيظه حتى لو صنع أنه يختنق بنفسه فإن الله مؤيدٌ رسوله وسينصره وأن دينه سيكون باقياً.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾(16)
{وَكَذَلِكَ} يعني مثل ما أنزلنا الآيات السابقات أنزلنا إليك هذا القرآن { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات
الحجة قائمة لكن الذي يهدي هو الله {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}: من يضلل الله فلا هادي له.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (17)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هنا ذكر أقسام الناس في يوم القيامة ومحاسبة الله عز وجل لهؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} الذين يعبدون النار والذين يعتقدون بأن الكون له خالقَين النور والظلمة {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}
هؤلاء ذَكَرهم الله عز وجل في سياق الجزاء والحساب، لكن مر معنا ذِكرُهم في سورة البقرة وفي سورة المائدة وبينا أولئك
{الَّذِينَ آمَنُوا} طبعا الذين آمنوا هنا هم أهل الإيمان الحق
{وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} بينا هؤلاء تبيانًا واضحًا، لكن هنا ذكرهم على سبيل ماذا؟
على سبيل الجزاء والحساب يوم القيامة.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يفصل بينهم ويقضي بينهم بالحق لأنه هو العالم بكل شيء، ولذلك قال بعدها {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} عالم وشهيد بكل شيء ومطلع على كل شيء ومن ذلك هذا الحكم الذي سيقضي على هؤلاء ولذلك قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (18)
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} فالجميع يسجد لله عز وجل إما طواعية وهم أهل الإيمان، وإما كراهية وهم أهل الكفر وذلك كما مر معنا في قوله عز وجل:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]
وكما قال عز وجل: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48]
وقال هنا في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} الشمس والقمر والنجوم من ضمن السماوات لكنه أفردها لأن هناك من عبدها، فهي تسجد لله عز وجل فليست معبودة إنما هي عابدة لله عز وجل.
وهذه الأشياء التي هي الكواكب وما يكون من جبال وما شابه ذلك وإن كانت جمادات فهي تسجد لله عز وجل على الصحيح سجودًا حقيقيًا، فلا يعلم كيفيته إلا الله كما مر معنا توضيح ذلك في سورة الإسراء {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]
فقال هنا: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} أيضًا تدخل ضمن الأرض لكن أفرِدَت هنا من باب بيان أهمية هذه الأشياء
{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} وهم أهل الإيمان
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وهم أهل الكفر
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج:18]
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} من يهينه الله ومن يخزيه {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} لن يكرمه أحد،
ولذلك قول بعض الناس بِلُغَتِنا: “الله لا يهينك” فهذا قول صحيح، نعم، فإذا لم يُهِنْكَ الله فأنت المُكَرَّم ولذلك ثبت قوله ﷺ: “من أهان سلطانَ اللهِ في الأرضِ؛ أهانه اللهُ” فدل هذا على أن الله يُهين؛
فالإنسان إذا دعا لأخيه وقال: “الله لا يهينك” فهذا كلامٌ سليم ولا شيءَ فيه.
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} ما أحد يُكرِمُه {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ما يشاء يفعله.
ولذلك لما ذكر الجنات: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (14)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22)﴾
﴿هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} خصمان هم أهل الإيمان وأهل الكفر
نزلت في بعض الصحابة مع أضدادهم من أهل الكفر لكنها شاملة
{اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أهل الإيمان وأهل الكفر {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} هذا الصنف الخصم الأول وهم أهل الكفر {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} قال بعض العلماء: ليس هناك ثياب وإنما المقصود من ذلك يعني أن النار قد أحاطت بهم كما تحيط الثيابُ ببدن الإنسان
فقال بعض العلماء: لا مانع أن تكون هناك ثياب لأهل النار لدلالة هذه الآية.
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الماء الحار يصب من فوق رؤوسهم، ماذا يصنع هذا الحميم؟{يُصْهَرُ} يعني يذاب {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} يعني أنه إذا صب هذا الماء الحار فإن ما في بطونهم يذوب، ولذلك قال تعالى {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]
{وَالْجُلُودُ} أيضًا والجلود، مع أن بعض العلماء يقول: إن الجلود لا تُذاب وإنما تُحرق يعني وتُحرَق جلودُهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]
فقال هنا: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} يُخَصص لهم مقامع، والمقامع تأخذها الملائكة فتقمع هؤلاء
مقامع يُقمَعون بها مع هذا العذاب يقمعون قمعًا في النار تعذيبًا لهم
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} تلك المقامع من حديد.
{كُلَّمَا أَرَادُوا} كلما للتكرار {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} يريدون أن يخرجوا منها من غمها ومن عذابها {وَذُوقُوا} يعني: ويقال لهم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} العذاب المُحرِق.
الصنف الثاني: الخصم الثاني أهل الإيمان
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)}
الصنف الثاني الخصم الثاني أهل الإيمان {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} ولذلك لم يأتِ بالواو من باب التمييز والتفريق بين ذلك الصنف الخبيث وهذا الصنف الطيب، كما مر معنا في الآيات السابقات لما ذكر رؤساء الضلالة وذكر المقلدين لهم وذكر من يعبد الله على حرف قال بعدها {إِنَّ اللَّهَ} لم يأتِ بالواو
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
قال هنا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} دل هذا على أن دخول الجنة بفضل منه
{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}[آل عمران:185] زُحزح ما يُزحزح نفسه
{وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران:185] ما يدخل الجنة إلا برحمة الله
قال ﷺ في الصحيح: «اعلموا أنه لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا ألا أن يغمدني الله برحمة منه وفضل»
فقال هنا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} النعيم؟ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يحلون من الحلي {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} يعني يحلون الذهب واللؤلؤ، وهذا يدل على أنهم يكونون في أحسن الزينة، ولذلك وإن كان الذهب محرما على أهل الإيمان وعلى الناس في هذه الدنيا، إلا أن أهل الإيمان في الجنة يستمتعون به ويتمتعون به {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} وفي الآية الأخرى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21] دل على أنهم يتحلون بهذه وبهذه
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولذلك النبي ﷺ قال عن الحرير إنه لباس من لا خَلاقَ له من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)﴾
{وَهُدُوا} وفقوا وهدوا {إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} وأعظم الأقوال الطيبة التوحيد
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} يُهدون في الدنيا إلى ِطيبِ الأقوال من التوحيد ومن الكلام الحسن ومن الأعمال الحسنة وأيضًا بهذه الهداية بفضل من الله يهدون إلى القول الحسن في الجنة:
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} هدوا إلى صراط الله عز وجل الإسلام وهو صراط ُالله الحميد الذي هو محمود عز وجل على أفعاله، فوفق هؤلاء لهذا القول الطيب ولتلك الأعمال الحسنة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(25)
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} انظر {كفروا} فعل ماضي فيما مضى {ويصدون} أتى بالفعل المضارع للاستمرار، لأن هؤلاء كفروا فيما مضى ولم يكتفوا بذلك بل أنهم مستمرون على أنهم يصدون الناس عن دين الله، كحال من ذكرهم من الصنف الثاني في أول الآية:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} قال هنا:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ويصدون أيضًا عن المسجد الحرام لما أتى النبي ﷺ من الحديبية، وصُد عن العمرة في السنة السادسة من الهجرة
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} ليس مُلْكًا لأحد {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف المقيم المستوطن به، والباد يعني الذي يأتي من القرى والبوادي له، فالكل مستوي فلا أحد له حق في هذا المكان، وإنما من أتى إليه فهو أحق به من غيرِه.
ولذلك قال هنا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} الباء هنا من حيث الإعراب زائدة للتأكيد وإلا لها معانٍ تدل على تقوية وتأكيد الأمر {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بظلم} يعني من يرد إلحادًا، والإلحاد: الميل والظلم ولو بما قل لو بمعصية يسيرة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يذيقُه الله العذابَ الأليم، وتأمل هنا:
لم يقل (ومن يفعل فيه) لأن من فعل فيه المعصية فهو على خطر عظيم،
أيضًا لو كان الإنسان مثلا في الرياض هنا وأراد -على حسب نيته- نوى أن يفعل ذنبًا في مكة ولو لم يذهب فإن الآية تصدُقُ عليه قال: {وَمَنْ يُرِدْ} يعني من ينوي {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} تُكتب عليه تلك السيئة لو نواها وهو بعيد عن مكة بمئات الآلاف من الكيلوات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (26)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيم} يعني هيأنا لإبراهيم {مَكَانَ الْبَيْتِ} الذي سيبنيه، ومر معنا مفصلًا توضيح بناء إبراهيم في سورة البقرة كما مر معنا
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} بوأ وأظهر المكان، مكان البيت الذي سيبنيه إبراهيم عليه السلام بمعاونة إسماعيل {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة:127]، فقال هنا: {مَكَانَ الْبَيْتِ} لم؟
{أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} دل هذا على ماذا؟ كما قال عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} إلى أن قال:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} من أجل ماذا؟
{لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ}[إبراهيم:37]، أيضًا بناء الكعبة من أجل أن يُعبد الله وأن يُوحد الله عز وجل ولذا قال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} وإبراهيم لم يكن من المشركين لا في أول أمره ولا في آخره، ولذلك قال تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، فقال هنا: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أضيف البيت إلى الله عز وجل إضافة تكريم وتشريف من إضافة المخلوق إلى خالقه.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} لمن؟ {لِلطَّائِفِينَ} الذين يطوفون حولَه {وَالْقَائِمِينَ} بعضُ العلماء قال: القائمين المقصود من ذلك المقيم والمستوطن فيه؛ لكن بعض العلماء يقول: {وَالْقَائِمِينَ} يعني القائمين في الصلاة لأنه ذكر بعدها الركوع والسجود قال:
{وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ومر معنا ما يتعلق بالركع السجود في سورة البقرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)﴾
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أمر اللهُ عز وجل إبراهيم أن ينادي الناس بالحج، ولذلك ذكروا من بين ما ذكروا من الآثار: أنه نادى على بعض الجبال اختلفوا في جبال مكة، فعلى كل حال الآية تنص على أنه نادى، فنادى في الناس فأسمع اللهُ عز وجل الناس، ولذلك قال عز وجل في أواخر سورة إبراهيم، قال عز وجل عن إبراهيم في دعوته: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]
أَفْئِدَةً: يعني نحن هنا وأفئدتنا تريد الذهاب إلى مكة، بل إن الإنسان يخرج من مكة وقلبه مشغوف بأن يعود إليها مرة أخرى
ولذلك قال هنا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} لم يقل يأتونك لأنه جواب الأمر “وأذن”
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} رِجَالًا: يعني على أقدامهم
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} على كل بعيد هزيل
يدل على أن الناس وهم أهل الإيمان راغبون في هذا البيت ولذلك يأتون إليه على أقدامهم وعلى حتى الدواب الهزيلة ولا شك في ذلك، وقد أخبرنا أجدادنا فيما مضى من أنهم كانوا يسيرون إلى مكة على أقدامهم وعلى ما تيسر من دوابهم.
فقال عز وجل هنا: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ } الطريق الواسع {عميق} يعني بعيد يأتون من أماكن بعيدة {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} لم؟
{لِيَشْهَدُوا} أطلقها هنا وعممها {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} منافع دينية ودنيوية
منافع دينية: عبادة الله ذكر الله، التقرب إلى الله عز وجل.
منافع دنيوية: بيع وشراء، أيضًا يلتقي المسلمون بإخوانهم المسلمين، أيضًا تبادل الخبرات والفوائد الدينية وما شابه ذلك
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الأيام المعلومات على رأي الجمهور هي: عشر ذي الحجة {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} دل على أنه لما قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} من أن من يترك التسمية على البهيمة فإن بهيمته ميتة لا تؤكل ولا يجوزُ أكلها، وأيضًا أعظم من ذلك وأفظع من ذلك من يذكر على البهيمة اسم مخلوق هذا من الشرك كأن يقول باسم المسيح أو باسم النبي أو ما شابه ذلك.
فقال عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا} فكلوا من هذه البهائم
{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} البائس الذي أصابه البؤس والشدة
{الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وهو أيضًا وصف بأنه فقير، مع فقره فبه بؤس.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} يعني ليزيلوا أوساخهم بعد الفراغ من أعمال الحج، مثل الأظافر والشعور وما شابه ذلك، لأنه يجوز بعد ذلك، لأنه انتهى التحلل الأول
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} يعني ما نذروا به لله عز وجل من ذبح ذبائح وما شابه ذلك
{وَلْيَطَّوَّفُوا} يعني طواف الإفاضة {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} لأن الإنسان إذا رمى الجمرة وحلق حلَّ له كل شيء إلا النساء، متي يحلُّ له النساء؟ إذا طاف طواف الإفاضة فيحل له كل شيء، ولذلك قال:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} {الْعَتِيقِ} القديم لأنه أول بيت بُني
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]
وأيضًا هو عتيق أعتقه الله عز وجل من الجبابرة فما يريد جبارٌ أن يتسلط عليه إلا أهلكه،
وانظر وتأمل إلى حال أبرهة لما أراد أن يُقدِمَ على هدمِ الكعبة.
وللحديث إن شاء تتمة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.