التفسير المختصر الشامل (182) تفسير سورة المؤمنون من الآية ( 23) إلى ( 50 )

التفسير المختصر الشامل (182) تفسير سورة المؤمنون من الآية ( 23) إلى ( 50 )

مشاهدات: 473

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المؤمنون

من آية 23 إلى آية 50 (الدرس 182)

لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)}

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا}: هنا ذكر نوحًا -عليه السلام-؛ لأنه أول الرسل إلى أهل الأرض من باب تسلية النبي ﷺ لما كذّبه قومه، ثم أيضًا أنت –يا محمد- لست بِدعًا من الرسل سبقك أنبياء قد أُوذوا وكُذّبوا، وتأمل حالَ نوح أول الرسل الذي لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فقال عز وجل هنا: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}: أمرهم بالتوحيد أول ما أمرهم وتلطّف معهم: {فَقَالَ يَا قَوْمِ}

{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أفلا تتقون الله عز وجل الذي هو خلقكم!؟ ومرّ معنا ما يتعلق بقصة نوح مفصلة في سورة هود وفي سورة الأعراف، فماذا كان جواب قومه؟

 

 {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)}

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}: الملأ؛ لأن الملأ هم الأشراف ولأنهم يتمالؤون فيما بينهم، ولأن أعين الناس تمتلئ بهم، لكنهم ملأ سوء وشر، ولذلك قال النبي ﷺ عن الخلفاء والأمراء: “لإلا جعل الله عز وجل له بطانتين إما بطانة سوء وإما بطانة خير” بطانة خير تأمره بالخير وتعينه عليه أو بطانة سوء تأمره بالشر وتحثّه عليه، ولذلك في سورة الأعراف قال القوم:

 {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}: أي: أين عقولكم فكيف تسمعون وتستجيبون لبشر! ولذلك هذا الذي منعهم من باب الطغيان والعناد من هؤلاء، فيقولون كيف يكون النبي من البشر، فقال عز وجل هنا عن هؤلاء:

{ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}: يريد أن تكون له المنزلة العالية عليكم

 {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}: ما سمعنا مثل هذا أن في آبائنا الأولين أن يكون هناك رسول من البشر، ولا سمعنا أيضا من يقول بهذا الكلام الذي يقوله نوح.

 

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ}: أي ما هو إلا رجل، {بِهِ جِنَّةٌ}: أي به جنون، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ}: أي انتظروا به، {حَتَّى حِينٍ}: إلى أن يموت أو حتى يُشفى من جنونه حتى يعود إلى وضعه الطبيعي.

 

 {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}: لجأ إلى الله عز وجل.

 

{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}

{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ}: إلى نوح {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ}: دل هذا على أن الذي تولى الصناعة نوح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} .(هود-38)

{ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}: يعني أنت على رعاية منا، وتكلمنا فيما مضى فيما يتعلق بإثبات صفة العينين لله عز وجل في سورة هود.

{وَوَحْيِنَا}: أي اصنعه بأمرٍ منا بما أوحينا إليك

 {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}: وهو العذاب الذي سينزل بهم، وفسره هنا: {وَفَارَ التَّنُّورُ}: التنور هو:

 قال بعض العلماء: هو ما كان على وجه الأرض،

وقال بعض العلماء: التنور هو المقصود من ذلك نور الصبح، لكن الصحيح أن التنور هو التنور الذي يكون حفرة في الأرض فيُخبز فيه، يعني إذا نبع الماء من هذا التنور فاعلم بأنها علامة على عذابهم فانطلق بمن آمن معك واركب السفينة.

{فَاسْلُكْ فِيهَا}: يعني أدخِل فيها، ولذلك في سورة هود: {قُلْنَا اِحمِلْ فِيْهَا}: لمَ تغير الأسلوب؟

طبعًا من باب تنوّع الأسلوب، أيضًا لأن السياق في سورة هود يدل على أن العذاب نزل بهم،

من شدة حرصه على النجاة كأنه يحمل شيئا من أجل أن يستغل الوقت،

هنا ليس فيه ذكر للعذاب كما في سياق سورة هود غير السياق هنا.

 

 {فَاسْلُكْ فِيهَا ِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: يعني من كل شيء من البهائم ذكر وأنثى مما تحتاج إليه لتحمل هذه وتدخلها في السفينة {وَأَهْلَكَ}: أي واحمل أهلك، وأيضًا لتحمل من آمن معك؛ لأنه في سورة هود قال: {وَمَنْ آمَنْ وَمَاْ آمَنَ مَعَهُ إِلّاْ قَلِيْل}.

 { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ}: مَن؟ ابنُه الذي قال: {قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، وكذلك امرأته التي كانت على دين قومه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (التحريم10): يعني بالكفر وليس بالفاحشة كما قررنا ذلك مرارًا، فلم يجعل الله تحت نبي امرأةً بغيّا- فقال هنا:

 {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}: وقد فصّل الله عز وجل ذلك في سورة هود.

 

{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)}

{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}: أُمِر نوحٌ عليه السلام أنه إذا استوى على السفينة بأن يقول: الحمد لله، {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: ولذلك قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}(الزخرف:19)، ولهذا أيضا قال نوح عليه السلام: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(هود41).

{فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: وهذا يدل على أن مَن نُجّي من الظلمة ومن عذابهم هذه نعمة تستوجب الشكر لله عز وجل.

 

{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}

{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا}: يعني لتدعو ربك بأن يُنزلك المنزل المبارك الذي به الخير لك في الحال والمآل.

وهذا متى؟ هل هذا حينما ركب السفينة أو حينما نزل من السفينة؟ قيل بهذا وقيل بهذا، والذي يظهر: من أنه (بعد) -وإن كان هذا محتمل أنه إذا ركب في السفينة- أيضا مما يدل على أنه من المحتمل القوي أنه (بعد) نزوله من السفينة ما مر معنا في سورة هود:  {قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَٰمٍۢ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٍۢ مِّمَّن مَّعَكَ}(هود:48): يعني اهبط من السفينة، فقال هنا: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}: خير مَن يُنزلني المنزل المبارك الطيب.

 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}: أي في قصة نوح –عليه السلام- لآيات وعِبَر

 {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}: يعني نحن لمختبرين الناس بإرسال الرسل كما اختبرنا قوم نوح بإرسال نوح أيضًا اختبرنا كفار قريش بإرسال محمد ﷺ فكيف يكون حالهم مع هذا النبي ﷺ.

 

 {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}

من هم هذا القرن الذي أتى بعد نوح –عليه السلام- في هذه الآية؟

بعض المفسرين يقول: هم قوم صالح؛ لأن الله عز وجل قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} في نفس السياق -سياق هذه الآيات- والصيحة إنما نزلت في قوم صالح

 لكن الذي يظهر عندي الأقوى أنهم: قوم عاد، لم!؟ لأن مَن أتى بعد قوم نوح عاد، ولذلك قال عز وجل كما في سورة الأعراف: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ في الخلق بَسْطَةً} (الأعراف:74)، أما ذِكر الصيحة هنا فلعلها تكون هي الصاعقة فتكون الصيحة أيضا مصحوبة بالريح التي أهلك الله بها قومَ عاد، ويمكن أن تكون الصيحة هي الصاعقة التي ذكرها الله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}(فصلت:13) -والعلمُ عند الله-

 

 

 

 

{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)}

{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}: منهم: يعرفونه ويعرفون حاله، ليس غريبا عنهم

بمَ أمرهم؟ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}.

 

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)}

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ}: انظر! {وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ}: هذا فيه دليل على أن ذِكر الساعة موجود في الأمم السابقة حتى المتقدمة كعاد وما شابه هؤلاء، وفيه رد على الفلاسفة الذين يقولون إن ذكرَ اليوم الآخر لم يأتِ إلا في شريعة محمد ﷺ، وهذا قولٌ باطل بل هو موجود ومذكور في الأمم السابقة فيما يتعلق بأمر يوم القيامة، فقال عز وجل هنا:

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ}

{وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أترفهم: يعني أعطاهم النعم، ولذلك ماذا قال عز وجل فيما يتعلق بعاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (129) [الشعراء]

 فقال هنا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}: يعني هم شأنهم كشأن الأمم السابقة كحال قوم نوح الذين قالوا كيف يوحى إلى بشر!

 

{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)}

عاقبتكم إلى الخسارة، وهذا يدل على أنهم استبعدوا أن يكون الرسل من البشر، ولذلك قال عز وجل بعدها عن كلام هؤلاء:

{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)}

يعني هل توافقونه القول وتسمعون هذا الكلام الذي يقوله من أنكم إذا متّم واختلطتم بالتراب وأصبحتم عظاما ورفاتا أنكم تعودون إلى الله يوم القيامة، وهذا استبعاد منهم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ } وتأمل كرر (أنكم) {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ}: الأولى، {إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}: كرروها من باب التأكيد على استبعاد مثل هذا الأمر، ولذلك قال بعدها عن هؤلاء: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)}

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: بَعُد، وكرروها؛ لأن أصل هيهات تأتي مكررة للتوكيد، الثانية مؤكدة للأولى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}: يعني بَعُد وبَعُد أن يحصل مثل ما توعدون به وهو خروجكم من قبوركم يوم القيامة.

 

{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)}

{إِنْ هِيَ إِلَّا}: أي ما هي: {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}: نموت بمعنى أننا نموت ويولَدُ غيرنا ويحيا هكذا أناس يموتون وأناس يحيون ومن ثم لا بعث ولا نشور! كما قال عز وجل: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}(الجاثية:24)، فقال عز وجل عن هؤلاء: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ}: أكّدوا ذلك أيضا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}: ثم نسبوا إلى نبيهم الكذب:

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)}

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ}: أي: ما هو إلا رجل، {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: يعني افترى على الله الكذب، {وما نحن له بمؤمنين}: بأي شيء مما قاله لن نؤمن.

ماذا صنع؟ لجأ إلى ربه:

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}: فقال عز وجل: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}: و(ما) زِيدت هنا عن “ما”، ما زائدة تدل على القلة، {عَمَّا قَلِيلٍ}: وقت قليل، {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}: على ما قالوه من هذه الأقوال السخيفة الباطلة.

 

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}: صِيحَ بهم، {بِالْحَقِّ}: وما ظلمهم الله! بالحق؛ لأنهم ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}: مثل النبت الذي يكون في السيل، غثاء لا فائدةَ منه يتطاير، يعني أنهم أصبحوا خامدين هاملين، {فَبُعْدًا}: بعدا وسحقا لهؤلاء الظلمة، {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: إذا استبعدوا {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}

أنشأنا من بعد هذا القرن -إما عاد وإما صالح على القول الآخر- أتت قرون بعد هؤلاء.

 

{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)}

{مَا تَسْبِقُ}: ما تُهلك قبل وقت هلاكها المحدد، {أَجَلَهَا}: الوقت المحدد لإهلاكها،

 {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}: عن ذلك، فإذا جاء وعد الله فهو محقق، ولذلك قال عز وجل:

 {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف:34).

 

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}

{تَتْرَى}: يتبع بعضهم بعضا، لكن بين كل نبي زمن فاصل

 {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}: أيّ رسول يأتي إلى تلك الأمم تكذبه! فاطمئن يا محمد، فكما كذبك قومك فقد كُذبت الرسل السابقون ولهذا قال عز وجل: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} (فاطر:4)

{ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا}: أي: بالهلاك، دمرناهم تدميرا

 {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}: أحاديث يتحدث من يأتي عدهم عن حالهم فيتسامر الناس فيما يتعلق بالأمم السابقة: ألا تذكرون ما جرى لقوم أولئك وقوم أولئك؟!

 {فَبُعْدًا}: أي سحقا وهلاكا، {لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}.

 

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)}

ذكر هنا على وجه الإجمال ومر معنا تفسيرها في السور السابقة في سورة الأعراف وفي سورة يونس وما شابه ذلك. {بِآيَاتِنَا}: الآيات التسع: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. وأرسل إلى فرعون وليست الآيات هنا التوراة؛ لأن التوراة ما نزلت على موسى إلا بعدما أغرق اللهُ فرعون ونجَّى بني إسرائيل {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: حجة واضحة وبيّنة.

 

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)}

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}: الأشراف من قومه، {فَاسْتَكْبَرُوا}: تكبروا وهم من حيث الأصل: {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}: أصحاب كبر، ولذلك قال عز وجل: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4). قال عز وجل في سورة الأعراف: {فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(الأعراف:103)

 فهم أصحاب إفساد وأصحاب ظلم وأصحاب استكبار، وفي سورة يونس:

{فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} وأيضا أصحاب إجرام.

 

{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)}

{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}: نفس الكلام السابق كيف نؤمن لبشرين! العلة التي منعتهم من الإيمان أن هؤلاء بشر {مِثْلِنَا}: يعني لا يفرُقون عنا بأي شيء ولذلك النبي ﷺ قال:

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(الكهف:110).

 {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}: كيف نؤمن لهذين البشرين وقومهما –وهم بنو إسرائيل- لنا عابدون: مذللون هم عَبَدَة لنا.

 

{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)}

{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: بأن أغرقهم الله عز وجل في البحر، {فَكَذَّبُوهُمَا}: كذّب فرعون والملأ، كذبوا موسى وهارون فكانوا من المهلكين بالغرق في البحر.

 

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: التوراة، بعد إهلاك فرعون، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: مَن؟ بنو إسرائيل؛ لأن آل فرعون أُهلِكوا، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: من أجل أن يهتدوا، ولذلك قال عز وجل في سورة البقرة: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} خاطبهم، وهنا: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: لم يخاطبهم وإنما بيّن أن إنزال التوراة من أجل هداية بني إسرائيل.

 

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}: أي: علامة {آيَةً}: ولم يقل آيتين إما باعتبار أن السياق معروف، يعني هي آية وعيسى آية، أو أنهما بجموعهما إذ كانت مريم ليست بذات زوج وخرج هذا من غير أب أصبحا كأنهما علامة وآية واحدة، ولذلك قال عز وجل:

 {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91)

 فقال هنا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}: للعالمين كما في سورة الأنبياء

 {وَآوَيْنَاهُمَا}: يعني أنزلناهما، {إِلَى رَبْوَةٍ}: إلى مكان مرتفع، {ذَاتِ قَرَارٍ}: مستقرة، ذات قرار مستقرة وبها الأشجار وبها الخيرات، {وَمَعِينٍ}: يعني ماء، وما أطيبَ الربوةَ إذا كانت مرتفعة وبها الثمار والأشجار والمياه الطيبة، ولذا قال بعضُ المفسرين: هذه الآية –الربوة والماء المعين- ما ذُكر في سورة مريم: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وهو النهر.