التفسير المختصر الشامل (186) تفسير سورة النور من الآية ( 32) إلى (40)

التفسير المختصر الشامل (186) تفسير سورة النور من الآية ( 32) إلى (40)

مشاهدات: 565

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النور من آية ٣٢ إلى آية 40

الدرس ( 186 )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى :

﴿وَأَنكِحُوا الأَيامى مِنكُم وَالصّالِحينَ مِن عِبادِكُم وَإِمائِكُم إِن يَكونوا فُقَراءَ يُغنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾ [النور: ٣٢]

﴿وَأَنكِحُوا﴾ أمر الأولياء بأن يزوجوا من تحت أيديهم من النساء والرجال، حتى إن الابن مثلًا لو كان فقيرًا ليس عنده ما يتزوج به وهو بحاجة للزواج، والأب غني فيلزمه شرعا على الصحيح يلزمه شرعاً لأنه كما يلزم الأب أن ينفق عليه من أجل أن يحفظ بدنه بالطعام والشراب من أجل بقائه في الدنيا فمن باب أولى أن يزوجه حتى يُعِفَّ فرجَه من أجل أن يحفظ دينه.

 

﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى﴾ الأيامى هي الأيامى يعني من لا زوج لها من بكر أو ثيب، ومن لا زوجة له من رجل بكر أو ثيب، يعني: كل من لا زوج له من جنس النساء أو جنس الذكور هو أيم

 ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ﴾ يعني: الأحرار.

ثم ذكر العبيد الأرقاء: ﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ﴾ الرجال ﴿وَإِمَائِكُمْ﴾ يعني: الرقيقات

 يعني زوجوا الصالحين من هؤلاء الإماء والعبيد فهم بحاجة إلى الزواج، ونصَّ على الصالحين لأن الصالح أحق من يُعان حتى يحفظ دينَه

 ﴿ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ سبحان الله ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء﴾ يعني إذا وجد المهر ولكنه سيتولى النفقة وعلى أولاده مستقبلا فلا يحزن، فالله وعده بالسعة والغنى وتأمل سبحان الله حال الإقدام على الزواج ماذا قال: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾

حال الفراق بين الزوجين: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ﴾ (النساء 130) الله يغني من السعة حال الزواج وحال الطلاق.

فقال هنا ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ واسع العطاء واسع الرزق واسع الخير والإنعام والرحمة، ولذلك قال بعدها: {عليم} عالم بحال البشر وهم بحاجة إلى ما يشبع غرائزهم مما هو مباح أباحه عز وجل لهم.

 

﴿وَليَستَعفِفِ الَّذينَ لا يَجِدونَ نِكاحًا حَتّى يُغنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَالَّذينَ يَبتَغونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَت أَيمانُكُم فَكاتِبوهُم إِن عَلِمتُم فيهِم خَيرًا وَآتوهُم مِن مالِ اللَّهِ الَّذي آتاكُم وَلا تُكرِهوا فَتَياتِكُم عَلَى البِغاءِ إِن أَرَدنَ تَحَصُّنًا لِتَبتَغوا عَرَضَ الحَياةِ الدُّنيا وَمَن يُكرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعدِ إِكراهِهِنَّ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [النور: ٣٣]

 

﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ هنا أمر لمن لم يجد المهر ﴿ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ أي ما يتزوجون به من مهر ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فليتصبر على أن يتحمل هذه الشهوة، فمن استعفف فقد وعده الله بالغنى

 ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾ يعني يطلبون المكاتبة ﴿مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًاً﴾ معناها: لو أتاك عبدك وقال له: سأعطيك مثلا خمسين ألف سأسعى وأعمل وأوفر لك خمسين ألفا ثم أكون حرا، فهنا قال الله عز وجل للأسياد: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ﴾ هنا أمر قيل للاستحباب وقيل للوجوب، والصحيح: أنه متى ما كان السيد مستغنيا عن هذا فيجب عليه لأن ظاهر الأمر الوجوب. فقال عز وجل: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ يعني اتفقوا معهم على هذا الأمر بشرط ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ إن علمتم فيهم قدرة على الأمانة وعلى الكسب، ما أن يُطلق ثم يصبح عالة على الآخرين ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾.

ثم قال ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ يعني إذا اتى إليك على مثالنا السابق اتى إليك بخمسين ألف فهنا تسقط عنه شيئا من هذه الكتابة اما الربع أو ما شابه ذلك على خلاف بين أهل العلم لكن تسقط عنه شيئا من ذلك ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ هو مال الله أو جعله الله في يدك فالمال مال الله، فاحمد الله أن جعل المال في يدك لتكون سببا في إعطاء الآخرين حتى تنال الأجر.

 

﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ﴾ يعني الإماء، سماهن فتيات من أجل الرحمة بهن، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: (لا يَقُلْ أحَدُكُمْ عَبْدِي وأَمَتِي ولْيَقُلْ فَتايَ و وفَتاتي) فهذا هو اللفظ الأنسب والأفضل

﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ﴾ ولذلك مر معنا في سورة النساء: ﴿وَمَن لَم يَستَطِع مِنكُم طَولًا أَن يَنكِحَ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِن ما مَلَكَت أَيمانُكُم مِن فَتَياتِكُمُ المُؤمِناتِ﴾ [النساء: ٢٥]

قال هنا: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ يعني الزنا وسمي الزنا بالبغاء لأنه فساد

 ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ يعني إن أردن تعففاً، وهذا له سبب نزول لبيان واقع:

 لأن عبدالله بن أبي ابن سلول كانت عنده أمتان فكان يكرههن على الزنا وهن لا يردن ذلك فأنزل الله هذه الآية ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ لو قال قائل: إذا كن يرغبن في الزنا هل يجوز الإكراه؟ الجواب: لا لكن لماذا قال ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ المفهوم هنا غير معتبر يعني ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًاً﴾ ما مفهومه؟ يعني إن لم يردن فيجوز، هذا مفهوم غير معتبر فالشرع، لمَ؟

 لأن سياق الآية آتى لبيان الواقع كقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَأكُلُوا الرِّبا أَضعافًا مُضاعَفَةً﴾ [آل عمران: ١٣٠] هل يفهم منه لو أكل شيئا قليلا من الربا يجوز؟ الجواب: لا، لكن لماذا قال ﴿أَضعافًا مُضاعَفَةً﴾ لبيان واقعهم لبيان واقعهم

 

 ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هو يكرههن من أجل أن يأتين له بالمال ﴿لِّتَبْتَغُوا﴾ لتطلبوا ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الدنيا عرض يعرض ثم يزول ﴿وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ غفور ورحيم للمُكرَهات أو للمُكرِه؟ للمُكرهات، لأن المُكره لهن هو فعل الذنب عن عمد لكن هن مُكرَهات، ودل هذا على أن الإكراه عذر، ولذلك ماذا قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إيمانِهِ إِلّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإيمانِ وَلكِن مَن شَرَحَ بِالكُفرِ صَدرًا﴾ [النحل: ١٠٦]  الآية.

 

﴿وَلَقَد أَنزَلنا إِلَيكُم آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقينَ﴾ [النور: ٣٤]

﴿وَلَقَد أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ مبينات يعني بينت الأحكام الشرعية

 ﴿وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ المثل هو: العبرة والعظة مما سبق

 ﴿ مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ ممن خلى من قبلنا مثل يوسف طُعِنَ في عِرضه، مثل مريم طُعِنَ في عِرضها، فيقول الله عز وجل هنا ﴿وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ كما طُعِنَ في عِرض عائشة أيضاً طعن في عرض يوسف ومريم

 ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ في هذه الآيات البينات موعظة تَعِظَ مَن؟ المتقين، لماذا نصَّ على المتقين؟

 لأنهم هم أهل الانتفاع بالمواعظ، ولذلك ماذا قال عز وجل في أول السورة:

 ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ وذكر هنا الموعظة للمتقين.

 

﴿اللَّهُ نورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نورِهِ كَمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نارٌ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [النور: ٣٥]

 

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لما ذكر عز وجل ما يتعلق بحفظ الفروج وغض الأبصار ويحصل للإنسان من ذلك نور، ذكر هنا ما يتعلق بنور الله عز وجل، وأنه عز وجل نور كما ذكر ابن القيم ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقد قرر وحقق ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أن من أسمائه عز وجل (النور) قال الله عز وجل: ﴿وَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنورِ رَبِّها﴾ [الزمر: ٦٩]

وقال النبي ﷺ في دعائه: (اللهم أنت نور السماوات والأرض) والنبي ﷺ لما سئل كما في صحيح مسلم: هل رأيت ربك؟ (قَالَ نُورٌ أَنَّى أراه) وقال عز وجل هنا: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن القيم:  “فالله نوُ ورسوله نور وكتابهُ نور وشرعهُ نور”

 وما قاله بعض المفسرين: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني: أن نور السماوات والأرض من نوره عز وجل، كما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه قال:

 (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نورِ وجهه).

 

ولذا قال هنا ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما قاله بعض المفسرين: مُنَوِّر السموات والأرض فإنها يعني السموات والأرض استنارت من نوره عز وجل،

 وأيضا ما قاله بعض المفسرين: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني: هذه السموات والأرض يعني اهتدى من في السموات ومن في الأرض بنوره عز وجل.

 

 ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ عز وجل مما يودعه في قلب عبده المؤمن من الإيمان ﴿ كَمِشْكَاة﴾ المشكاة: هي الكُوَّة التي تكون في الجدار فتحة في الجدار كانت توضع عند القدامى من أجل أن يضعوا فيها السراج ﴿كَمِشْكَاة﴾ لأنها إذا وضع فيها السراج أحاطت بالنور فلم يتفرق

 ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ هذا المصباح ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾ الزجاجةُ من بريقها ولمعانها ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ يعني مضيء ﴿يُوقَدُ﴾ يعني هذا المصباح ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ كما قال تعالى:

 ﴿وَشَجَرَةً تَخرُجُ مِن طورِ سَيناءَ﴾ [المؤمنون: ٢٠]

﴿من شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ ما هي؟ ﴿زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ تلك الشجرة شجرة الزيتون لا شرقية ولا غربية، الصحيح من أقوال العلماء: من أن الشمس تشرق عليها طيلة النهار فتصيبها حرارة الشمس في أول النهار وفي آخره وهذا أطيب ما يكون لها.

 ﴿ يكادُ زَيْتُهَا﴾ زيت هذه الشجرة شجرة الزيتون ﴿ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ فكيف إذا مسته النار!

دل هذا على ماذا؟ ماذا بعدها؟ ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾ نور ماذا؟

 نور الزيت ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ نور الإشعال، نور الإضاءة، فالزيتُ المضيء عبارة عن الفطرة السليمة التي لم تفسد، فبمجرد ما يأتيها الوحي والقرآن ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾

ولذلك حتى إن بعض العلماء كما ذكر ابن القيم رحمه الله:

 من أن المؤمن قبل أن يسمع الحديث النبوي والأثر النبوي ليقول في هذا الشيء هذا الشيء من صفاء فطرته فيأتي الأثر موافقا له لأن فطرته سليمة

 ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾ ولذلك قال عز وجل كما مر معنا في سورة هود: ﴿أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ [هود: ١٧] الفطرة ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ القرآن يزيد الفطرة نور.

ولذلك قال هنا ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ لكن هذا النور لا يوفق له إلا من شاء الله:

 ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ ولذلك قال تعالى: ﴿ فِطرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللَّهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾ [الروم: ٣٠].

فقال هنا ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ كهذا المثل السابق ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ عالم بكل شيء

 ولذلك قال بعض المفسرين: ﴿كَمِشْكَاة﴾ هي الكوة عبارة عن صدر الإنسان فيها مصباح ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ يعني قلب المؤمن في صدره بمثابة الزجاجة، الزجاجة هذه ناعمة ورقيقة، دل هذا على أن قلب المؤمن رقيق ولطيف بإخوانه، شديدة؟ نعم شديدة لو ضغطتها لن تنضغط، كذلك هو شديد على أعداء الله ﴿مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَماءُ بَينَهُم﴾ [الفتح: ٢٩] صافية؟ نعم صافية لصفاء ما في قلبه لأن ما في قلبه النور والخير والهدى، هو قلبٌ مُفًرَّغ من الشهوات والشبهات والشكوك.

{وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿في بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ وَالآصالِ﴾ [النور: ٣٦]

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾ سبحان الله، من أراد أن يُحَصِّل هذا النور، أين؟ في المساجد

 من أراد نور الإيمان: في المساجد ولذلك قال ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾ تُرفع يشمل:

 البناء كما قال تعالى ﴿وَإِذ يَرفَعُ إِبراهيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسماعيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧]

 ويشمل: تُرفع بالذكر وبالطاعة ﴿إِنَّما يَعمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَم يَخشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [التوبة: ١٨]

  ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ وحدَه ﴿وَأَنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدعوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨] ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ﴾ التسبيح المعروف وقال بعض العلماء ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ يعني: يصلي ولا تعارض فالصلاة هنا ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ﴾ أول النهار صلاة الفجر ﴿وَالْآصَالِ﴾ يعني العصر

قال ﷺ كما في الصحيحين: (منْ صَلَّى الْبَرْدَيْن دَخَلَ الْجَنَّةَ) والبردان الفجر والعصر، وأدخل بعض العلماء في الآصال: المغرب والعشاء.

{يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ وَالآصالِ﴾ مَن؟

﴿رِجالٌ لا تُلهيهِم تِجارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فيهِ القُلوبُ وَالأَبصارُ﴾ [النور: ٣٧]

 

من ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ﴾ البيع أليس هو من التجارة؟ بلى، لكن لماذا أفردَه؟

 لأن التجارة هنا المقصود منها الشراء ﴿لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ﴾ يعني شراء ﴿وَلَا بَيْعٌ﴾ ومما يدل على أن التجارة يطلق عليها شراء قال عز وجل أواخر سورة الجمعة:

 ﴿وَإِذا رَأَوا تِجارَةً أَو لَهوًا انفَضّوا إِلَيها وَتَرَكوكَ قائِمًا﴾ [الجمعة: ١١] ذهبوا إلى التجارة من أجل أن يشتروها، فقال هنا: ﴿لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾

 دل هذا على عظم ذكر الله وعلى عظم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

 ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ﴾ نكَّرَهُ للتعظيم وهو يوم القيامة ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ من الخوف ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ قال تعالى: ﴿مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٣] الأبصار شاخصة مرتفعة الأجفان لا تطرُف، {وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ﴾  الفؤاد هوى القلوب ارتفعت  قال عز وجل: ﴿وَأَنذِرهُم يَومَ الآزِفَةِ إِذِ القُلوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمينَ﴾ [غافر: ١٨]

فقال هنا: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾  لمَ؟

﴿لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَنَ ما عَمِلوا وَيَزيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللَّهُ يَرزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ﴾ [النور: ٣]

﴿لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَنَ ما عَمِلوا﴾ ويجزيهم أيضاً بما هو الأقل من الأحسن:

 ﴿فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧]

﴿لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَنَ ما عَمِلوا﴾ ومع ذلك يتفضل عليهم: ﴿وَيَزيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللَّهُ يَرزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ﴾ بغير عدٍ ولا حصرٍ لأن خزائن الله ملآى:

 ﴿ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَّهِ باقٍ﴾ [النحل: ٩٦]

ولذلك قال ﷺ كما في الصحيح: (يَدُ اللَّهِ مَلأى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ) ما تُنقِصُها نفقة.

 

﴿وَالَّذينَ كَفَروا أَعمالُهُم كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَم يَجِدهُ شَيئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَريعُ الحِسابِ﴾ [النور: ٣٩]

 

السابقون أعطاهم الله النور ﴿نورٌ عَلى نورٍ﴾ [النور: ٣٥] هؤلاء فقدوا النور فحلت الظلمة، وذكر صنفين هُنا ممن حلت بهم الظلمة إذِ افتقد النور فحلت بهذين الصنفين الظُّلمة،

 هذا النوع وهو النوع الأول: هو صاحب الجهل المركب وهم دعاةُ الشر والفتن، لأنهم يظنون أنهم على خير وهم ليسوا على خير، هذا نوع أصحاب الجهل المركب.

﴿وَالَّذينَ كَفَروا أَعمالُهُم﴾ التي يظنون أنها حسنة وأنها تفيدهم وأيضا مما قدَّموهُ مما في ظاهرِه أعمال بر مثل الإحسان الى الملهوف وما شابه هؤلاء

 ﴿وَالَّذينَ كَفَروا أَعمالُهُم كَسَرابٍ﴾ مثل السراب الذي يكون في النهار يراهُ الرائي من بُعد على أنه ماء وليس بماء ﴿كَسَرابٍ بِقيعَةٍ﴾ الباء هُنا ظرفية ﴿بِقيعَةٍ﴾ القيعة: الأرض المنبسطة من الأرض المستوية ﴿يَحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً﴾ نص على الظمآن لأن الظمآن يحتاج إلى الماء، فهو يرى السراب فقلبه مشغوفٌ أن يصل إلى هذا الماء الذي هو في حقيقته سراب ﴿يَحسَبُهُ﴾ يعني يظنه الظمآن ماءً ﴿حَتّى إِذا جاءَهُ لَم يَجِدهُ شَيئًا﴾ وهذا هو شأن عملهِ إذا قدم على الله فإنه لا يجدُ ما كان يظن أنه من عمل سيفيدهُ ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ في يوم القيامة

 ﴿فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَريعُ الحِسابِ﴾ سريع الحساب ليس كالمخلوقين يحتاج إلى تريث أو إلى وقت أو ما شابه ذلك ﴿وَكُلَّ شَيءٍ أَحصَيناهُ كِتابًا﴾ [النبأ: ٢٩] ﴿وَاللَّهُ سَريعُ الحِسابِ﴾

وأيضاً يدخلُ فيهِ: أن الحساب قادم وسريع ولو ظنه الناس أو استبعد الناسُ مجيئهُ فهو قريب.

﴿أَو كَظُلُماتٍ في بَحرٍ لُجِّيٍّ يَغشاهُ مَوجٌ مِن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ إِذا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَراها وَمَن لَم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نورًا فَما لَهُ مِن نورٍ﴾ [النور: ٤٠]

{أو} صنف آخر من الأعمال الكُفار ممن افتقد النور وأصابته الظلمة وهم المقلدون الذين يُقلدُون دُعاة الشر والسوء وهم أصحاب الجهل البسيط لأنهم ينقادونُ حيثُ يقادونَ مع من قادهم يذهبون معهم.

فقال عزّ وجل هُنا ﴿أَو كَظُلُماتٍ﴾ يعني أعمال هؤلاء كظلمات ﴿في بَحرٍ لُجِّيٍّ﴾ بحر عظيم عميق هذا البحر العميق ﴿يَغشاهُ مَوجٌ﴾ يغطيه موج ﴿مِن فَوقِهِ مَوجٌ﴾ موج آخر أعظم ﴿مِن فَوقِهِ سَحابٌ﴾ ظلمات السحاب ﴿ ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ﴾ ظلمة عمق البحر، ظلمة الموج الأول، ظلمة الموج الثاني، ظلمة السحاب ﴿ إِذا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد﴾ يعني لم يقرب يراها لم يقل لم يرَها، إذا كان ينفي هُنا قُرب رؤيتها فمن باب أولى، ونص على اليد لأنها أقرب شيء إلى الإنسان، فإذا كان الشيء القريب منه لا يُبصرهُ في تلك الظلمة إذا ما كان بعيدا من باب أولى ﴿إِذا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَراها﴾

 فأعمالهم مظلمة لأن قلوبهم مظلمة بالشكوك والشبهات وما شابه ذلك، وإذا لقوا الله عز وجل فيحلُ بهم الظلام والشر، إذ الظلام والشر في نارِ جهنم فقال عز وجل:

 ﴿إِذا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَراها﴾ الختام؟

 ﴿وَمَن لَم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نورًا فَما لَهُ مِن نورٍ﴾ بخلاف السابقين: ﴿مَثَلُ نورِهِ كَمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ﴾ إلى أن قال: ﴿نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ﴾

 هؤلاء لم يوفقوا لنور الله عز وجل، ومن ثَم فيه التحذير من دُعاة الشر والسوء وأهله، وتحذير من يسيرُ خلفهم لأن مصيرهُ كمصيرهم.