الدرس ( 104 )باب شروط الصلاة ـ اجتناب النجاسة ( 3) ( حكم الصلاة في المقبرة)

الدرس ( 104 )باب شروط الصلاة ـ اجتناب النجاسة ( 3) ( حكم الصلاة في المقبرة)

مشاهدات: 525

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (104) من الفقه الموسع – من شروط الصلاة اجتناب النجاسة (3)

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل المتعلقة بشرط اجتناب النجاسة:

[مسألة: حكم الصلاة في المقبرة؟]

المقبرة: مثلثة الباء، فإذا قيل مثلثة، فتُجري عليها الضمةَ والفتحةَ والكسرة

فيصح أن تقول: المقبُرة، ويصح أن تقول: المقبَرة، ويصح أن تقول: المقبِرة،

 وحكي في ميمها في غير الفتح الكسر: المِقْبرة.

فالميمُ فيها وجهان: الفتح والكسر، والباء: فيها التثليث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما حكم الصلاة في المقبرة؟

يُنظرُ فيها من أوجه:

أولا/ إذا كانت هذه المقبرةُ أُعدت للدفن فيها ولم يُدفن فيها أحد، فهذه لا تعلق لها هنا، فيجوزُ الصلاةُ فيها.

الوجه الثاني/ لو كانت هذه المقبرة دُفن فيها قبر أو قبران، فقد اختلف العلماء في هذا:

القول الأول: لا يضر وجود قبرٍ أو قبرين، ولم أرَ دليلاً لهؤلاء، اللهم إلا أن يُقال: إن أقل الجمع ثلاثة، فتجُوِّزَ في القبر والقبرين؛ لأن المجموع لا يصدق على القبر ولا على القبرين، ويمكن أن يستدل لهم: بأن النبي قال: ” لا تجعلوا بيوتكم قبورا ” والقبور (جمع).

 

القول الثاني: -وهو الراجح ولا شك في ذلك-: أن الصلاة فيها لا تجوز، ولو كان فيها قبرٌ واحد.

 

وبالتالي يأتينا وجهٌ ثالث:

الوجه الثالث/ لو كان المقبورون أكثرَ من اثنين، ثلاثة فأكثر:

 فيكونُ الحكم فيها بالتحريم أولى من المسألة السابقة.

 

ولو اعترض مُعترِض، فقال قائل:

جاء في الصحيحين أن النبي قال: ” جُعِلت ليَ الأرضُ مسجداً وطَهُوراً ” فلماذا أُخرِجت المقبرة؟

فالجواب/ أن السنة أخرجت من هذا العموم المقبرة، وهو قول النبي -كما في المسند وعند أهل السنن- قال: ” الأرضُ كلُّها مسجِدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّامَ “

وهذا الحديث قال عنه الترمذي إن فيه اضطرابا، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- إن مَن ضّعّفَه لم يتتبع طرقَه حق التتبع، وقد صححه الألباني -رحمه الله-

وحتى لو لم يصح هذا الحديث فإنه مر معنا في التوحيد قول النبي كما في الصحيحين:

” لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ “

 

ولذا استنبط البخاري -رحمه الله- من حديث النبي -الثابت في الصحيحين-

” اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا “

استنبط -رحمه الله: لمَّا أُمِرَ هنا بالصلاة في البيوت من أجل ألا نجعلها مثل المقابر التي لا يُصلى فيها، ولا يجوز أن يُصلى فيها.

لكن بعض العلماء نازع البخاري وقال: لا دليل لك على هذا، لِمَ؟

لأن نص الحديث: ” ولا تتخذوها قبورا “، فالنهي هنا عن الصلاة في القبور ذاتها،

فإن قُبِل الاستنباط: فيكون الاستنباط منهياً أن يأتي الأنسانُ إلى وسط قبر ويصلي فيه،

ولكن تُعِقَبَ على من تَعَقَبَ على البخاري برواية مسلم قال ﷺ: ” لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ “

وهٌنا تظهر لنا ثمرةُ تتبع روايات الحديث.

 

ولأن الحكمة الظاهرة في تحريم الصلاة في المقابر الخوف من أن يُحوِّلَ هذا العابدُ عبادتَه وصلاتَه لله إلى غير الله، ولذا في صحيح مسلم: “نهى النبي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها” لِمَ؟

قال لأنها تخرج بين قرني شيطان وحينها يسجد لها الكفار

 فالصلاةُ في أصَلْها لله عز وجل، ولكن خوفاً من أن يشابه المسلم الكفار الذين يقصدون بالصلاة عندها (الشيطان) نُهِىَ عن ذلك سداً لذريعة الشرك.

 

ولو قال قائل لا نُسلِمَ لكم بهذه العلة -وهي: الخوف من الوقوع في الشرك- وقد قِيل بهذا.

 قالوا: إن العلة في تحريم الصلاة في المقابر خوفاً من أن يُصليَ على مكانٍ نجِس؛ وذلك لأن أعضاء الموتى تتحلل فيخرج منها الصديد، والدم، ونحو ذلك، فيصلي في مكان نجس!

فما الجوابُ عن هذا؟

 الجواب عن هذا من وجوه:

  • أننا لا نُسلِم لكم بأن الصديد والقيح نجس وكذلك الدم؛ لأن المسألة مسألة خلاف شهيرة

هل دم الآدمي نجس أم طاهر؟ والصحيح: أنه طاهر.

  • لو سلمنا بأن هذه الأشياء نجسة، فإن الأصل في الأرض هو الطهارة، فَمِنْ أين لكم بأن الصديد، والدم، والقيح قد وصل إلى هذا المكان؟
  • أن النبي قال: ” لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ “

فالتنصيص هُنا على قبور الأنبياء، وثَبتَ عن النبي أنه قال:

” إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ “

  • أن حديث أبي مَرثَد الغَنوي عند مسلم -يقضي على ما قلتم- وهو قوله ﷺ: ” لاَ تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ”  وعلى هذا القول فيُنظر: إن كان القبر قد دُفِن في المسجد، وكان المسجدُ هو الأسبق: فيجب نَبْشُ هذا القبر وإخراجُ الميت وَوَضْعُه في مقابر المسلمين، وإن كانت الأسبقية للقبر وبُنيَ المسجد: فيجب أن يُهدَم هذا المسجد؛ لأنه ما بُنيَ على تقوى ورضوان من الله عز وجل

-والمسألة سبقت معنا في كتاب التوحيد مفصَّلة موضّحة-

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

إذاً/ ما حكم الصلاة في المقبرة؟

ج/ يحرم الصلاة في المقبرة، ولا تصح؛ لأننا لو صححنا الصلاة في المقبرة لصادَمنا النص الذي

أخرج المقبرة من حديث النبي ﷺ: ” جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا “

 وتكونُ الصلاةُ باطلة غيرَ صحيحة.

الشرع قال لا تصلِّ في هذا المكان، لو صححنا الصلاة لصادمنا قول النبي

ولو قلنا بإن الصلاة صحيحة وهو آثم: فنقول في هذا مصادمة؛ لأن الجهة واحدة ليست منفكة،

حتى لا يُدخَل علينا بمسألة الصلاة في المكان المغصوب -وسيأتي لها أحاديث-

فإن الشرع نهى عن (الغصب) وأمر بالصلاة، فلو صلى في أرض مغصوبة فإن صلاته صحيحة

مع أنه آثم؛ لأن جهة الأمر غير جهة النهي، بينما هُنا: جهة الأمر وجهة النهي واحدة، فقال:

” الأرضُ كلُّها مسجِدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّامَ “

فكأنه قال لا تصلِّ في المقبرة ولا تصلِّ في الحمام.

 

لو قال قائل، هناك مدخَل: إن النبي في الأحاديث الصحاح الكثيرة صلى في المقبرة كما في قصة تلك المرأة السوداء التي تنظف المسجد، فماتت ففقدها النبي ﷺ فسأل عنها فأُخبِر أنها ماتت…الحديث

إلى أن قال دلوني على قبرها فأتى فصلى عليها.

وعند ابن ماجه: أن النبي صلى على قبرٍ -قال بعض الصحابة وصلينا خلفه- فقد أديت

صلاة جماعة، فما الجواب عن هذا؟

الجواب عنه: أن هذا فِعلُ المُشَرِّع، وما علينا إلا السمعُ والطاعة، فنحن ما حرَّمنا الصلاة في المقابر

ولا أبطلناها إلا بنص الشارع، وما جوَّزْنا الصلاةَ على القبر في المقبرة إلا بنص الشارع؛ لأنه

ليس لأحد أن يُشَرِّعَ إلا ما شرعه الله عز وجل، أو شرعه رسوله ﷺ، فما علينا إلا الإتباع،

فتكونُ صلاةُ الجنازة مستثناةً من ذلك، سواءً كان قبل الدفن أو بعد الدفن.

 

يدخل علينا داخل فيقول: قُبِر النبي ﷺ وصاحباه في حجرة عائشة -رضي الله عنها- ولا شك أنها تُصلي في هذه الحجرة، ومع ذلك فقد أقدمت على الصلاة فيها، واستقرَّ إجماع الصحابة على مِثلِ ذلك، ولم يُنازِعُوها، فما الجواب عن هذا؟

أولاً: إن الأمة أجمعت على هذا الأمر.

ثانياً: أن عائشة -رضي الله عنها- يُحتاج إلى دليل في كونها تتقصد المكانَ القريبَ من قبور هؤلاء الثلاثة -وهم النبي ﷺ وصاحباه-

ثالثاً: أنه لو حصل مِثلُ هذا فإنه لم يكن عن قصد وإنما وقع اتفاقاً؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- ما كانت تعملُ هذا قبل وجود هذه القبور، فدلَّ على إن فعلها ليس عن قصد.

رابعاً: لو أُخرجت هذه القبور لترتب عليها مفاسد، ولو أن عائشة -رضي الله عنها- خرجت لترتب على خروجها مفاسد، ولو أُمِرَت بالصلاة في المسجد دائماً فإنه مخالفٌ لِمَا هو أولى لها: الصلاة في بيتها، ولو قيل بهذا: فأين سائر العبادات التي تقومُ بها في بيتها؟!

خامساً: أن عائشة -رضي الله عنها- مما يؤكد على أنها لا تؤدي العبادةَ قريبة من هذا المكان، كانت تقول: كنت أضعُ ثيابي قبل أن يُدفَن عُمَر -رضي الله عنها- في بيتي فلما دُفن ما وضعتها.

سادساً: أن في بيت عائشة -رضي الله عنها- (قِراماً) وهو البيت الصغير الذي يكون مَخزناً -أي ما يُشبه المخزن الذي يُوضع فيه الطعام والشراب-

سابعاً: أن بيت عائشة -رضي الله عنها- لم يُنقل أنه وِصِفَ بأنه مقبرة، فدلَّ على خصوصية بيت عائشة -رضي الله عنها-

ثامناً: أن في دفن هؤلاء الثلاثة تحقيقاً للرؤيا التي رأتها -رضي الله عنها- إذ قالت: إني رأيت أنه سقط في حجري ثلاثة أقمار فروتها للنبي ﷺ فقال: ” إن كانت رؤياك حق فإنه سيدفن في بيتك ثلاثة هم خير الأرض” ولكن في المرفوع ضعف، والثابت: أنها قصت هذه الرؤيا على أبيها، فأجابها بما ذكرنا.

تاسعاً: أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على أنه لا يجوز أن يُدفن الإنسان في بيته، وإنما هذا خاصٌ بالنبي ﷺ، ولذا قال ﷺ ” ولا تتخذوها قبورا “، وهذه الجملة تفيد معنيين:

إما أن تُترك الصلاةُ فيها كما سبق، وإما أن يُدفن فيها، فهي قضيةُ عين موجهة بتوجيهات عدة.

 

[وهذه زيادة تُضاف على ما ذُكر: إذا قال بعض الفقهاء: لا يضر قبرٌ دُفن في بيته أو قبور دُفنت في بيته:

ولعل هؤلاء يستدلون بما جرى مِن دفْن النبي ﷺ وصاحبيه في حجرة عائشة -رضي الله عنها-

ولو سلمنا بهذا: لأبطلنا كل الوجوه التي ذكرناها في كتاب التوحيد، ولكننا لا نُسلم بهذا؛ لمَ؟

لأن النبي ﷺ قال: -كما في الصحيحين- ” اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا “

فقوله ﷺ ” ولا تتخذوها قبورا “، يشمل الاتخاذ المعنوي والحسي؛ لأن النص عام.

الحسي: أن يُدفن أناسٌ في بيته.

المعنوي: ألا يُصلى فيها.

ولذا: لم يُؤثَر عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم أوصوا بأن يُدفَنوا في بيوتهم، ولا دَفَنَ أحدٌ منهم أحدا في بيته، ولأن الدفنَ في البيت يلزمُ منه أن يستوحشَ أهلُ البيت، ومعلومٌ أن الشرع حريصٌ على أن يأنسَ أهل البيت، ولأنه يلزم على الدفن في البيوت أن يُحرم الورثة من التصرفِ في هذا البيت.

وبالتالي: فإنما جرى في دفن النبي ﷺ وصاحبيه مستثنى، وهي خصوصية للنبي ﷺ وصاحبيه.

ولعله من باب أن الله عز وجل كما جمع بينهم في حياتهم، جَمَع بينهم موتهم،

ولذا كان الصحابة ُ-رضي الله عنهم- كثيراً ما يقولون جاء رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، خرج رسولُ الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

 وبالتالي: فإنه لا يجوز أن يُدفن أحدٌ في بيته.

 

 

وهناك رأيٌ من باب الفائدة: وهو عند الإمام مالك -رحمه الله- يرى أن الصلاة في المقبرة جائزة مُطلقاً، لكن ليعلم طالب العلم إن مِثلَ هؤلاء الأمة قد تُنَسبُ إليهم أقوال هي في أصلها من طلابهم، وليس معنى ذلك أن يكون هذا الرأيُ مِن الإمام مالك، وحتى لو كان هذا الرأيُ مِن الإمام مالك فإنه -رحمه الله- قال قولته المشهورة (كلٌّ يُؤخذُ مِن قوله ويُرَد إلا صاحبَ هذا القبر) وأشار إلى قبر النبي ﷺ،

 ولأن أولئك الأمة قد لا تبلغهم بعض النصوص أو يفهمون منها فهماً آخر، ولذا لشيخ الإسلام -رحمه الله- كتاب (رفع الملام عن الأمة الأعلام)

قد ترى بعض الآراء العجيبة التي تُخالف النصوص الظاهرة من هؤلاء الأمة، فذَكَر -رحمه الله- الأسباب التي جعلت أمثالَ هؤلاء يقولون بهذا القول، ثم إنهم لم يكونوا في منطقة واحدة، ولم تكن هناك اتصالات سريعة كما هو في هذا العصر، وقد يبلُغ هذا النص ولا يبلُغ ذلك النص، وقد يبلُغ النص هذين الإمامين ويَفهم منه هذا فَهماً، وذلك الآخر يفهم فهماً آخر،

 ولذا لو نظرت إلى هؤلاء الأمة لوجدت أن بعضهم قد يصل قولُه في المسألة الواحدة إلى ستة أقوال؛ لمَ؟ لأنه مجتهد لا يقف عند خطوة معينة، ولا يقف عند علمٌ معين،

ولذا من يقف عند علمٌ معين، يأخذ العلمَ المعين ويبقى عليه ولا يجتهد، تجد أن معلوماته هي هي ثابتة- لكن العلم غزير وواسع ولا يُحيط به أحد، وبالتالي:

 تجد أن أراء هؤلاء قد تتغير بسبب أنهم قد اطّلعوا على نص يَنسخ النص الذي ذهبوا إليه أو يُخصصه، أو ما شابه ذلك.

وعلى كل حال فهذا قولٌ عند المالكية مِن باب ذِكْر القول، لكن الأئمة قد قالوا مقولة وهي:

[من استبانت له سنَّةُ رسول الله ﷺ فلا يجوز لأحد أن يدعها لقول قائلٍ كان مَن كان]

فإذا جاءك النص فعلى العين والرأس {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ] البقرة -285[     

ولذا الصحابةُ -رضي الله عنهم- اختلفوا في عصر النبي ﷺ وكلٌّ منهم يرى قولاً غيرَ الذي يراه الآخر لكن إذا وقعوا على الدليل اجتمعوا عليه، وهذا ما يحتاج إليه المسلمون وعلماءُ المسلمين في هذا العصر من أن يكون نقاشُهم وحوارُهم واجتهاداتهم واضحة مبنية على الدليل لا من أجل التعصب والنصرة للرأي؛ لأن هدف المسلم الحق هو:

 الوصول للحق، بقطع النظر أن يكون الحق قد جرى على لسانه أو جرى على لسان غيره.