الدرس ( 38 )
من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
مسألة : لا يغسل داخل عينيه ولو من نجاسة، ودمعُه طاهر
الشرح/ هذه المسألةُ التي ذَكَرَها الفقهاءُ -رحمهم الله- تدل دلالة واضحة على يُسرِ هذه الشريعة ورفعها للحرج عن المسلمين، والنصوص في هذا المعنى كثيرة سبق إيراد شيء منها كقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
وأما من السنة فمنها قول النبي ﷺ: ” لا ضررَ ولا ضِرار “
والقواعدُ الفقهية الكلية الناصّةُ على دفع الضرر كثيرة كقاعدة: [الضررُ لا يزال بضرر]
وقد سبق شيء من هذا في بعض المسائل.
وصورةُ هذه المسألة: لو أن نجاسةً وقعت في عينِ الانسان، لا يلزمُه أن يغسِلَ داخِلَ عينِه، وذلك لوجود الضرر، وقد يُصابُ بالعمى أو بِضَعفِ البصر، ولذا ابنُ عمر رضي الله عنهما لما كان يغسِلُ عينَيه في الغُسْل كُفَّ بصرُه
حتى قال بعضُ العلماء: لا يغسلها ولو أمِنَ الضرر، وذلك لأن الشريعةَ لم تأتِ بمثل هذا التكلف؛
بل قال بعضُهم: يُكرَه أن يغسلها، وقالوا: إن دمعَه طاهر، فلا تكونُ هذه النجاسةُ مؤثرةً في ماءِ عينِه.
وهذه المسألةُ التي ذَكَروها تُشبه مسألةَ الهِر إذ قالوا:
لو أكلَ هِرٌّ أو طفلٌ نجاسةً ثم شَرِبَ من ماء: فإن هذا الماءَ لا ينجُس، ويكونُ ريقُه طاهرا، وذلك لعموم البلوى وصعوبة التحرز،
وهذا يكون فيما لو استقاء الطفل فإن القيء -كما سبق على القول الراجح: نجس- فعلى القولِ بنجاسته:
لو استقاء الطفلُ فإن ريقَه بعد هذا القيء: طاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: من وضأ غيره أو غسله أو يممه ونواه المفعول له صح سواء كان الفاعل مسلما أو كافرا
الشرح/ الأصلُ -كما سبق- أن يقوم العابد بعبادته، وذلك لأن هذه الافعال التي يأتي بها في عبادته، تُعَدُّ هذه الافعال آثارا من آثارِ هذه العبادة، ويُكتَبُ له أجرُها ولذا قال عز وجل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}
لكن لو أن المسلمَ وُضِّئَ أو غُسِّلَ أو يُمِّمَ، سواءٌ كان صحيحا أو مريضا:
فإن وضوءَه وغُسْلَه وتيمُمَه صحيح، شريطة أن ينويَ هو الوضوء:
فإذا نوى الطهارةَ: فإن طهارَتَه تصِح، حتى ولو لم ينوِ الفاعل، فلا اعتدادَ بنيةِ الفاعل،
ومِن ثَمَّ: فإن الفاعلَ لو كان كافرا فإن طهارةَ المفعولِ له إذا نوى: تصِح،
والكافرُ كما هو معلوم لا نيةَ له.
فخلاصةُ هذه المسألة: أن المفعولَ له تصِحُّ له الطهارةُ إذا نوى،
ولذا/ إذا نوى الفاعل فإنَّ طهارَتَه لا تصح.
ويمكن أن تُقَسَّمَ هذه المسألة فتُجعَلُ على أربعةِ أقسام – من باب ترتيبها في الذهن واستذكارِها- :
القسمُ الأول: ألا ينويَ المفعولُ له ولا الفاعل: وهذه الصورةُ لا تصِحُّ للمفعولِ له طهارة.
القسمُ الثاني: ان ينويَ الفاعلُ النيةَ وحدَه: فكذلك لا تصِحُّ للمفعولِ له الطهارة.
القسمُ الثالث: أن ينويَ المفعولُ له الطهارةَ دونَ الفاعل: فتَصِحُّ الطهارة.
القسمُ الرابع أن ينويَ المفعولُ له والفاعلُ: فكذلك تصِحُّ الطهارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [ التثليثُ في الوضوءِ سُنّة، ويجِبُ تَركُه إذا ترتّبَ على فِعلِه تَرْكُ واجب كقِلّةِ الماءِ مثلاً ]
الشرح/ التثليث: هو غَسْلُ العضو ثلاثَ مرات، وهو من السُّنَن،
ولذا سبق ذِكْرَ أن النبي ﷺ كما عند البخاري: “توضأ مرةً مرة”
ولأن الآيةَ أطلَقَت، والمُطلَقُ يصدُقُ ولو بصورةٍ واحدة،
فالتثليثُ سُنّة في غالبِ الأحوال، وذلك لأن النبي ﷺ قد توضأ كما عند البخاري “مرةً مرة”
وعنده أيضا: “مرتين مرتين” وفي الصحيحين: “توضأ ثلاثا ثلاثا”
وقد يُقال: إن التثليثَ سُنّةٌ في جميعِ الأحوال لا في غالبِها، فيكونُ فِعلُ النبي ﷺ مِن بابِ بيانِ الجواز.
فهذا التثليث له أحوال:
الأول/ إما أن يكون ترْكُه سُنّة في أندرِ الأحوال، وذلك كوضوء النبي ﷺ “مرةً مرة” على الإحتمال بأن هذا الفِعلَ وهو: -الاقتصارُ على واحدة -بناءً على أنه سُنّة.
ومثالٌ آخَر: إذا خَشِيَ فواتَ الجماعة، فإذا خشيَ أن تفوتَه صلاةُ الجماعة، فإن تَرْكَ التثليثِ له سُنّة كما قال الفقهاء.
الثاني/ وإما أن يكونَ تَرْك التثليث له جائزا، وذلك إذا ترتّبَ على التثليث فواتُ صلاةِ الجماعة مع رجائه أن يُدرِكَ أخرى.
الثالث/ وإما أن يكون تَرْكُ التثليثِ واجبا، وذلك إذا ترتّبَ على هذا التثليث ترْكُ واجب: كقلة ِالماء إذ لو ثَلّثَ لما كفاه هذا الماء في إتمام وضوئه.
مثالٌ آخَر: إذا خشِيَ خروجَ الوقت، إذ لو ثَلّثَ لفاته إيقاعُ الصلاةِ في وقتِها.
مثالٌ آخَر: لو احتاجَ إلى هذا الماء محترمٌ لِدَفْعِ عَطَشِه من آدميٍّ أو حيوان:
فيجبُ تَرْكُ التثليث، وذلك لأن إنقاذَه من الواجبات
الرابع/ وإما أن يكونَ ترْكُ التثليثِ مُحَرّمًا، وذلك لو كان على العضوِ جُرم، فإذا كان على هذا العضو كلِّه جُرْمٌ يمنَعُ وصولَ الماء: فلا يجوزُ له أن يكتفيَ بِغَسْلَةٍ واحدة إذا لم يَذهَبْ هذا الجُرم بالغَسلتين الأولَيين.
الخامس/ إما أن يكونَ ترْكُ التثليث مكروها: وذلك إذا لم توجد إحدى الصور السابقة، بناءً على:
أن فِعلَ النبي ﷺ فَعَلَه لبيانِ الجواز (أي: ترْكُ التثليث)
وبناءً على أن تَرْكَ السُّنَّة يُوقعُ في المكروه عند بعضِ العلماء، فتَرْكُ السنةِ لديهم يُكرَه.
ولو قال قائل: لمَ لا تُوجبون ترْكَ التثليث إذا خَشِيَ فواتَ صلاةِ الجماعة، مع أن صلاةَ الجماعة واجبة -لا سيّما إذا لم يرجُ وجودَ جماعةٍ أخرى -؟
فالجواب: أن هناك نصًّا مَنَعَ من القولِ بهذا، وهو قول النبي ﷺ: “إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا “
وقال: ” وعليكم بالسكينة والوقار “
فهذه هي أحوالُ أحكامِ التثليث في الوضوء، فتجري عليه الأحكامُ التكليفيةُ الخمسة،
لأن عندنا في أصولِ الفقه أن الحكمَ نوعان:
الأول/ حكم تكليفي؛ الثاني/ حكم وضعي
فالحكمُ التكليفي: خمسةُ أشياء -معروفةٌ عند الجميع-:
[الواجبُ – المحرم – المكروه – المسنون – المباح]
اما الاحكامُ الوضعية: فمن بينها:
[السببُ – الشرط – الرخصة – العزيمة – المانع].